المَطلَبُ الرَّابعُ: القَدَرُ
انقَسَم
الخَوارِجُ في شأنِ القَدَرِ إلى ثلاثِ طوائِفَ:
الطَّائفةُ الأولى: ذهبَت إلى القولِ بإنكارِ القَدَرِ، والقولِ بخَلقِ الإنسانِ لأفعالِه الاختياريَّةِ، وهم بهذا الرَّأيِ يَعتَنِقون مذهَبَ القَدَريَّةِ.
وتضُمُّ هذه الطَّائفةُ من فِرَقِ
الخَوارِجِ: الميمونيَّةَ، والحَمزيَّةَ، والحارثيَّةَ، والشَّبيبيَّةَ.
وقد ذهَبَت الميمونيَّةُ إلى القولِ بأنَّ اللهَ تعالى لمَّا خلَق الخَلقَ أودع فيهم القُدرةَ على اختيارِ كُلِّ ما يريدونَ من أفعالٍ وأعمالٍ، ليس للهِ مع مشيئتِهم مشيئةٌ، فهم الخالِقون لأفعالِهم خيِرها وشَرِّها دونَ أن يكونَ للهِ في ذلك أيُّ أثَرٍ!
قال
الأشعَريُّ عنهم: (الذي تفرَّدوا به القولُ بالقَدَرِ على مذهَبِ
المُعتَزِلةِ، وذلك أنَّهم يزعُمون أنَّ اللهَ سُبحانَه فوَّض الأعمالَ إلى العبادِ، وجعل لهم الاستطاعةَ إلى كُلِّ ما كُلِّفوا، فهم يستَطيعون الكُفرَ والإيمانَ جميعًا، وليس لله سُبحانَه وتعالى في أعمالِ العبادِ مشيئةٌ، وليست أعمالُ العبادِ مخلوقةً للهِ)
[350] ((مقالات الإسلاميين)) (1/177). . ومثلُ هذا ما أورده البَغداديُّ عنهم
[351] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 280). .
وقال الشَّهْرَسْتانيُّ: (الميمونيَّةُ أصحابُ ميمونِ بنِ خالدٍ، كان من جملةِ العَجارِدةِ، إلَّا أنَّه تفرَّد عنهم بإثباتِ القَدَرِ خيرِه وشَرِّه من العبدِ، وإثباتِ الفعلِ للعبدِ خَلقًا وإبداعًا، وإثباتِ الاستطاعةِ قَبلَ الفِعلِ، والقولِ بأنَّ اللهَ تعالى يريدُ الخيرَ دونَ الشَّرِّ، وليس له مشيئةٌ في معاصي العِبادِ)
[352] ((الملل والنحل)) (1/129). .
وبمِثلِ قَولِ الميمونيَّةِ في القَدَرِ قالت الحَمزيَّةُ، فصارت هذه الفِرقةُ قَدَريَّةً، وهم يُنسَبون إلى زعيمِهم حمزةَ بنِ أكرَكَ الذي كان في الأصلِ من العَجارِدةِ الخازميَّةِ، فلما قال في القَدَرِ بقَولِ القَدَريَّةِ أكفَرَتْه الخازِميَّةُ وتبَرَّأَت منه
[353] يُنظر: ((مقالات الإسلامين)) الأشعري (1/177)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 98). .
وقد خرَجت عن فِرقةِ
الإباضيَّةِ فِرقةٌ تُسَمَّى الحارثيَّةَ أتباعَ حارِثٍ الإباضيِّ، هذه الفِرقةُ قد مالت إلى القَدَريَّةِ فقالوا بقولِهم، فذَكَر
الأشعَريُّ عنهم أنَّهم (قالوا في القَدَرِ بقولِ
المُعتَزِلةِ، وخالفوا فيه سائِرَ
الإباضيَّةِ)
[354] ((مقالات الإسلامين)) (ص: 184). ويُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/136). ، وقال البَغداديُّ: (أكفَرَهم سائِرُ
الإباضيَّةِ في ذلك)
[355] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 105). .
وممَّن قال في القَدَرِ بقَولِ القَدَريَّةِ من
الخَوارِجِ أيضًا الشَّبيبيَّةُ، وهم أتباعُ شَبيبٍ؛ فقد قالت هذه الفِرقةُ بقولِ
المُعتَزِلةِ، فبَرِئَت منهم
البَيهسيَّةُ، وكانت تقولُ: (إنَّ اللهَ تعالى فَوَّض إلى العبادِ، فليس لله في أعمالِ العبادِ مشيئةٌ)
[356] ((مقالات الإسلامين)) للأشعري (1/194). ويُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/127). .
الطَّائِفةُ الثَّانيةُ: وهم الذين ذهَبوا إلى القولِ بالجَبْرِ كما قال
جَهمُ بنُ صَفوانَ، وهم طائفةٌ من الأزارِقةِ زعموا أنَّ العبدَ مُجبَرٌ على أفعالِه، وأنَّه لا استطاعةَ له أصلًا، وقد ذَكَرهم
ابنُ حزمٍ ووصفَهم بأنَّهم يوافِقون قولَ
جَهمِ بنِ صَفوانَ في هذا البابِ
[357] يُنظر: ((الفصل)) (3/22). .
