بعد الانتصاراتِ التي حَقَّقَها محمد علي في الجزيرةِ العربيةِ، والتي تمثَّلَت في إسقاطِ الدولة السعودية، قَوِيَ عَزمُه على الإغارة على نواحي السودان، فجهَّز ولدَه إسماعيلَ باشا على رأس حملة لغزو السودان عُرِفَت باسم الغزو التركي للسودان، فغالِبُ جنود الجيش من الأتراك والألبان والمغاربة ولم يشارِكْ في الحملةِ أحَدٌ من المصريين؛ لأنَّ محمد علي لم يبدأ بعدُ بتجنيد المصريين. جمع محمد علي لجيشِ هذه الحملة الذخيرةَ والسِّلاحَ مِن البلادِ القبلية والشرقية في مصر، وأرسل لإحضارِ مَشايخِ العُربان والقبائل، وقد قَدَّمَت قبيلةُ العبابدة للحَملةِ الدَّعمَ بالجمال، وأفراد هذه القبيلة يَعرِفون المناطِقَ الحدودية بشكلٍ جيِّد، ثم في ذي القعدة سافر إسماعيلُ باشا إلى جهة قبلي، وهو أمير العسكر المعيَّنة لبلاد النوبة، والباشا محمد علي في الإسكندرية. لم تواجِهْ حملة إسماعيل باشا أيُّ مقاومة في السودان حتى وصلت قواتُه إلى حدود مملكة الشايقية، حيث كانت أوَّل مقاومة للغزو التركي، والذين تمكن إسماعيل من هزيمتِهم في معركة كورتي، ثمَّ واصلت قواتُ محمد علي لفتحِ عَدَدٍ مِن أقاليم السودان، فوصلوا إلى أعالي نهر النيل، وفتحوا دارَ فور وكردفان، كما تمكَّن إسماعيلُ باشا من إخضاعِ دَولةِ سنار التي خرجَ إليه سلطانُها السلطان بادي السادس مبايعًا له ومُعلنًا بذلك نهايةَ سلطنة سنار الإسلامية أعظَمِ الممالك الإسلامية التي ازدهرت في السودان
لما جاء الكولونيل سيف -سليمان الفرنساوي- إلى مصرَ، كضابط مع الحملة الفرنسيةِ ولَمَّا آنس منه محمد علي باشا الكفاءةَ لتحقيق مشروعه؛ أنفذه إلى أسوان ليؤسِّسَ مدرسة حربية تخرِّجُ ضباطًا على النمط الأوربي؛ ليكونوا النواةَ الأولى من جيشِ مِصرَ الحديث، وبدأ العمَلَ في هذه المدرسة بأن قَدَّم إليه خمسمائة من خاصَّةِ مماليكه ليدَرِّبَهم على أن يكونوا ضبَّاطًا في النظامِ الحديث، وطلب إلى بعضِ رجاله أن يحذُوا حَذْوَه ويُقدِّموا مَن عندهم من المماليك، فاجتمع لدى الكولونيل سيف ألفٌ من هؤلاء وأولئك، أخذ يدرِّبُهم مدةَ ثلاث سنوات على فنونِ الحرب وأساليبها الحديثة، فصاروا نواةَ الجيش النظامي؛ إذ تكوَّنت منهم الطائفةُ الأولى من الضباط، وقد لاقى "الكولونيل سيف" متاعِبَ جَمَّة خلال تدريب طلاب هذه المدرسة، خاصةً وأنهم لم يعتادُوا الطاعة المُطلَقة لرؤسائِهم, كما لم يتعوَّدوا أن يتعلموا فنونَ الحرب الحديثة، ولم يألَفوا من الحركاتِ العسكرية سوى الكَرِّ والفَرِّ، هذا بالإضافة إلى أن الكولونيل سيفًا ضابِطٌ أوروبي نصراني، ومن هنا جاشت في نفوسِهم فكرةُ العصيان والتمَرُّد، فحاول أحدُهم تدبير مؤامرة لاغتياله أثناء التدريبِ على ضربِ النَّارِ، فأطلق أحدُهم عليه رصاصةً أطاحت بقبَّعتِه ولمست أذنَه، وبدلًا من أن ينتَقِمَ الكولونيل من الطالبِ أمسك البندقية واتَّخَذ مكانَه في الصَّفِّ ليعَلِّمَه كيف يكون التصويبُ نحو الهدف، ولكي يُزيلَ الحاجِزَ النفسي بينه وبين طلابه اعتنقَ "الكولونيل سيف" الإسلامَ، وأصبح اسمه "سليمان " وبعد ثلاث سنوات من التدريب الشاقِّ، تمَّ تخريجُ مجموعة من الضباط وصل عددُهم إلى حوالي ستة آلاف ضابط. ومضى مشروعُ محمد علي في بناء جيش مصر الحديث، وظلَّ "سليمان باشا الفرنساوي " على رأسِ هذا الجيش يعَلِّمُ ويدرِّبُ وينَظِّمُ وينشئُ المدارسَ الحربية على النظام الحديث، فتأسَّست مدرسة حربية في "فرشوط"، وأخرى في "جرجا"، واتسعت دائرةُ التجنيد، وتمَّ إرسالُ مجموعة من الطلاب إلى أوروبا لإتمام دروسهم العسكرية هناك.
