دَخَلَ السُّلطانُ ملكشاه بغدادَ في ذي الحجَّةِ، بعدَ أن فَتَحَ حَلَبَ وغَيرَها من بلادِ الشَّامِ والجَزيرةِ، وهي أَوَّلُ مَرَّةٍ يَدخُل فيها بغدادَ، ونَزلَ بدارِ المَملكةِ، وأَرسلَ إلى الخَليفةِ هَدايا كَثيرةً، فقَبِلَها الخَليفةُ، ومِن الغَدِ أَرسلَ نِظامُ المُلْكِ إلى الخَليفَةِ خَدمةً كَثيرةً، فقَبِلَها، وزارَ السُّلطانُ ونِظامُ المُلْكِ مَشهدَ موسى بن جَعفرٍ، وقَبْرَ مَعروفٍ، وأحمدَ بن حَنبلٍ وأبي حَنيفةَ، وغيرَها من القُبورِ المَعروفَةِ، وطُلِبَ نِظامُ المُلْكِ إلى دارِ الخِلافَةِ لَيلًا، فمَضَى في الزَّبْزَبِ-سفينة صغيرة- وعاد من لَيلتِه، ومَضَى السُّلطانُ ونِظامُ المُلْكِ إلى الصَّيدِ في البَرِّيَّةِ، فزارا مَشهدَ أَميرِ المؤمنينَ عَلِيٍّ، ومَشهدَ الحُسينِ، ودَخلَ السُّلطانُ البَرَّ، فاصطادَ شَيئًا كَثيرًا من الغِزلان وغَيرِها، وأَمرَ ببِناءِ مَنارةَ القُرونِ بالسبيعيِّ، وعاد السُّلطانُ إلى بغدادَ، ودَخلَ الخَليفةُ، فخَلَعَ عليه الخِلَعَ السُّلطانيَّةَ، ولمَّا خَرجَ من عندِه لم يَزَل نِظامُ المُلْكِ قائمًا يُقدِّم أَميرًا أَميرًا إلى الخَليفةِ، وكلَّما قَدَّمَ أَميرًا يقول: هذا العَبدُ فلان بن فلان، وأَقطاعُه كذا وكذا، وعِدَّةُ عَسكرِه كذا وكذا، إلى أن أتى على آخرِ الأُمراءِ، وفَوَّضَ الخَليفةُ إلى السُّلطانِ أَمْرَ البلادِ والعِبادِ، وأَمَرَهُ بالعَدلِ فيهم، وطَلَبَ السُّلطانُ أن يُقَبِّلَ يَدَ الخَليفةِ، فلم يُجِبهُ، فسأل أن يُقَبِّلَ خاتَمَه، فأَعطاهُ إيَّاهُ فقَبَّلَهُ، ووَضعَهُ على عَينِه، وأَمَرَهُ الخَليفةُ بالعَوْدِ فعادَ، وخَلَعَ الخَليفةُ أيضًا على نِظامِ المُلْكِ، ودَخلَ نِظامُ المُلْكِ إلى المدرسةِ النِّظاميَّةِ، وجَلسَ في خَزانَةِ الكُتُبِ، وطالَعَ فيها كُتُبًا، وسَمِعَ الناسُ عليه بالمدرسةِ جُزْءَ حَديثٍ، وأَمْلَى جُزءًا آخرَ، وأَقامَ السُّلطانُ ببغداد إلى صَفَر سَنةَ 480هـ وسارَ منها إلى أصبهان.
تَزوَّج الخَليفةُ المُقتَدِي بابنةِ السُّلطانِ ملكشاه فاشتَرطَت عليه أن لا يُبقِي تَحتَه لا زَوجةً ولا سُرِّيَّةً إلا هي وَحدَها، فأُجِيبَت رَغبتُها. فنُقِلَ جِهازُها إلى دارِ الخِلافَةِ على مائةٍ وثلاثين جَمَلًا مُجَلَّلَةً بالدِّيباجِ الرُّوميِّ، وكان أَكثرَ الأحمالِ الذهبُ والفِضَّةُ وعلى أربعٍ وسبعين بَغْلًا مُجَلَّلَةً بأَنواعِ الدِّيباجِ المَلَكِيِّ، وأَجراسُها وقَلائدُها من الذهبِ والفِضَّةِ، وكان على سِتَّةٍ منها اثنا عشر صُندوقًا من فِضَّةٍ لا يُقَدَّر ما فيها من الجَواهرِ والحُلِيِّ، وبين يدي البِغالِ ثلاثةٌ وثلاثون فَرَسًا من الخَيْلِ الرَّائقَةِ، عليها مَراكِبُ الذهبِ مُرَصَّعَةً بأَنواعِ الجَوهَرِ، ومَهْدٌ عَظيمٌ كَثيرُ الذَّهبِ، وسار بين يدي الجِهازِ سعدُ الدولةِ كوهرائين، والأَميرُ برسق، وغيرُهما، ونَثَرَ أَهلُ نَهرِ معلى عليهم الدَّنانيرَ والثِّيابَ، وكان السُّلطانُ قد خَرجَ عن بغدادَ مُتَصَيِّدًا، ثم أَرسلَ الخَليفةُ الوَزيرَ أبا شُجاعٍ إلى تركان خاتون، زَوجَةِ السُّلطانِ، وبين يَديهِ نحو ثلاثمائة مَوْكِبِيَّةٍ، ومِثلُها مَشاعِلُ، ولم يَبقَ في الحَريمِ دُكَّانٌ إلَّا وقد أُشعِل فيها الشَّمعةُ والاثنتانِ وأكثرُ من ذلك، وأَرسلَ الخَليفةُ مع ظُفَر خادمِه مَحِفَّةً لم يُرَ مِثلُها حُسْنًا، وقال الوَزيرُ لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أَميرُ المؤمنين يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقد أَذِنَ في نَقلِ الوَديعَةِ إلى دارِه. فأَجابَت بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وحَضَرَ نِظامُ المُلْكِ فمَن دُونَه مِن أَعيانِ دَولةِ السُّلطانِ، ثم جاءَت الخاتون ابنةُ السُّلطانِ بعدَ الجَميعِ، في مَحِفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، عليها من الذهبِ والجَواهرِ أكثرُ شيءٍ، وقد أَحاطَ بالمَحِفَّةِ مائتا جاريةٍ من الأتراكِ بالمَراكبِ العَجيبةِ، وسارَت إلى دارِ الخِلافةِ، وكانت ليلةً مَشهودَةً لم يُرَ ببغدادَ مِثلُها، فلمَّا كان الغَدُ أَحضرَ الخَليفةُ أُمراءَ السُّلطانِ لِسِماطٍ أَمَرَ بِعَمَلِهِ وخَلَعَ عليهم كُلِّهم، وعلى كلِّ مَن له ذِكْرٌ في العَسكرِ، وأَرسلَ الخِلَعَ إلى الخاتون زَوجةِ السُّلطانِ، وإلى جَميعِ الخَواتين.
