كان ابتِداءُ أَمرِ المُلَثَّمِينَ، وهُم عِدَّةُ قَبائلَ يُنسَبون إلى حِمْيَر، أَشهرُها: لَمْتُونَة، ومنها أَميرُ المُسلمين يُوسف بن تاشفين، وجدالة ولمطة، وكان أوَّلُ مَسيرِهم مِن اليَمنِ، أيَّامَ أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، فسَيَّرَهُم إلى الشَّامِ وانتَقَلوا إلى مصر، ودَخَلوا المغربَ مع موسى بن نُصير، وتَوجَّهوا مع طارقِ إلى طَنجة، فأَحَبُّوا الانفِرادَ، فدَخلوا الصَّحراءَ واستَوطَنوها، فلمَّا كان هذه السَّنَة تَوجَّه رجلٌ منهم، اسمُه الجوهر -من قَبيلةِ جدالة- إلى إفريقية طالِبًا للحَجِّ، وكان مُحِبًّا للدِّينِ وأَهلِه، فلمَّا انصَرَف مِن الحَجِّ قال للفَقيهِ: ابعَثْ معي مَن يُعَلِّمُهم شَرائعَ الإسلام. يعني قَومَه في الصَّحراء، فأَرسَل معه رَجُلًا اسمُه: عبدُ الله بن ياسين الكزولي، وكان فَقِيهًا صالحًا، فلم يَقبَلوهُ فرَحَلَا عنهم، فانتهى الجوهرُ وابنُ ياسين إلى جدالة -قَبيلةِ الجوهر- فدَعاهُم عبدُ الله بن ياسين والقَبائلَ الذين يُجاوِرُونَهم إلى حُكمِ الشَّريعةِ، فمِنهم مَن أَطاعَ، ومِنهم مَن أَعرضَ وعَصى، ثم إنَّ المُخالِفين لهم تَحيَّزوا وتَجمَّعوا، فقال ابنُ ياسين للذين أطاعوا: قد وجَبَ عليكم أن تُقاتِلوا هؤلاء الذين خالَفوا الحَقَّ، وأَنكَروا شَرائعَ الإسلامِ، واسْتَعَدُّوا لِقِتالِكُم، فأَقِيموا لكم رايَةً، وقَدِّموا عليكم أَميرًا. فأَتَيَا أبا بكرِ بن عُمرَ، فعَقَدوا له البَيْعَةَ، وسَمَّاهُ ابنُ ياسين أَميرَ المُسلِمين، وعادوا إلى جدالة، وجَمَعوا إليهم مَن حَسُنَ إِسلامُه، وحَرَّضَهم عبدُ الله بن ياسين على الجِهادِ في سَبيلِ الله، وسَمَّاهُم مُرابِطين، وتَجَمَّع عليهم مَن خالَفَهُم، فلم يُقاتِلهُم المُرابِطون؛ بل استعان ابنُ ياسين وأبو بكرِ بن عُمرَ على أولئك الأَشرارِ بالمُصلِحينَ مِن قَبائلِهم، فاستَمالُوهم وقَرَّبوهُم حتى حَصَّلُوا منهم نحوَ ألفي رَجُلٍ مِن أَهلِ البَغْيِ والفَسادِ، فتَركُوهم في مَكانٍ، وخَنْدَقوا عليهم، وحَفَظوهُم، ثم أَخرجوهُم قَومًا بعدَ قَومٍ، فقَتَلوهُم، فحينئذٍ دانت لهم أَكثرُ قَبائلِ الصَّحراءِ، وهابوهُم، فقَوِيَت شَوكةُ المُرابِطين.
أُلْزِمَ الرَّوافِضُ بِتَركِ الأذانِ بحَيّ على خَيرِ العَملِ، وأُمِروا أن يُنادِي مُؤذِّنُهم في أذانِ الصُّبحِ، وبعدَ حَيَّ على الفَلاحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ مِن النَّوْم. مَرَّتينِ، وأُزِيلَ ما كان على أَبوابِ المساجدِ ومَساجِدِهم مِن كتابة: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشرِ. ودَخلَ المُنشِدونَ من بابِ البَصرَةِ إلى بابِ الكَرخِ، يُنشِدونَ بالقَصائدِ التي فيها مَدحُ الصَّحابَةِ، وذلك أنَّ نَجْمَ الرَّافِضَة اضْمَحَلَّ، لأنَّ بني بُويه كانوا حُكَّامًا، وكانوا يُقَوُّونَهُم ويَنصُرونَهُم، فزالوا وبادوا، وذَهبَت دَولتُهم، وجاء بَعدَهم قَومٌ آخرون مِن الأَتراكِ السَّلجوقِيَّة الذين يُحِبُّونَ أَهلَ السُّنَّةِ ويُوالونَهُم ويَرفَعون قَدرَهُم، واللهُ المَحمودُ أبدًا على طُولِ المَدَى. وأَمَرَ رَئيسُ الرُّؤساءِ الوالي بِقَتلِ أبي عبدِ الله بن الجَلَّابِ شَيخِ الرَّوافِض، لِمَا كان تَظاهَر به من الرَّفْضِ والغُلُوِّ فيه، فقُتِلَ على بابِ دُكَّانِه، وهَرَب أبو جَعفرٍ الطُّوسيُّ ونُهِبَت دارُه.
