قامت الحركةُ المهديَّةُ بالسودان وسيطَرَت على جميع أجزائِها ما عدا دارفور، واضطرَّ الإنجليز للانسحابِ من البلاد ومعهم انسحب الجيشُ المصري تحت ضغطٍ شديدٍ من إنجلترا، وذلك سنة 1302هـ، وبعد ذلك بعامٍ واحد توفِّيَ زعيم الحركة « محمد المهدي» وجاءت على البلادِ سنواتٌ عجافٌ، وأخذت إنجلترا تخطِّطُ للعودة إلى السودان، وأخذت في تشكيل جيشٍ مصري تحت قياداتٍ إنجليزيةٍ؛ من أجل تنفيذِ هذا الغرض، وتقدم هذا الجيشُ بأمرٍ مباشرٍ مِن المندوب السامي الإنجليزي دون علمِ الحكومة المصرية، فلما عَلِمَ الخديوي «عباس حلمي» بالخبر غَضِبَ بشدةٍ، ولكنه استسلم للأمرِ الواقع في النهاية. قاد الجنرال «كتشنر» وهو ضابط إنجليزي من سلاحِ المهندسين جيشًا قوامُه عشرة آلاف مقاتل في أكمَلِ سلاح وأتمِّ استعداد، وتجمَّع الجيش في وادي حلفا وتحرَّك في اتجاه أرض السودان، وذلك في ذي القعدة سنة 1313هـ. وفي يوم 26 من ذي الحجة 1313هـ وقعت معركةُ «فركة» بين الجيش المصري الكبير وجيش الحركة المهدية الملقَّب بالأنصار، فقُتِلَ ثمانمائة مقاتل من بينهم قائدُ الجيش «حمودة» وجُرِحَ خمسمائة، وأُسِرَ ستمائة، وانسحب بقيةُ الجيشِ نحو «دنقلة»، وكانت هذه المعركة فاتحةَ انهيار الحركة المهدية وبدايةَ النهايةِ لحُكمِهم السودانَ.
المؤسِّسُ الحقيقي للصهيونية اليهوديَّة السياسية هو (تيودور هرتزل) 1860-1904م، الذي كان منهجُه يكمُنُ في توظيف اليهودِ لحلِّ مشاكل الغرب والنَّظَر إلى المسألة اليهودية كمُشكلةٍ سياسيةٍ دوليةٍ غربيةٍ تجتَمِعُ كُلُّ الأمم المتحضِّرة (أي الغربية) لمناقشتِها وإيجاد حلٍّ لها، لكن ذلك سيتمُّ بمراقبة الرأي العام الغربي، وبمعاونة صادقةٍ مِن الحكومات المعنيَّة. دعا هرتزل إلى هجرةٍ يهودية عَلَنية بمساعدة دولة أوروبيَّة كبرى معتَمِدًا على فقراء اليهود الذين يشكِّلون قوةً عاملةً رخيصةً، ومُشجِّعًا البرجوازية اليهودية على الهجرة؛ لأنَّها ستجد في الوطن الجديد مجالًا لممارسةِ حرِّيتِها بعيدةً عن منافسة البرجوازية الأوروبية. ويُعتَبَرُ كتاب هرتزل دولة اليهود الذي صدر سنة 1896م ذا أثرٍ كبيرٍ في تشكُّل الحركة الصهيونية الحديثة وتطورها، وقبل أن يَنشُرَ كتابُه قام بنشاطٍ فعَّال التقى خلالَه شخصياتٍ يهوديةً ثريَّةً بحث معها مشروعَ الدولة اليهودية، مثل: المليونير الشهير (البارون هيرش)، كما التقى مع عدد من القادة البريطانيين الصهيونيين في لندن سنة 1895م، منهم (صموئيل منونتامو) الثري اليهودي، والنائب في مجلس العُموم عن حزب الأحرار، ودوَّن إثرَ لقائِه معه بعضَ الأفكار المتعلِّقة بفلسطين الكبرى بدَلَ القديمة. وحاول مرارًا الاتصالَ بالسلطان العثماني لحثِّه على منحِ اليهودِ فلسطينَ.