كان الأَميرُ تَميمُ بن المُعِزِّ بن باديس صاحِب المَهدِيَّةِ قد أَكثرَ غَزْوَ بِلادِ الرُّومِ في البَحرِ، فخَرَّبَها، وشَتَّتَ أَهلَها، فاجتَمَعوا من كلِّ جِهَةٍ، واتَّفَقوا على إنشاءِ الشواني -سُفُن حَربيَّة ضَخمَة - لِغَزوِ المَهدِيَّة، ودَخلَ معهم البيشانيون، والجنوبيون، وهما من الفِرنج، فأَقاموا يُعمِّرون الأُسطولَ أَربعَ سِنين، واجتَمَعوا بجَزيرَةِ قوصرة في أَربعِ مائةِ قطعةٍ، فأَرادَ تَميمٌ أن يُسَيِّر عُثمانَ بنَ سَعيدٍ المَعروف بالمُهْرِ، مُقَدَّم الأُسطولِ الذي له، لِيَمنَعَهم من النُّزولِ، فمَنعَه من ذلك بعضُ قُوَّادِه، فجاءَت الرُّومُ، وأَرسَلوا، وطَلَعوا إلى البَرِّ، ونَهَبوا، وخَرَّبوا، وأَحرَقوا، ودَخَلوا زويلةَ ونَهَبوها، وكانت عَساكرُ تَميمٍ غائبةً في قِتالِ الخارجِين عن طاعَتِه، ثم صالَحَ تَميمٌ الرُّومَ على ثلاثين ألف دِينارٍ، وَرَدِّ جَميعِ ما حَووهُ مِن السَّبْيِ.
شَرَعَ أَهلُ بابِ البَصرَةِ في بِناءِ القَنطرَةِ الجَديدةِ، واتُّفِقَ أن كوهرائين سار في سميرية -نوع من السُّفُن-، وأَصحابُه يَسيرونَ على شاطئِ دِجلَة بسميريه، فوَقفَ أَهلُ بابِ الأزج على امرأةٍ كانت تَسقِي الناسَ من مُزَمَّلَةٍ لها على دِجلَة، فحَمَلوا عليها، على عادةٍ لهم، وجَعَلوا يَكسِرونَ الجِرارَ، ويَقولون: الماءُ للسَّبيلِ! فلما رَأت سعدَ الدولةِ كوهرائين استَغاثَت به، فأَمَرَ بإبعادِهم عنها، فضرَبَهم الأتراكُ بالمقارِعِ، فسَلَّ العامَّةُ سُيوفَهم ثم إن كوهرائين خَرجَ من السميرية إليهم راجِلًا، فحَمَل أَحدُهم عليه، فطَعَنَه بأَسفلَ رُمحِه، فأَلقاهُ في الماءِ والطِّينِ، فحَمَلَ أَصحابُه على العامَّةِ، فقاتَلوهُم، وحَرَصوا على الظَّفَرِ بالذي طَعَنَهُ، فلم يَصِلوا إليه، وأَخذَ ثَمانيةَ نَفَرٍ، فقَتَلَ أَحدَهم، وقَطعَ أَعصابَ ثَلاثةِ نَفَرٍ، وأَرسلَ قَباءَه إلى الدِّيوانِ وفيه أَثَرُ الطَّعنَةِ والطِّينِ يَستَنفِر على أَهلِ بابِ الأزج. ثم إن أهلَ الكَرخِ عَقَدوا لِأَنفُسِهم طاقًا آخرَ على بابِ طاقِ الحراني، وفَعَلوا كفِعلِ أَهلِ البَصرَةِ.
