عقدت الدولةُ العثمانية معاهدةَ إستانبول مع البندقية, فالدولة العثمانية لم يُقعِدْها هزيمة معركة ليبانتو القاسية سنة 979هـ ولم تضعُفْ هِمَّةُ الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، فانتهز فرصة الشتاء وعدم إمكانية استمرار الحرب لتجهيز أسطول جديد، وبذَلَ النَّفس والنفيس في تجهيزِه وتسليحه، حتى إذا أقبل صيف سنة 1572م كان قد تمَّ بناء 250 سفينة، وأعلم الصدرُ الأعظم البنادقةَ باستعداده للجولة الثانية، ففضَّلت البندقية أن تجنحَ للسلام، ووقَّعت مع الدولة العثمانية معاهدةَ إستانبول هذه السنة, والتي تتكوَّن من سبعة بنود، منها: أن تسدِّد البندقية غرامات مالية لتركيا، وأن تبقى جزيرةُ قبرص في حوزة الدولة العثمانية, فتفرَّغَ على إثرها العثمانيون لمحاربة إسبانيا التي عادت لاحتلال تونس، وكذلك هزموا أمير البغدان الذي تمرَّد على الدولة طلبًا للاستقلال.
كان الفقيهُ أبو عبد الله محمد الأندلسي نزيلُ مراكش قد استهوى بما يظهر عليه من زهدٍ وصلاحٍ كثيرًا من العامة، فتبعوه، وكانت تصدرُ عنه مقالات قبيحةٌ من الطعن على أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، ويتفوه بمقالات شنيعة في الدين، فأمر السلطانُ الغالب بالله بقتلِه، فاستغاث بالعامَّةِ مِن أتباعه، واعصوصبوا عليه ووقعت فتنةٌ عظيمة بمراكش بسَبَبِه إلى أن قُتِلَ وصُلِب على باب داره برياض الزيتون بمراكش، وكان ذلك أواسِطَ ذي الحجة من هذه السنة.
كان بقصبة مراكش جماعةٌ من أسارى النصارى من لدُن أيامِ أبي العباس الأعرج وأخيه أبي عبد الله الشيخ، فرأوا الجمعَ الغفير من أعيان المسلمين وأهلِ الدولة يحضرون كلَّ جمعة للصلاة مع السلطان بجامعِ المنصور من القصبة، فحدَّثَتهم أنفسُهم الشيطانية بأن يصنعوا مكيدةً يُهلكون بها السلطانَ ومن معه، فحفروا في خُفيةٍ تحت الجامع حفرةً مَلؤُوها من البارود ووضعوا فيها فتيلًا تسري فيه النارُ على مهلٍ كي ينقلبَ الجامِعُ بأهله وقتَ الصلاة فتسبب ذلك في سقوط القبَّة الواسعة من الجامع، وانشقَّ مناره شقًّا كبيرًا، وكان ذلك مبلغَ ضررِهم، وكفى الله المسلمين شَرَّ تلك المكيدة، ولم يتمكن لهم الحالُ على وَفقِ ما أرادوا.
كان فيليب الثاني قد تشجَّع لاحتلال تونس؛ بسبب لجوء السلطان الحفصي أبي العباس الثاني- الذي حكم تونس سنة 942- إليه، وطلب منه المساعدة في إخماد الثوراتِ فاشترط فيليب إعطاءَهم امتيازاتٍ كبيرة تتيح لهم سكنَ جميع أنحاء تونس، ويتنازلُ لهم عن عناية وبنزرت وحلق الواد, فرفض أبو العباس الشروطَ، ولكنَّ أخاه محمد بن الحسين قَبِلَها بعد ذلك, فخرج (دون خوان) أخو الملك من جزيرة صقلية في رجب 981, على رأس أسطول مكون من 138 سفينة تحمِلُ خمسة وعشرين ألف مقاتل، ونزل بقلعة حلق الواد التي كانت تحتلُّها إسبانيا، ثم باغَتَ دون خوان تونسَ واحتلَّها وخرج أهلُها إلى وادي تونس فارين بدينِهم من شرِّ الإسبان، كما انسحب الحاكِمُ العثماني إلى القيروان، فلما دخل الإسبان تونس نهبوها وأخربوا جامع الزيتونة فيها، ونهَبوا الكتُبَ النادرة فيها وطرحوا أكثَرَها في الشوارع لتُداس تحت أقدام الجنود!
هو السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله، ابن السلطان محمد الشيخ السعدي أمير السعديين في المغرب، ولِدَ بتارودانت سنة 933، وانتقل إلى فاس، فبويع له فيها يومَ ورد النبأ من تارودانت بأنَّ الترك اغتالوا أباه آخر سنة 964, وأتته بيعةُ مراكش في أول سنة 965 واستوثق له الأمر, وبعد أربعة أشهر من ولايته أقبل من تلمسان جيشٌ من الترك بقيادة حسن بن خير الدين بربروسا، فقاتله الغالب باللَّه بالقربِ من فاس وهزمه, وأرسل جيشًا سنة 969 لانتزاع البريجة من أيدي البرتغاليين، لكنه لم يتمكَّن من فتحها, وبنى مارستانًا بمراكش وجامعًا, وعُنِي بترقية الزراعة والصناعة, وكان الغالب بالله قد بذل وعودًا لدعم الثوَّار البورشارات من مسلمي الأندلس، لكنَّه خذلهم. بعد وفاة الغالب بالله قام بعده ابنه أبو عبد الله محمد الثاني المتوكل على الله خلفًا لأبيه، الذي كان يضمِرُ الشر لعميه عبد الملك أبي مروان وأحمد المنصور، فخرجا من المغرب واتَّجها إلى السلطان العثماني يستنجدان به، تابع المتوكِّلُ خطة والده في التقرب من الدول الأوروبية ومسالمتها ضِدَّ العثمانيين؛ حيث لم يعُدْ لديه شكٌّ في أنهم سينجدون عمَّيه بقوات عسكرية، فعقد اتفاقًا مع إنجلترا، التي كانت ترغب في تجارتها مع المغرب للفوائد التي تعود على التجَّار الإنجليز من وراء ذلك، زيادة على أنها تدرِكُ الأهمية العظمى التي للمغرب، خصوصًا وقد كانت إنجلترا في حالة حربٍ ضد إسبانيا, وكان توقيع المتوكِّل للاتفاقية التجارية مع الإنجليز يعدُّ العملَ الوحيد الذي قام به خلال حكمه القصير.
لَمَّا هرب عبد الملك بن محمد المهدي أبو مروان وأحمد المنصور عمَّا المتوكل على الله محمد الثاني زعيم السعديين، بعد توليه الحكم في المغرب بسبب عدائه لهما- استنجدا بالدولة العثمانية في الجزائر، فوجدت الدولةُ العثمانية في انشغال مَلِك إسبانيا فيليب الثاني بأحداث أوروبا الغربية- حيث ثورة الأراضي المنخفضة- فرصةً مناسِبةً للتدخل في المغرب، فأمدُّوا عبد الملك بجيشٍ قوامه خمسة آلاف مقاتل مسلَّحين بأحسن الأسلحة، ودخل عبدالملك فاس بعد أن أحرز انتصارًا كبيرًا على ابن أخيه المتوكِّل على الله، وعاد الجيش أدراجه إلى الجزائر، وقام عبد الملك بإصلاحات في دولته، من أهمِّها أمَرَ بتجديد السفن، وبصُنع المراكب الجديدة، فانتعشت بذلك الصناعة، كما اهتمَّ بالتجارة البحرية، وكانت الأموال التي غَنِمَها من حروبه على سواحل المغرب سببًا في انتعاش ونمو الميزان الاقتصادي للدولة، أسَّس جيشًا نظاميًّا متطورًا واستفاد من خبرة الجندية العثمانية وتشبه بهم في التسليح والرُّتَب، كما استطاع أن يبنيَ علاقات متينة مع العثمانيين، وجعل منهم حُلَفاء وأصدقاء وإخوة مخلصين للمسلمين في المغرب، وفرض احترامَه على أهل عصره، حتى الأوروبيين، احترموه وأجلَّوه. اهتمَّ عبد الملك بتقوية مؤسسات الدولة ودواوينها وأجهزتها، واستطاع أن يشكِّلَ جهازًا شوريًّا للدولة أصبح على معرفة بأمور الدولة الداخلية، وأحوال السكان عامة، وعلى دراية بالسياسة الدولية وخاصةً الدول التي لها علاقةٌ بالسياسة المغربية، وكان أخوه أبو العباس أحمد المنصور بالله- الملقب في كتب التاريخ بالذهبي- ساعِدَه الأيمن في كل شؤون الدولة.
لما دخل الإسبان إلى تونس قاموا بإرجاع أحمد الحفصي، لكنهم اشترطوا عليه مقابِلَ ذلك أن يمنحَهم أراضيَ من تونس، فرفض ذلك فخلعوه وولَّوا أخاه محمدًا مكانه، وكان قد وافق على طلب الإسبان، فلجأ أحمد إلى صقلية ومات في باليرمو، أمَّا أخوه محمد فأدخل الإسبان إلى البلاد فشاركوه السلطةَ وكثُرَ الفساد وهرب أكثرُ الناس إلى الجبال، ولكنْ لم يلبث الأمرُ فيها أكثر من ثمانية أشهر، حتى أبحر الأسطولُ العثماني بقيادة سنان باشا وقلج علي في 23 محرم من هذه السنة, فخرج من المضائقِ ونشر أشرعتهَ في البحر الأبيض، فقاموا بضرب ساحلِ كالابريا، مسينا، واستطاع العثمانيون أن يستولوا على سفينة أوروبية، ومن هناك قطعوا عرض البحر في خمسةِ أيام، في هذا الوقت وصل الحاكمُ العثماني في تونس حيدر باشا، كما وصلت قوةٌ من الجزائريين بقيادة رمضان باشا، وقوةُ طرابلس بقيادة مصطفى باشا، كما وصل ثمةَ متطوعين من مصر، بدأ القتال في ربيع أول من هذه السنة, ونجح العثمانيون في الاستيلاء على حلق الواد، بعد أن حوصِرَ الإسبان حصارًا محكمًا، وقامت قوات أخرى بمحاصرة مدينة تونس، ففَرَّ الإسبان الموجودون فيها ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسن إلى البستيون التي بالغ الإسبان في تحصينها وجعلوه من أمنع الحصون في الشمال الإفريقي، توجه العثمانيون بعد تجمُّع قواتهم إلى حصار البستيون، وضيَّق العثمانيون الخناقَ على أهلها من كل ناحية, فلجأ الحفصيون إلى صقليةَ حيث ظلوا يوالون الدسائسَ والمؤامرات والتضرعات لملوك إسبانيا سعيًا لاسترداد مُلكهم، واتخذهم الإسبان آلاتٍ طيِّعةً تخدمُ بها مآربَهم السياسية حسَبَما تمليه الظروفُ عليهم، وقضى سقوط تونس بيد العثمانيين على الآمال الإسبانية في إفريقيا، وضَعُفت سيطرتها تدريجيًّا حتى اقتصرت على بعض الموانئ، مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير، وتبدد حلمُ الإسبان نحو إقامة دولة إسبانية في شمال إفريقيا وضاع بين الرمال.
هو السلطان سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح. ولِدَ سليم الثاني في 6 رجب سنة 930 وهو ابن روكسلان الروسية. تولَّى المُلك بعد موت أبيه سليمان القانوني, ولم يكن السلطان سليم متصفًا بما يؤهِّله للقيام بحفظ فتوحات أبيه، فضلًا عن إضافة شيء إليها! وكان لوجود الوزير الطويل محمد باشا صقللي المدرَّب على الأعمال الحربية والسياسية دور كبير في حفظ الدولة، فحُسنُ سياسته وعِظَم اسم الدولة ومهابتها في قلوب أعدائها حَفِظَتْها -بعد فضل الله- من السقوط مرةً واحدة. وفي عهد سليم تكبَّدت الدولة هزيمةً ساحقة أمام التحالف الأوربي الصليبي في معركة ليبانتو سنة 979 فقدت بعدها الدولةُ هيبتها العسكرية في البحر المتوسط. توفِّيَ في السابع والعشرين من شهر شعبان، بعد أن دام في الحكم ثمانية أعوام، ثمَّ تولى ابنه مراد الثالث الخلافة، ثم أمر بقتل إخوته الخمسةِ؛ خوفًا من نزاعِه على الملك.
ترك هنري ملك بولونيا منصِبَه وعاد إلى فرنسا، فأوصى الخليفةُ مراد الثالث أعيانَ بولونيا بانتخاب أمير ترانسلفانيا ملكًا عليهم، ففعلوا ذلك وأصبحت بولونيا بذلك تحت حماية العثمانيين، واعترفت النمسا بذلك في معاهدة الصلحِ التي أبرمتها مع الدولة العثمانية في العام التالي، وذلك حين هجم التتارُ على الحدود البولونية، فاستنجدت بالدولة العثمانية فأعلن حمايتَها بموجبِ معاهدةٍ رسميةٍ.
جدَّد الخليفةُ مراد الثالث للدُّول الأوربية امتيازاتِها، وهي فرنسا والبندقية، وزاد عليها أن أصبح السفيرُ الفرنسي يأتي في مقدِّمة سفراء الدول الأجنبية الذين كثُروا في إستانبول، وكانت سفُنُ الدول الأوربية تدخل الموانئ العثمانية تحت ظِلِّ العلم الفرنسي باستثناء البندقية، ثم جاءت بعدئذ إنكلترا التي حصلت على امتيازات لتجَّارها أيضًا، وطِبقًا للمعاهدات السابقة فقد قامت فرنسا بإرسال البَعثات الدينية النصرانية إلى كافة أرجاء البلاد العثمانية التي يسكُنُها نصارى، وخاصةً بلاد الشام، وقامت بزرع محبَّة فرنسا في نفوس نصارى الشام؛ ممَّا كان له أثر يُذكَرُ في ضعف الدولة العثمانية؛ إذ امتدَّ النفوذ الفرنسي بين النصارى، وبالتالي ازداد العصيان وتشجَّعوا على الثورات، فكان من أهم نتائج ذلك التدخُّلِ الاحتفاظُ بجنسية ولغة الأقليات النصرانية، حتى إذا ضَعُفت الدولة العثمانية ثارت تلك الشعوب مطالِبةً بالاستقلالِ بدعم وتأييد من دول أوروبا النصرانية!
هو الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي. تولَّى السلطة على الصفويين بعد أبيه، وهو الابن الأكبر لإسماعيل شاه، ثم ثار عليه أخوه إخلاص ميرزا مدَّعيًا حقه في العرش، فتمكن من أسْرِه وقتْلِه، ثم توفِّيَ طهماسب في هذه السنة مسمومًا بعد أن دام في الملك أربعة وخمسين عامًا، فخلفه ابنُه إسماعيل الثاني الذي كان محبوسًا منذ عام 965 بسبب استقلاله العسكري؛ مما أثار شكوك أبيه وخوفه من الثوران عليه وإطاحته من المُلك، فلما مات أبوه أُخرِجَ من السجن واعتلى عرشَ إيران.
بعد انتهاءِ أبي مروان عبد الملك ابن الشيخ السعدي من ضَمِّ فاس, تقدَّم إلى البلاد المراكشية قاصدًا حرب ابن أخيه محمد المتوكل على الله وتشريده عنها، ولما سَمعَ ابنُ أخيه بخروجه إليه وقصْده إياه، تهيأ لملاقاته وسار إلى منازلته، فالتقى الجمعان بموضعٍ يسمى خندق الريحان، على مقربة من وادي شراط من أحواز سلا، فكانت الهزيمة أيضًا على المتوكل على الله، وتبعه عمُّه أبو العباس أحمد المنصور خليفةُ أخيه أبي مروان يومئذ، فلما سمع المتوكل باتباعِه بعد بلوغِه إلى مراكش فرَّ عنها إلى جبل درن، وأسلم له مراكش، فدخلها أحمد نائبًا عن أخيه وأخذ له البيعةَ على أهلها، ثم لحق به السلطانُ أبو مروان فدخلها يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الثاني من هذه السنة، وأقام بها أيامًا ثم خرج في طلب ابن أخيه، فعَمِيَت عليه أنباؤه! فعاد أبو مروان إلى مراكش وأقام بها.
هو الشاه إسماعيل الثاني بن طهماسب بن إسماعيل بن حيدر الصفوي، ثالث حكام الدولة الصفوية، ملك بعد أبيه سنة 984 وكان محبوسًا بقلعة ألموت منذ عشرين سنة؛ بسب استقلاله العسكري، فلما بويع بالحُكمِ قام بقتلِ جميع أخوته ما عدا محمد خدابنده، كما قتل جميع أولاده ما عدا الأكبر حسينًا، وأخاه عباسًا الذي نجا بأعجوبة, وكان إسماعيل الثاني شيعيًّا ثم صار سنيًّا، وقتل غالبَ الروافض وكان متجبرًا متعظِّمًا، فاحتجب عن الخلق وفوَّض الأمر إلى وكيله, وكان يخافُه أهل بلاده لشهامته وشجاعته، فلما ملك صار أجبَنَ الخلق وعجَزَ عن ضبط المملكة, وكان أخوه محمد خدابنده بخراسان لم يسلِّم لأخيه إسماعيل بالطاعة، وكذلك أكثر القبائل, أثار الشاه إسماعيل الثاني غضَبَ الشيعة الرافضة بما أصدره من قوانين تمنعُ سب الخلفاء الراشدين الثلاثة على المنابر، وربَّما كان تصرفه هذا هو انتقامًا من سجنه كل هذه السنين، ولكِنَّ أيامه لم تطُلْ أكثر من سنة؛ حيث توفي مسمومًا بقزوين في رمضان- على ما قيل- في منزل غلام كان يتعشَّقُه، وقيل: هجم عليه خواصُّ مُلكه فقتلوه؛ لأنه كان قد قتل منهم إلى ثلاثين ألفًا؛ لكونهم سببًا في حبسه فأبغضوه, وقد جاوز الخمسين.. فخَلَفه أخوه محمد خدابنده.
كان محمد المتوكل على الله بعد هزيمته من عمِّه عبد الملك قد اتصل بمَلِك البرتغال سبستيان، واتَّفق معه على أن يُعينَه على طرد عمِّه من حكم المغرب، وأن يتنازلَ له مقابل ذلك عن جميع شواطئ المغرب، فقَبِلَ سبستيان ذلك العرض المغربي، انتقل المتوكِّل إلى سبتة، وأقام بها أربعة شهور، ومنها اتَّجه إلى طنجة في انتظار سبستيان على رأس القوات العسكرية، وفي أثناء استعدادات الدول الأوروبية- وخاصة البرتغال- للوثوب على المغرب، وإخضاعه بالكامل، حيث استطاع سبستيان أن يحشد من النصارى عشرات الألوف من الإسبان والبرتغاليين والطليان والألمان، وجهَّز هذه الألوف بكافة الأسلحة الممكِنة في زمنه، وجهَّز ألف مركب لتحمِلَ هؤلاء الجنود نحو المغرب، وأقلُّ ما قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل! بينما كان المغاربة بقيادة السلطان أبي مروان عبد الملك السعدي وتَعداد جيشه أربعون ألف مجاهد يملكون تفوقًا في الخيل، ومدافِعُهم أربعة وثلاثون مِدفعًا فقط، وكانت معنوياتهم مرتفعةً جدًّا, وقد أرسل العثمانيون لهم مُدرَّبين وأسلحة متنوعة، مشفوعة بفيلق عسكري, فقامت معركة بين الطرفين صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة من هذه السنة تسمى معركة وادي المخازن، أو ما يعرف بمعركة الملوك الثلاثة، والتي تُسمَّى في كتب التاريخ معركة القصر الكبير، استمرت ما يزيد على الأربع ساعات، كتب الله فيها النصر للإسلام والمسلمين، وقد قُتِلَ في المعركة مَلِكُ السعديين عبد الملك أبو مروان، والملك المخلوع ابن أخيه محمد الثاني المتوكل على الله، والملك سبستيان ملك البرتغال، وقد وصَفَ بعض مؤرخي البرتغال نتائجَ المعركة بقوله: كان مخبوءًا لنا في مستقبل الأعصار العصرُ الذي لو وصفتُه لقلتُ: هو العصرُ النحسُ البالِغُ النحوسةِ، الذي انتهت فيه مدَّةُ الصولة والظفر والنجاح، وانقَضَت فيه أيامُ العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحُهم بين الأجناس، وزال رونقُهم، وذهبت النخوةُ والقوة منهم، وخلفها الفشلُ الذريع، وانقطع الرجاء واضمحلَّ إبَّان الغنى والربح، وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير في بلاد المغرب, وكان من أهم أسباب هذه المعارك رغبةُ البرتغاليين أن يمحو عن أنفسهم العار والخزي الذي لحقهم بسبب ضربات المغاربة الموفَّقة، والتي جعلتهم ينسحبون من آسفي وأزمور وآصيلا وغيرها في زمن يوحنا الثالث (1521-1557م)، كما أراد مَلِكُ البرتغال الجديد سبستيان بن يوحنا أن يخوض حربًا مقدَّسة ضِدَّ المسلمين حتى يعلوَ شأنه بين ملوك أوروبا، وزاد من غروره ما حقَّقه البرتغاليون من اكتشافات جغرافية جديدة أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم الإسلامي، يدفعُه في ذلك حِقدُه على الإسلام وأهلِه عمومًا، وعلى المغرب خصوصًا، فجمع بين الحقدِ الصليبي والعقليَّة الاستعمارية التي ترى أنَّ يدها مُطلقةٌ في كل أرض مسلمة تعجِزُ عن حماية نفسِها من أي خطر خارجي.
هو السلطان أبو مروان عبد الملك ابن السلطان محمد الشيخ السعدي ملك السعديين، تولى حكم المغرب بعد أن انتزعَه من ابن أخيه محمد الثاني، الذي أعلن من بداية حكمِه العداءَ لأعمامه أبي مروان وأبي العباس، فاستعانا بالعثمانيين، فقَدَّموا لهما الدعم حيث تمكن عبد الملك من حكم المغربِ وأخوه أبو العباس ساعِدُه الأيمن. كان أبو مروان خلافَ أخيه الغالب بالله وابنه محمد الثاني في التعاون مع الإسبان والبرتغال ضِدَّ الدولة العثمانية؛ فقد دخل عبد الملك في حلف مع العثمانيين الذين قدَّموا له الدعم العسكري في حربه مع الإسبان. توفي في أرض المعركة؛ معركةِ وادي المخازن، فخلفه أخوه المنصور أحمد أبو العباس المعروف بالذهبي، واستمَرَّ أحمد المنصور على منهج أخيه في بناء المؤسسَّات، واقتناء ما وصلت إليه الكشوفاتُ العلمية، وتطويرِ الإدارةِ والقضاء والجيشِ، وترتيبِ الأقاليم وتنظيمها، وكان أحمد المنصور يتابِعُ وزراءه وكبار موظفيه ويحاسِبُهم على عدم المحافظة على أوقات العمل الرسمية، أو التأخير في الردِّ على المراسلات الإدارية والسياسية، وأحدث حروفًا لرموز خاصة بكتابة المراسلات السرية، حتى لا يعرِفَ فحواها إذا وقعت في يد عدوٍّ، وهذا يدل على اهتمامِه الشخصي بجهاز الأمن والاستخبارات التي تحمي به الدولة من الأخطار الداخلية والخارجية.
بعد انتصار المسلمين على النصارى في معركةِ وادي المخازن التي توفِّيَ أثناءها أبو مروان عبد الملك السعدي, تمَّت بيعةُ المنصور أحمد بن محمد الشيخ السعدي المعروف بالذهبي، بعد أن اجتمع عليه مَن حضر هناك من أهل الحَلِّ والعقدِ، ثم لَمَّا قفل المنصور من غزوته تلك، ودخل حضرةَ فاس يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة من هذه السنة جُدِّدت له البيعةُ بها ووافق عليه من لم يحضُر يوم وادي المخازن، ثم بعث إلى مراكش وغيرها من حواضر المغرب وبواديه فأذعن الكلُّ للطاعة وسارعوا إلى الدخول فيما دخلت فيه الجماعة.