كان لكلِّ رواقٍ في الأزهر مكتبةٌ خاصةٌ به، وكان بعضُ أهل الخير يَقِفون الكتُبَ فيها، ولكنها لم تكُنْ خاضِعةً لأيِّ نظامٍ، وكانت معظمُ الكتب في النحو، فاقترح الشيخُ محمد عبده عضوُ مجلس إدارة الأزهر في حينِها من ضِمنِ إصلاحاتِه أن يكون للأزهرِ مَكتبةٌ خاصَّةٌ متكامِلةٌ منظَّمةٌ، تجمَعُ شَتاتَ الكُتُبِ المتفَرِّقة في الأروقة التي ذهب كثيرٌ منها إلى أوربا عن طريقِ سماسرة الكتُبِ ومَن لا أمانة له من الذين كانوا يبيعون المخطوطاتِ، بل إنَّ بعض المكتبات التابعة للأزهر كانت في الحارات وبعضُها في الحوانيت، فتقَدَّم بفكرة المكتبة إلى مجلسِ إدارة الأزهرِ، فنالت القبولَ من أعضائه واختير المكانُ المناسب، وكُتِبَ لديوان الأوقاف الذي يتولى الإشرافَ على شؤون الأزهرِ، ثم نُفِّذَت الفكرةُ فعلًا في شعبان مِن هذا العام ولاقت في البدايةِ صُعوبةً في إقناع أهل الأروقةِ بفائدةِ المكتبة العامَّةِ وضَمِّ مكتباتِهم إليها، كما وُجِدَت صعوبات في ترميمِ الكتب، ولم يُكتَفَ بما جُمِعَ من الأروقة بل دُعِيَ العلماءُ والعظماء للمشاركة في تكوين المكتبة، فوَهَب بعضُ المشايخ مكتباتِهم الخاصةَ لها، مثل الشيخ حسونة النواوي رئيس مجلس إدارة الأزهر، وورثة سليمان باشا أباظة بمكتبةِ والِدِهم، وهي من أنفَسِ المكتبات الخاصة، وتشغَلُ المكتبة الأزهرية الآن ثلاثةَ أمكِنَة؛ اثنان منها داخِلَ الأزهر، وهما المدرسة الأقبغاوية، والمدرسة الطيبرسية، والثالث خارج الأزهر ملاصِق له وهو الطابِقُ الثاني من بناء أنشأته مشيخةُ الجامع الأزهر سنة 1936م كمُلحَق للإدارة العامة المجاورة للأزهرِ، وعدد الكتب التي بدأت بها المكتبة سنة 1897م هو 7703 كتابًا في سبعة وعشرين فنًّا، وبلغت سنة 1943م ثمانية وخمسين فنًّا وعدد الكتب 90075 مجلدًا، وفيها أكثر من اثنتي عشرة مكتبة خاصة، وتختَصُّ المكتبة بكثرة المخطوطات التي بلغت سنة 1943م 24000 مجلدٍ مخطوطٍ.
هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
أعلنت الدَّولةُ العثمانية الحربَ على اليونان بعد حروبِ العِصاباتِ التي شنَّها اليونانيون في عددٍ مِن الإيالات (الولايات) العُثمانية، وقد استمَرَّت هذه الحرب شهرًا، وانتصرت فيها الدولةُ العثمانية التي أفنت الجيشَ اليونانيَّ في معركة "برنار" ووصلت إلى أبواب العاصمةِ أثينا.
حادثُ فاشودة كان من أسبابِ الخلافِ بين انجلترا وفرنسا في السيطرةِ على أعالي النيلِ، هو تصميمُ الخديوي إسماعيل على الوصولِ إلى أعماقِ الجنوب السوداني عند تأسيسِه مديرية خَطِّ الاستواء على حدودِ أوغندا ليسيطِرَ على كلِّ مجرى نهرِ النيل والامتداد في أعماقِ القارَّة. وقد أصبحت تلك المناطِقُ ضِمنَ الوجود المصري في السودانِ، وكانت الإمبراطوريةُ الفرنسيةُ بدَورِها تتحَرَّك باتجاهِ مَنطِقةِ جنوب السودان هي الأخرى؛ حيث كان القائِدُ الفرنسي مارشان قد وصل إلى فاشودة بعد عامين من خروجِه من مدينة برازافيل في الكونغو على رأسِ جنودِ سينغاليين مجتازًا ثلاثةَ آلاف كيلومتر في جوف القارة؛ بهَدَفِ ضَمِّ أعالي النيل إلى الإمبراطورية الفرنسية؛ لتلتقي قواتُه مع قواتِ كتشنر الذي كان بعد انتصارِه على الحركة المهدية واحتلالِ الخرطوم انطلق على مركَبٍ بخاري ومعه عددٌ من الجنود المصريين والسودانيين متَّجهًا إلى فاشودة، حيث وصل بعد يومين من وصولِ مارشان. وعندما التقى الطرفانِ أعلم كتشنر القائِدَ الفرنسي بأنَّ عليه العودةَ إلى بلاده وتَرْكَ فاشودة؛ لأن الأرض التي يَقِفون عليها هي أرضٌ مِصريَّةٌ، وأن الخِلافَ هو بين مصر وفرنسا، وقد استقبل كتشنر خَصمَه الفرنسي بلباسِ ضابطٍ مِصريٍّ، وتحت العلم المصري. كانت مرحلة صراعات بين الدُّوَلِ الاستعمارية حول السودان ومنطقةِ القرن الأفريقي ووسط أفريقيا. وكانت نقطةُ الالتقاءِ هي فاشودة التي انتهت بدونِ معركةٍ عَسكريةٍ، وكانت عنوانًا لتقسيم المنطقة وَفقَ نظرية الاتفاقاتِ الوُدِّية والتي تبلورت بعد سنواتٍ قليلةٍ فيما سمِّيَ بالاتفاق الوُدي لتقسيمِ الدُّوَل العربية أو المستعمرات بين الدُّوَل الاستعمارية! بعد صراعاتٍ حاولت فرنسا خلالَها هي الأخرى الاتصالَ بالثورة المهدية والطَّلَب منها رفعَ العَلَم الفرنسي فوقَ فاشودة قبل أن تقومَ بمساندة الثورة المهديَّة في مواجهة بريطانيا، وبعد مواجهةِ فاشودة انتهت الأوضاعُ إلى الاستقرار على تقسيم "السودان العظيم" إلى مناطِقِ نفوذ وقَعَ فيها السودان الحاليُّ الذى نعرفه تحتَ الاحتلال الانجليزي. أخذت إيطاليا (بيلول) شمال خليج (عصب)، والمنطقة الساحلية قرب (مصوع) إرتريا الحالية, وأخذت الحبشةَ مدينة (هرو)، وانتزعت إنجلترا الجهاتِ المطِلَّةَ على بحيرة فيكتوريا، ووضعت فيها أساسًا لمستعمرة أوغندا كمركزٍ لِمُستعمراتِها الأفريقيةِ، وأخرجت إنجلترا فرنسا من فاشودة تحت العَلَمِ والجيش المصري إلى المناطِقِ الأخرى في جوف القارة، وهى التي أصبحت تسيطِرُ على تشاد فعليًّا.