في أوائل القرن التاسع عشر ظهر إلى الوجودِ في هذه المنطقة نفوذُ روسيا القيصرية المتمَثِّل في شمال إيران وبريطانية التي يتمَثَّل وجودُها في الخليج العربي وجنوب إيران، وقد أخذت إيران في هذه الفترة في إثارة المشاكِلِ في العراق ضِدَّ الدولة العثمانية عن طريق إثارة المتمَرِّدين وتحريضِهم للثورة؛ ونظرًا لرغبةِ الأطراف المعنيَّة في وضع حدٍّ لهذه المشاكل الحدودية بين الدولتين العثمانية والإيرانية، فقد توسَّطت كلٌّ من روسيا القيصرية وبريطانيا لحَلِّ الخلافات بين الحكومتين العثمانية والإيرانية، فتَمَّ توقيعُ هذه المعاهدة عام 1847م؛ حيث ورد نَصُّ المادة الثانية من هذه المعاهدة كما يلي (تتعهد الحكومة الإيرانية أن تتركَ للحكومة العثمانية جميعَ الأراضي المنخَفِضة، أي: الأراضي الكائنة بالقسم الغربي من منطقة زهاب، وتتعهَّد الحكومة العثمانية بأن تترُكَ للحكومة الإيرانية القِسمَ الشرقي، أي: جميع الأراضي الجبلية من المنطقة المذكورة بما في ذلك وادي كرند، وتتنازل الحكومةُ الإيرانية عن كل ما لها من ادِّعاءات في مدينة السليمانية ومنطقتها، وتعهَّدت رسميًّا بألَّا تتدخَّلَ في سيادة الحكومة العثمانية على تلك المنطقة، أو تتجاوز عليها، وتعترف الحكومةُ العثمانية بصورةٍ رسمية بسيادةِ الحكومة الإيرانية التامَّة على مدينة المحمرة ومينائها وجزيرة خضر والمرسي والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية، أي: الضفة اليسرى من شط العربِ التي تحت تصرُّف عشائر مُعتَرَف بأنَّها تابعة لإيران، وفضلًا عن ذلك فللمراكب الإيرانية حقُّ الملاحة.
دخلت هذه السنةُ وتركي بن عبد الله في بلد عرقة محاربًا لأهلِ الرياض ومنفوحة، وأهلِ الخَرج وصاحب ضرما وثرمداء وحريملاء. وباقي بلدان نجدٍ يكاتبونه بلا متابعةٍ، ثمَّ إن تركي عزم أن يسطوَ على ناصر السياري في بلد ضرما، فقصده من بلد عرقة، واستخلف فيها عمرَ بن محمد بن عفيصان، وليس مع تركي إلا شرذمةٌ قليلة، فدخل عليه المسجد فوجده في سطحه، وتمكَّنَ من قتله، واستولى تركي على بلد ضرما وملكَها وأقام فيها.
سار أحمد باشا رئيسُ مكَّةَ بعسكرٍ كثيرٍ مِن مِصرَ والحجاز وغيرِهم، ومعه عددٌ من أشراف مكة وأتباعهم، فقَصَدوا عسير في اليمن، ورئيسهم سعيد بن مسلط، فوقع بينهم وقعاتٌ، فوقع على عساكر الباشا بَردٌ وبَرقٌ لا يُعرَفُ له نظير، فهلك غالِبُ العسكر ولم ينجُ منهم إلا القليلُ.
