افتُتِحَت الجامعةُ المصريَّةُ الأهلية رسميًّا برئاسةِ الأمير أحمد فؤاد، وكانت البداياتُ الأولى لها متواضِعةً، ثم أخذت تتوسَّعُ نتيجة دعمِ كثيرٍ مِن المؤسَّسات والأفراد لها، ثم تحوَّلت الجامعة إلى جامعةٍ حكومية سنة 1344هـ/ 1925م باسم الجامعة المصرية، وهي التي تُعرَفُ الآن بجامعة القاهرة.
بعد فوزِ الاتحاديِّين بأغلبيةٍ كبيرةٍ وإعلان الدستور أرادوا أن يُتِمُّوا خطَطَهم الراميةَ إلى خلع الخليفة، فبدؤوا يثيرونَ الفوضى والقلاقِلَ في الدولة بطُرُق غير مباشرة، وادَّعى رجال الاتحاد أنَّ الدستورَ معرَّضٌ للإلغاء والحريةَ مهدَّدةٌ؛ لذا فقد تقَدَّم الجيشُ المرابط في سلانيك بإمرةِ محمود شوكت لحماية الدستورِ والمجلس النيابي، عِلماً أنه كان فيه عناصِرُ أجنبية ترتدي الزيَّ العسكري، ووصل الجيشُ إلى العاصمة، فألقى الحصارَ عليها، ثمَّ سار إلى مقر إسماعيل حقي رئيس الجيش النظامي فقتَلوه ومَن معه، ثم ساروا إلى قصر يلدز مقَرِّ السلطان، فقاموا فيه بمذبحة بلا سببٍ ونهبوا القصرَ، ثم شكَّل المجلِسُ النيابيُّ مجلِسًا أطلقوا عليه اسمَ المجلس الملكي، فاجتمع مع مجلسِ الحركة وقَرَّروا خَلْعَ السلطان عبد الحميد باستصدار فتوى من شيخِ الإسلام، واستدعى المجلِسُ الصدر الأعظم توفيق باشا لتكليفِه بإبلاغ القرار إلى الخليفة فرفَضَ، فكلف المجلسُ وفدًا من الفريق البحري عارف حكمت، وآرام الأرمني، وعمانوئيل قره صو اليهودي، وأسعد طوبطاني، وذهب الوفد إلى الخليفة، وقرأ الفتوى، فتقَبَّل السلطان ذلك مع إنكارِه إحضارَهم عمانوئيل اليهودي معهم، خاصَّةً أن عمانوئيل هذا سبق أن زار السلطانَ مع هرتزل في وفدٍ يهوديٍّ يستأذنونه في الهجرةِ إلى فلسطين، فرفض طلبهم وإغراءَهم له، وأمر بطردِهم، فتوعَّد عمانوئيل السلطانَ بأنَّ هذا الرفض سيكَلِّفُه كثيرًا. نُقِلَ السلطانُ إلى سلانيك مع أسرته ومرافقيه، وبقي تحت حراسةِ الاتحاديين حتى حرب البلقان، ثم نُقِلَ إلى قصر بكلربكي في استانبول، وبقي فيه إلى أن توفي عام 1336هـ وكانت مُدَّةُ خلافته أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، وتسلَّم الحكمَ صوريًّا أخوه محمد رشاد.
بعد خَلعِ السلطانِ عبد الحميد الثاني أصبح كُلُّ شيء في الخلافةِ بيَدِ الاتحاديِّين، أمَّا الخليفةُ محمد رشاد فكان صورةً، غيرَ أن الأمر لم يطُلْ؛ إذ لم يتعاقَبْ على الخلافة سوى ثلاثة خلفاء، وكانت الدولةُ قد اشتركت في الحربِ العالمية الأولى بجانب ألمانيا، فهُزِمَت وتجزَّأت، وغادر البلادَ رِجالُ الاتحاد البارزين، أو الذين بيَدِهم الأمرُ والنهي، وجاء إلى الحُكمِ مصطفى كمال، وفي أيامِ الخليفة محمد رشاد الذي عُيِّنَ بدل عبد الحميد جرت الانتخاباتُ النيابية عام 1330هـ وفاز الاتحاديون وانتَشَرت الدعوة القوميَّة، وبدأت شعاراتُ الاتحاد والترقي في المساواة تذهَبُ هدرًا بعَدَمِ تَساوي الترك مع بقية العناصِرِ التي تؤلِّفُ الدولةَ العثمانية، وبدأت المهاتراتُ الصحفيةُ، وظهر الاختلافُ بين الدعوة المركزية واللامركزية، وتعني أن تأخُذَ الولايات غيرُ التركية استقلالًا ذاتيًّا، وتبقي خاضعة خارجيًّا لاستانبول، وتبنَّى الاتحاديون المركزيةَ، وبدأت التياراتُ الفكريةُ تتخَبَّطُ ويُشعِلُ نارَها اليهودُ والنصارى!
