كان القانوني قد قتل سابقًا ابنه مصطفى بدسيسة من زوجته روكسلانا الروسية؛ ليتولى ابنُها سليم الخلافة، بل سعت أيضًا لقتل ابن مصطفى الذي لا يزال رضيعًا، وعَهِدَ بالخلافةِ لابنه سليم دون الأكبر بايزيد الذي ثار على أبيه، فأرسل إليه جيشًا فهزمه، فاضطر بايزيد للُّجوء إلى بلاد فارس عند الصفويين، فلما استردَّه سليمان القانوني ثم قتله، صفت ولاية العهد لسليم بن سليمان.
لما توفِّيَ الأمير أبو الحسن علي بن موسى بن راشد مختطُّ مدينة شفشاون في شمال المغرب، وبقِيَت بيد أولاده يتولَّون رياستها ولم يزالوا فيها بين سِلمٍ وحرب إلى أن حاصرهم بها الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر ابن السلطان محمد الشيخ السعدي بجيوشِ عَمِّه السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله، وصاحب شفشاون يومئذ الأمير الفاضل أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي الحسن علي بن موسى بن راشد، فلمَّا اشتَدَّ عليه الحصارُ خرج فيمن إليه من أهله وولده وقرابته، وصعدوا الجبلَ المطِلَّ على شفشاون، وذلك ليلة الجمعة الثاني من صفر من هذه السنة، وساروا إلى ترغة، فركبوا منها البحر يوم الجمعة تاسِعَ من هذا الشهر واستقَرَّ الأمير أبو عبد الله بالمدينة النبوية إلى أن مات بها.
بدأ فيليب الثاني يستعدُّ لاحتلال جزيرة باديس، وشجَّعه على ذلك النصرُ الذي حقَّقه في وهران، فوجَّه لذلك أسطولًا في هذه السَّنة, فقاومه المجاهدون مقاومةً عنيفةً، واضطرَّ الأسطول إلى التراجع, والجديرُ بالذكر أنَّ جزيرة باديس كانت أقربَ نقطة مغربية إلى جبل طارق، وأنَّها كانت بالنسبة للمجاهدين ميناءً هامًّا؛ إذ يمكِنُهم من خلالها العبور للأندلس، كما يمكِنُهم التسلل لداخل الأراضي الإسبانية؛ لتقديم المساعدة للمسلمين هناك، والذين أطلقوا على أنفُسِهم الغرباء، وهذا ما دفع الإسبانيين إلى الهجوم عليها من خلال محاولتهم السابقة، كما كانت جزيرة باديس بالإضافة إلى ذلك مثارَ رعب وخوفٍ لدى السلطان السعدي الغالب بالله؛ إذ خاف السلطان أن يخرجَ الأسطول العثماني من تلك الجزيرة إلى المغرب، فاتَّفق مع الإسبان أن يخلِّيَ لهم الأدالة من حجرة باديس ويبيع لهم البلاد ويُخلِّيها من المسلمين، وينقطع أسطولُ العثمانيين في تلك الناحية، مقابِلَ الدفاع عن شواطئ المغرب إذا هاجمها الأسطول العثماني الذي علِمَ بتلك المؤامرة، فانسحب ورجع إلى الجزائر، كما عزل بويحيى رايس من منصبه في باديس في أواخر هذا العام, وانصرف العثمانيون عن الحرب في غرب البحر المتوسط؛ إذ توجَّه نشاط الأسطول الحربي إلى جزيرة مالطة في الشرق.