في رمضان عام 1238هـ بدأ تركي بن عبد الله تحَرُّكَه من مخبَئِه في بلدة الحلوة جنوبي نجد؛ لإخراجِ بقية القوَّات الغازية وحامياتها الموجودة بالرياض ومنفوحة، فانطلق منها وجمَعَ أتباعه عند بلدة عرقة قُربَ الرياض، وتوافَدَت إليه جموعُ المؤيِّدين من سدير والوشم، وبعد قتالٍ استمَرَّ لمدة عام ضد الحاميتين أجبر من كان فيهما من الجنودِ على المغادرة إلى الحجاز في أواخر عام 1239هـ وأمر مشاري بن ناصر آل سعود بدخولِ الرياضِ، وتوجَّه هو إلى الوشم؛ حيث أقام في شقراء مدة شهرٍ، وفيها قَدِمَ عليه أمير عنيزة يحيى بن سليم مبايعًا إياه على السمع والطاعة. وذلك في مستهَلِّ عام 1240هـ، ويُعَدُّ هذا التاريخ الذي رحلت فيه القواتُ المصرية عن نجد بدايةً لقيام الدولة السعودية الثانية، وعاصمتُها الرياض، وانتقل الحكمُ في أسرة آل سعود من أبناءِ عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى أبناء عبد الله بن محمد بن سعود، وفي خلالِ عامين شَمِلَت هذه الدولة معظَمَ بلاد نجد، ودان أهلُها بالولاء لتركي بن عبد الله.
هو عبدُ الرحمن بن حسن بن إبراهيم الجبرتي، وُلِدَ في القاهرة عام 1753م والجبرتي نسبةً إلى بلدة جبرت، وهي بلاد زَيلَع في الحبشة، كان والِدُه من كبارِ العُلَماء الفَلَكيين، وحصل على ثروةٍ كبيرةٍ مِن عمله في التجارة، وقد رُزِق بنيِّف وأربعين ولدًا ذكَرًا، فعاش الجبرتي وسطَ أسرة ثرية، وكان تلميذًا لوالِدِه في مختلف المعارفِ، كما درس الجبرتي في الأزهر وبرَعَ في العلومِ العصريَّة وفي التاريخ، عُيِّنَ الجبرتي كاتبًا في الديوان لَمَّا دخل الفرنسيون إلى مصر، وانقطع بعدئذٍ للتأليف، وقد عاصر أحداثًا هامَّةً جدًّا، وكان الجبرتي ممن تأثَّروا بدعوةِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مصرَ، بل ويُعدُّ من أشَدِّ المتأثِّرين بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان يرى أن الأتراكَ قد ارتكبوا خطأ كبيرًا عندما حاربوا دعوةَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنصارَها؛ ممَّا دفع محمد علي باشا إلى التضييق عليه، بل والسَّعي للتخلص منه, وقد اشتهر بتاريخِه المعروف باسمِه (تاريخ الجبرتي) الذي عنوانُه: (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) ابتدأه بحوادث سنة 1100هـ وانتهى سنة 1236هـ، وله (مَظهَرُ التقديس بزوال دولة الفرنسيس)، وتوفي في مصر، وقيل: إنه مات متأثرًا بقتل محمد علي باشا لابنِه خليل بسبَبِ موقفه المعارِضِ مِن حكم محمد علي وثورتِه على الدولة العثمانية، وأنَّ محمد علي أمره بكتابة كتابٍ لِمَدحه فرفض الجبرتي فهدَّده فرفض أيضًا؛ مما جعله يقوم بقتلِ ابنه خليل، فظل الجبرتي يبكي ابنَه حتى كفَّ بَصَرُه. ولَزِمَ بيته بعد تلك الفاجعة التي ألَمَّت به، لا يقرأُ ولا يكتُبُ ولا يتابِعُ الأخبارَ، حتى توفِّيَ بعد مقتَلِ ولده بحوالي ثلاث سنوات.