هو الأميرُ محمدُ بنُ عبد الله بن علي بن رشيد، من شمر، أكبَرُ أمراءِ آل رشيد أيامَ حُكمِهم في حائل وما حولها. كان أبوه عبدُ الله قد لجأ إلى آل سعودٍ وأقامه الأميرُ فيصل بن تركي بن عبد الله أميرًا على حائل، وتوفِّيَ بها سنة 1263هـ، وخلفه ابنُه طلال فتوفي سنة 1283 وخَلَفه أخوه متعب فقتله ولَدَا أخيه بندر وبدر ابنا طلال سنة 1285، وقام محمد سنة 1288 فقتل خمسةً من أبناء أخيه طلال بينهم بندر وبدر، وترك سادسًا لهم اسمه نايف لصغر سنه، وتوطَّدَت له الإمارة. وامتَدَّ حُكمُه إلى أطراف العراق ومشارف الشام، ونواحي المدينة واليمامة وما يلي اليمن. وغلب على نجدٍ، وانتهز فرصةَ الخلاف بين أمراء آلِ سعود، فأدخل نجدًا في طاعتِه بعد أن قضى على دولتِهم في مرحلتها الثانية سنة 1309ه. وأَمِنَت المسالك في أيامِه، وفكَّرَ في إنشاءِ ميناء بحريٍّ لنجد، فحالت منيَّتُه دون ذلك. توفِّيَ بحائلٍ ولم يُعقِب ولدًا، فلمَّا مات خلفه ابنُ أخيه عبد العزيز بن متعب الذي قُتِلَ في المواجهة مع الملك عبد العزيز في معركة روضة مهنا بالقصيم سنة 1324.
في هذا العام زار الإمبراطورُ الألمانيُّ ويلهلم استانبولَ فلَحِقَه هرتزل وتمكَّن من مقابلتِه في القدس وطلَبَ مساعدتَه بشأن الهجرة إلى فلسطين، وبعد توسُّط السفارة الألمانية في استانبول تقَدَّم هرتزل وبصُحبتِه الحاخام اليهوديُّ موشيه ليفي مِن السلطان عبد الحميد الثاني قائلًا: مولانا صاحِبَ الشوكة جلالةَ السلطانِ، لقد وكَّلَنا عبيدُكم اليهودُ بتقديم أسمى آيات التبجيل والرجاءِ، عبيدُكم المخلِصون اليهودُ يقَبِّلون الترابَ الذي تدوسونه ويَستعطِفونكم للهجرةِ إلى فلسطين المقدَّسة، ولقاء أوامِرِكم العالية الجليلة نرجو التفضُّلَ بقَبولِ هديَّتِكم خمس ملايين ليرة ذهبية، فما كان من الخليفةِ إلَّا أن أمر بطردِهم، كما جاء في مذكرات هرتزل، بلِّغوا هرتزل ألا يبذُلَ بعد اليوم شيئًا من المحاولة في هذا الأمرِ؛ أمرِ دُخولِ فلسطين، والتوطُّن فيها؛ فإنِّي لست مستعدًّا لأن أتخلى عن شبرٍ واحدٍ من هذه البلاد لتذهَبَ إلى الغيرِ، فالبلاد ليست ملكي بل هي مِلكٌ لشعبي، روى ترابها بدمائِه، فلْتحتفِظ اليهودُ بملايينهم من الذهَبِ. وأصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، فاتخذوا قرارًا بخَلعِه وحاولوا استخدامَ المنظَّمات السرية الأرمنية، وفوَّضوا عمانوئيل قره صو الذي يتمتَّع بجنسية عثمانية وإيطالية، والذي أصبح نائبًا عن ولاية سلانيك بتلك المهمَّة، فكان هذا اليهودي ممن اشترك مع الوافدِ الذي دخل على الخليفة ليبلِّغَه قرارَ عَزلِه.