هو بطرس باشا نيروز غالي، ولِدَ في عام 1262هـ/ 1847م قبطيٌّ من نصارى مصر. كان والده نيروز غالي ناظرًا للدائرة السَّنِيَّة لشقيق الخديوي إسماعيل في الصعيد. تلقَّى تعليمه في كلية البابا كيرلس الرابع. نشأ محبًّا للإنجليز؛ مِمَّا مهَّد لعمله في وزارة مصطفى فهمي، ثمَّ تولى منصب رئيس وزراء مصر من 12 نوفمبر 1908 إلى 1910م. اتُّهِم بمحاباته للإنجليز على حساب مصلحة مصر؛ فقد لعِبَ بطرس غالي دورًا مشبوهًا في مشروع مدِّ امتياز قناة السويس لصالح الإنجليز، الذي كان يهدف لمدِّها أربعين عامًا أخرى، وفي جلسة مناقشة مَدِّ الامتياز حضر شخصٌ يدعى "إبراهيم ناصف الورداني" وكان من أعضاء الحزب الوطني، وتأثَّرَ بما دار من مناقشات في تلك الجلسة وخرج منها عازمًا على وضع حدٍّ ونهايةٍ لمشروع هذا القانون، يتلخَّصُ في اغتيال بطرس غالي. وقد قام إبراهيم الورداني باغتيال بطرس غالي أمام وزارة الحقَّانية في الساعة الواحدة ظهرًا يوم 11 من صفر؛ حيث أطلق عليه الورداني ستَّ رصاصات أصابت اثنتان منها رقبَتَه، واعترف بقيامه بقتل بطرس غالي؛ لأنَّه في نظره خائن، بسبب ما قام به في اتفاق الحُكم الثنائي، ومشروع قانون مدِّ امتياز قناة السويس، وقانون المطبوعات. ورئاسته لمحكمة دنشواي، وبطرس باشا غالي هو والد بطرس غالي الدبلوماسي المصري، والأمين العام السادس للأمم المتحدة.
هو محمد عبد الله حسن نور صومالي، قاد الجهاد ضِدَّ الاحتلال الإنجليزي والإيطالي والأثيوبي في مطلع القرنِ العشرينَ، وُلِدَ سنة 1856م، سماه الإنجليز «الملا المجنون» عندما واجه الاستعمارين البريطاني والإيطالي، واستطاع أن يقاوم المستعمرين لمدة عشرين عامًا، كبَّدهم أثناءها الخسائِرَ الفادحة، وانتزع حقَّ السيادة على مناطِقَ عديدة، خاض محمد بن عبد الله 270 موقعة في الجهاد ضدَّ البريطانيين انتصر في معظمها. في العام 1920م تعرض محمد بن عبد الله لقصف من الطيران البريطاني استهدف مواقِعَهم في مدينة جالكاسيو غرب الصومال، فاستطاع أن يصِلَ إلى أثيوبيا ثم توفِّيَ فيها.
تزعَّم المتوكِّلُ يحيى بن المنصور محمد بن حميد الدين اليمنيين؛ لمقارعة الأتراك، وتمكَّن من حصار صنعاء وأجبر الأتراك أخيرًا على الصلح المشهور بصلح دعان ضمن بنود كثيرة على الاعتراف به حاكمًا وحيدًا للطائفة الزيدية في اليمن مقابِلَ اعترافه بالسيادة العثمانية على اليمن، وهو ما جعل حربَه للأتراك تبدو وكأنها فقط لنيل الاعتراف بسلطته الدينية والسياسية على المناطق التي ينتشِرُ فيها المذهب الزيدي، وقد نفرت إثرَ ذلك قبائِلُ يمنية منه متهمةً إياه بأنَّه صار حليفًا للأتراك، واتجهت إلى منافِسِه محمد الإدريسي في صبيا بعسير، حيث كان محمد الإدريسي قد استثمر مكانة أسرته الدينية ليؤسِّسَ دولة الأدارسة في أعالي الشمال الغربي لليمن، وليبدأ بلعبِ دور في أحداث التاريخ اليمني الحديث.