فسدت طبيعةُ الانكشاريين وتغَيَّرت أخلاقهم، وتبدلَّت مهمَّتُهم، وأصبحوا مصدرًا للبلاءِ للدولة والشعوب التابعة لها، وصاروا يتدخَّلون في شؤونِ الدولة وتعَلَّقت أفئدتُهم بشهوةِ السلطة وانغمَسوا في الملذات والمحرمات، وشق عليهم أن ينفِروا في برودة الشتاءِ، وفرضوا العطايا السلطانية، ومالوا إلى النَّهبِ والسلب حين غَزوا البلاد، وتركوا الغاية التي من أجلِها وُجِدوا، وغَرَقوا في شرب الخمور، وأصبحت الهزائِمُ تأتي من قِبَلهم بسبب تَركِهم للشريعة والعقيدة والمبادئ، وبُعدِهم عن أسباب النصر الحقيقية، وقاموا بخَلعِ وقَتلِ السلاطين، فجمع السلطانُ مجموعة من أعيان الدولة وكبار ضبَّاط الانكشارية في بيتِ المفتي، ثم أفتى المفتي بجوازِ العمل للقضاء على المتمَرِّدين. وقد أعلن الموافقةَ كُلُّ من حضر من ضباط الانكشارية مِن حيث الظاهِرُ، وأبطنوا خلافَ ذلك، ولما شعروا بقُربِ ضياع امتيازاتهِم وبوضع حدٍّ لتصرُّفاتهم، أخذوا يستعدون للثورة، واستجاب لهم بعضُ العوام. وفي 8 ذي القعدة عام 1241هـ بدأ بعضُ الانكشاريين بالتحَرُّش بالجنود أثناء أدائِهم تدريباتهم، ثم بدؤوا في عصيانهم، فجمع السلطان العلماءَ وأخبرهم بنيَّةِ المتمردين فشَجَّعوه على استئصالهم، فأصدر الأوامر للمدفعية حتى تستعِدَّ لقتالهم ملوِّحًا باللين والتساهل في الوقتِ نفسِه؛ خوفًا من تزايُدِ لهيب شرورهم. وفي صباح 9 ذي القعدة تقَدَّم السلطان ووراءه جنودُ المدفعية وتَبِعَهم العلماء والطلبة إلى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاةُ هناك يثيرون الشَّغبَ، وقيل: إن السلطانَ سار معه شيخ الإسلام قاضي زادة طاهر أفندي والصدر الأعظم سليم باشا أمام الجُموعِ التي كانت تزيد على 60.000 نفسٍ، ثم أحاطت المدفعية بالميدانِ واحتَلَّت المرتفعات ووجَّهت قذائِفَها على الانكشارية، فحاولوا الهجومَ على المدافع ولكِنَّها صَبَّت حمَمَها فوق رؤوسهم، فاحتَمَوا بثكناتهم هروبًا من الموت، فأحرقت وهدمت فوقَهم وكذلك تكايا البكتاشية، وبذلك انتصر عليهم. وفي اليوم التالي صدر مرسومٌ سلطاني قضى بإلغاء فِئَتِهم وملابسهم واصطلاحاتهم وأسمائهم من جميعِ بلاد الدولة، وقتل من بقي منهم هاربًا إلى الولاياتِ أو نفيه، ثم قلَّد حسين باشا الذي كانت له اليدُ الطولى في إبادتهم قائدًا عامًّا (سرعسكر) وبدأ بعدها نظامُ الجيش الجديد، ثم أصبح السلطان محمود بعد ذلك حرًّا في تطوير جيشه، فترَسَّم خطى الحضارة الغربية، فاستبدل الطربوش الرومي بالعمامة، وتزيَّا بالزيِّ الأوروبي، وأمر أن يكونَ هو الزيَّ الرسميَّ لكُلِّ موظَّفي الدولة؛ العسكريين منهم والمدنيين، وأسَّس وسامًا دعاه وسامَ الافتخارِ، فكان أوَّلَ من فعل ذلك من سلاطين آلِ عثمان، وما قام به السلطان محمود من استبدال الطربوش بالعِمامةِ وفرْض اللِّباس الأوروبي على كافَّةِ المجموعات العسكرية: يدُلُّ على شعورهِ العميق بالهزيمة النفسيَّة.