بدأت الجمعيَّاتُ السرِّيَّةُ وغيرُ السريَّةِ تنتَشِرُ في البلادِ، والأفكارُ الغربية المواليةُ للغربِ والمعاديةُ لفِكرةِ الخلافة تنتَشِرُ، وبدأت التنظيماتُ العسكريَّةُ تنمو وتتَّسِعُ دائرتُها بسرعةٍ، وبدأ الخطَرُ اليهودي يَبرُز بشكلٍ واضحٍ سواء عن طريقِ يهود الدونمة، أو عن طريقِ الماسونيَّة، أو عن طريق اليهودِ من الخارج؛ إذ ساعدوا الجمعيَّاتِ السريَّةَ، وكان اليهودُ قد دَعَوا إلى اجتماعٍ لبَحثِ قضيَّتِهم وعَقْدِ المؤتمر الذي دَعَوا إليه في بازل - أو بال- بسويسرا عام 1315هـ ورأوا في المؤتمَرِ أن يعملوا على تأسيسِ وطَنٍ قوميٍّ لهم يجمعون فيه أبناءَ عقيدتِهم الذين يُضطَهدون في العالم نتيجةَ تصَرُّفاتِهم وآرائِهم وعقائِدِهم الخاصة بهم سواءٌ أكانت ابتزازًا للأموال أم تسخيرًا للجِنسِ لحسابِ تحقيقِ مآرِبِهم أم قتلًا للأبرياء للحُصولِ على الدماء لعمَلِ فطيرتِهم في عيدِهم المقَدَّس، وأصَرَّ هرتزل يومذاك على أن تكون فلسطين هي الوطَنَ القوميَّ لهم، فأُعطِيَ الصلاحياتِ مِن أجلِ تحقيق غاياتهم، فنشأت الفكرةُ الصهيونيَّةُ، وأصبح هرتزل يتَّصِلُ بالسلطانِ عبد الحميد الثاني من أجلِ ذلك.
بعد أن استطاع الشيخُ مبارك آل الصباح الاستيلاءَ على حُكمِ الكويت أبقى العلمَ العُثمانيَّ مرفوعًا في الكويت ليخَفِّفَ نقمةَ النَّاسِ عليه من قَتلِه لأخويه محمد وجراح ليستفردَ بالحكم، ومن جانبِ الدولة العثمانية فإنها لم تكنْ واثقةً به، ومنعًا لاعتراف أيِّ دولة باستقلاله عيَّنَتْه قائمقام في الكويت، أمَّا البريطانيون فكانوا يتخوَّفون من أمرين: من الحكومة العثمانية التي بدأت تعَزِّزُ قواتها في البصرة، وبدأت نواياها تتَّجِهُ إلى ضمِّ الكويت رسميًّا لها، وعدم تركها على وَضعِها، ومن طرفٍ آخَرَ تتخَوَّف من روسيا التي باتت تزاحمُها على الخليج العربي بالتقرُّبِ من الكويت لأخذِ الامتيازات وإنشاء محطاتٍ للفحم في الموانئ، فحاولت بريطانيا عن طريقِ المقيم البريطاني عقدَ اتفاقية مع مبارك الصباح، فتَمَّ إبرام اتفاقية مضمونُها عدم استقبال مبارك لأيِّ مبعوث دولة أجنبية، وتمت هذه الاتفاقيَّةُ بسريَّةٍ تامَّةٍ، وحاولت بريطانيا أيضًا أن تزيدَ عدد السفن البحرية الحربية بحُجَّةِ حماية الخليج العربي أمام الكويتِ، وحاول العثمانيون أن يتولَّوا بأنفُسِهم إدارة ميناء الكويت، ورفض ذلك مبارك فأرسل العثمانيون قوةً عسكريةً بحجَّةِ إقامة دارٍ للجمارك ومَدِّ خطٍّ للتلغراف، وفي الوقت نفسه قام البريطانيون بإعلامِ العثمانيين بأنَّ الكويتَ له استقلالُه، وأنَّ الأمور ستُصبِحُ خطيرةً إذا ما قام العثمانيون بإنشاءِ دار الجمارك في الكويت دون موافقةِ بريطانيا، وأصدر البريطانيون أوامِرَهم للمقيم البريطاني في الخليجِ العربي بالضغطِ على مبارك وتهديدِه حتى لا يتصَرَّفَ دون استشارةِ حكومة الهند، ثم إنَّ محاولات الدولة العثمانية لفَرضِ سُلطتِها على الكويت جَعَلت مباركًا يتصل بقائِدِ السفينة البريطانية سفنكس طالبًا منه إعلان الحكومة البريطانية بتجديدِ الحمايةِ الدائمةِ على الكويت، ورفضت بريطانيا ذلك أولًا، ثم استاء البابُ العالي من مبارك، فأصدر مرسومًا بنفيه من الكويت، ولكِنَّه استنجد بالسفُنِ البريطانية ليخَلِّصوه من هذا المرسوم، وبعد أن قام كرزن برحلةٍ إلى الخليج العربي والتي أدَّت إلى تركيز النفوذ البريطاني في الخليجِ بعد مناقشةٍ قوية مع الدولة العثمانية، تمَّ إعلانُ الحمايةِ البريطانية للكويت والتي أصبحت الكويت بموجِبِه منطقةَ نفوذٍ بريطانية، وتم تعيينُ ممَثِّل سياسي فيها، هو الضابط نوكس.