جاء البساسيري إلى المَوصِل ومعه نورُ الدَّولةِ دُبيس في جَيشٍ كَثيفٍ، فاقتَتَل مع صاحبِها قُريشِ بن بَدران ونَصرَهُ قُتلمشُ ابنُ عَمِّ طُغرلبك، وهو جَدُّ مُلوكِ الرُّومِ، فهَزمَهما البساسيري، وأَخذَ البَلدَ قَهْرًا، فخُطِبَ بها للعُبيديين بمصر، وكذلك خُطِبَ للمِصريِّين فيها بالكوفَةِ وواسِط وغَيرِها من البِلادِ، وعَزَمَ طُغرلبك على المَسيرِ إلى المَوصِل لِمُناجَزَةِ البساسيري فنَهاهُ الخَليفةُ عن ذلك لِضِيقِ الحالِ وغَلاءِ الأَسعارِ، فلم يَقبَل فخَرجَ بِجَيشهِ قاصِدًا المَوصِل بجَحافِلَ عَظيمةٍ، ومعهُ الفِيَلَةُ والمَنْجَنِيقَاتُ، وكان جَيشُه لِكَثرتِهم يَنهَبون القُرى، وربَّما سَطَوْا على بَعضِ الحَريمِ، فكتَبَ الخَليفةُ إلى السُّلطانِ يَنهاهُ عن ذلك، فبَعثَ إليه يَعتَذِر لِكَثرةِ مَن معهُ. ولمَّا اقتَربَ طُغرلبك مِن المَوصِل فتَحَ دُونَها بِلادًا، ثم فَتحَها وسَلَّمَها إلى أَخيهِ داودَ، ثم سار منها إلى بِلادِ بَكْرٍ ففَتحَ أَماكنَ كَثيرةً هناك.
عَمَّ الوَباءُ والقَحْطُ بغدادَ والشامَ ومِصرَ ومَكَّةَ والحِجازَ ودِيارَ بَكْرٍ والمَوْصِلَ وبِلادَ الرُّومِ وخُراسان والجِبالَ؛ وكان النَّاسُ يأكلون المَيْتَةَ، وانقَطعَ ماءُ النِّيلِ بمصر، وكان يموتُ بها في كلِّ يَومٍ عَشرةُ آلافِ إنسانٍ، ووقع بمصر أنَّ ثَلاثةَ لُصوصٍ نَقَبُوا نَقْبًا فوُجِدُوا عند الصَّباحِ مَوْتَى: أَحدُهم على بابِ النَّقْبِ، والثَّاني على رَأسِ الدَّرَجَةِ، والثَّالثُ على الكارَّةِ التي سَرقَها.
نَشبَت مَعركةٌ بين البساسيري ومعه نورُ الدَّولةِ دُبيس بن مَزْيَد، وبين قُريشِ بن بَدران، صاحبِ المَوصِل، ومعه قُتلمش، وهو ابنُ عَمِّ السُّلطانِ طُغرلبك، وهو جَدُّ هؤلاء المُلوكِ أَولادِ قِلج أرسلان، ومعه أيضًا سَهمُ الدَّولةِ أبو الفَتحِ بن عَمرٍو، وكانت الحَربُ عند سنجار، فاقتَتَلوا، فاشتَدَّ القِتالُ بينهم، فانهَزَم قُريشٌ وقُتلمش، وقُتِلَ مِن أَصحابِهما الكَثيرُ, ولَقِيَ قُتلمش مِن أَهلِ سنجار العَنَتَ، وبالغوا في أَذاهُ وأَذَى أَصحابِه، وجُرِحَ ابنُ بَدران، وأَتَى إلى نُورِ الدَّولةِ جَريحًا، فأَعطاهُ خِلْعَةً كانت قد نُفِّذَت مِن مصر، فلَبِسَها وصار في جُملتِهم، وساروا إلى المَوصِل، وخَطَبوا للحاكِم العُبيديِّ بمصر، وهو المُستَنصِر، وكانوا قد كاتَبوهُ بِطاعَتِهم له، فأَرسلَ إليهم الخِلَعَ مِن مصر للبساسيري، ولِنُورِ الدَّولةِ دُبيس بن مَزْيَد، ولِجابرِ بن ناشبٍ، ولِمُقبِل بن بَدران أخي قُريشٍ، ولأبي الفَتحِ بن ورام، ونُصير بن عُمَرَ، وأبي الحسنِ بن عبدِ الرَّحيم، ومحمدِ بن حمَّاد، وانضاف إليهم قُريشُ بن بَدران.
وقعَ غَلاءٌ وفَناءٌ عَظيمان ببغداد وغَيرِها مِن البلادِ، بحيث خَلَتْ أَكثرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ على أَهلِها أَبوابُها بما فيها، وأَهلُها مَوتى فيها، ثم صار المارُ في الطَّريقِ لا يَلقى الواحدَ بعدَ الواحدِ، وأكلَ النَّاسُ الجِيَفَ والنَّتَنَ مِن قِلَّةِ الطَّعامِ، ووُجِدَ مع امرأةٍ فَخِذُ كَلْبٍ قد اخْضَرَّ, وشَوَى رَجلٌ صَبِيَّةً في الأَتُونِ وأَكَلَها، وسَقطَ طائرٌ مَيِّتٌ مِن حائطٍ فاحْتَوَشَتْهُ خمسُ أَنفُسٍ فاقتَسموهُ وأَكلوهُ. قال ابنُ الجوزي يَصِفُ خبرَ هذا الوباءِ: " في جُمادى الآخِرة: وَردَ كِتابٌ مِن تُجَّارِ ما وَراءَ النَّهرِ قد وقع في هذه الدِّيارِ وَباءٌ عَظيمٌ مُسرِفٌ زَائِدٌ عن الحَدِّ، حتى أنَّه خَرجَ من هذا الإقليمِ في يَومٍ واحدٍ ثمانية عشر ألف جِنازةٍ، وأحصى مَن مات إلى أن كُتِبَ هذا الكِتاب فكانوا ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألفًا، والنَّاسُ يَمُرُّون في هذه البلادِ فلا يَرونَ إلَّا أسواقًا فارغةً، وطُرقاتٍ خاليةً، وأبوابًا مُغلقةً، حتى إنَّ البَقرَ نَفَقَت. وجاء الخَبرُ من أذربيجان وتلك البلادِ بالوباءِ العظيمِ، وأنَّه لم يَسْلَم من تلك البلادِ إلا العَددُ اليَسيرُ جدًّا. وَقعَ وباءٌ بالأهواز وبواط وأَعمالِها وغَيرِها، حتى