كان قد مَلَكَ سمرقند أحمدُ خان بن خضر خان، وهو ابنُ أخي تركان خاتون، زَوجةِ السُّلطانِ ملكشاه، وكان صَبِيًّا ظالِمًا، قَبيحَ السِّيرَةِ، يُكثِر مُصادَرةَ الرَّعيَّةِ، فنَفَروا منه، وكَتَبوا إلى السُّلطانِ سِرًّا يَستَغيثون به، ويَسأَلونَه القُدومَ عليهم لِيَملِك بِلادَهم، فتَحرَّكَت دَواعي السُّلطانِ إلى مُلْكِها، فسار من أصبهان، وجَمعَ العَساكرَ من البلادِ جَميعِها، فعَبَرَ النهرَ فلمَّا قَطعَ النهرَ قَصَدَ بُخارى، وأَخذَ ما على طَريقِه، ثم سار إليها ومَلَكَها وما جاوَرَها من البلادِ، وقَصَدَ سمرقند ونازَلَها، وحَصرَ البلدَ، وضَيَّقَ عليه، وأَعانَه أَهلُ البلدِ بالإقاماتِ، وفَرَّقَ أحمد خان، صاحِبُ سمرقند، أَبراجَ السُّورِ على الأُمراءِ ومَن يَثِقُ بهِ مِن أَهلِ البَلدِ، فرَمَى السُّلطانُ ملكشاه السُّورَ بالمنجنيقات، فأَحدثَ فيه عِدَّةَ ثُلَمٍ، وأَخَذَ أَحدَ الأَبراجِ، فلمَّا صَعدَ عَسكرُ السُّلطانِ إلى السُّورِ هَربَ أحمدُ خان، واختَفَى في بُيوتِ بَعضِ العامَّةِ فدُلَّ عليه وأُخِذَ وحُمِلَ إلى السُّلطانِ وفي رَقَبَتِه حَبلٌ، فأَكرَمَه السُّلطانُ، وأَطلَقَه وأَرسلَه إلى أصبهان، ومعه مَن يَحفَظهُ، ورَتَّبَ بسمرقند الأَميرَ العَميدَ أبا طاهرٍ عَميدَ خوارزم.
وسار السُّلطانُ قاصِدًا كاشغر، فبَلَغَ إلى يوزكند، وأَرسلَ منها رُسُلًا إلى مَلِكِ كاشغر يَأمُرهُ بإقامَةِ الخُطبَةِ، وضَرْبِ السِّكَّةِ باسمِه ويَتوَعَّدهُ إن خالَفَ بالمَسيرِ إليه. ففَعلَ ذلك وأَطاعَ، وحَضرَ عند السُّلطانِ، فأَكرَمَه وعَظَّمَه، وتابَعَ الإنعامَ عليه، وأَعادَهُ إلى بَلدِه.
خَرجَت عَساكرُ صاحبِ مصر العُبيديِّ بقِيادَةِ بَدرٍ أَميرِ الجُيوشِ إلى الشامِ في جَماعةٍ من المُقدِّمين، فحَصَروا مَدينةَ صُور، وكان قد تَغلَّبَ عليها القاضي عَيْنُ الدولةِ بن أبي عَقيلٍ، وامتَنعَ عليهم، ثم تُوفِّي، ووَلِيَها أَولادُه، فحَصرَهُم العَسكرُ المصريُّ فلم يكُن لهم من القُوَّةِ ما يَمتَنِعون بها، فسَلَّموها إليهم، ثم سار بدرُ بالعَسكرِ عنها إلى مَدينةِ صَيْدا، ففَعلوا بها كذلك، ثم ساروا إلى مَدينةِ عَكَّا، فحَصَروها، وضَيَّقوا على أَهلِها، فافتَتَحوها، وقَصَدوا مَدينةَ جُبيل، فمَلَكوها أيضًا، وأَصلَحوا أَحوالَ هذه البلادِ، وقَرَّروا قَواعِدَها، وساروا عنها إلى مصر عائدِينَ، واستَعملَ أَميرُ الجُيوشِ على هذه البلادِ الأُمراءَ والعُمَّالَ.
لمَّا رَجعَ السُّلطانُ ملكشاه من كاشغر إلى خُراسان، وأَبعدَ عن سمرقند لم يَتَّفِق أَهلُها وعَسكرُها المعروفون بالجَكلِيَّة مع العَميدِ أبي طاهرٍ، نائبِ السُّلطانِ عندهم، حتى كادوا يَثِبونَ عليه، فاحتالَ حتى خَرجَ مِن عندهم، ومَضَى إلى خوارزم. كان مُقدِّم الجَكلِيَّة واسمُه عَيْنُ الدولةِ، قد خافَ السُّلطانَ لهذا الحادثِ، فكاتَبَ يعقوبَ تكين أخا مَلِكِ كاشغر، ومَملَكَتُه تُعرَف بآب نباشي، وبِيَدِه قَلعتُها، واستَحضَرهُ، فحَضرَ عنده بسمرقند، واتَّفَقا، ثم إن يعقوبَ عَلِمَ أن أَمرَهُ لا يَستَقيم مع عَيْنِ الدولةِ، فقَتَلَه، اتَّصلَت الأَخبارُ بعِصيانِ سمرقند بالسُّلطانِ ملكشاه، وقَتْلِ عَيْنِ الدولةِ، مُقدِّم الجَكليَّة، عادَ السُّلطانُ إلى سمرقند، فلمَّا وَصلَ إلى بُخارَى هَربَ يَعقوبُ المُستَولِي على سمرقند، ومَضَى إلى فرغانة، ولَحِقَ بوِلايَتِه، ووَصلَ جَماعةٌ من عَسكرِه إلى السُّلطانِ مُسْتَأْمِنِينَ، ولمَّا وَصلَ السُّلطانُ إلى سمرقند مَلَكَها، ورَتَّب بها الأَميرَ أبر.