كان السُّلطانُ عبد الحميد الثاني قد أعلن الدستورَ سنة 1876م لكنه بعد سنتين عَلَّق الدستور وعطَّل البرلمانَ العثماني لَمَّا رأى أنَّ أكثَرَ الموالين للدستور من المفتونيين بأوربا وسياستِها وعلى صلةٍ بالساسة الأوربيين، ويعادون القانونَ الإسلاميَّ، ويطلقون على أنفُسِهم اسمَ الدستوريين، فانطلقوا يعملون على نشرِ أفكارِهم وبدؤوا بتأسيسِ الجَمعيَّاتِ السرِّية التي كان من أشهَرِها وأولها جمعية الاتحاد والترقي، التي تأسَّست في باريس هذا العام، وجمعية الحرية، في سلانيك في 1323هـ ثم اندمجتا معًا ولم يقتَصِرِ الأمرُ على المدنيين، بل إنَّ العسكريين أيضًا كانوا ينضَمُّون لهذه الجمعيَّات، وكانت أقدم الجمعيَّات هي الجمعيَّاتِ الشعبيَّة العثمانية التي تأسَّست منذ عام 1282هـ، وكانت علنيَّة غيرَ سرية، أمَّا التنظيماتُ العسكرية فكان تنظيمُ نيازي بك، ورائف بك، وحسين بك، وصلاح الدين بك، وكانت الحكومةُ مهتمَّةً في ذلك الوقت بالحَدِّ من خطَرِ مخطَّطاتِ اليهود سواءٌ كانوا من الدونمة، أو من الماسونية، أو من الخارج، الذين يدعمون هذه الجمعيَّات السريَّة، وكانت المعارَضةُ في الداخل من الأحرارِ العثمانيين الذين يريدون السيرَ على المنهجِ الأوربي لا المنهجِ الإسلاميِّ مفتونين بالحضارة الأوربية، ويظنون أنَّ طريقَها يكون بالتخلِّي عن الإسلامِ، ومن طرفٍ آخَرَ كانت المعارَضاتُ من القوميين غيرِ الأتراك الذين بدؤوا بالظهورِ وتكوين الجمعيات أيضًا الخاصة بهم، التي نشأت كرَدِّ فعل على القوميين الأتراك الذين بدؤوا ينشُرون ويعملون على جَعلِ الدولة العثمانية دولةً تركيةً بحتةً لا دَخْلَ للعرب فيها، مثل: جمعية تركيا الفتاة، وجمعية الوطن والحرية، التي كان منها مصطفى كمال أتاتورك، ثمَّ بدأت الثوراتُ تُظهِرُ الرغبةَ في خلعِ السلطانِ عبد الحميد.
بعد أن سيطر المهديُّون على السودان كلِّها وجاءت الأوامِرُ الإنجليزية للمصريين بالانسحابِ مِن السودان، ثمَّ أخذت إنجلترا بالعمل لاستعادة السودانِ، ووافق ذلك هزيمةَ إيطاليا أمام الحبشة، فاستنجدت إيطاليا بإنجلترا فتشَكَّل الجيشُ المصري الإنجليزيُّ، وتجمَّعَ في حلفا في ذي القعدة 1313هـ / أيار 1896م ليستعيدَ السودان، وقاد الجيشَ كتشنر الضابِطَ الإنجليزيَّ، ثم أُعطِيَت الأوامِرُ للتقَدُّمِ إلى السودان، وحدث صدامٌ أوَّلًا بين دوريةٍ مِن هذا الجيشِ والأنصارِ، ثمَّ حَدَثت معركةُ فركة في السادس والعشرين من ذي الحجة / حزيران، ولم يكن عددُ السودانيين يزيدُ على ثلاثة آلافٍ، على حين كان الجيشُ المقابِلُ عشرةَ آلاف بعتاده الكامِلِ، فقُتِلَ من السودانيين قائِدُهم حمودة ومعه ثمانمائة مقاتل، وأُسِرَ سِتُّمائة وتراجَعَ البقيَّةُ إلى دنقلة، ثمَّ جَرت اتصالاتٌ سريَّةٌ بين الضبَّاط الإنجليز وأعيان كردفان وزعيم الكبابيش وعبد الله ولد سعدٍ زعيم قبيلة الجعليين؛ لإعادة الحكم المصري، غيرَ أنَّ الجيش المصري قد أُصيب بكارثة انتشار الكوليرا في صفوفِه، ووجد أميرُ دنقلة أنَّه لا يستطيعُ الصمود أمامَ الغزاة فأخلى مدينتَه ودخَلَها كتشنر دون مقاومةٍ، ووصل مدينة مروى ومد الإنجليزُ خطًّا حديديًّا بسرعة بين حلفا وأبو حمد، وحاولت قوةٌ مهدية المقاومةَ في أبو حمد غيرَ أنَّها قد هُزِمَت أمام قوة السلاح رغمَ ما قدَّمت من تضحية، وكذلك انسحب أمير بربر إلى أم درمان، وجاءت قوةٌ من الجيش المصري من سواكِن على البحر الأحمر وتقَدَّمت نحو الداخل وأخذت مدينةَ كسلا من أيدي الإيطاليين، وذلك في 26 رجب 1315هـ / 20 ديسمبر 1897م، وانتصر كتشنر على قائدِ الجيش السوداني محمود في بلدة النخيلة على نهر عطبرة في 15 ذي القعدة 1315هـ / 6 نيسان 1898م وتقدَّم الإنجليزُ بجنودِهم المصريين نحو الجنوبِ وجَرَت معركةُ كرري في ربيع الثاني 1316هـ / أيلول 1898م وقُتِلَ فيها عشرة آلافٍ مِن الأنصارِ أتباعِ حركةِ المهديِّ، ودخل كتشنر الخرطومَ ورُفِع عليها العَلمانِ المصريُّ والإنجليزي، وتم التفاهمُ مع الفرنسيين في فاشودة.
بعد أن استعاد الجيشُ المصري الإنجليزي السودانَ، تم التوقيعُ على الحُكم الثنائي للسودان، وذلك بين كرومر المندوب السامي الإنجليزيِّ في مصر ووزيرِ خارجية مصر بطرس غالي، وقد كانت الاتفاقيَّةُ بشأنِ إدارة السودان في المستقبَلِ، وأُطلِقَ لفظُ السودان في هذه الاتفاقية على جميع الأراضي الواقعة جنوبَ خَطِّ العرض 22 شمالًا، وأن يُرفَعَ العلمان البريطاني والمصري في البَرِّ والبحر في جميع أنحاء السودان عدا سواكن، فلا يُرفَعُ إلا العلمُ المصري، وغيرها من البنود التي تتضَمَّن تبعيةَ السودان لمصر. وعَمِلَت إنجلترا على إقحامِ مِصرَ مع أنَّه فعليًّا الأمر للإنجليز؛ من أجلِ فرنسا، وأُطلِقَ على الحُكم بالثنائي يعني بين مصر وإنجلترا، وهذا أيضًا ينهي السيادة العثمانية على السودانِ.
واجه الاستعماران البريطانيُّ والإيطاليُّ ثورةَ الزعيم محمَّد عبد الله حسن الذي تلقَّب بمهدي الصومال. الذي استطاع أن يقاوِمَ المستعمرين لمدةِ عشرين عامًا كبَّدَهم أثناءَها الخسائِرَ الفادحة. وكانت بدايةُ هذه المقاومة هذا العام. وقد استطاع محمدُ عبد الله «الملا المجنون» (لقب أطلقه عليه الإنجليز) انتزاع حَقِّ السيادة على مناطقَ عديدةٍ. وفي عام 1913م. ألحقت قواتُه هزيمةً نكراء بالقوات الإنجليزية التي كان يقودُها الكولونيل «كورفيلدو» الذي قُتِلَ أثناء المعركة. وكان محمد عبد الله حسن قد أجرى عدةَ أحلافٍ مع العثمانيين وإمبراطور الحبشة (ليدجي يسوع الذي اعتنق الإسلام وفقد جرَّاءَ ذلك عرشَه). وقد استطاع ونستون تشرشل بإصداره الأمرَ باستعمال الطيرانِ الحربيِّ ضِدَّ الزعيم الصومالي عام 1920م الذي تعرَّضَت منطقته للقَصفِ الشديد، فتكَبَّدت قواتُه خسائِرَ كبيرة إلَّا أنه نجا من الموتِ، فلجأ إلى أثيوبيا حيث توفِّيَ هناك عام 1921م. استمَرَّت مقاومةُ المهدي محمد عبد الله حسن من عام 1908م حتى عام 1920م. ونجا من الموتِ عام 1920م إلَّا أنَّ قواتِه العسكريةَ أُصيبت بانهيارٍ كاملٍ.
منذ أن دخلت بريطانيا إلى مصرَ وهي تعمَلُ على فصل السودان عن مصرَ، ولم تستطع إنجلترا أن تقمَعَ الثورات باسمِ المصريين، فقامت بإجلاء العساكِرِ المصرية من السودان بحُجَّةِ ولائِهم لأحمد عرابي لا للخديوي توفيق، وبصعوبةِ المواصلات للسودان، وأصَرَّ كرومر المندوبُ الإنجليزيُّ على إجبارِ الحكومة المصرية على قَبولِ الجلاء، ولكنَّه صار جلاءً مؤقَّتًا؛ ففي سنة 1896م جاءت حملةُ كتشنر التي انتهت بعد معركةِ أم درمان سنة 1898م برفع العلمِ الإنجليزي والمصري في الخرطوم، وفَرَضت في اتفاقية سنة 1899م نظامَ الحكم الثنائي المصري الإنجليزي، بمعنى دخولها شريكًا أساسيًّا في امتلاك البلادِ، وتقرَّرَ أن يكونَ تعيينُ حاكم عموم السودان بأمرِ الخديوي، ولكِنْ بترشيح بريطاني.
أجبرت إنجلترا حكومةَ مِصرَ على سَحبِ جَيشِها من السودانِ بعد انتصارِ ثورة المهدي، وقاد كيتشنر مع عددٍ مِن الضباط الإنجليز حملةَ الجيش المصري لإعادةِ احتلال السودان من عام 1896م حتى عام 1898م؛ حيث انهزم المهديُّون في معركةِ أم درمان الفاصلة، فأجبر الإنجليز مصرَ على توقيع اتفاقية هذا العام (بحجَّة أن السودان قد أُعيدَ فتحه بدعمٍ مِن البلدين) فنصَّت الاتفاقيَّةُ على رفع العَلَمين المصري والإنجليزي. وعلى تعيينِ حاكمٍ عَسكريٍّ للسودان تختارُه بريطانيا ويعَيِّنُه الخديوي، ويفصل بالطريقة ذاتها. وكان كيتشنر أولَ حاكمٍ عسكريٍّ عامٍّ هناك، كما احتفظ لمصرَ في السودان بفرقةٍ عسكرية, وفي عام 1924م بدأت التظاهراتُ والاحتجاجات تعُمُّ مصر والسودان، أدَّت إلى اغتيال الحاكم العام للسودان أثناءَ زيارتِه لمصر، فاستغل الإنجليزُ مقتلَ اللواء الإنجليزي لي أوليفير فيتزماورس ستاك السردار (قائد) الجيش المصري في السودان، ما أدَّى إلى ردٍّ عنيفٍ تمثَّل بمنع مشاركة مصر في حُكمِ السودان حسَبَ معاهدة 1899م، فأجبر الإنجليزُ حُكومةَ مِصرَ على سحبِ فرقتِها العسكرية من السودان، ولكِنَّ بعضَ الوحدات المصرية ما لَبِثَت أن عادت بعد معاهدة 1936م. وفي الفترةِ التي نالت فيها مِصرُ استقلالها، تنامت حركاتُ المعارَضة في السودان. وقد نجح البريطانيون في مَطلَعِ العشرينايت في تكوين تيارٍ سوداني قوي معادٍ لمصرَ، وحمل شعار: «السودانُ للسودانيين» وأدَّت التحوُّلاتُ السياسية السودانية في الثلاثينيات إلى تصدُّعِ هذا الحِلْف، ذلك أنَّ نفوذَ حَركةِ المهدي وقُوى تحالفِها مع البريطانيين أدَّى هذا إلى إثارةِ حَفيظةِ الميرغني الذي قرَّر نكايةً بالإنجليز التحالُفَ مع القوى الوطنية «مؤتمر الخريجين» وراحوا ينادون من جديدٍ بالوَحدةِ مع مصر، إلَّا أنَّ خيبات الأمل والضَّرَبات التي كسرت الصورةَ المثالية لمصر عند السودانيين توالت، وخاصةً عند الشباب الذي سافر للتعلم في القاهرة. وكانت الضربةُ الثانيةُ بعد معاهدة 1936م بين مصر وبريطانيا التي أعادت إلى مصرَ شيئًا من نفوذِها على السودان. فقد صدمت هذه المعاهدةُ السودانيين؛ لأنَّها لم تذكُرْ لهم أيَّ دور، هذا ما أعاد بعثَ الحركة الوطنية التي وإن كانت تتطلَّعُ إلى مصر، إلَّا أنَّها أدركت أنَّ مِصرَ لا يمكِنُ الاعتماد عليها كليًّا لتعَبِّرَ عن صوت السودانيين. بعد ذلك حصل منعطَفٌ كبير وهو ثورة 23 يوليو 1952م في مصر، وبروز اللواء محمد نجيب، الذي كان يتمَتَّعُ بشعبية واسعة في السودان؛ حيث اعتُبِرَ أنَّه نِصفُ سودانيٍّ، وبعده مجيء جمال عبد الناصر، فأعطت هذه الثورةُ دفعةً قويةً لتيار الوَحدةِ بعد تراجُعِه كثيرًا. وكانت الثورةُ مُتجاوِبةً مع الوَحدويِّين السودانيين، وكان قادتُها على قدر كبير من التفَهُّم والوعي لمطامِحِ الحركة الوطنية السودانية، وتمكَّنوا في الوقت نفسِه من طمأنة حزبِ الأمة والاستقلاليين إلى نوايا مصرَ، ولم يتردَّدوا في توقيعِ اتفاق مع كلِّ الأحزاب السودانية في عام 1953م لمنح السودان حقَّ تقريرِ مَصيرِه.