طَبَقَ البلادَ، وكان أكثرَ سَببِ ذلك الجوعُ، كان الفقراءُ يَشوون الكِلابَ، ويَنبُشون القُبورَ، ويَشوون المَوتى ويَأكلُونهم، وليس للناسِ شُغلٌ في اللَّيلِ والنَّهارِ إلا غَسلُ الأمواتِ وتَجهيزُهُم ودَفنُهُم، فكان يُحفَر الحُفَير فيُدفَن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسانُ بينما هو جالس إذ انشَقَّ قَلبُه عن دَمِ المُهْجَةِ، فيَخرُج منه إلى الفَمِ قَطرةٌ فيموتُ الإنسانُ مِن وَقتِه، وتاب النَّاسُ، وتَصدَّقوا بأَكثرِ أَموالِهم فلم يَجِدوا أحدًا يَقبَل منهم، وكان الفَقيرُ تُعرَض عليه الدَّنانيرُ الكَثيرة والدَّراهِم والثِّياب فيقول: أنا أُريدُ كَسرةً، أُريدُ ما يَسُدُّ جُوعي. فلا يجد ذلك، وأَراقَ النَّاسُ الخُمورَ وكَسَروا آلات اللَّهوِ، ولَزِموا المساجِدَ للعِبادةِ وقِراءةِ القُرآن, وفي يومِ الأربعاءِ لِسَبعٍ بَقِينَ مِن جُمادى الآخرة احتَرقَت قَطِيعةُ عيسى، وسُوقُ الطَّعامِ، والكَنِيسُ، وأَصحابُ السَّقْطِ، وبابُ الشَّعيرِ، وسُوقُ العَطَّارين، وسُوقُ العَروسِ، والأَنماطِيِّين، والخَشَّابين، والجَزَّارين، والتَّمَّارين، والقَطيعَةُ، وسُوقُ مُخَوَّل، ونَهرُ الزُّجاجِ، وسُوَيْقَةُ غالبٍ، والصَّفَّارين، والصَّبَّاغين، وغَيرُ ذلك مِن المواضع، وهذه مُصيبةٌ أُخرى إلى ما بالنَّاسِ مِن الجُوعِ والغَلاءِ والفَناءِ، فضَعُفَ النَّاسُ حتى طَغَت النَّارُ فعَمِلَت أَعمَالَها، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
هو شَيخُ الآدابِ، أبو العلاء أَحمدُ بن عبدِ الله بن سُليمانَ المَعَرِّي التَّنوخي الشاعر، اللُّغويُّ، صاحبُ الدَّواوين والمُصَنَّفات في الشِّعرِ واللُّغةِ، المشهور بالزَّندقَةِ، وُلِدَ سنة 363هـ, وأصابهُ جُدَري وله أربعُ سِنين أو سَبع، فذَهبَ بَصرهُ، وقال الشِّعْرَ وله إحدى أو ثنتا عشرة سَنة، ودخلَ بغداد سنةَ تِسعٍ وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنةً وسبعةَ أَشهُر، ثم خَرجَ منها طَريدًا مُنهزِمًا، لمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أَخذِه ببَعضِ أَشعارهِ الدَّالةِ على فِسْقِه، هَرَب ورَجَع إلى بَلدِه، ولَزِمَ مَنزِلَه فكان لا يَخرُج منه، وسَمَّى نَفسَه: رَهينَ المَحْبَسَينِ لذلك ولِذهابِ بَصرِه, وقد كان المَعَرِّي غايةً في الذَّكاءِ المُفرِط، ومَكَثَ المَعَرِّي خمسًا وأربعين سنةً من عُمُرِه لا يأكلُ اللَّحمَ ولا اللَّبَنَ ولا البَيْضَ، ولا شيئًا مِن حَيوانٍ، على طَريقَةِ البَراهِمَة الفَلاسِفَة، ويُقال: "إنَّه اجتَمَع بِراهبٍ في بَعضِ الصَّوامِع في مَجيئِه من بَعضِ السَّواحِل آواهُ اللَّيلَ عنده، فشَكَّكَهُ في دِينِ الإسلام" فكان لا يَتَقَوَّتُ إلَّا بالنَّباتِ وغَيرِه، وأَكثرُ ما كان يأكلُ العَدسَ، ويَتَحَلَّى بالدِّبْسِ وبالتِّينِ، وكان لا يأكل بِحَضرَةِ أَحدٍ، ويقول: أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب. قال ابنُ كَثيرٍ: "كان ذَكِيًّا ولم يكن زَكِيًّا، وله مُصنفاتٌ كَثيرةٌ أَكثرُها في الشِّعْرِ، وفي بَعضِ أَشعارِه ما يَدلُّ على زَندَقتِه، وانحِلالِه مِن الدِّين، ومن الناسِ مَن يَعتَذِر عنه ويقول: إنَّه إنمَّا كان يقول ذلك مُجونًا ولَعِبًا، ويقول بلِسانِه ما ليس في قَلبِه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا"، قال أبو الوفاء ابن عَقيلٍ شيخُ الحنابلة: "مِن العجائبِ أنَّ المَعَرِّي أَظهرَ ما أَظهرَ مِن الكُفرِ الباردِ، وسَقَطَ مِن عُيونِ الكُلِّ، ثم اُعتُذِرَ بأن لِقَولهِ باطِنًا، وأنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ، لأنَّه تَظاهَر بالكُفرِ وزَعَم أنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، وهذا عَكسُ قضايا المُنافِقين والزَّنادِقة، حيث تَظاهَروا بالإسلامِ وأَبطَنوا الكُفرَ، فهل كان في بلادِ الكُفَّارِ حتى يحتاج إلى أن يُبطِنَ الإسلام، فلا أَسخَف عَقلًا ممَن سَلكَ هذه الطَّريقَة التي هي أَخَسُّ مِن طَريقةِ الزَّنادِقة والمُنافِقين، إذا كان