خرج حسن بن خير الدين بربروسا في هذه السنة من مدينة الجزائر نحو الغرب، يقودُ جيشًا كبيرًا مؤلفًا من خمسة عشر ألف رجل من رماة البندقية، وألف فارس من الصباحية، تحت إمرة أحمد مقرن الزواوي، واثني عشر ألف رجل من زواوة وبني عباس، أما مؤَنُ وذخيرة الجيش فقد حملها الأسطولُ العثماني إلى مدينة مستغانم التي اتخذَها قاعدة للعمليات، وفي 13 أبريل وصل حسن خير الدين بكامل قوَّته أمام مدينة وهران، وضرب حصارًا حولها، وكان الإسبان مستعدِّين لتلقي الصدمة وراء حصونِهم وقلاعهم، بعد أن توالت النجدات الإسبانية والبرتغالية على وهران؛ استجابة لنداء حاكمها، ومنذ أن صارت القواتُ العثمانية على مسافة مرحلتين وبينهما، كان البيلربك نفسه على بعد ست مراحل؛ مما اضطر حسن بن خير الدين إلى رفع الحصار قبل وصول المزيد من هذه النجدات التي اتخذت من مالطة مركزًا لتجمُّعها، وهكذا لم يستطع حسن بن خير الدين تحقيق هدفه ذلك؛ لأن فيليب الثاني كان قد وضع برنامجًا طموحًا للأسطول الإسباني، والبناء البحري في ترسانات إيطاليا وقطالونيا، كما وردت لخزانة إسبانيا إعانةٌ من البابوية، واجتمعت سلطة قشتالة التشريعية في جلسة غير عادية، وأقرَّت بوجوب إمداد إسبانيا بمعوناتٍ مالية، لتساندَها في حربها مع العثمانيين؛ ممَّا كانت ثمرة تلك المجهودات وإعادة التنظيم لهيكل إسبانيا وهزيمة العثمانيين في وهران.
هو القائد أمير البحر طرغد باشا العثماني، يسمى عند النصارى درغوث، وعند العرب طرغول. من أشهر قادة البحر العثمانيين، خلَفَ خيرَ الدين في قيادة الأسطول العثماني في شمال إفريقيا، ولِدَ طرغد عام 1485م، في قرية تابعة للواء منتشة موغلة. التحق بالبحرية العثمانية كجنديٍّ بحري عاديٍّ في سن مبكرة جدًّا، ثم اندفع في شبابه إلى حياة البحر بدافع حب المغامرات، فاشتغل كملَّاح بسيط ثم مِدفَعي، ثم ذاع صيتُه، وأظهر تفوقًا ومقدرة عالية في الأعمال العسكرية البحرية، فوجَّه غزواته ناحية البحار الشرقية للبحر المتوسط ضِدَّ السفن البندقية, وسرعان ما انضمَّ إلى الأخوين عروج وخير الدين بربروسا, فخاض معارك بحرية ناجحة ضد النصارى الإسبان في البحر المتوسط. حتى أصبح الذراع الأيمن لخير الدين بربروسا أميرِ الأسطول العثماني، إلى أن خلَفَه في قيادة الأسطول بعد وفاته, وقد قام بغارةٍ كبيرة على شواطئ إسبانيا، تمكَّن خلالها من إنقاذ آلاف من الموركسيين المسلمين الغرباء في الأندلس. حاز طرغد شهرةً عظيمة في الحروب البحرية وخافت بأسَه جميعُ دول الإفرنج المعادية للدولة العثمانية، وحَفِظَ اسم البحرية العثمانية من السقوطِ بعد موت رئيسِها ومؤسِّسها خير الدين بربروسا في البحر المتوسط, وقد شارك طرغد في تعزيز الحماية العثمانية للجزائر وطرابلس الغرب من خطر الإسبان الذين يطمحون في استرجاعها والسيطرة عليها. توفي طرغد أثناء غزو جزيرة مالطة، وكان عمره حين توفي يناهز الثمانين عامًا، ودُفِن في طرابلس الليبية.
هو شيخ الإسلام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، ولد سنة 909 في محلة أبي الهيتم في إقليم الغربية بمصر، وإليه نسبته, ويقال هي محلة ابن الهيثم بالمثلثة فغيَّرتها العامة، تلقى علومَه بالأزهر فبلغ فيها مرتبة شيخ الإسلام عندهم، كان فقيهًا على الشافعي مذهبًا، الأشعريِّ عقيدةً، والمتصوف مسلكًا, وتعتبر ترجيحاته في المذهب معتبرة، وأقواله في المذهب معتبرة، بل يعتبرونه في مقام النووي في تحرير المذهب، وهو عندهم خاتمة المحرِّرين في المذهب الشافعي، وإليه المنتهى في الترجيح، له مصنفات عديدة، منها: تحفة المحتاج لشرح المنهاج، وهو في الفقه الشافعي، وله شرح على الأربعين النووية، والإعلام بقواطع الإسلام، والزواجر عن اقتراف الكبائر، والصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، والفتاوى الكبرى الفقهية، وغيرها من الكتب، وكان يشنِّع على علماء أهل السنة المخالفين له في آرائه، خصوصًا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم, لا سيما على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد اعترض عليه في عدد من القضايا المتعلقة بأصول الاعتقاد, فسبَّه سبًّا شديدًا كما في الفتاوى الحديثية" قال الإمام الشوكاني: "انتقل من مصر إلى مكة المشرفة، وسبب انتقاله أنه اختصر الروض للمقري، وشرع في شرحه، فأخذه بعضُ الحساد وفتَّتَه وأعدمه، فعظم عليه الأمر واشتد حزنه، وانتقل إلى مكة وصنف بها الكتب المفيدة، منها: الإمداد وفتح الجواد، شرحان على الإرشاد، الأول بسيط، والثاني مختصر، وتحفة المحتاج شرح المنهاج، والصواعق المحرقة، وشرح الهمزية، وشرح العباب، وكان زاهدًا متقللًا على طريقة السلف، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، واستمر على ذلك حتى مات في مكة" عن 65 عامًا.
هو أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحنفي، نسبة إلى محمد بن الحنفية، ولِدَ في قلقشندة بمصر، ونشأ في ساقية أبي شعرة، وينسب الشعراني إلى قرية أبي شعرة المصري الشافعي الصوفي، والشعراني صوفي شاذلي أسَّس الطريقة الشعراوية، وكان معظمُ نشاطه في التصوف، اشتهر بتفاخره؛ حيث كان يدَّعي الاتصالَ بالله والملائكة والرسل، وأنه قادر على الإتيان بالمعجزات والتعرف على أسرار العالم!! له تصانيف أشهرُها طبقاته المسمى: لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، وهو تراجم للصوفية، فيه كثير من القصص الخرافية التي يزعم أنها كرامات لأصحابها، بل في بعضها كفر، فأنى يكون كرامة؟! وله أدب القضاء، وله إرشاد الطالبين إلى مراثي العلماء العاملين، وغيرها، توفي في القاهرة عن 75 عامًا.
كان السلطان العثماني سليمان القانوني عازمًا على فتح جزيرة مالطة التي كانت أكبر مَعقِل للنصارى الأوروبيين في وسط البحر المتوسط، والتي سبق أن استقَرَّ فيها فرسان القديس يوحنا، فأرسل السلطانُ العثماني أسطولًا آخر بقيادة بيالي باشا نفسه، كما طلب من درغوث رايس حاكمِ طرابلس وجربة، وحسن خير الدين أن يتوجَّها على رأس أسطوليهما الإسلاميين للمشاركة في عملية مالطة وإخضاعها؛ استعدادًا لمنازلة بقية المعاقل الإسلامية بعد ذلك، فسار حسن بن خير الدين على رأس عمارة تشمل 25 سفينة وثلاثة آلاف رجل، ووصل الأسطول الإسلامي أمام مالطة يوم 18 مايو، وفرض الحصار عليها، واستمر الحصار ضيقًا شديدًا إلى أن جهَّزت المسيحية رجالها وأساطيلها ووصل المدد تحت قيادة نائب ملك صقلية برفقة أسطول تعداده 28 سفينة حربية، تحمل عددًا كبيرًا من المقاتلين، ونشبت المعركة بين الطرفين، وتمكَّن الأسطول الإسلامي من الانسحاب في 18 ربيع الأول من هذه السنة.
هو السلطان سليمان بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني، عاشر سلاطين بني عثمان، وثاني من حمل لقب أمير المؤمنين، ولد في غرة شعبان سنة 900هـ في طرابزون, وهو من أشهر سلاطين آل عثمان؛ حيث تميَّز عصره بالقوة والنفوذ، كان الغرب يلقِّبه بسليمان العظيم، وفي الشرق يلقب بسليمان القانوني, وبلغت الدولة العثمانية في مدته أعلى درجات الكمال. وكانت باكورةُ أعماله بعد توزيع النقود على الانكشارية تعيين مربِّيه قاسم باشا مستشارًا خاصًّا، وإبلاغ توليته على عرش الخلافة العظمى إلى كافة الولاة وأشراف مكة والمدينة بخطابات مفعمة بالنصائح والآيات القرآنية المبيِّنة فضل العدل والقسط في الأحكام، ووخامة عاقبة الظلم، وكان يستهِلُّ خطاباته بالآية الشريفة (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) تولى السلطنة عام 926هـ وأضاف للدولة العثمانية الكثيرَ من الولايات والأراضي الواسعة التي شملت عددًا من عواصم الحضارات والدول، كأثينا وصوفيا وبغداد ودمشق وإسطنبول وبودابست وبلغراد والقاهرة وبوخارست وتبريز, حيث قاد القانوني الجيوشَ العثمانية لغزو معاقل وحصون الأوروبيين في أغلب أراضي المجر قبل أن يتوقَّف عند أسوار فيينا, كما ضمَّ أغلب مناطق البلاد العربية أثناء صراعه مع الصفويين ومناطق من شمال فريقيا حتى الجزائر، وسيطرت أساطيلُه على بحار المنطقة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر حتى الخليج العربي. تلقَّب بالقانوني؛ لأنَّه جمع الشرائع المؤسَّسية على أصل إسلامي، ورتبها في مجموعة ظلَّت بموجبها الشريعة الوحيدة المعمول بها، توفي في أثناء حصاره إحدى القلاع في النمسا في العشرين من صفر من هذا العام، بعد أن دامت مدة حكمه قرابة ثمانٍ وأربعين سنة، وتولى العرش بعده ابنه سليم وبدأ عصر الضعف في الدولة العثمانية.
بعد أن تسَلَّم سليم الثاني زمامَ الخلافة العثمانية بدأ الضعفُ يدبُّ فيها، إلا أنه لم يظهر الضعف عليه بسبب قوة وزيره محمد الصقلي، وفي هذه السنة عقدت الدولة العثمانية معاهدةَ صلح مع النمسا، اعترفت فيه بأملاك النمسا في المجر على أن تدفع النمسا مقابل ذلك الجزية السنوية المقرَّرة للدولة العثمانية، واعتراف النمسا أيضًا بتبعية أمراء ترانسلفانيا والأفلاق والبغدان للدولة العثمانية.
ثار المسلمون في ليلة عيد ميلاد النصارى على الإسبان، واعتصموا في جبال البشرات لصدور أوامر ملكية تحرم عليهم التحدث بالعربية، وتمنعهم من ممارسة عبادتهم وتقاليدهم، وكانت هذه الثورة بقيادة محمد بن أمية، يُذكَر أن السلطان السعدي الغالب بالله بذل الوعود المعسولة لرسل الثوَّار البورشارات، ووعدهم بالنصر وتقديم كل ما يحتاجونه من عتاد وسلاح ورجال، لكن استمرَّ الغالب بالله محافظًا على روابطه الوديَّة مع فيليب الثاني، وعمل على خِذلان أهل الأندلس! تسارعت الأحداث في إسبانيا، وبلغ عدد المجاهدين في أوائل سنة 976 أكثر من مائة وخمسين ألفًا، وصادف تلك الثورة صعوباتٌ كبيرة بالنسبة للحكومة الإسبانية؛ إذ كانت غالبية الجيش متقدِّمة مع دوق البابا في الأراضي المنخفضة وأثبتت الدوريات البحرية أنها غير قادرة على حرمان الثوار المسلمين من الاتصال بالعثمانيين في الجزائر، فاستنجد المسلمون بالعثمانيين، فجمع قلج علي جيشًا عظيمًا قِوامُه أربعة عشر ألف رجل من رماة البنادق، وستين ألفًا من المجاهدين العثمانيين من مختلف أرجاء البلاد، وأرسلهم إلى مدينتي مستغانم ومازغران؛ استعدادًا للهجوم على وهران، ثم النزول في بلاد الأندلس، وكان يرافق ذلك الجيشَ عددٌ كبيرٌ من المدافع، وألف وأربعمائة بعير محمَّلة بالبارود الخاص بالمدافع والبنادق، ولكن وبسبب سوء تصرف أحد رجال الثورة الأندلسيين إذ انكشف أمره فداهمه الإسبان، وضبطوا ما كان يخفيه من سلاح بعد أن نجح قلج علي في إنزال الأسلحة والعتاد والمتطوعين على الساحل الإسباني، لم تقع الثورة في الموعد المحدَّد لها، لقد قام قلج علي في شعبان سنة 976 ببعث أسطول الجزائر لتأييد الثائرين في محاولتهم الأولى، وحاول إنزال الجند العثماني في الأماكن المتفق عليها، لكن الإسبان كانوا قد عرفوا ذلك بعد اكتشاف المخطَّط، فصدوا قلج علي عن النزول، وكانت الثورة في عنفوانها، وزوابع الشتاء قوية في البحر؛ فالأسطول الجزائري صار يقاوم الأعاصير من أجل الوصول إلى أماكن أخرى من الساحل يُنزل بها المدد المطلوب، إلا أن قوة الزوابع أغرقت 32 سفينة جزائرية تحمل الرجال والسلاح، وتمكَّنت ست سفن من إنزال شحنتِها فوق سواحل الأندلس، وكان فيها المدافع والبارود والمجاهدين، وكان القائد المجاهد قلج علي قد عزم على الذهاب بنفسه ليتولى قيادة الجهاد هناك، لكن ما شاع عن تجمع الأسطول الصليبي للقيام بمعركة حاسمة مع المسلمين وأمْر السلطان العثماني له بالاستعداد للمشاركة في هذه المعركة- جعله مضطرًّا للبقاء في الجزائر منتظرًا لأوامر إستانبول، وفي غمرة الثورة الأندلسية اتُّهم قائد الثورة ابن أمية بالتقاعس عن الجهاد، فهاجمه المتآمرون فقتلوه في منزله واختير مولاي عبد الله بن محمد بن عبو بدلًا منه، وبعث قلج علي تعزيزات له ونجح القائد الجديد في حملاته الأولى ضد النصارى الإسبان، وطوَّق جيشُه مدينة أرجيه، انزعجت الحكومة الإسبانية لهذا التطورات، وعينت دون جوان النمساوي على قيادة الأسطول الإسباني (وهو ابن غير شرعي للإمبراطور شارل) فباشر قمع الثورة في سنواتها 977-987 وأتى من الفظائع ما بخلت بأمثاله كتُبُ الوقائع، فذبح النساء والأطفال أمام عينيه، وأحرق المساكنَ ودمَّر البلاد، وكان شعاره لا هوادة، وانتهى الأمر بإذعان مسلمي الأندلس، لكنه إذعان مؤقت؛ إذ لم يلبث مولاي عبد الله أن عاد الكَرَّة، فاحتال الإسبان عليه حتى قتلوه غيلةً ونصبوا رأسه فوق أحد أبواب غرناطة زمنًا طويلًا.
انتفض زعماءُ اليمن من الزيدية والإسماعيلية على الحُكم العثماني، وطردوا الحامية العثمانية عام 975، فقاد سنان باشا جيشًا استولى على عدن، ثم في هذه السنة عُقِدت اتفاقية بين الدولة العثمانية وبين الأئمة الزيدية، اعترف الزيديةُ بموجِبها بالسيادة العثمانية، ومرابطة القوات العثمانية في جميع القطاعات والمدن التي كانت ترابِطُ فيها قبل اندلاع الانتفاضة، واعترفت الدولة العثمانية بالإمام المطهَّر بن شرف الدين زعيمًا دينيًّا للزيدية، أما صَنعاء فلم تدخل تحت السيطرة العثمانية إلا بعد حروب شديدة واستسلام زعمائها الزيديين.
عندما غزا علي باشا- صاحِبُ الجزائر- تونسَ في هذه السنة، واستولى عليها وطرد منها حاكمها أحمد بن الحسن بن محمد الحفصي- ذهب أحمد إلى طاغية قشتالة مستغيثًا به، شأنُه شأن أبيه من قَبلِه، فأمَدَّه الطاغية بأسطول عظيم واشترط عليه أداء مال فالتزمه، ولما وصل الأسطول إلى ظاهر تونس اطَّلع قائده السلطان أحمد الحفصي على كتاب من الطاغية مضمونُه المشاركة في الحُكم، فأنكر أحمد ذلك وأنِفَ منه وذهب إلى صقلية فبقي بها إلى أن مات وحُمِل إلى تونس، وكان هنالك أخوه محمد بن الحسن فرضي بالمقاسمة ودخل بالنصارى معه إلى تونس سنة 981.
هو السلطان بدر بن عبد الله بن جعفر، أبو طويرق الكثيري سلطان حضرموت. ولد سنة 902 في مدينة سيؤون وتولى سلطنتها وتوفي فيها، تولاها صغيرًا بعد وفاة أبيه. نشأ موفَّقًا في سياسته، طيب السيرة، وافر العقل، جوادًا، يعتبر أوَّلَ من عمل لتوحيد مناطق حضرموت؛ حيث شملت أراضي سلطنته حضرموتَ من أبْينَ ومأرب غربًا إلى ظفار شرقًا, ثم استعان بالترك، وكاتَبَ السلطان سليمان القانوني، فجاءته سنة 926 قوةٌ منهم، أضاف إليها بعض الزيود من اليمن، ورجالًا من يافع ومن الموالي الأفارقة، فتألف جيشه من هؤلاء جميعا, وصدَّ غارات البرتغال مرارًا. وأطفأ كثيرًا من الفتن الداخلية في بلاده. وطالت مدتُه إلى أن حجر عليه ابنٌ له اسمه عبد الله، فأقام إلى أن مات في هذا العام.
أعلن الكاردينال "خيمينيث" أن المعاهدة التي تم توقيعُها مع حكام غرناطة قبل مائة سنة والتي عقدت عام 879 لم تعُدْ صالحة أو موجودة، وأعطى أوامرَه بتنصير جميع المسلمين في غرناطة دون الأخذ برأيهم، أو حتى تتاح لهم فرصةُ التعرف إلى الدين الجديد الذي يساقون إليه، ومن يرفُض منهم عليه أن يختار أحد أمرين: 1- إما أن يغادر غرناطة إلى إفريقيا دون أن يحمل معه أي شيء من أمواله، ودون راحلةٍ يركبها هو أو أحد أفراد أسرته من النساء والأطفال، وتُصادَر أمواله. 2- وإما أن يُعدَمَ علنًا في ساحات غرناطة باعتباره رافضًا للنصرانية, فكان من الطبيعي أن يختار عدد كبير من أهالي غرناطة الهجرةَ بدينهم وعقائدهم، فخرج قسمٌ منهم تاركين أموالهم سيرًا على الأقدام، غيرَ عابئين بمشاقِّ الطرقات، ومجاهِلِ وأخطار السفر إلى إفريقيا من دون مال أو راحلة، في مشهد يشبه هجرة الصحابةِ رضي الله عنهم إلى الحبشة! وبعد خروجِهم من غرناطة كانت تنتظرُهم عصابات الرعاع الإسبانية والجنود الإسبان، فهاجموهم وقتلوا معظمَهم، وعندما سمع الآخرون في غرناطة بذلك آثروا البقاء بعد أن أدركوا أنَّ خروجهم من إسبانيا يعني قتْلَهم، وبالتالي سيقوا في قوافِلَ للتنصير والتعميد كُرهًا! ومن كان يكتشفُه الإسبان أنه قد تهرَّب من التعميد تتمُّ مصادرة أمواله وقتله علنًا! وقد فرَّ عدد كبير من المسلمين الذين رفضوا التعميدَ إلى الجبال المحيطة في غرناطة محتمين في مغاورها وشعابها الوعرة، وأقاموا فيها لفترات، وأنشؤوا قرى عربية مسلمة، وكان الملكُ الإسباني يُشرفُ بنفسه على الحملات العسكرية الكبيرة التي كان يوجِّهها إلى الجبال؛ حيث كانت تلك القرى تُهدَمُ ويُساق أهلُها إلى الحرق أو التمثيل بهم وهم أحياء، في الساحات العامة في غرناطة- رحمهم الله رحمة واسعة، وجعلهم في عِداد الشهداء.
كانت إيطاليا وإسبانيا تقدران أهمية جزيرة قبرص، وشاع في أوروبا تكوُّنُ حِلف ضِدَّ السلطان، ولكن لم يُعمَلْ شَيءٌ في حينه لإنقاذ قبرص من العثمانيين الذين نزلوها بقوة كاسحة، نفذت إلى الجزيرة بدون صعوبة، ووقفت مدينة فامرجستا الحصينة أمام العثمانيين بقيادة باحليون وبراجادنيو الذين واجهوا القوة العثمانية التي بلغ عددُ مقاتليها مائة ألف, واستعمل خلالها العثمانيون جميعَ وسائل الحصار المعروفة، مِن فَرٍّ وكَرٍّ، وزرع للألغام، ولم ينتج أي تأثير على الحامية، ولو وصلت قوة النصرانية للنجدة، لصار العثمانيون في خطرٍ، إلا أنَّ المجاعة قامت بعملها، واستسلمت المدينةُ في ربيع الثاني من هذه السنة، ونَقَلت الدولةُ العثمانية بعد فتحِها لقبرص عددًا كبيرًا من سكان الأناضول الذين لا يزال أحفادُهم مقيمين في الجزيرة حتى الآن، ورغم ترحيبِ القبارصة الأرثوذكس بالحكم العثماني الذي أنقذهم من الاضطهاد الكاثوليكي الذي مارسته البندقية لعدة قرون، إلَّا أن احتلال العثمانيين أثار الدولة الكاثوليكية، ثم عرضت البندقيةُ الصلحَ مع الدولة العثمانية، فجرت بين الطرفين معاهدة تتخلى بموجِبِها البندقيةُ عن قبرص لصالح العثمانيين، وتحتفظ البندقية بجزيرة كريت وجزر الأرخبيل اليوناني، مع دفع غرامة مالية حربية خوفًا من تجديد القتال.
ارتعدت فرائِصُ الأمم الأوروبية النصرانيةِ من الخطر الإسلاميِّ العظيم الذي هدَّد القارة الأوروبية؛ من جرَّاءِ تدفُّق الجيوش العثمانية برًّا وبحرًا, وعندما احتلَّ الأسطول العثماني بقيادة علي باشا قبرص بقرارٍ من السلطان سليم الثاني, أخذ البابا بيوس الخامس يسعى من جديدٍ لجمع شمل البلاد الأوروبية المختلفة، وتوحيد قواها برًّا وبحرًا في تحالف صليبي تحت راية البابوية، اختير لقيادة قوة هذا التحالف (دون خوان) النمساوي، وهو أخٌ غير شقيق للملك فيليب الثاني، سار (دون خوان) إلى البحر الأدرياتيك، حتى وصل إلى الجزء الضيق من خليج كورنث بالقرب من باتراس، وليس ببعيد عن ليبانتو اليونانية، والذي أعطى اسمها للمعركة، ونظَّم علي باشا قواتِه فوضع سفُنَه على نسق واحد من الشمال إلى الجنوب، بحيث كانت ميمنتُها تستند إلى مرفأ ليبانتو، ومسيرتُها في عُرض البحر، وقد قسَّمها علي باشا إلى جناحين وقلب, فكان هو في القلب, وشيروكو في الجناح الأيمن، وبقي الجناح الأيسر بقيادة قلج علي، ومقابل ذلك نظَّمَ دون خوان قواتِه، فوضع سفنه على نسق يقابل النسق الإسلامي، ووضع جناحه الأيمن بقيادة دوريا مقابل قلج علي، وأسند قيادة جناحه الأيسر إلى بربريجو مقابل شيروكو، وجعل (دون) نفسَه لقيادة القلب، وترك أسطولًا احتياطيًّا بقيادة سانت كروز. احتدمت المعركة في 17 جمادي الأولى من هذه السنة, أحاط الأسطول الإسلامي بالأسطول الأوروبي وأوغل العثمانيون بين سفن العدو، ودارت معركة قاسية أظهر فيها الفريقان بطولةً كبيرة وشجاعة نادرة، وشاءت إرادة الله هزيمة المسلمين، ففقدوا ثلاثين ألف مقاتل، وقيل عشرين ألفًا، وخسروا 200 سفينة حربية، منها 93 غرقت، والباقي غنمه العدو وتقاسمته الأساطيل النصرانية المتحدة، وأُسِرَ لهم عشرة آلاف رجل! واستطاع قلج علي إنقاذ سفنه، واستطاع كذلك المحافظة على بعض السفن التي غَنِمَها، ومن بينها السفينة التي تحمل علم البابا، رجع بها إستانبول التي استقبلته استقبال الفاتحين، رغم الشعور بمرارة الهزيمة, وكان لهذه الهزيمة أثرُها الكبير في تراجع الهيمنة العثمانية على غرب البحر المتوسط، ونهاية التمدد العثماني في شرق ووسط أوروبا, ومن أسباب هذه الهزيمة الكارثية على الدولة العثمانية قرارُ سليم الثاني بفتح قبرص، فلم يكن صائبًا؛ لأن قبرص لم تكن مزعجةً للدولة العثمانية، بينما ترتب على فتحها قيامُ هذا التحالف الصليبي الذي أدى إلى هزيمة الدولة في هذه المعركة, فضلًا عن أن قائد الأسطول العثماني علي باشا لم يكن على مستوى قيادة معركة بهذا الحجم، الذي شكله التحالف النصراني, وفي المقابل احتفلت القارة الأوربية بنصر ليبانتو؛ فلأول مرة منذ قرون تحلُّ الهزيمة بالعثمانيين!
هو القائد البحري العثماني حسن باشا ابن القائد البحري الشهير خير الدين بربروسا، وُلد سنة 925, ويعدُّ من القادة المعدودين في الدولة العثمانية الذين حقَّقوا انتصارات باهرة على الإسبان في شمال إفريقيا، وقد حكم الجزائرَ حوالي 15 عامًا، تخللتها حروبٌ طاحنة. أراد حسن باشا أن يطهِّرَ وهران من الوجود الإسباني، فأخذ يستعدُّ في مدينة الجزائر لجمع قوى جديدةٍ منظَّمة منقادة إلى جانب الجيشِ العثماني، فجنَّد عشرةَ آلاف رجل من زواوة، كما أنشأ قوة أخرى ووضع على رأسِها أحدَ أعوان والده القدامى، وفي الوقت نفسه حاول الحصولَ على تأييد القوة المحلية، فتزوج من ابنة سلطان كوكو ابن القاضي، توفي في إستانبول ودفن فيها, وكان عمره حين توفي يناهز 72 عامًا.