قَدِم الإمامُ الحافظ المتقِن قاضي قضاة الإسلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مِن مِصرَ على الإمام تركي بن عبد الله بعد أن بَقِيَ في مصر 9 سنوات منذ أن نفاه إليها إبراهيم باشا عام 1233، وكان معه ابنه عبد اللطيف صغيرًا, ففرح الإمامُ تركي به وأكرمه، واغتبط به المسلمون الخاصُّ والعامُّ، وبذل الشيخُ مِن نفسه للطالبين، فانتفع بعِلمِه كثيرٌ مِن المستفيدين.
أصدَرَ محمد علي باشا والي مصر جريدةَ (الوقائع المصرية) باللغتين العربية والتركية، وقد ظهرت فكرةُ الجريدة في الصحافة المصرية بجُهدٍ مِن الحملة الفرنسية؛ حيث أُنشِئت أوَّلُ جرَيدةٍ عَرَفَها الشعب المصري، وهي جريدة بريد مصر، التي صدرت باللغة الفرنسية في 29 أغسطس سنة 1798م، ومع جَلاء الحملة الفرنسية ومع استقرارِ الأوضاع في مصرَ بدأت فكرةُ وجود صحافة محلية والاستفادة من مطبعة بولاق. لم تكُنْ لمحمد علي سياسةٌ صحفية واضحةٌ غيرَ أنه كان شغوفًا بالاطِّلاعِ على الصحف ومعرفة ما حمَلت من آراءٍ وأخبار، فأُعجِبَ بالصحف الغربية وأصبحَت لديه رغبةٌ في التعَرُّف على أخبار الداخل والخارج، فقَرَّر إنشاء أول جريدة مصرية واعتبرها جريدةَ الحكومة الرسمية، وأمر بتهيئةِ الوسائل لنشر هذه الجريدةِ، ورسم لها خطةَ التوزيع والانتشار، وصدر أولُ عددٍ منها في 3 ديسمبر من عام 1828م، وكانت توزع على موظَّفي الدولة وضبَّاط الجيش وطلَّاب البَعَثات، وتعاقَبَ على إدارتها عددٌ من المديرين، فكان رفاعةُ الطهطاوي أوَّلَ مديرٍ لها من عام 1842، وفي عام 1880م تولى الشيخ محمد عبده رئاسةَ الوقائع المصرية، وأصبحت تصدُرُ يوميًّا عدا يوم الجمعة.
هو الأميرُ رحمةُ بن جابر بن عذبي شيخُ الجلاهمة ورئيسُهم، جعله الإمامُ سعود بن عبد العزيز حاكِمَ ساحل الدمام، وهو قُرصانٌ كويتي، من الشجعان. اشتهر بمساعدته لأهل البحرين على الخلاصِ من الاحتلال الفارسي عام 1782م، فجعلوا له حصةً مما يحصُلون عليه من اللؤلؤ. ثم توقَّفوا. هاجر إلى دارين واحترف القرصنة 1802 م فكان له أسطولٌ قوامه خمسُ سفن. يزيدُ بحَّارتُها على الألف بحَّار. أخذ يعترض سفُنَ الغوَّاصين ولا سيما أهل البحرين والسُّفُن البريطانية، فيستولي على ما يتيسَّرُ. وضَجَّ منه عمَّالُ الإنكليز في الخليج، وحالفَ آل سعود 1809م إلى أن فَصَله عنهم موظَّفو الحكومة العثمانية 1816م ومنحوه ملكية ساحل الدمام ونصَّبوه أميرًا على خور حسن شمالي الزبارة في قطر، فبنى لنفسه قلعةً في الدمام 1818م وتواصلت معارِكُه مع أهل البحرين وغيرهم، وفي هذا العام جرت واقعة (تنورة) البحرية بين رحمة ومن معه من رعايا آل سعود، وبين آلِ خليفة أمراء البحرين ومن معهم من آل صباح أمراء الكويت، وكانت المعركةُ من العنف لدرجة أن ميازيب السفن سالت دمًا، ويقَدَّرُ عدد القتلى بألف وخمسمائة قتيل، في عدادهم دعيج صاحب الكويت، وراشد بن عبد الله آل خليفة، وشبَّت النارُ في سبع سفن، فانفجرت فيها مخازِنُ البارود وتطايرت أقسامها ومن فيها، وكان رحمة بين القتلى. قال أحد كتَّابِ الإنكليز "إن رحمة أنجَحُ وأجرَأُ قرصان عرَفَتْه البِحارُ على الإطلاق". وكان رحمة كثيرَ اللَّهج بالأشعارِ لا سيما أشعارُ الحرب والحماسة، وله شعرٌ جَيِّدٌ، وله محبَّةٌ لأهل دعوة التوحيد، وقد نظم فيها وفي دعاتها وعلمائها شِعرًا.