ومِثلُ هذه الطَّائفةِ فِرقةُ الشَّيبانيَّةِ؛ فإنَّها تقولُ بالجَبرِ أيضًا ك
الجَهمِ فيما ذكَرَ الشَّهْرَسْتانيُّ عنهم بقولِه: (ومن مَذهَبِ شَيبانَ أنَّه قال بالجَبرِ ووافَق
جَهمَ بنَ صَفوانَ في مَذهَبِه إلى الجَبرِ)
[358] ((الملل والنحل)) (1/133). .
الطَّائِفةُ الثَّالثةُ: هم المُعتَدِلون الذين قالوا بقولِ أهلِ السُّنَّةِ في إثباتِ القَدَرِ خَيرِه وشَرِّه، حُلوِه ومُرِّه، ومِن اللهِ تعالى، وأنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شيءٍ، وأنَّ الإنسانَ فاعِلٌ لأفعالِه الاختياريَّة مكتَسِبٌ لها محاسَبٌ عليها. وقد ذهب إلى هذا القولِ بعضُ فِرَقِ
الخَوارِجِ ك
الإباضيَّةِ، والشُّعيبيَّةِ أصحابِ شُعَيبٍ الذي انفَصَل عن الميمونيَّةِ، فأثبت شُعَيبٌ -خِلافًا لميمونٍ- خَلْقَ اللهِ لأعمالِ العبادِ، وعمومَ مشيئتِه، كما قال
الأشعَريُّ ومِثلُه البَغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ في حكايتِهم لاعتقادِه بأنَّه يقولُ: (إنَّ اللهَ تعالى خالِقُ أعمالِ الخَلقِ، والعَبدُ مُكتَسِبٌ لها قُدرةً وإرادةً، مسؤولٌ عنها خيرًا أو شرًّا، مجازًى عليها ثوابًا وعقابًا، ولا يكونُ شيءٌ في الوجودِ إلَّا بمشيئةِ اللهِ تعالى)
[359] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/178)، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 95)، ((الملل والنحل)) (1/131). .
وعلى مِثلِ هذا الاعتقادِ فِرقةُ الخَلَفيَّةِ، أصحابِ خَلَفٍ، فهذه الفِرقةُ أثبتت القَدَرَ والاستطاعةَ والمشيئةَ، وقالت في هذه الثَّلاثةِ بقولِ أهلِ السُّنَّةِ، فأضافوا القَدَرَ خَيرَه وشَرَّه إلى اللهِ تعالى
[360] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/177)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 96)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/130)، ((رسالة الدبسي)) للدبسي (ص: 30). ، وكانت لهم معارِكُ حاميةٌ مع الحَمزيَّةِ أتباعِ حَمزةَ بنِ أكْرَكَ في بلادِ كَرْمانَ حَربًا وجِدالًا.
ومِثلُها تمامًا في الاعتقادِ فِرقةُ الخازميَّةِ كما نَصَّ على ذلك
الأشعَريُّ والبَغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ، فقالوا: لا خالِقَ إلَّا اللهُ، ولا يكونُ إلَّا ما شاء اللهُ، وإنَّ الاستطاعةَ مع الفِعلِ، وكفَّروا الميمونيَّةَ لميلِهم إلى القَدَريَّةِ في هذا البابِ.
وممَّن قال بإثباتِ القدَرِ وأنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ للهِ تعالى من فِرَقِ
الخَوارِجِ: المجهوليَّةُ، كما أثبت
الأشعَريُّ والشَّهْرَسْتانيُّ وغيرُهما من عُلَماءِ الفِرَقِ عنهم ذلك الاعتقادَ
[361] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/177)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 96)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/130)، ((رسالة الدبسي)) للدبسي (ص: 30). .
أمَّا رأيُ
الإباضيَّةِ في بابِ القَدَرِ فهم يؤمِنون بأنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، خَلَق العَبدَ وفِعلَه، وهم يبتَعِدون عن مذهبَيِ الجبريَّةِ والقدريَّةِ، فيقولون: أفعالُنا خَلقٌ من اللهِ ونحن المكتَسِبون لها، والمجازَون عليها ثوابًا من اللهِ أو عقابًا.
قال النَّفوسيُّ في متنِ عقيدةِ التَّوحيدِ
الإباضيَّةِ:
فأفعالُنا خَلقٌ من اللهِ كُلُّها
ومنَّا اكتِسابٌ بالتَّحرُّكِ بالبَدَنْ
[362] ((متن النونية)) (ص: 12). .