سارَ السُّلطانُ ملكشاه في إثْرِ يعقوبَ لِقَتلِه مُقدِّمَ الجَكليَّة, والذي دَخلَ إلى أَخيهِ بكاشغر مُستجِيرًا به، فسَمِعَ السُّلطانُ بذلك، فأَرسلَ إلى مَلِكِ كاشغر يَتوعَّدُه، إن لم يُرسِلهُ إليه، أن يَقصِد بِلادَه، ويَصيرُ هو العَدُوَّ، فخافَ أن يَمنَع السُّلطانَ، فأَدَّاهُ اجتِهادُه إلى أن قَبَضَ على أَخيهِ يعقوبَ، وأَظهرَ أنه كان في طَلَبِه، فظَفَرَ به، وسَيَّرَهُ مع وَلَدِه، وجَماعةٍ من أَصحابِه، وكَّلَهم بيعقوب، وأَرسلَ معهم هَدايا كَثيرةً للسُّلطانِ، وأَمَرَ وَلدَه أنه إذا وَصلَ إلى قَلعةٍ بقُربِ السُّلطانِ أن يَسْمُلَ يعقوبَ ويَتركهُ، فإن رَضِيَ السُّلطانُ بذلك، وإلَّا سَلَّمَه إليه، فحَدثَ أن طغرل بن ينال استَولى على كاشغر وأَخَذَ صاحبَها أخا يعقوب, فأَطلَقوا يعقوبَ، فلمَّا رأى السُّلطانُ ذلك ورأى طَمَعَ طغرل بن ينال، ومَسيرَه إلى كاشغر، وقَبْضَ صاحِبِها، ومِلْكِه لها مع قُرْبِه منه، خاف أن يَنحَلَّ بَعضُ أَمرِه وتَزولَ هَيبتُه، وعَلِمَ أنه متى قَصدَ طغرل سار من بين يَديهِ، فإن عادَ عنه رَجعَ إلى بِلادِه، وكذلك يعقوب أخو صاحِبِ كاشغر، وأنه لا يُمكِنُه المَقامُ لِسِعَةِ البِلادِ وراءَهُ وخَوْفِ الموتِ بها، فوَضعَ تاجَ المُلْكِ على أن يَسعَى في إصلاحِ أَمرِ يعقوب معه، ففَعلَ ما أَمرَهُ به السُّلطانُ، فاتَّفَقَ هو ويعقوبُ، وعاد إلى خراسان، وجَعلَ يعقوبَ مُقابِلَ طغرل يَمنعُه من القُوَّةِ، ومِلْكِ البلادِ، وكلٌّ منهما يقوم في وَجهِ الآخرِ.
نَقَضَ ابنُ عَلَوِيٍّ ما بينه وبين تَميمِ بن المُعِزِّ بن باديس أَميرِ إفريقية من العَهْدِ، وسار في جَمْعٍ مِن عَشيرَتِه العَربِ، فوَصلَ إلى مَدينةِ سوسة من بلادِ إفريقية، وأَهلُها غارُّونَ لم يَعلَموا به، فدَخلَها عُنوةً، وجَرَى بينه وبين مَن بها من العَسكرِ والعامَّةِ قِتالٌ، فقُتِلَ من الطَّائِفَتينِ جَماعةٌ وكَثُرَ القَتلُ في أَصحابِه والأَسْرُ، وعَلِمَ أنه لا يَتِمُّ له مع تَميمٍ حَالٌ، ففارَقَها، وخَرجَ منها إلى حِلَّتَهُ من الصَّحراءِ.
هو شَمسُ الأئمَّةِ أبو بكرٍ محمدُ بن أحمدَ بن سَهلِ السَّرخسي، صاحِبُ ((المبسوط)) بَرَعَ في الفِقهِ وعِلْمِ الكلامِ والأُصولِ والمُناظَرَةِ، أَحدُ الفُحولِ الأئمَّةِ الكِبارِ أَصحابِ الفُنونِ، لَزِمَ الإمامُ شَمسُ الأئمَّةِ أبا محمدٍ عبدَ العزيز الحلوانيَّ حتى تَخرَّجَ به وصارَ أَنظَرَ أَهلِ زَمانِه وأَخذَ في التَّصنيفِ وناظَرَ الأَقرانَ فظَهرَ اسمُه وشاعَ خَبرُه. سُجِنَ بسَببِ فَتوى له وبَقِيَ في سِجنِه خمس عشرة سَنةً تقريبًا، وكان يُملِي على طُلَّابِه من سِجنِه كِتابَه ((المَبسوط)) في الفِقهِ وهو كِتابٌ كَبيرٌ جِدًّا في الفِقهِ الحَنَفيِّ، وله شَرح ((السير الكبير))، ثم ذَهبَ إلى سمرقند بعد خُروجِه من السِّجنِ وبَقِيَ فيها. قال ابنُ قطلوبغا: "قال في ((المسالك)): حُكِيَ عنه أنه كان جالسًا في حَلَقةِ الاشتِغالِ فقِيلَ له: حُكِيَ عن الشافعيِّ أنه كان يَحفَظُ ثلاثمائة كَرَّاس. فقال: حفظ الشافعي زكوة ما أحفظ. فحُسِبَ حِفظُه فكان اثنى عشر ألف كَرَّاس. قلتُ: وقد شاع عنه أنه أَملَى ((المبسوط)) من حِفظِه وهو أربعة عشر مُجلَّدًا، أَملاهُ من خاطِرِه من غَيرِ مُراجَعةٍ إلى شيءٍ من الكُتُبِ" وشَرحَ ((السير الكبير)) في جُزأَينِ ضَخمَينِ، أَملاهُما وهو في الجُبِّ كان مَحبوسًا فيه بسَببِ كَلمةٍ نَصَحَ بها. وكان يُملِي عليهم وهم على أعلى الجُبِّ يَكتُبون ما يُملِي عليهم. فلمَّا وَصلَ إلى بابِ الشروطِ حَصَلَ الفَرجُ فأُطلِقَ؛ فخَرَجَ في آخرِ عُمرِه من "أوزكند" إلى "فرغانة" فأَنزَلهُ الأَميرُ حَسَنٌ بمَنزِلِه، فوَصلَ إليه الطَلَبةُ، فأَكملَ الإملاءَ في دِهليزِ الأَميرِ." وقد اختُلِفَ في سَنةِ وَفاتِه فقِيلَ: في هذه السَّنَةِ، وقِيلَ: في سَنةِ 486هـ.
كَبَسَ أَهلُ بابِ البَصرَةِ السُّنَّةُ الكَرخَ، فقَتَلوا رَجلًا وجَرَحوا آخرَ، فأَغلقَ الشِّيعةُ من أَهلِ الكَرخِ الأَسواقَ، ورَفَعوا المَصاحِفَ، وحَمَلوا ثِيابَ الرَّجُلينِ وهي بالدَّمِ، ومَضوا إلى دارِ العَميدِ كَمالِ المُلْكِ أبي الفَتحِ الدهستاني مُستَغيثينَ، فأَرسلَ إلى النَّقيبِ طِرادِ بن محمدٍ يَطلُب منه إِحضارَ القاتِلين، فقَصَدَ طِرادٌ دارَ الأميرِ بوزان بقَصرِ ابنِ المأمونِ، فطالَبَه بُوزان بهم، ووَكَّلَ به، فأَرسلَ الخَليفةُ إلى بُوزان يُعرِّفهُ حالَ النَّقيبِ طِرادٍ، ومَحِلَّه، ومَنزِلَتَه، فخَلَّى سَبيلَه واعتَذرَ إليه، فسَكَّنَ العَميدُ كَمالُ المُلْكِ الفِتنةَ، وكَفَّ الناسُ بَعضُهم عن بعضٍ، ثم سار إلى السُّلطانِ، فعادَ الناسُ إلى ما كانوا فيه من الفِتنَةِ، ولم يَنقَضِ يومٌ إلا عن قَتْلَى وجَرْحَى. وسَبَّ أَهلُ الكَرخِ الصَّحابةَ وأَزواجَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
كَثُرَت الفِتَنُ ببغداد بين الشِّيعةِ من أَهلِ الكَرخِ وغَيرِها من المَحالِّ مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وقُتِلَ بينهم عَددٌ كَثيرٌ، واستَولَى أَهلُ المَحالِّ على قِطعَةٍ كَبيرةٍ من نَهرِ الدَّجاجِ، فنَهَبوها، وأَحرَقوها، فنَزل شِحْنَةُ بغداد -المسؤول عن ضبط بغداد- وهو خمارتكين النائبُ عن كوهرائين، على دِجلَة في خَيْلِه ورَجِلِه، لِيَكُفَّ الناسَ عن الفِتنةِ، فلم يَنتَهوا، وكان أهلُ الكَرخِ يَجرُون عليه وعلى أَصحابِه الجِراياتِ والإقاماتِ، وفي بعضِ الأيامِ وَصَلَ أَهلُ بابِ البَصرَةِ إلى سُويقَةِ غالبٍ، فخَرجَ مِن أَهلِ الكَرخِ مَن لم تَجرِ عادَتُه بالقِتالِ، فقاتَلوهُم حتى كَشَفوهُ،. فرَكِبَ خَدَمُ الخَليفةِ، والحُجَّابُ، والنُّقَباءُ، وغَيرُهم من أَعيانِ الحَنابِلَةِ، إلى خمارتكين، وساروا معه إلى أَهلِ الكَرخِ، فقَرأَ عليهم كِتابًا من الخَليفةِ يَأمُرهم بالكَفِّ، ومُعاوَدَةِ السُّكونِ، وحُضورِ الجَماعةِ والجُمعةِ، والتَّدَيُّنِ بمَذهبِ أَهلِ السُّنَّةِ، فأجابوا إلى الطاعةِ، فبينما هم كذلك أَتاهُم الصَّارِخُ من نَهرِ الدَّجاجِ بأن السُّنَّةَ قد قَصَدوهُم، والقِتالُ عندهم، فمَضوا مع خمارتكين، ومُنِعوا من الفِتنَةِ، وسَكَنَ الناسُ، وكَتَبَ سُنَّةٌ مِن أَهلِ الكَرخِ على أَبوابِ مَساجِدِهم: "خَيرُ الناسِ بعدَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبو بكرٍ ثم عُمَرُ ثم عُثمانُ ثم عَلِيٌّ، ومِن عند هذا اليومِ ثارَ شِيعَةٌ من أَهلِ الكَرخِ، وقَصَدوا شارعَ ابنِ أبي عَوفٍ ونَهَبوهُ، ورَفعَ العامَّةُ الصُلبانَ وهَجَموا على الوَزيرِ في حُجرَتِه، وأَكثَروا من الكَلامِ الشَّنيعِ، وقُتِلَ ذلك اليومَ رَجلٌ هاشِميٌّ مِن أَهلِ بابِ الأزج بسَهمٍ أَصابَهُ، فثارَ العامَّةُ هناك بعَلَوِيٍّ كان مُقِيمًا بينهم، فقَتَلوهُ وحَرَقوهُ، وجَرَى مِن النَّهْبِ، والقَتْلِ، والفَسادِ أُمورٌ عَظيمةٌ، فأَرسلَ الخَليفةُ إلى سَيفِ الدَّولةِ صَدَقةَ بنِ مزيد، فأَرسلَ عَسكرًا إلى بغداد، فطَلَبوا المُفسِدين والعَيَّارِين، فهَرَبوا منهم، فهُدِمَت دُورُهم، وقُتِلَ منهم ونُفِيَ وسَكنَت الفِتنةُ، وأَمِنَ الناسُ.