المُتَدَيِّن يَطلُب نَجاةَ الآخِرةِ، والزِّنديق يَطلُب النَّجاةَ في الدُّنيا، وهو جَعلَ نَفسَه عُرضةً لإهلاكِها في الدنيا حين طَعَنَ في الإسلامِ في بلادِ الإسلامِ، وأَبطَن الكُفرَ، وأَهلكَ نَفسَه في المَعادِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ" قال ابنُ الجوزيُّ: "وقد رَأيتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كِتابًا سَمَّاهُ (الفُصول والغايات)، يُعارض به السِّور والآيات، وهو كَلامٌ في نِهايةِ الرَّكَّةِ والبُرودةِ، فسبحان مَن أَعمَى بَصرَهُ وبَصيرتَهُ، وقد ذَكرهُ على حُروفِ المُعجَم في آخرِ كِلماتِه"، قال ابنُ كَثيرٍ: "وقد أَورَد ابنُ الجوزي من أَشعارِه الدَّالَّةِ على استِهتارِه بِدِينِ الإسلامِ أَشياءً كَثيرةً تَدُلُّ على كُفرِه؛ بل كلُّ واحدةٍ مِن هذه الأشياءِ تَدُلُّ على كُفرِه وزَندقَتِه وانحِلالِه، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّه أَقلَع عن هذا كُلِّه وتاب منه وأنَّه قال قَصيدةً يَعتذِر فيها مِن ذلك كُلِّه، ويَتنَصَّل منه، ومنهم مَن قال: بل كلُّ ذلك مَدسوسٌ عليه مِن قِبَلِ حُسَّادِه وَهُم كُثُر. بل أَلَّفَ ابنُ العديم كِتابًا في الدِّفاعِ عنه، وللمَعَرِّي (دِيوانُ اللُّزومِيَّات)، و(سِقْطُ الزَّنْدِ) و(رِسالةُ الغُفران)"، قال الباخرزي: "أبو العلاء ضَريرٌ ما له ضَريبٌ، طال في ظِلِّ الإسلامِ آناؤهُ، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبرُ بَصرِه، والله العالم بِبَصيرَتِه والمُطَّلِع على سَريرَتِه، وإنمَّا تَحدَّثت الأَلسُنُ بإساءتِه بكِتابِه الذي عارَضَ به القُرآنَ، وعَنْوَنَهُ: (الفُصولُ والغايات في مُحاذاةِ السُّوَرِ والآيات)", وقال غَرسُ النِّعمَة محمدُ بن هلالِ بن المُحسِن بن إبراهيمَ الصابئ عنه: "له شِعْرٌ كَثيرٌ، وأَدَبٌ غَزيرٌ، ويُرمَى بالإلحادِ، وأَشعارُه دَالَّةٌ على ما يُتَّهَمُ به" قال أبو زكريا التِّبريزي: "لمَّا قَرأتُ على أبي العَلاءِ بالمَعَرَّةِ قوله:
تَناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
وأن نَعوذُ بمولانا مِن النَّارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئٍ مِن عَسْجَدٍ وُدِيَت
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ؟
سَألتُه، فقال: هذا كَقولِ الفُقهاءِ: عِبادَةٌ لا يُعقَل مَعناها". قال الذَّهبيُّ: لو أراد ذلك؛ لقال: تَعَبُّد، ولَمَا قال: تَناقُض, ولِمَا أَردَفهُ ببَيتٍ آخرَ يَعترِض على رَبِّه, وبإسنادي قال السَّلفيُّ: إن كان قاله مُعتَقِدًا مَعناهُ، فالنَّارُ مَأْواهُ، وليس له في الإسلامِ نَصيبٌ". تُوفِّي في المَعَرَّةِ مَعَرَّةِ النُّعمانِ، وفيها دُفِنَ عن عُمُرٍ 86 عامًا.
فارَقَ إبراهيمُ ينال المَوصِل نحوَ بلادِ الجَبلِ، فنَسَبَ السُّلطانُ طُغرلبك رَحيلَه إلى العِصيانِ، فأَرسَل إليه رَسولًا يَستَدعِيه، وكَتبَ الخَليفةُ إليه أيضًا كِتابًا في المعنى، فرَجعَ إبراهيمُ إلى السُّلطانِ، وهو ببغداد، ولمَّا فارَق إبراهيمُ المَوصِل قَصدَها البساسيري، وقُريشُ بن بَدران، وحاصَراها، فمَلَكا البلدَ, وبَقِيَت القَلعةُ، وبها الخازِنُ، وأردمُ، وجماعةٌ مِن العَسكرِ، فحاصَراها أَربعةَ أَشهُر حتى أَكلَ مَن فيها دَوابَّهُم، فخاطَب ابنُ موسك صاحبُ إربل قُريشًا حتى أَمَّنَهم فخَرَجوا، فهَدَم البساسيري القَلعةَ، وعَفَى أَثرَها، وكان طُغرلبك قد فَرَّقَ عَسكرَه في النوروز، وبَقِيَ جَريدةً -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في ألفي فارسٍ حين بَلغهُ الخَبرُ، فسار إلى المَوصِل فلم يجد بها أَحدًا، وكان قُريشٌ والبساسيري قد فارَقاها، فسار طُغرلبك إلى نُصَيبين لِيَتَتَبَّع آثارَهم ويُخرِجَهم من البلادِ، ففارَقه أَخوهُ إبراهيمُ ينال، وسار نحوَ همذان، فوَصَلها في السادسِ والعشرين من رمضان سنة 450هـ، وكان قد قِيلَ: إنَّ المِصريِّين كاتَبوهُ والبساسيري قد استَمالهُ وأَطمعَهُ في السَّلطَنةِ والبلادِ، فلمَّا عاد إلى همذان سار طُغرلبك في أَثَرِه.
هو الإمامُ العَلَّامةُ، أَقضى القُضاةِ، أبو الحسنِ عَلِيُّ بن محمدِ بن حَبيبٍ، المَاوَردِي البَصري، شَيخُ الشَّافعيَّة، كان من وُجوهِ الفُقهاءِ الشَّافعيَّة ومن كِبارِهم، أَخذَ الفِقهَ عن أبي القاسم الصيمري بالبَصرةِ، ثم عن الشيخ أبي حامِد الإسفرايني ببغداد، صاحبِ التَّصانيفِ الكَثيرةِ في الأُصولِ والفُروعِ والتَّفسيرِ والأَحكامِ السُّلطانيَّة، وأَدَبِ الدُّنيا والدِّين، قال الماوردي: "بَسَطتُ الفِقهَ في أَربعةِ آلافِ وَرقةٍ وقد اختَصرتُه في أَربعينَ" قال ابنُ الجوزي: "يُريدُ بالمَبسوطِ الحاويَ، وبالمُختَصَرِ الإقناعَ" كان أَديبًا حَليمًا وَقورًا، مُتَأَدِّبًا لم يَرَ أَصحابُه ذِراعَه يومًا من الدَّهرِ مِن شِدَّةِ تَحَرُّزِهِ وأَدبِه، وكان ثِقةً صالحًا، حافظًا للمَذهَبِ وله فيه كتاب "الحاوي الكبير" الذي لم يُطالِعهُ أَحدٌ إلا وشَهِدَ له بالتَّبَحُّرِ والمَعرفةِ التَّامَّةِ بالمَذهبِ. وفُوِّضَ إليه القَضاءُ بِبُلدانٍ كَثيرةٍ، واستَوطَن بغداد في دَربِ الزَّعفراني، ورَوى عنه الخَطيبُ أبو بكرٍ صاحبُ "تاريخ بغداد" وقال: كان ثِقةً. وله من التَّصانيف غير "الحاوي" "تفسير القرآن الكريم" و"النُّكَت والعُيون" و"أدب الدِّين والدنيا" و"الأحكام السلطانية" و"قانون الوزارة" و"سياسة المُلْكِ" و"الإقناع" في المَذهَب، وهو مُختصَر، وغير ذلك، وصَنَّفَ في أُصولِ الفِقهِ والأَدبِ وانتفع النَّاسُ به. وقد وَلِيَ الحُكمَ في بلادٍ كَثيرةٍ، وكان ذا حَظوَةٍ عند الخَليفةِ وعند بني بُويه، توفِّي عن سِتٍّ وثمانين سَنةٍ، ودُفِنَ ببابِ حَربٍ.
لمَّا خَرجَ طُغرلبك من بغداد خَلْفَ أَخيهِ إبراهيمَ ينال استَغلَّ الفُرصةَ البساسيري، فلمَّا كان يومُ الأحدِ الثامن من ذي القعدة جاء إلى بغداد ومعه الرَّاياتُ البِيضُ المِصريَّةُ العُبيدِيَّةُ، وعلى رَأسِه أَعلامٌ مَكتوبٌ عليها اسمُ المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ، أَميرُ المؤمنين، فتَلقَّاهُ أَهلُ الكَرخِ الرَّافِضَةُ وسَألوهُ أن يَجتازَ من عندهم، فدَخلَ الكَرخَ وخَرجَ إلى مشرعةِ الزَّاويا، فخَيَّمَ بها والنَّاسُ إذ ذاك في مَجاعةٍ وضُرٍّ شَديدٍ، ونَزلَ قُريشُ بن بَدران وهو شَريكُ البساسيري في هذه الفِتنةِ، في نحوٍ مِن مائتي فارسٍ على مشرعةِ بابِ البَصرةِ، وكان البساسيري قد جَمعَ العَيَّارِينَ وأَطمَعَهُم في نَهبِ دارِ الخِلافةِ، ونَهَبَ أَهلُ الكَرخِ مِن الشِّيعةِ دُورَ أَهلِ السُّنَّةِ ببابِ البَصرةِ، ونُهِبَت دارُ قاضي القُضاة الدَّامغاني، وتملك وهلك أَكثرُ السِّجِلَّاتِ والكُتبِ الحُكمِيَّة، وبِيعَت للعطَّارِين، ونُهِبَت دُورُ المُتعلِّقِين بخِدمةِ الخَليفةِ، وأَعادَت الرَّوافضُ الأذانَ بحيَّ على خَيرِ العَملِ، وأُذِّنَ به في سائرِ نواحي بغداد في الجُمُعاتِ والجَماعاتِ وخُطِبَ ببغداد للمُستَنصِر العُبيدي على مَنابِرِها، وضُربَت له السِّكَّةُ على الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وحُوصِرَت دارُ الخِلافةِ، فدافَع الوزيرُ أبو القاسم بن المسلمة المُلَقَّب برَئيسِ الرُّؤساءِ، بمن معه من المُستَخدِمين دون دارِ الخِلافةِ, فلم يُفِد ذلك شيئًا، فرَكِبَ الخَليفةُ بالسَّوادِ والبُردَةِ، وعلى رَأسِه اللِّواءُ وبِيَدِه سَيفٌ مُصَلَّتٌ، وحولَه زُمرةٌ مِن العبَّاسيِّين والجواري حاسِراتٌ عن وُجوهِهنَّ، ناشِراتٌ شُعورِهِنَّ، ومَعهُنَّ المصاحِفُ على رُؤوسِ الرِّماحِ، وبين يَديهِ الخَدَمُ بالسُّيوفِ، ثم إنَّ الخَليفةَ أَخذَ ذِمامًا من أَميرِ العَربِ قُريشٍ لِيَمنَعهُ وأَهلَهُ ووَزيرَهُ ابن المسلمة، فأَمَّنَهُ على ذلك كُلِّه، وأَنزلَه في خَيمةٍ، فلامَهُ البساسيري على ذلك، وقال: قد عَلِمتَ ما كان وقعَ الاتفاقُ عليه بيني وبينك، من أنَّك لا تَبُتَّ برَأيٍ دُوني، ولا أنا دُونكَ، ومهما مَلكْنَا بيني وبينك. ثم إن البساسيري أخذَ القاسمَ بن مَسلمةَ فوَبَّخَهُ تَوبيخًا مُفضِحًا، ولامَهُ لَومًا شَديدًا ثم ضَربهُ ضَربًا مُبرِحًا، واعتَقلهُ مُهانًا عنده، ونَهبَت العامَّةُ دارَ الخِلافةِ، ثم اتَّفقَ رأيُ البساسيري وقُريشٍ على أن يُسَيِّروا الخليفةَ إلى أَميرِ حَديثَةِ عانَة، وهو مهارش بن مجلي النَّدوي، وهو مِن بني عَمِّ قُريشِ بن بدران، وكان رجلًا فيه دِينٌ وله مُروءةٌ، فلمَّا بلغ ذلك الخَليفةَ دَخلَ على قُريشٍ أن لا يخرج من بغداد فلم يَفِد ذلك شيئًا، وسَيَّرَهُ مع أَصحابِهما في هَودَج إلى حَديثَةِ عانَة، فكان عند مهارش حَولًا كامِلًا، وليس معه أَحدٌ من أَهلِه، وأما البساسيري، وما اعتَمدَهُ في بغداد، فإنَّه رَكِبَ يومَ عيدِ الأضحى وأَلبَس الخُطباءَ والمُؤذِّنينَ البَياضَ، وكذلك أَصحابَه، وعلى رَأسِه الأَلوِيَةُ العُبيديَّة المِصريَّة، وخَطَب للمُستَنصِر العُبيدي المِصري، وانتَقَم البساسيري من أَعيانِ أَهلِ بغداد انتِقامًا عَظيًما، وغَرَّقَ خَلْقًا ممن كان يُعادِيه، وبَسَطَ على آخرين الأرزاقَ ممن كان يُحبُّه ويُواليه، وأَظهرَ العَدلَ، ثم إنَّه عَلَّقَ ابنَ المسلمة رَئيسَ الرُّؤساءِ بِكَلُّوبٍ في شِدْقَيْهِ، ورُفِعَ إلى الخَشبةِ، إلى أن مات.
قَصدَ يُوسفُ بن تاشفِين الملتوني اللَّمْتُوني أَميرُ المُرابِطين مَوضِعَ مَدينةِ مَراكِش، وهو قاعٌ صَفْصَفٌ، لا عِمارةَ فيه، وهو مَوضِعٌ مُتوسِّطٌ في بِلادِ المَغربِ كالقَيروانِ في إفريقية، فاخْتَطَّ هناك مَدينةَ مَراكِش لِيَقوَى على قَمعِ أَهلِ تلك الجِبالِ إن هَمُّوا بفِتنةٍ، فجعلها يُوسفُ مَقَرًّا له ولِعَسكرِهِ وللتمترّس للتَّتَرُّسِ بقَبائلِ المَصامِدَة المصيفة بمَواطنِهم بها في جَبلِ درن، فلم إذ لم يكن في قبائل المغرب أشدُّ منهم، ولا أَكثرُ جَمْعًا، وأَمنعُهم مَعْقَلًا, ونَزلَها بالخِيامِ وأَدارَ سُورهَا على مَسجدٍ وقَصبَةٍ صَغيرةٍ لاختِزانِ أَموالِه وسِلاحِه،، فلم يَتحرَّك أَحدٌ مِن تلك القَبائل بفِتنةٍ، ومَلَكَ البِلادَ المُتَّصِلَة بالمَجازِ مثل سَبْتَة، وطَنْجَة، وسلا، وغَيرَها، وكَثُرت عَساكرُه, وكَمَّل تَشييدَها وأَسوارَها عَلِيُّ بنُ يُوسف بن تاشفين من بَعدِه سَنةَ 526هـ, وقِيلَ: بدأَ ببِنائِها أبو بكرِ بن عُمرَ وأَكملَ بِناءَها يُوسفُ بن تاشفين. وقِيلَ: إن بِناءَها سَنةَ 454هـ.
احتَرقَت بغداد، الكَرخُ وغَيرهُ، وبين السُّورَينِ، واحتَرقَت فيه خَزانَةُ الكُتُبِ التي وَقَفَها أردشيرُ الوزيرُ، ونُهِبَت بَعضُ كُتُبِها، وجاء عَميدُ المُلْكِ الكندريُّ، فاختارَ من الكُتُبِ خَيرَها، وكان بها عَشرةُ آلاف وأربعمائة مُجلَّد من أَصنافِ العُلومِ، منها مائةُ مُصحَفٍ بخُطوطِ ابنِ مُقْلَة، وكان العامَّةُ قد نَهَبوا بَعضَها لمَّا وَقعَ الحَريقُ، فأَزالَهم عَميدُ المُلْكِ، وقَعدَ يَختارُها، فنُسِبَ ذلك إلى سُوءِ سِيرَتِه، وفَسادِ اختِيارِه، وشَتَّانَ بين فِعلِه وفِعلِ نِظامِ المُلْكِ الذي عَمَّرَ المَدارِسَ، ودَوَّنَ العِلمَ في بِلادِ الإسلامِ جَميعِها، ووَقَفَ الكُتُبَ وغَيرَها.
هو المَلِكُ فَرَّخ زاد بن مسعودِ بن محمودِ بن سُبكتكين، صاحبُ غَزنَة، كان مَلِكًا شُجاعًا مَهيبًا، واسعَ البِلادِ. وكان قد ثار به مَماليكُه سَنةَ خمسين وأربعمائة واتَّفَقوا على قَتلِه، فقَصَدوهُ وهو في الحَمَّامِ، وكان معه سَيفٌ، فأَخذَهُ وقاتَلَهم، ومنعهم عن نَفسِه حتى أَدرَكهُ أَصحابُه وخَلَّصوهُ، وقَتَلوا أولئك الغِلمانَ. وصار بعد أن نَجا من هذه الحادِثَةِ يُكثِر ذِكْرَ الموتِ ويَحتَقِر الدُّنيا ويَزدَريها، وبَقِيَ كذلك إلى هذه السَّنَةِ، فأَصابهُ قولنج فمات منه، ومَلَكَ بعدهُ أَخوهُ إبراهيمُ بن مسعودِ بن محمود، فأَحسنَ السِّيرةَ، فاستَعَدَّ لجِهادِ الهِندِ، ففَتحَ حُصونًا امتَنعَت على أَبيهِ وجَدِّهِ، وكان يَصومُ رَجبًا وشَعبانَ ورَمضان.
كان السُّلطانُ طُغرلبك في قِلَّةٍ مِن العَسكرِ، بينما إبراهيمُ ينال كان قد اجتَمعَ معه كَثيرٌ من الأَتراكِ، وحَلفَ لهم أنَّه لا يُصالِح أَخاهُ طُغرلبك، ولا يُكَلِّفُهم المَسيرَ إلى العراقِ، وكانوا يَكرهونَه لِطُولِ مَقامِهم وكَثرةِ إخراجاتِهم، فلم يَقوَ به طُغرلبك، وأتى إلى إبراهيمَ محمدٌ وأَحمدُ ابنا أَخيهِ أرتاش في خَلْقٍ كَثيرٍ، فازداد بهم قُوَّةً، وازداد طُغرلبك ضَعْفًا، فانزاحَ من بين يَديهِ إلى الرَّيِّ، وكاتَبَ ألبَ أرسلان وإخوتَه وهُم أولادُ أَخيهِ داودَ، يَستَدعِيهم إليه، فجاؤوا بالعَساكِر الكَثيرةِ، فلَقِيَ إبراهيمَ بالقُربِ مِن الرَّيِّ، فانهزَمَ إبراهيمُ ومن معه وأُخِذَ أَسيرًا هو ومحمدٌ وأَحمدُ وَلَدا أَخيهِ، فأَمَرَ به فخُنِقَ بِوَتَرِ قَوسِه تاسعَ جُمادى الآخِرة، وقَتَلَ وَلَدا أَخيهِ معه، وكان إبراهيمُ قد خَرجَ على طُغرلبك مِرارًا، فعَفَا عنه، وإنَّما قَتلهُ في هذه الدَّفعةِ لأنَّه عَلِمَ أنَّ جميعَ ما جَرى على الخَليفةِ كان بِسَببهِ، فلهذا لم يَعْفُ عنه، ولمَّا قَتَلَ إبراهيمَ أَرسلَ طُغرلبك إلى هزارسب بالأهوازِ يُعرِّفهُ ذلك، وعنده عَميدُ المُلْكِ الكندرِيُّ، فسار إلى السُّلطانِ.
تُوفِّي جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق، أخو السُّلطانِ طُغرلبك، وقِيلَ: كان مَوتُه في صفر سنة 452هـ، وعُمُرُه نحوَ سبعين سَنةٍ، وكان صاحبَ خُراسان، وهو مُقابلَ آل سُبكتكين ومُقاتِلُهم، ومانِعُهم عن خُراسان، فلمَّا تُوفِّي مَلَكَ بَعدهُ خُراسانَ ابنُه السُّلطانُ ألب أرسلان.
لمَّا فَرغَ السُّلطانُ طُغرلبك مِن أَمرِ أَخيهِ إبراهيمَ ينال عاد يَطلُب العِراقَ، فأَرسلَ إلى البساسيري وقُريشٍ في إعادةِ الخَليفةِ إلى دارهِ على أن لا يَدخُل طُغرلبك العِراقَ، ويَقنَع بالخُطبةِ والسِّكَّةِ، فلم يُجِب البساسيري إلى ذلك، فرَحلَ طُغرلبك إلى العِراقِ، فانحَدرَ حَرَمُ البساسيري وأَولادُه، ورَحلَ أَهلُ الكَرخِ بنِسائِهم وأَولادِهم في دِجلةَ وعلى الظَّهرِ، وكان دُخولُ البساسيري وأَولادِه بغداد سادِسَ ذي القعدةِ سَنةَ خمسين وأربعمائة، وخَرَجوا منها سادِسَ ذي القعدة سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة، ووَصلَ طُغرلبك إلى بغداد، ثم قام طُغرلبك على إعادةِ الخَليفةِ إلى بغداد، ثم اعتَذرَ من الخَليفةِ على التَّأَخُّرِ وقال: أنا أمضي خَلفَ هذا الكَلبِ -يعني البساسيري- وأَقصُدُ الشَّامَ، وأَفعلُ في حَقِّ صاحبِ مِصر ما أُجازي به فِعلَه. وقَلَّدَهُ الخَليفةُ بِيَدهِ سَيفًا، وعَبَرَ السُّلطانُ إلى مُعسكَرهِ، وكانت السَّنَةُ مُجْدِبَةً، ولم يَرَ النَّاسُ فيها مَطرًا.
هو أبو الحارثِ أرسلانُ بن عبدِ الله البساسيري مَملوكٌ تُركيٌّ، مُقَدَّمُ التُّركِ ببغداد، وهو الذي خَرجَ على الخَليفةِ القائمِ بأَمرِ الله ببغداد، وكان قد قَدَّمَهُ على جَميعِ التُّركِ، وقَلَّدَهُ الأمور بأَسرِها، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ وخوزستان، فعَظُمَ أَمرُه وهابَتهُ المُلوكُ، ثم خَرجَ على الخَليفةِ القائمِ، في فِتنةٍ عَظيمةٍ شارَكهُ فيها قُريشُ بنُ بَدران العُقيليُّ، وخَطبَ البساسيري للمُستَنصِر العُبيدي الفاطِمي صاحبِ مِصر، ثم أَخرَج الخَليفةَ القائمَ بالله القائم بأمر الله إلى أَميرِ العَربِ مُحيي الدِّين أبي الحارثِ مهارش بن مجلي النَّدوي صاحبِ الحَديثَةِ وعانَة –أخو قُريشِ بنِ بَدران- فآواهُ وقام بجَميعِ ما يَحتاجُ إليه مُدَّةَ سَنَةٍ كاملةٍ حتى جاء طُغرلبك السلجوقي, فقاتل البساسيري, وقَتلهُ وعاد القائمُ بأَمرِ الله إلى بغداد، وكان دُخولُه إليها في مِثلِ اليَومِ الذي خَرجَ منها بعدَ حَوْلٍ كاملٍ، ثم حَملَ عَسكرُ طُغرلبك على البساسيري،حتى سَقطَ عن الفَرَسِ، ووَقعَ في وَجهِه ضَربةٌ، ودَلَّ عليه بَعضُ الجَرْحَى، فأَخذهُ كمشتكين دواتي عَميدُ المُلْكِ الكندريُّ وقَتلَهُ، وحَملَ رَأسَه إلى السُّلطانِ طُغرلبك، ودَخلَ الجُنْدُ في الظَّعْنِ، فساقُوهُ جَميعَه، وأُخذِت أَموالُ أَهلِ بغداد المَنهوبةُ وأَموالُ البساسيري مع نِسائِه وأَولادِه، وهَلكَ مِن النَّاسِ الخَلْقُ العَظيمُ، وأَمرَ السُّلطانُ بِحَملِ رَأسِ البساسيري إلى دارِ الخِلافةِ، فحُمِلَ إليها، فوَصلَ مُنتصفَ ذي الحجَّةِ سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة، فنُظِّفَ وغُسِلَ وجُعِلَ على قَناةٍ وطِيفَ به، وصُلِبَ قُبالةَ بابِ النوبي، وكان في أَسْرِ البساسيري جَماعةٌ مِن النِّساءِ المُتَعَلِّقات بدارِ الخِلافةِ، فأُخِذْنَ، وأُكرِمْنَ، وحُمِلْنَ إلى بغداد. كان البساسيري من مماليك بهاءِ الدَّولةِ بن عَضُدِ الدَّولةِ البويهي، تَقَلَّبت به الأُمورُ حتى بلغَ هذا المقامَ المشهورَ، وهو مَنسوبٌ إلى بَسَا مدينةٍ بفارس.
بعدَ أن فَرغَ طُغرلبك من أَخيهِ إبراهيمَ وغيرِ ذلك من المَشاغلِ أَسرعَ بالعَوْدِ إلى بغداد وليس له هم إلَّا إِعادةُ الخَليفةِ لدارهِ، وكان قد راسلَ البساسيري على أن يُعيدوا الخَليفةَ ويَقنَع هو بعَدمِ العَودةِ إلى بغداد فلم يَرضَ البساسيري، فتَمكَّنَت عَساكرُ طُغرلبك مِن قَتلِه في ذي الحجَّةِ سَنةَ451هـ. أَرسلَ طُغرلبك مِن الطَّريقِ الإمامَ أبا بكرٍ أحمدَ بن محمدِ بن أيوبَ المعروف بابنِ فورك، إلى قُريشِ بن بَدران يَشكُرهُ على فِعلِه بالخَليفةِ، وحِفظِه على صِيانَتِه ابنةِ أَخيهِ امرأةِ الخليفةِ، ويُعرِّفهُ أنَّه قد أَرسلَ أبا بكرِ بن فورك للقيامِ بخِدمةِ الخليفةِ، وإحضارِهِ، وإحضارِ أرسلان خاتون ابنةِ أَخيهِ امرأةِ الخليفةِ، ولمَّا سَمِعَ قُريشٌ بِقَصدِ طُغرلبك العِراقَ أَرسلَ إلى مهارش بن مجلي الندوي يُحَرِّضُهُ على عَدمِ تَسليمِ الخَليفةِ حتى يَستَطيعوا أن يَشرُطوا ما يريدون؛ لكنَّهُ أَبَى عليهم ذلك، وسار مهارش ومعه الخليفةُ حادي عشر ذي القعدةِ سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العِراقِ، وجَعَلا طَريقَهما على بَلدِ بَدرِ بن مهلهل لِيَأمَنَا مَن يَقصِدهُما، ووَصلَ ابنُ فورك إلى حلَّةِ بدرِ بن مهلهل، وطلبَ منه أن يُوصِلَهُ إلى مهارش، فجاء إنسانٌ سوادي إلى بدرٍ وأَخبرهُ أنَّه رأى الخليفةَ ومهارشًا بتل عكبرا، فسُرَّ بذلك بَدرٌ ورَحلَ ومعه ابنُ فورك، وخَدَماهُ، وحَملَ له بَدرٌ شَيئًا كَثيرًا، وأَوصلَ إليه ابنُ فورك رِسالةَ طُغرلبك وهَدايا كَثيرةً أَرسلَها معه، ولمَّا سَمِعَ طُغرلبك بوُصولِ الخليفةِ إلى بَلدِ بَدرٍ أَرسلَ وَزيرَه الكندريَّ، والأُمراءَ، والحُجَّابَ، وأَصحبَهم الخِيامَ العَظيمةَ، والسُّرادِقات، والتُّحَف مِن الخَيلِ بالمَراكِب الذَّهبِ وغيرِ ذلك، فوَصَلوا إلى الخليفةِ وخَدموهُ ورَحَلوا، ووَصلَ الخليفةُ إلى النَّهروان في الرابعِ والعشرين من ذي القعدةِ، وخَرجَ السُّلطانُ إلى خِدمتِه، واعتَذرَ مِن تَأَخُّرِه بعِصيانِ إبراهيمَ، وأنه قَتَلَهُ عُقوبةً لِمَا جَرى منه من الوَهَنِ على الدَّولةِ العبَّاسيَّة، وبِوَفاةِ أَخيهِ داودَ بخُراسان، وأنه اضطرَّ إلى التَّرَيُّثِ حتى يُرَتِّبَ أَولادَهُ بعدَه في المملكةِ، ثم إنَّ الخليفةَ لم يَدخُل بغدادَ إلَّا في هذه السَّنَةِ في صفر في السابع عشر منها.