أصدر السُّلطانُ العثماني عبد الحميد الثاني أمرًا سلطانيًّا بإنشاء سكة حديد الحجاز؛ لخدمة حجاج بيت الله الحرام، واستمَرَّ الخَطُّ في العمل تسعَ سنوات، وتعرَّض بعدها للتخريبِ أثناء الثورة العربية، ولم تُفلِح محاولات إعادته للحياةِ مرةً أخرى، وكانت تنحَصِرُ أهداف السلطان عبد الحميد في إنشاءِ الخط الحجازي في هدَفَين أساسيَّين مترابطين: أولهما: خدمةُ الحجاج بإيجادِ وسيلةِ سفَرٍ عصرية يتوفَّرُ فيها الأمن والسرعة والراحة. أما الهدف الثاني: فدَعمُ حركة الجامعة الإسلاميَّة التي كانت تهدفُ إلى تكتيل جميعِ المسلمين وتوحيدِ صُفوفِهم خَلْفَ الدولة العثمانية؛ لمواجَهةِ الأطماع الأوروبيَّةِ في العالم الإسلامي. وقامت حركة الجامعة الإسلامية على دعامتين أساسيَّتين، هما: الخلافةُ والحَجُّ؛ لذلك أراد أن يتَّخِذَ من الحجِّ وسيلةً عملية كي يلتَفَّ المسلمون حولَ الخلافة، وربط إنشاء الخط الحديدي الحجازي بحركة الجامعة. وقد واجه المشروعُ صعوباتٍ تمويلية، منها ضخامةُ تكلفته التي قُدِّرَت بنحو 3,5 ملايين ليرة عثمانية، مع وجود الأزمةِ المالية التي تواجِهُها الدولة العثمانية، فوجَّه السلطان عبد الحميد نداءً إلى العالم الإسلامي عبر سكرتيره "عزت باشا العابد" للتبَرُّع للمشروع. ولقِيَ هذا النداء استجابةً تلقائية من مسلمي العالَم وانهالت التبَرُّعات، وكان اتِّساعُ نطاق هذه التبرعات مَظهرًا عمليًّا لحركةِ الجامعة الإسلامية. وانتقلت حماسةُ إنشاء الخط الحجازي إلى العالم الإسلامي، وكان مسلمو الهند مِن أكثر المسلمين حماسةً له، وهو ما أثار غضَبَ بريطانيا، فوضعت العراقيلَ أمام حملات جمعِ التبرُّعات حتى إنها رفضت أن يرتديَ المسلمون الهنود الذين اكتَتَبوا في الخطِّ الأوسمةَ والنياشين العثمانية. ولم تقتَصِر تبرعات وإعانات المسلمين على الفترات التي استغرقها بناءُ الخط فحسب، بل استمَرَّ دَفعُها بعد وصولِه إلى المدينة النبوية؛ أملًا في استكمال مدِّه إلى مكة المكرمة., وابتدأ العمَلُ في منطقة المزيريب من أعمال حواران ببلاد الشام، ثم قرَّرت الحكومة العثمانية إيصالَ الخط الحجازي إلى دمشق؛ لذلك قرَّرت إنشاءَ خَطِّ درعا - دمشق، وباشرت العمَلَ من دمشق ومزيريب في وقتٍ واحد. واحتفل ببدء المشروع في جمادى الآخرة من هذا العام, وقد استمرَّت سكة حديد الحجاز تعمل بين دمشق والمدينة ما يقرُبُ مِن تسع سنوات نقلت خلالها التجار والحجاج، وعندما نَشَبَت الحرب العالمية الأولى ظهرت أهميَّةُ الخط وخطورته العسكرية على بريطانيا؛ فعندما تراجَعَت القوات العثمانية أمامَ الحملات البريطانية، كان الخطُّ الحجازي عاملًا هامًّا في ثبات العثمانيين في جنوبي فلسطين نحو عامين في وجه القواتِ البريطانية المتفَوِّقة. وعندما نشبت الثورة العربيَّةُ بقيادة الشريف حسين واستولَت على مُعظَم مدن الحجاز، لم تستَطِعْ هذه القواتُ الثائرة السيطرةَ على المدينة بسَبَبِ اتصالها بخط السكة الحديدية، ووصول الإمداداتِ إليها، واستطاعت حاميةُ المدينة العثمانية أن تستَمِرَّ في المقاومة بعد انتهاءِ الحرب العالمية بشهرين؛ لذلك لجأ الشريف حسين -تنفيذًا لمشورة ضابط الاستخبارات البريطاني لورانس- إلى تخريبِ الخطِّ ونَسفِ جُسورِه وانتزاع قُضبانِه في عِدَّةِ أجزاءٍ منه.