جازَ يوسفُ بن تاشفين ثانِيةً وتَثاقَلَ أُمراءُ الطَّوائفِ عن لِقائِه لِمَا أَحَسُّوا مِن نَكيرِه عليهم أَخذَهُم المُكوسَ، فوَجَدَ عليهم، وعَهِدَ بِرَفعِ المُكوسِ وتَحرِّى العَدل، فلمَّا أَجازَ انقَبَضوا عنه إلا ابنَ عبَّادٍ فإنه بادَرَ إلى لِقائِه, وتَوافَقَ مُلوكُ الطَّوائفِ على قَطْعِ المَدَدِ عن عَساكرِه ومحلاتِه فساءَ نَظرُه، قال ابنُ خَلدون: "وأَفتاهُ الفُقهاءُ وأَهلُ الشُّورَى من المَغرِب والأَندَلُس بخَلعِهم وانتِزاعِ الأَمرِ من أَيدِيهم، وصارَت إليه بذلك فَتاوَى أَهلِ الشرقِ الأَعلامِ مثل: الغَزَالي والطَّرطوشي"، فاتَّجَهَ إلى غرناطة واستَنزَل صاحِبَها عُبيدَ الله بن بلكّين بن باديس وَأخاهُ تَميمًا من مالقة بعدَ أن كان منهما مُداخلةُ الطَّاغِيَة ألفونسو في عَداوَةِ يوسف بن تاشفين، وبَعَثَ بهما إلى المَغرِب فخافَ ابنُ عبَّادٍ عند ذلك منه وانقَبَضَ عن لِقائِه وفَشَت السِّعاياتُ بينهما. ونَهَضَ يُوسفُ بن تاشفين إلى سَبتَة فاستَقرَّ بها، وعَقَدَ للأَميرِ سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأَندلسِ وأَجازَهُ فقَدِمَ عليها، وقَعَدَ ابنُ عبَّادٍ عن تَلَقِّيهِ ومَبَرَّتِه فأَحفَظَهُ ذلك، وطالَبَهُ بالطَّاعَةِ للأَميرِ يوسف والنُّزولِ عن الأَمرِ، ففَسَدَ ذاتُ بينِهما، وغَلَبَهُ على جَميعِ عَمَلِه. واستَنزَلَ أَولادَ المأَمونِ من قُرطبة، ويَزيدَ الرائضَ من رندة وقرمونة، واستَولَى على جَميعِها وقَتَلَهم. وصَمَدَ إلى إشبيليّة فحاصَرَ المُعتَمِد بها وضَيَّقَ عليه، واستَنجَدَ الطاغِيَة فعَمَدَ الى استِنقاذِه من هذا الحِصارِ، فلم يُغنِ عنه شَيئًا، وكان دِفاعُ لمَتونَة ممَّا فَتَّ في عَضُدِه، ودَخلَ المُرابِطون قُرطبة سَنةَ 484هـ, واقتَحمَ والمُرابِطون إشبيليّة عليه عُنوةً سَنةَ 484هـ وتقبّض وقَبَضَ على المُعتَمِد وقادَهُ أَسيرًا إلى مَراكش، فلم يَزَل في اعتِقالِ يوسف بن تاشفين إلى أن هَلَكَ في مَحبَسِه بأغمات سَنةَ 490هـ، ثم عَمَدَ إلى بطليوس وتقبّض وقَبَضَ على صاحبها عُمرَ بنَ الأَفطَس فقَتَلَه وابنَيْهِ يومَ الأضحى سَنةَ 489هـ بما صَحَّ عنده مِن مُداخَلَتِهم الطاغية، وأن يُمَلِّكوهُ مَدينةَ بطليوس، ثم أجازَ يوسفُ بن تاشفين الجوازَ الثالثَ سَنةَ 490هـ وزَحَفَ إليه الطاغية فبَعثَ عَساكرَ المُرابِطين لنظر محمد بن الحاج فانهَزمَ النَّصارَى أَمامَه، وكان الظهورُ للمُسلِمين. ثم أَجازَ الأَميرُ يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سَنةَ 493هـ، وانضَمَّ إليه محمدُ بن الحاج، وسيرُ بنُ أبي بكر، واقتَحَموا عامَّةَ الأندلسِ من أَيدِي مُلوكِ الطَّوائفِ، ولم يَبقَ منها إلا سرقسطة في يَدِ المُستَعينِ بن هود الذى كان قد أَبلَى بَلاءً حَسَنًا في جِهادِ النَّصارَى جَعلَت ابنُ تاشفين يُبقِيه في مُلكِه، وصار سَدًّا مَنيعًا في حِمايَةِ الثُّغورِ الشماليَّةِ من هَجَماتِ النَّصارَى, قال الذهبيُّ: "سالَمَ المُستَعِينُ بالله ابنُ هود صاحِبُ شَرقِ الأندلسِ ابنَ تاشفين، وكان يَبعَثُ إليه بالتُّحَفِ. وكان هو وأَجنادُه ممَّن يُضرَب بهم المَثَلُ في الشَّجاعَةِ، فلمَّا احتَضَر يوسفُ بن تاشفين أَوْصَى وَلَدَهُ عَلِيًّا بِبَنِي هود، وقال: اترُكهُم بينَك وبين العَدُوِّ، فإنَّهم شُجعانٌ" وغَزَا الأَميرُ مزدلي صاحِبُ بلنسية إلى بَلدِ برشلونة فأَثخَنَ بها وبَلَغَ إلى حيث لم يَبلُغ أَحدٌ قَبلَهُ، ورَجَعَ.