وقال السَّالِميُّ:
وبالقَضاءِ وبما الرَّحمنُ قدَّره
وأنَّه خالِقُ أفعالِنا حُلَلَا
لكِنَّه لا بجَبرٍ كان منه لنا
وعِلمُه سابِقٌ في كُلِّ ما جَعَلا
وإنَّما الفِعلُ مخلوقٌ ومُكتَسَبٌ
فالخلقُ للهِ والكَسبُ لِمن فَعَلا
[363] ((غاية المراد)) (ص: 9). قال شارِحُ "غاية المُراد" بَعدَ ذِكرِ طَرَفٍ من الخلافِ في القَدَرِ: (أمَّا الذين أثبَتوا لله تعالى الخَلْقَ وللعَبدِ المخلوقِ الكَسْبَ، فإنَّهم تعَلَّقوا بالنَّظَرِ في هذه الآياتِ جميعًا، ففَهِموا أنَّ ما كان مُسنَدًا إلى اللهِ فإسنادُه إليه لأنَّه خالِقُه ومُقَدِّرُه، وما كان مُسنَدًا إلى العبادِ فإسنادُه إليهم من أجْلِ اكتسابِهم إيَّاه، ولم يكُنْ هذا الكَسبُ بإكراهٍ منه تعالى، وإنَّما اختار مَن شاء منهم الخيرَ ومَن شاء الشَّرَّ، وكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلق له. وقد عَلِم اللهُ في الأزَلِ ما يكونُ من اختيارِ كُلٍّ لنَفسِه، وجاء الخَلقُ الذي هو من فِعلِ اللهِ مقرونًا باختيارِ العَبدِ المكتَسِبِ؛ ليتأتَّى له الكَسبُ؛ ليَهلِكَ من هَلَك عن بَيِّنةٍ ويحيا من حَيَّ عن بيِّنةٍ، ولا يعني هذا أنَّ لاختيارِ الإنسانِ أثرًا في فعلِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ اللهَ يفعَلُ ما يشاءُ، ويَحكُمُ ما يريدُ، وإنَّما ذلك عِندَما يريدُ اللهُ سُبحانَه أن تُنَفَّذَ مشيئةُ العبدِ بكَسبِه الخَيرَ أو الشَّرَّ، وقد تكونُ مشيئتُه تعالى خلافَ ذلك، فلا يقَعُ إلَّا ما شاء، ويَحولُ بَينَ العبدِ وبَينَ مَشيئتِه، فيَصُدُّه عن الشَّرِّ الذي اختاره، أو يَحولُ بَينَه وبَينَ الخيرِ)
[364] ((شرح غايَة المراد)) للخليلي (ص: 138). .
وقال العِيزابيُّ: (الحَمدُ للهِ الذي أفعالُنا خَلقٌ منه وكَسبٌ مِنَّا لا جَبْرٌ، ولو كانت إجبارًا لم يكُنْ عليها مَدحٌ ولا ذَمٌّ، ولا ثوابٌ ولا عِقابٌ، ولا أمرٌ ولا نهيٌ، ولا كتابٌ ولا رسولٌ، ولا نَصَب دليلًا)
[365] ((الحجة في بيان المحجة)) (ص: 23). .
وقال علي يحيى مَعمَر: (يبدو أنَّه لا خِلافَ بَينَ
الإباضيَّةِ وأهلِ السُّنَّةِ في موضوعِ القَدَرِ)
[366] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 248). .
ثمَّ قال في موضِعٍ آخَرَ مُبَيِّنًا عقيدةَ
الإباضيَّةِ في القَدَرِ وأنَّ من اعتقادِهم: (أنَّ الإيمانَ لا يَتِمُّ حتَّى يؤمِنَ المُسلِمُ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه أنَّه من اللهِ تبارك وتعالى، وأنَّ أفعالَ الإنسانِ خَلقٌ من اللهِ واكتسابٌ من الإنسانِ، ويبتَعِدون عن رأيِ المُجْبِرةِ كما يبتَعِدون عن رأيِ من يقولُ: الإنسانُ يَخلُقُ أفعالَه)
[367] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 357). .
وهكذا قال في كتابِه الآخَرِ (
الإباضيَّةُ في مَوكِبِ التَّاريخِ)، وزاد مستَدِلًّا على ذلك بالآياتِ الآتيةِ:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] ،
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] ،
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] ،
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] [368] يُنظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص: 60). .
وقد نَقَل عنهم عُلَماءُ الفِرَقِ هذا الرَّأيَ ك
الأشعَريِّ والشَّهْرَسْتانيِّ (فيما يحكيه عن الكَعْبيِّ) والبَغداديِّ
[369] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/187)، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 105)، ((الملل والنحل)) (ص: 134). .
والاستطاعةُ عِندَ جمهورِهم مع الفِعلِ وليست قَبلَه، وهي التي يحصُلُ بها الفِعلُ
[370] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 484). .
ويقولُ الحارِثيُّ في بيانِه لاعتِقاداتِهم: (ومن ذلك أنَّهم يؤمِنون بالقَضاءِ والقَدَرِ أنَّه من اللهِ، وأنَّ الخَيرَ والشَّرَّ من اللهِ، وكَسْبٌ من العبادِ، وهم يوافِقون أهلَ السُّنَّةِ في هذا، والحُجَّةُ قَولُه تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] ،
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] ،
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ،
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] ، ولو ثبت للعبادِ خَلقٌ لَزِم ثبوتُ شَريكٍ،
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] ،
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان: 11] )
[371] ((العقود الفضية)) (ص: 290). .