قُبَيل انتهاء المؤتمر القبطي بمصر نشرت بعضُ الصحفِ أنباءً عن تكوينِ لجنةٍ بالإسكندرية تضُمُّ بعضَ الأعيان في الأقاليم، مكلَّفةً بعقد مؤتمر ديني يضمُّ مندوبين عن المسلمين واليهود المصريين والنصارى؛ للنظر في المسألة القبطية. وفي ذات الوقت دارت اجتماعاتٌ في القاهرة بين عددٍ كبيرٍ مِن المشتغلين بالمسائل العامة، ومنهم فريق من حزب الأمة؛ لمناقشة المسألة القبطية ونتائج انعقاد المؤتمر القبطي في أسيوط، ودعا هؤلاء لجنةَ الإسكندرية لمشاركتهم في عقد اجتماع عام. وفي 8 ربيع الأول تم عقدُ اجتماع ضم عددًا من الشخصيات العامة، وقرَّروا تأليف وفد من 12 شخصية للتوجُّه إلى منزل مصطفى فهمي باشا رئيس الوزراء المصري الأسبق؛ ليعرضوا عليه رئاسة المؤتمر، وقرَّر هؤلاء تسميةَ المؤتمر بالمؤتمر المصري. وقد أرادت الشخصياتُ التي دعت إلى المؤتمر أن يدورَ في إطار الوحدة الوطنية، وأن يبحثَ المؤتمر الشؤون المصريةَ جميعًا بما فيها مطالب القبط. وعقدت اللجنةُ التحضيريةُ للمؤتمر أولى جلساتها بمنزل "علي شعراوي"، وقرَّرت حصرَ مقاصد المؤتمر في النظر في الشؤون العامة والاقتصادية والاجتماعية والأدبية، ومناقشة مطالب القبط وتمحيصها، وقرَّرت أنه لا يجوز للمؤتمر الاشتغالُ بالمسائل السياسية. وعُقِدَ المؤتمر المصري يوم السبت 30 ربيع الآخر -أي: بعد انعقاد المؤتمر القبطي بـ52 يومًا- في القاهرة بضاحية مصر الجديدة. وتم عقدُ جَلستين تحضيريتين في منزل "علي شعراوي" اتفق فيهما على الأُطُر الأساسية التي سيناقشها المؤتمر، واتفقوا أنَّ هناك رابطًا يجمع المسلمين والأقباط هو رابِطُ المصرية، وأن هذا الرابط هو المعيار الأصيل في المحاسبة!!! وأنَّ هذا الرابط يفرِضُ على الجميع البحثَ عن السبل التي تقود إلى الوفاق الوطني بين عنصرَيِ الأمة المصرية. وأشيرَ في تقريرٍ أعدَّته اللجنةُ التحضيرية لهذا المؤتمر، إلى أنَّ الحضور في مؤتمر أسيوط القبطي يستصغرون ما في أيديهم من السلطةِ ويستكثرون ما في أيدي المسلمين، وأن هؤلاء عوَّلوا وحدهم على أن يكونوا أمةً مستقلَّةً من دون المصريين، وتذرَّعوا بتلك المطالب حتى يَصِلوا بمعونة بريطانيا وفرنسا إلى أن تكون لهم السيادةُ على الأكثرية المسلِمة. وقد كان انعقادُ المؤتمر بتشجيع من المعتمد البريطاني في القاهرة "إلدن جورست"، وكان هدفُ الإنجليز منه هو إشعالَ الفتنة بين المسلمين والأقباط في الوقت الذي يكسبُ فيه الإنجليز الطرفين معًا؛ ولذا أصدر "جورست" تعليماتِه بعقد المؤتمر المصري. واستفاد الاحتلالُ مِن عقد المؤتمرين القبطي والمصري كمؤتمرين انقساميَّين، إلا أنَّ استفادته من المؤتمر المصري كانت أكبر؛ لأنَّ تجميع كل هذه الأحزاب والقوى المصرية دون أن يكونَ لها موقِفٌ من الاحتلال أو حتى معارضة له هو انتصارٌ لسياسة الاحتلال التي حرصت على ألَّا يأخذ المؤتمر أيَّ طابع سياسي، وأنَّ الوقيعة بين المسلمين والأقباط ما هي إلا زيادةٌ في قبضة الاستعمار على الجميع، ولجوء الجماهير إلى الهدوء والاستكانة حتى لا تُتَّهمَ بالتعصُّبِ والإرهاب!