كَتَبَ الوَزيرُ أبو شُجاعٍ محمدُ بن حُسينٍ الروذراوريُّ إلى الخَليفةِ يُعرِّفهُ باستِطالَةِ أَهلِ الذِّمَّةِ على المسلمين، وأن الواجِبَ تَمييزُهم عنهم؛ فأَمرَهُ الخَليفةُ أن يَفعلَ ما يَراهُ. فأَلزَمَهم الوَزيرُ لُبْسَ الغيارِ والزَّنانيرِ وتَعليقَ الدَّراهِم الرصاص في أَعناقِهم، مَكتوبٌ على الدَّراهِم "ذِمِّي" وتُجعَل هذه الدَّراهِم أيضًا في أَعناقِ نِسائِهم في الحَمَّاماتِ ليُعرَفنَ بها، وأن يَلبَسنَ الخِفافَ فَرْدًا أَسوَد وفَرْدًا أَحمَر، وجُلْجُلًا في أَرجُلِهِنَّ. فذُلُّوا وانقَمَعوا بذلك. وأَسلَم حينئذ عَدَدٌ منهم.
نَهَبَ العَربُ البَصرةَ نَهْبًا قَبيحًا، وسَببُ ذلك أنَّه وَرَدَ إلى بغداد، في بَعضِ السِّنين، رَجلٌ أَشقرُ مِن سَوادِ النِّيلِ يَدَّعِي الأَدبَ، والنَّظَرَ في النُّجومِ، ويَستَجرِي الناسَ، فلَقَّبَهُ أَهلُ بغداد تليا –أي التابع-، وكان نازلًا في بَعضِ الخاناتِ، فسَرَقَ ثِيابًا من الدِّيباجِ وغَيرِه، وأَخفَاها في خلفا، وسار بهم، فرَآها الذين يَحفَظون الطَّريقَ، فمَنَعوهُ من السَّفَر اتِّهامًا له، وحَمَلوهُ إلى المُقَدَّم عليهم، فأَطلَقَه لِحُرمَةِ العِلْمِ، فسار إلى أَميرٍ من أُمراءِ العَربِ مِن بَنِي عامرٍ، وبِلادُه مُتاخِمَة الأَحساء، وقال له: أنت تَملِك الأرضَ، وقد فَعلَ أَجدادُك بالحاج كذا وكذا، وأَفعالُهم مَشهورَةٌ، مَذكورَةٌ في التَّواريخِ، وحَسَّنَ له نَهْبَ البَصرَةِ وأَخْذَها، فجَمعَ مِن العَربِ ما يَزيدُ على عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، وقَصدَ البَصرَةَ، وبها العَميدُ عصمة، وليس معه من الجُنْدِ إلا اليَسيرُ، لِكَوْنِ الدنيا آمِنَةً مِن ذاعِرٍ، ولأنَّ الناسَ في جِنَّةٍ مِن هَيبَةِ السُّلطانِ، فخَرجَ إليهم في أَصحابِه، وحارَبَهم، ولم يُمَكِّنهُم من دُخولِ البَلدِ، فأَتاهُ مَن أَخبَرهُ أنَّ أَهلَ البَلَدِ يُريدونَ أن يُسلِّموهُ إلى العَرَبِ، فخاف، ففارَقَهم، وقَصدَ الجَزيرةَ التي هي مكانُ القَلعةِ بنَهرِ معقل، فلمَّا عاد أَهلُ البَلدِ بذلك فارَقوا دِيارَهم وانصَرَفوا، ودَخلَ العَربُ حينئذٍ البَصرَةَ، وقد قَوِيَت نُفوسُهم، ونَهَبوا ما فيها نَهْبًا شَنيعًا، فكانوا يَنهَبون نَهارًا، وأَصحابُ العَميدِ عصمة يَنهَبون لَيلًا، وأَحرَقوا مَواضِعَ عِدَّةً، وفي جُملَةِ ما أَحرَقوا دارانِ للكُتُبِ إحداهما وُقِفَت قبلَ أيامِ عَضُدِ الدولةِ بن بويه، وهي أَوَّلُ دارٍ وُقِفَت في الإسلامِ. والأُخرى وَقَفَها الوَزيرُ أبو مَنصورِ بن شاه مردان، وكان بها نَفائِسُ الكُتُبِ وأَعيانُها، وأَحرَقوا أيضًا النَّحَّاسِينَ وغَيرَها من الأماكنِ، وخُرِّبَت وُقوفُ البَصرَةِ التي لم يكُن لها نَظيرٌ، وكان فِعْلُ العَربِ بالبَصرَةِ أَوَّلَ خَرْقٍ جَرَى في أيامِ السُّلطانِ ملكشاه. فلمَّا فَعَلوا ذلك، وبَلغَ الخَبرُ إلى بغداد، انحَدرَ سَعدُ الدولةِ كوهرائين، وسَيفُ الدولةِ صَدقةُ بن مزيد إلى البَصرَةِ لإصلاحِ أُمورِها، فوَجَدوا العَربَ قد فارَقوها، ثم إن تليا أُخِذَ بالبَحرَينِ، وأُرسِلَ إلى السُّلطانِ، فشَهَرَهُ ببغداد سَنةَ أربع وثمانين وأربعمائة على جَمَلٍ، وعلى رَأسِه طرطور، وهو يُصفَع بالدِّرَّةِ، والناسُ يَشتُمونَه، ويَسُبُّهم، ثم أُمِرَ به فصُلِبَ.