هو العالم الفقيهُ الشيخ عثمان بن عبد الجبَّار بن حمد بن شبانة الوهبي التميمي، بقيَّةُ العُلماء الزُّهَّاد، ورِثَ العلمَ كابرًا عن كابر مِن آبائه وأجداده وأعمامه وإخوانه، وممَّن تعلم منهم ابنُ عمه الشيخ حمد بن عثمان بن عبد الله، والشيخ حمد التويجري، والشيخ عبد المحسن بن نشوان بن شارخ، القاضي في الكويت والزبير، والشيخ عبد العزيز بن عيد الإحسائي نزيل الدرعية، وكان الشيخ عثمان فقيهًا له قُدرةٌ على استحضار أقوال العلماء، وله معرفةٌ في التفسير والفرائض والحساب، وهو عالمُ زمانِه في المذهَبِ، لا يدانيه فيه أحدٌ، تخرَّج على يديه وانتفع به خلقٌ كثير، منهم: ابنه القاضي الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن أحمد الثميري قاضي سدير، والشيخ عثمان بن علي بن عيسى قاضي الغاط والزلفي، وغيرهم. وكان في الغايةِ مِن الوَرَعِ والعبادة والعفاف، عَيَّنه الإمام عبد العزيز بن محمد قاضيًا لعسير، وألمع عند عبد الوهاب أبو نقطة المتحَمِّي، وأقام هناك مدة ثم رجع، وأرسله الإمام عبد العزيز بن محمد أيضًا قاضيًا لعسير عند ابن حرملة وعشيرته، ثم أرسله الإمام سعود قاضيًا في عمان، وأقام في رأس الخيمة يقضي بين الناسِ ويُدَرِّس لطلابِ العلم، ثم رجع، ولَمَّا توفِّيَ عَمُّه محمد قاضي بلدان سدير، عَيَّنه الإمام سعود مكانه قاضيًا لبلدان سدير، واستمَرَّ في القضاء زمن الإمام سعود وزمن ابنه الإمام عبد الله وما بعدهما، إلى أن توفي في السابع والعشرين من هذا الشهر.
بعد أن أعلنت روسيا الحربَ على الدَّولةِ العُثمانية في شوال مِن هذا العام، اجتازت نهرَ بروت الفاصل بين الدولتين والذي يرفدُ نهر الدانوب قُربَ مَصَبِّه، واحتلت عاصمةَ إقليم البغدان ياش الواقعةَ على النهر، ثم دخلت بخارست عاصِمةَ الأفلاقِ، وجعلت على الإقليمينِ حُكَّامًا من قِبَلِها، ثم اجتازت نهرَ الدانوب واتَّجَهت جيوشُها لحصار مدينةِ فارنا الواقعةِ في بلغاريا على ساحلِ البحر الأسود، وحاصرَتْها برًّا وبحرًا، وجاءت إليها الإمداداتُ برًّا وبحرًا، ولكِنْ سَلَّمَت في النهايةِ عن طريق الخيانة بعدما يئس الروس من دخولِها، وكان تسليمُها في أول ربيع الثاني عام 1244هـ على يد يوسف باشا أحدِ القادة العثمانيين الذي التجأ أيضًا إلى بلاد الروس، وكذلك احتَلَّت روسيا مدينةَ قارص في شرق الأناضول، ثم تقدَّمت من جهةِ الغربِ واحتلَّت مدينةَ أدرنة، وخافت فرنسا وإنكلترا من أن تحتَلَّ روسيا استانبول فسارعتا للوقوفِ في وجه روسيا، وبجهودِ مملكة بروسيا عُقِدَت معاهدةُ أدرنة عام 1245هـ.
هو الإمامُ العلَّامةُ الأوحد الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، الثِّقةُ الثَّبتُ, التقي الوَرِعُ المجاهد المحتَسِب, ذو الهمة العالية والشجاعة المتناهية, الذي خَلَف والِدَه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مؤازرة الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخَلَفه في بثِّ العلم والقيام بدعوة التوحيد ونَشْرها، والدفاع عنها بالقلَمِ واللسان، والحُجَّة والبيان، وهو عالمُ نجد بعد أبيه ومُفتيها، ومَن له الفتاوى السديدة والأجوبة العديدة، والرُّدود العظيمة، ومن ضُرِبَت إليه أكبادُ الإبل مِن سائِرِ بلدان نجد، وتوالت عليه الأسئلةُ من جميع قرى نجد ومدُنِها. ولِدَ في الدرعية سنة 1165هـ ونشأ بها في كَنَف والده، وقرأ القرآنَ حتى حَفِظه ثم شرع في القراءةِ على والده، فتفَقَّه في المذاهب الإسلامية، ومهَرَ في علمي الفروع والأصول، وكان مع هذا عالِمًا بارزًا في علم التفسير والعقائد وأصول الدين، عارفًا بالحديث ومعانيه، وبالفِقهِ وأصوله، وعلم النحو واللغة، وله اليدُ الطولي في جميع العلوم والفنون، كرَّس جُهدَه وأوقف حياته على تحصيلِ العلم وتعليمه ونَشْره تدريسًا وتأليفًا، فأخذ عنه العِلمَ خلقٌ كثيرٌ من فطاحلة عُلماء نجد وجهابِذتِهم، وكان مَرجِعَ القضاة في عهد الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنِه الإمام سعود، وابنِه الإمام عبد الله، وقد ألَّف مؤلفات كثيرة، منها: جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية، ردَّ به على بعض عُلماء الزيدية الذين اعترضوا على دعوةِ التوحيد السَّلَفية، وألَّف مختَصَر السيرة النبوية في مجلَّدٍ ضخمٍ، والكلمات النافعة في المكفِّرات الواقعة، وألَّف منسكًا صغيرًا للحج، وكتب رسائِلَ وفتاوى كثيرة، وكان له دروسٌ خاصة يحضُرُها الإمام سعود عبد العزيز، وابنه الإمام عبد الله بن سعود، في الدرعية، وقد صَحِبَ الأمير سعودَ بن عبد العزيز في دخوله مكَّةَ سنة 1218، وكتب حالَ دخوله مكة المكرمة مع الأمير سعود رسالةً وإجابةً منه لِمن سأله عمَّا يعتقدونه ويدينون للهِ به، وكان مع هذا شجاعًا مِقدامًا، وقف في باب البجيري المعروف -أثناء حصار إبراهيم باشا للدرعيَّة- وشهَرَ سَيفَه وقاتل قِتالَ الأبطال قائلًا كلمته المشهورة: "بطنُ الأرض على عِزٍّ خيرٌ من ظهرِها على ذُلٍّ" وقاتَلَ حتى رد العساكِرَ وزحزحهم عن مواقِفِهم، وذلك في آخر حرب الباشا على الدرعية، ثم نقله باشا إلى مصرَ بعد ما استولى على الدرعية، وذلك سنة 1242هـ, ونقل معه ابنه عبد الرحمن، وبقي بمصر محدودَ الإقامة حتى توفِّيَ بمصر، وقد أنجب ثلاثةَ أبناء عُلَماء، هم: الشيخ سليمان، الذي قتله إبراهيم باشا في الدرعية، وعليٌّ قُتِلَ فيما بعد على يد بعض عساكرِ الترك بنجد، وعبد الرحمن نُقِلَ مع أبيه إلى مصر صغيرًا وتعلَّم بها ودرَّس برُواق الحنابلةِ.
وفيها أرخص اللهُ الأسعارَ وكَثُرت الأمطارُ وفاضت الآبارُ، فأول ما نزل الغيثُ في الموسم زرع عليه النَّاسُ، فلمَّا حُصِد الزَّرعُ ونُقِلَ في بيادره تتابَعَ الغيثُ فأعطنت الزروع، فلم يكن للناسِ شُغلٌ إلَّا نشرُها وجمعُها، واسوَدَّ التبن وتغَيَّر الحَبُّ، وأقام الناس على ذلك نحوًا من عشرين يومًا، كل يوم ينزل الحَيَا والسيلُ في آخِرِ النَّهارِ، وأوَّلُه صَحوٌ لم يُرَ عليها قزعة، فلما كبر البُسر وصار كالبندق أُصيب بدودةٍ تَضرِبُ البسرة عند القمعِ فتسقُط، وسقط ما في النخيل كله إلَّا أقلَّ قليل، وذلك في بلدان سدير وغيرها، وقُطِعت أكثَرُ عذوق النخل ولم يبقَ بها شيءٌ، والثمرة قبل ذلك في غاية الكثرة، واستمر ذلك في السنة التي تلتها، لكنه أخفُّ من التي قبلها، وظهرت أعراب الظفير على نجد، واكتالوا من بلدانِ سدير على عشرة أصواع بالريال.
طلبت إنكلترا من الدولة العثمانية في الثامن من رجب عام 1242هـ أن تتوسَّطَ الدول الأوربية النصرانية بين الدولةِ العثمانية وبين ما يتبَعُها، فرفضت الدولةُ العثمانية ذلك؛ لأنَّ هذا تدخلٌ صريح في شؤونها الداخلية، فكان هذا الرَّفضُ حُجَّةً تذرعت به لإعلان الحربِ مَرَّةً أخرى بعد أن ضَعُفت الدولة سياسيًّا، فاتفقت روسيا وفرنسا وإنكلترا في الحادي عشر من ذي الحجة على إجبارِ الدولة العثمانية لإعطاء اليونان استقلالَها على أن تدفَعَ جِزيةً سنوية يتَّفِق عليها الطرفان، وأعطِيَ الخليفة شهرًا لإيقاف الأعمالِ ضِدَّ اليونان، وإذا عجز عن ذلك أو رفَضَ فإنَّ الدُّولَ النصرانيَّةَ تتَّخِذُ ما تراه مناسبًا، ولم يعمَلِ الخليفة أيَّ عمَلٍ، وبعد شهر أمرت الدولُ الثلاث روسيا وفرنسا وإنكلترا أساطيلَها بالتوجه إلى سواحل اليونان وطلَبَت من إبراهيم باشا التوقُّفَ عن القتال، فكان جوابه أنه يتلقَّى أوامِرَه من الخليفة أو من أبيه، ومع ذلك توقف عشرين يومًا عن القتال ريثما تَصِلُ إليه التعليمات، واجتمعت أساطيلُ الدول الأوربية في ميناءِ نافارين (خليج نافارين فيلوس شرقي بيلوبونز جنوب اليونان الحالية) ودمَّرَت الأسطولَ العثماني وأكثَرَ الأسطول المصري، وقُتِلَ ما يزيد على ثلاثين ألف جنديٍّ مصري، واحتج الخليفة فلم ينفَعْه احتجاجُه، فأعلن أن َّالقتالَ دينيٌّ لا سياسي في منشورٍ أصدره للمواطنين، ودعاهم فيه للدفاع عن عقيدتِهم، وخَصَّ بذلك روسيا التي تأثَّرَت من ذلك، وأعلنت الحربَ على الدولة العثمانية في شوال من هذا العامِ، وأمر محمد علي ابنَه بالانسحابِ، وكانت القوات الفرنسية تحلُّ محَلَّ المنسحبين، ثمَّ عَقَدت الدول الثلاث مؤتمرًا في لندن ودُعِيَت إليه الدولة العثمانية فرفضت الحضورَ، فقَرَّر المؤتمر إعلانَ استقلال اليونان وحُكْمها من قِبَلِ حاكم نصراني تنتخِبُه هذه الدول ويكون تحت حمايتها وتدفَعُ جِزيةً سنوية للدولة العثمانية مقدارها خمسمائة ألف قرش، ولكِنَّ الدولة العثمانية رفضت هذه القرارات التي تتعلَّقُ بالدولة ورعاياها، ولا يحِقُّ لأحدٍ التدخُّلُ وإصدار القرارات بشأنها، وانصرفت إلى قتال الروس الذين أعلنوا الحَربَ.