هو الزعيم المصري أحمد عرابي بن محمد عرابي بن محمد وافي بن محمد غنيم من قبيلة المحامدة، انتقل جَدُّهم من بطائح العراق إلى مصر في أواسط القرن السابع للهجرة. ولِدَ في قرية (هرية رزنة) من قرى الزقازيق بمصر، وجاور في الأزهر سنتين، ثم انتظم جنديًّا في الجيش سنة 1271هـ وبلغ رتبة (أميرالاي) في أيام الخديوي توفيق. وهو قائد الثورة العرابية ومفجِّرُها ضِدَّ الخديوي توفيق. وقد فشلت هذه الثورة؛ وذلك نتيجة لخيانة بعض عناصر الثورة له، وتدخُّل القوات البريطانية لحماية الخديوي. ثم نفوا عرابي باشا إلى جزيرة سيلان 1300ه/1882م حيث مكث 19 عامًا. وأُطلِقَ في أيام الخديوي عباس سنة 1319 فعاد إلى مصر وتوفي بالقاهرة. له تقرير عن ثورته، ومذكرات سماها كشف الستار عن سر الأسرار.
أبلغت إيطاليا الحكومةَ العثمانية عن نيَّتِها باحتلال ليبيا، وطلبت منها تسهيلَ الاحتلال بحجَّة حماية رعاياها من الاضطهاد العثماني، والمحافظة على المصالح الاقتصادية للإيطاليين. وكان الموقِفُ العثماني في ظل عهد جماعة الاتحاد والترقي ضعيفًا جدًّا أمام التهديد الإيطالي، فاكتفت بدعوة إيطاليا للجلوس إلى طاولة المفاوضات تجنبًا لاستخدام القوة. ولكن الحكومة الإيطالية رفضت ذلك؛ لعدة أسباب، من أهمها: أ- ضعف الموقف الحربي العثماني في ليبيا. ب- الموقف الإيطالي المدعوم من قِبَل الدول الأوروبية باستثناء ألمانيا والنمسا. جـ- ما كانت تتمتع به إيطاليا من قوة بحرية وبرية. د- ضعف الموقف الداخلي في ليبيا؛ إذ إنَّ المقاومة العسكرية في ليبيا كانت محدودةَ الطاقات والإمكانات بالنسبة للهجوم الإيطالي المركَّز.
كانت إيطاليا تطمَحُ بالسيطرة على طرابلس، وخاصةً بعد أن احتلَّت فرنسا تونس عام 1299هـ وبدأت إيطاليا تعقِدُ الاتفاقات السياسية مع الدول الأوربية الأخرى، مثل إسبانيا وفرنسا وإنجلترا والنمسا، ثم انصرفت إلى تهيئة الوضعِ داخِلَ ليبيا، فعَمِلَت على شراء الأراضي وإنشاء المشروعات الزراعية، وإرسال البعثات النصرانية الكاثوليكية، وفتح المدارس الإيطالية، وتأسيس شركات النقل بين البلدين، ومسْح السواحل بحجَّة البحث عن الإسفنج البحري، وفي عام 1238هـ قدمت إيطاليا إنذارًا للدولة العثمانية اتهمتها بعرقلة المساعي لتحضير الشعب الليبي، ولا تريد إضاعة الوقت بالمفاوضات،وإنما قررت احتلالَ ذلك الجزء من شمالي إفريقيا، واحتَجَّ الباب العالي لدى الدول الأوربية التي كانت على علمٍ مُسبق ومدبَّر بالموضوع، وأعلنت الدولةُ العثمانية رفضَ الإنذار غيرَ أن إيطاليا حاصرت سواحل طرابلس وبرقة؛ كي لا يصِلَ إليها أي مساعدة من تركيا، وكذا حاصرت إنجلترا الحدود البرية من جهة مصر رغم تظاهرها بالحياد، وبدأ الأسطول الإيطالي في السابع من شوال 1329هـ / 30 أيلول 1911م بقصف مدينة درنة، وفي اليوم التالي قُصِفَت طرابلس وتمَّ إنزال القوات التي احتلت طرابلس وبنغازي والخمس، ولم ينقَضِ الشهر حتى احتل الطليان طرابلس وبنغازي ودرنة، وعرفت البلاد باسم ليبيا، وأعلنت روما ضمَّ هذا الجزء من شمالي إفريقيا إليها، وبدأت المقاومة تشتد حتى ألجأت المستعمرين إلى الساحلِ، وتقدَّم العثمانيون بقيادة عزيز المصري، والمتطوِّعون بقيادة أنور باشا وأخيه نوري وعمه خليل، والسكان ومنهم السنوسيون، ووصلوا إلى طرابلس وانتصروا على الطليان في بنغازي، وهدَّدت إيطاليا باحتلال استانبول، فأرسلت بارجتين حربيتين إليها، واحتَلَّت بعض الجزر وضربت ميناءَ بيروت واضطرت الدولة إلى عقدِ معاهدة مع إيطاليا وانسحبت من ليبيا وتركت المجاهدين وحدَهم بالميدان، وحدثت معاهدةُ السلم عام 1329هـ ولم تعترف الدولة العثمانية بالاحتلال الإيطالي، وإنما تعهدت بسحب موظفيها وجنودها، وصدر قرار سلطاني بإعطاء ليبيا الاستقلال الذاتي، وتعهدت إيطاليا بإعطاء الحرية الدينية والعفو العام وقَبول ممثل عثماني، ولم تنفذ إيطاليا أيَّ بند من بنود الاتفاقية!!
عندما اجتاحت القوات الإيطالية طرابلس قبضت على ألوف من أهلها في بيوتهم ونفتهم بدون أدنى مسوِّغ إلى جزر إيطاليا؛ حيث مات أكثرهم من سوء المعاملة. وأباد الإيطاليون في غير ميدان الحرب كل ليبي يزيد عمره على (14) سنة، وأحرقوا يوم 26 تشرين الأول أكتوبر أحياءً خلف بنك روما، وبعد أن ذبحوا كثيرًا من السكان بينهم النساء والشيوخ والأطفال، في اليوم التالي وصف أحد المراسلين ما وقع عليه بصرُه بقوله: (صادفت 50 جنديًّا يقودون ستة من الليبيين إلى خرابة يستعملها الجنود لقضاء الحاجة، ولما أدخلوهم إليها اشترك الضباط والجنود في قتلهم بالمسدسات والبنادق، وما كدت أفِرُّ من هذا المشهد حتى رأيت ما هو أشد هولًا، وهو طائفة من الجنود يسوقون (50) ليبيًّا بين رجال وأطفال، وأدخلوهم إلى مكان قد تهدم، وبدأ الضباط يقتنصون هذا الصيد الكريه بمسدساتهم وبنادق جنودهم مدة عشرين دقيقة. وكلما سَمِعوا أنينًا من جثة أعادوا عليها النار حتى انقطع الأنين!). واستمر الجيش الإيطالي ثلاثة أيام يطلق الرصاص على كل من يلقاه من الليبيين. فهلك عددٌ من النساء والأطفال، وبلغ مجموع القتل خلال ثلاثة أيام أربعةَ آلاف ليبي. ولما كانت (واحة جغبوب) هي مركز السادة السنوسية، فقد حرص الإيطاليون على إبادةِ رجال الدين فيها، ومحو معالم الإسلام. وأصدرت الحكومةُ الإيطالية أمرًا بإقفال جميع الكتاتيب التي تعَلِّم الأطفالَ أمور دينهم، وتحفِّظُهم القرآن الكريم.
رفضت البوسنة والهرسك دعوةَ مندوبيها لحضور المجلس النيابي في استانبول عام 1327هـ مع أنها لا تزال تتبع الدولة العثمانية اسمًا، واتجهت نحو الصرب، وهذا ما أثار النمسا التي اتفقت مع روسيا سرًّا على أن تضم البوسنة والهرسك إليها مقابِلَ إبقاء مضائق البوسفور والدردنيل مفتوحةً دائمًا لروسيا، وبالفعل قامت النمسا باحتلالهما، وزاد العداء بين النمسا والصرب، وأما إيطاليا فكان لها مطامِعُ فيهما، فعقدت أيضًا اتفاقًا سريًّا مع روسيا للوقوف بوجه النمسا إذا استمرَّت بتعديها على البلقان، وأعلن الجبل الأسود الحربَ على الدولة العثمانية هذا العام، ووقف بجانبه أعضاء التحالف البلقاني، وهم صربيا وبلغاريا واليونان، وتمكنوا من إحراز النصر على العثمانيين، واستعملوا الطائراتِ لأول مرة وقصفوا مدينة أدرنة، وفقدت الدولة العثمانية معظمَ أراضيها في أوربا، ثم بعد وقف القتال جرى الاتفاقُ على استقلال ألبانيا، وقُسِّمَت الأراضي الباقية التي كانت للعثمانيين بين أعضاء التحالف البلقاني، وعُرِفَت هذه الحرب باسم حربِ البلقان الأولى.
دعا جلالةُ ملك أفغانستان حبيب الله خان جميعَ وجوه مملكته ورجال حكومته وأعيانها وتجارها، دعاهم لاجتماع عظيم، وعَرَض عليهم القضيةَ الطرابلسية وما يعانيه المسلمون في طرابلس الغرب من الظلم والعدوان، ودعاهم إلى الإنفاق وجمْع الأموال وفتْح كتاب أسماه كتاب (إغاثة يتامى وشهداء ومجروحي مجاهدي طرابلس الغرب) وقال لهم: افتحوا كيس همَّتكم وبلُّوا قلوبكم بماء الشفقة الأخوية، أعينوا يتامى وأيامى أولئك المجاهدين الذين جادوا بأرواحهم لأجل حفظ وطنهم وشَرَفِ مِلَّتِهم، أعينوهم على الأقل بلفائف يشدُّون بها جروحَهم، لا تنظروا إلى قلة ما تعطونه من المال وكثرته، أعطوا ما تتمكنون من إعطائه وأثبتوا أسماءكم في هذا الكتاب، إن الله لا يُضيعُ أجر من أحسن عملًا. وقد تبرع هو بمبلغ عشرين ألف روبية، وكان يقول وكله حماس: ألا ليتني قريب منهم أمدهم بالفعل لا بالقول، ألا ليتني طائرٌ أطير لمساعدة إخواني المسلمين.
أبلى الشعب الليبي بلاءً حسنًا في جهاده ضد المحتل الإيطالي الصليبي، فلما طارت أخبارُ معارك بنغازي وطرابلس ودرنة إلى العالم أجمع، ورأت حكومة الأتراك أنَّ الشعب الليبي جديرٌ بالمساعدة وجادٌّ في جهاده وكفاحه ضِدَّ العدو، أرسلوا الإمدادات، فقام أنور باشا وزير الحربية التركية باختيار مجموعاتٍ من الشباب الليبي، واستقبلهم في استانبول لتعليمهم النظم السياسية والعسكرية الجديدة؛ ليُشرِفوا على قيادة الجيش الوطني، وتدافع المجاهدون المسلمون من كل مكان إلى ميدان القتال عن طِيبِ خاطر، وجاد المسلمون الخيِّرون بأموالهم وأعزِّ ما ملكت أيديهم، وفاضت قرائِحُ الشعراء وأقلام الكتَّاب بما أوحته ضمائرهم، وقامت الصحفُ، وفي طليعتها المؤيد الغراء المصرية بدورها، وكانت هذه الصحف حلقةَ الاتصال بين جهاد الليبيين والعالم الإسلامي، وكانت المساعدات تأتي إلى مصر ثم تُرسَل إلى المجاهدين، وكان الأميرُ عمر طوسون في مصر، ووالدة الخديوي (أم المحسنين) وخَلْفَهم مسلمو مصر قد وقفوا بما يملكون لدعم الشعب الليبي ماديًّا ومعنويًّا، فكانت أم المحسنين تنفق الأموال والمُؤَن، والملابس والأدوية، والقوافل المحمَّلة للمجاهدين، وعندما قابلت الوفد الذي تسلَّم هذه المواد والمؤن قالت: (إنني لم أفعل شيئًا يُذكَر في جانب ما يقوم به أولئك المجاهِدون في سبيل الله، وإنني قلقة لأنني لم أسمع منذ أيام خبرًا عن ميدان القتال) وكان الليبيون الذين هاجروا إلى مصر من عشرات السنين قد وقفوا وقفةَ رجل واحد بالمال والرجال، وكان أحمد الباسل من وجهاء مصر سندًا قويًّا لحركة الجهاد في ليبيا، وبدأت وفود المتطوِّعين من مصر والعالم الإسلامي تترى لمساعدة إخوانهم المسلمين في ليبيا، ووصلت البعثاتُ الطبية من تركيا ومصر، فقامت بدورها خيرَ قيام، كما وصل عددٌ من مراسِلي صحف إسلامية، ووصل الأمير شكيب أرسلان على رأس بعثة طبية كان عدد جمالها التي تحمل الأثقال من المؤن والأدوية 650 جملًا يصحبُه خمسة أشخص من أخصِّ رجاله، قد تطوعوا للجهاد ببرقة، ومن بين المتبرعين مسلمو أندونيسيا، ومسلمو الهند، وحاكم قطر الشيخ قاسم محمد؛ فقد تبرع للمجاهدين بعشرين ألف روبية، وملك أفغانستان حبيب الله خان وشعبه، وأهل البحرين، وجاء إلى ميدان القتال كلٌّ من محمد حلمي، وعبد المعطي صالح ضابط مصري، وعارف بك والي البصرة سابقًا، ونشأت بك أحد كبار رجالات تركيا المشهورين، ومحمد طاهر أفندي مصري، وغيرهم كثير!!
عندما ساعد الملِكُ عبد الرحمن بن هشام العلوي الأميرَ عبد القادر الجزائريَّ في مقاومته الاحتلالَ الفرنسي للجزائر، احتجَّت فرنسا على هذه المساعدة، واحتَلَّت مدينة وجدة مقابل ذلك، ثم احتلَّ الإسبان مدينة تطوان لكنَّهم خرجوا منها بعد دفع أموال باهظة لهم، وفي أيام الحسن الأول عُقِدَت معاهدةُ مدريد عام 1298هـ وأصبح لمدينة طنجة مجلس صحي يتناوب رئاستَه قنصلا فرنسا وإسبانيا وأعلنت فرنسا عام 1300هـ الحمايةَ على المغرب، وكانت المعاهدة التي وقَّعها عبد العزيز الملك المخلوع مع الفرنسيين عام 1330هـ الذين أعادوه لمكانه، ولما تولى عبد العزيز بن الحسن الأول أخذ في تبذير الأموال ممَّا ألزمه الاقتراضَ من البنوك الأوربية وخاصة بنك فرنسا فأخذت فرنسا تتحيَّن الفرصة ومقابلها إسبانيا التي تملك أجزاءً ومدنًا على السواحل المغربية، مثل سبتة ومليلة، وهي لا تزال تحت الحكم الإسباني، واتفقت فرنسا وإسبانيا على اقتسام الصحراء المغربية، وتفاهمت فرنسا مع إيطاليا عام 1339هـ على أن تترك لفرنسا حرية العمل بالمغرب مقابل ترك الحرية لإيطاليا حرية العمل بطرابلس، وهكذا مع إنجلترا في مصر، ودخلت القوات الفرنسية لنجدة السلطان عبد الحفيظ، فاحتلت فاس في 1339هـ ثم احتلت مكناس والرباط ومراكش، وبعدها أعلنت الحماية على المغرب!
اعترفت النمسا بالإسلامِ كدين رسمي في البلاد في عهد القيصر فرانس جوزيف، وهو ما منحهم ميزاتٍ كبيرة استنادًا إلى نصوص الدستور الذي يساوي بين الجالية المسلِمة وغيرها من معتنقي الديانات الأخرى. وضَمِنَ الاعتراف الرسمي بالدين الإسلامي حقوقَ الجالية المسلمة في مواضِعَ مختلفة، مثل حرية ممارسة الشعائر الدينية، وحرية المسلمين في تنظيم الرعاية الدينية الخاصة بهم، وحصول مؤسَّساتهم على حق حماية جميع أنشطتها الاجتماعية والثقافية والمالية. واستنادًا إلى هذه الحقوق تمكَّنت الأقلية المسلمة من رعاية أبنائها بالمدارس؛ ليصل عدد المستفيدين من دعم الدولة لدروس الدين الإسلامي حوالي 40 ألف تلميذٍ في مراحل التعليم المختلفة.