قدم الحَسنُ بن الصَّبَّاحِ، رَئيسُ الطائفةِ الباطِنيَّةِ من الإسماعيليةِ، إلى مصر في زِيِّ تاجرٍ، واتَّصلَ بالمُستَنصِر واختَصَّ به، والتَزَمَ أن يُقيمَ له الدَّعوةَ في بلادِ خراسان وغيرِها من بلادِ المَشرِق. وكان الحسنُ هذا كاتِبًا للرَّئيسِ عبدِ الرَّزَّاق بن بهرام بالرَّيِّ، فكاتَبَ المُستَنصِر، ثم قَدِمَ عليه، ثم إن المُستَنصِر بَلغَه عنه كلامٌ، فاعتَقَلَه، ثم أَطلَقَه. وسَألهُ ابنُ الصَّبَّاحِ عن عِدَّةِ مَسائلَ مِن مَسائلِ الإسماعِيليَّة فأَجابَ عنها بِخَطِّهِ. ويُقالُ: إنه قال له: يا أَميرَ المؤمنين، مَن الإمامُ مِن بَعدِك؟ فقال له: وَلَدِي نزار. ثم إنه سار من مصر بعدَ ما أَقامَ عند المُستَنصِر مُدَّةً وأَنعمَ عليه بِنِعَمٍ وافِيَةٍ. فلمَّا وَصلَ إلى بِلادِه نَشَرَ بها دَعوةَ المُستَنصِر وبَثَّهَا في تلك الأَقطارِ، وحَدَثَ منه مِن البَلاءِ بالخَلْقِ ما لا يُوصَف، وأَخذَ ابنُ الصَّبَّاح أَصحابَه بجَمْعِ الأَسلِحَةِ ومُواعَدتِهم، حتى اجتَمَعوا له في شعبان سنة 483هـ، ووَثَبَ بهم فأَخذَ قَلعةَ ألموت، وكانت لِمُلوكِ الديلم قبلَ ظُهورِ الإسلام، وهي مِن الحَصانَةِ في غايةٍ، واجتَمعَ الباطِنيَّةُ بأصبهان مع رَئيسِهم وكَبيرِ دُعاتِهم أحمدَ بن عبدِ المَلِكِ بن عطاش، ومَلَكوا قَلعَتَينِ عَظيمَتينِ؛ إحداهما يُقال لها: قَلعةُ الدر. وكانت لأبي القاسم دلف العجلي، وجَدَّدَها وسَمَّاها ساهور؛ والقَلعةُ الأُخرى تُعرَف بقَلعَةِ جان، وهما على جَبلِ أصبهان. وبَثَّ الحَسنُ بنُ الصَّبَّاح دُعاتَه، وأَلقَى عليهم مَسائلَ الباطِنيَّة، فساروا من قَلعةِ ألموت، وأَكثروا من القَتلِ في الناسِ غَيْلَةً، وكان إذ ذاك مَلِكُ العِراقِيِّين السُّلطانَ ملكشاه المُلَقَّبُ جَلالُ الدِّين بن ألب أرسلان، فاستَدعَى الإمامُ أبا يوسف الخازن لِمُناظَرَةِ أَصحابِ ابنِ الصَّبَّاح؛ فناظَرَهم؛ وأَلَّفَ كِتابَه المُسَمَّى بـ((المستظهري))، وأَجابَ عن مَسائِلِهم. واجتَهَدَ ملكشاه في أَخذِ قَلعَتِهم فأَعياهُ المَرضُ وعَجَزَ عن نَيْلِها.
في أيامِ السُّلطانِ ملكشاه، فإنه اجتَمعَ منهم ثمانية عشر رجلًا، فصَلُّوا صلاةَ العِيدِ في ساوة، ففَطَنَ بهم الشِّحْنَةُ –المسؤول عن ضبط أمن ساوة-، فأَخَذَهم وحَبَسَهم، ثم سُئِلَ فيهم فأَطلَقَهم، فهذا أَوَّلُ اجتِماعٍ كان لهم، ثم إنهم دَعوا مُؤذِّنًا من أَهلِ ساوة كان مُقيمًا بأصبهان، فلم يُجِبهُم إلى دَعوَتِهم، فخافوه أن يَنِمَّ عليهم، فقَتَلوه، فهو أَوَّلُ قَتيلٍ لهم، وأَوَّلُ دَمٍ أَراقوهُ، فبَلغَ خَبرُه إلى نِظامِ المُلْكِ، فأَمَرَ بأَخْذِ مَن يُتَّهَم بِقَتلِه، فوَقعَت التُّهمَةُ على نَجَّارٍ اسمُه طاهِر، فقُتِلَ، ومُثِّلَ به، وجَرُّوا بِرِجْلِه في الأَسواقِ، فهو أَوَّلُ قَتيلٍ منهم، وأَوَّلُ مَوضِعٍ غَلَبوا عليه وتَحصَّنوا به بَلدٌ عند قاين، كان مُتَقَدِّمُه على مَذهَبِهم، فاجتَمَعوا عنده، وُقُووا به، فتَجَرَّدَ للانتِقامِ منهم أبو القاسم مَسعودُ بنُ محمدٍ الخجنديُّ، الفَقيهُ الشافعيُّ، وجَمَعَ الجَمَّ الغَفيرَ بالأَسلِحَةِ، وأَمَرَ بحَفْرِ أخاديد، وأَوْقَدَ فيها النِّيرانَ، وجَعلَ العامَّةَ يَأتون بالباطِنيَّة أَفواجًا ومُنفَرِدين، فيُلقَونَ في النارِ، وجَعَلوا إنسانًا على أخاديد النِّيران وسَمَّوهُ مالِكًا، فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا.