بعدَ أن قامَ ألفونسو السادسُ –أدفونش- بالاستِيلاءِ على طُليطلة بدأَ بتَهديدِ إشبيلية، فأَرسلَ كِتابًا لصاحِبِها المُعتَمِد بن عبَّاد قال فيه: "مِن الإمبراطورِ ذي الملتين المَلِكِ أدفونش بن شانجة، إلى المُعتَمِد بالله، سَدَّدَ الله آراءَه، وبَصَّرَهُ مَقاصِدَ الرَّشادِ. قد أَبصرتَ تَزَلزُلَ أَقطارِ طُليطلة، وحِصارَها في سالفِ هذه السِّنين، فأَسلَمتُم إخوانَكم، وعَطَّلتُم بالدَّعَةِ زَمانَكم، والحَذِرُ مَن أَيقظَ بالَه قبلَ الوُقوعِ في الحِبالَة. ولولا عَهدٌ سَلَفَ بيننا نَحفظُ ذِمامَه نَهَضَ العَزمُ، ولكنَّ الإنذارَ يَقطَع الأعذارَ، ولا يَعجَل إلَّا مَن يَخاف الفَوْتَ فيما يَرومُه، وقد حَمَّلنَا الرِّسالةَ إليك البرهانس، وعندَه مِن التَّسديدِ الذي يَلقَى به أَمثالَك، والعَقلِ الذي يُدَبِّر به بِلادَك ورِجالَك، ما أَوجَبَ استِنابَتَه فيما يَدِقُّ ويَجِلُّ". فلمَّا قَدِمَ الرَّسولُ أَحضرَ المُعتَمِدُ الأكابرَ، وقُرئ الكِتابُ، بَكَى أبو عبدِ الله بنُ عبدِ البَرِّ وقال: قد أَبصرَنا ببَصائِرِنا أن مآلَ هذه الأَموالِ إلى هذا، وأن مُسالَمَةَ اللَّعينِ قُوَّةٌ بلاده لبلاده، فلو تَضافَرنا لم نُصبِح في التلافِ تحتَ ذُلِّ الخِلافِ، وما بَقِيَ إلا الرُّجوعُ إلى الله والجِهادُ. وأمَّا ابن زيدون وابن لبون فقالا: الرَّأيُ مُهادَنتُه ومُسالمَتُه. فجَنَحَ المُعتَمِدُ إلى الحَربِ، وإلى استِمدادِ مَلِكِ البَربرِ ابنِ تاشفين، فقال جَماعةٌ: نَخافُ عليك من استِمدادِه. فقال: رَعْيُ الجِمالِ خَيرٌ مِن رَعْيِ الخَنازيرِ". فرَدَّ على الأدفونش يَتهدَّدهُ و يَتَوعَّدهُ, ثم اتَّفقَ المُعتَمِدُ بن عبَّاد صاحِبُ أشبيلية والمُتوكِّلُ بن الأَفطَس صاحِبُ بطليموس وعبدُالله بن بلقين أَميرُ غِرناطة، على إرسالِ وَفْدٍ من القُضاةِ والأَعيانِ إلى يُوسفَ بن تاشفين يَدعونَهُ إلى الحُضورِ إلى الأندلسِ لِقِتالِ النَّصارَى ويَستَنصِرونَه على ألفونسو السادس، فلمَّا استَجابَ ابنُ تاشفين لِطَلَبِهم إرسال أَرسلَ رِسالةً إلى ألفونسو يَدعوهُ فيها إلى الإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ، فاختارَ الحَربَ.
بعدَ أن رَدَّ ألفونسو على رِسالَةِ يوسف بن تاشفين واختارَ الحَربَ بَدأَ بالتَّجهيزِ فحاصَرَ مَدينةَ سَرقُسطة بعدَما استَولَى على طُليطلة، كما قامَ سانشو راميرو بمُحاصَرةِ مَدينةِ طرطوشة ثم لم يَلبَث أن فَكَّا الحِصارَ وتَداعَى مُلوكُ الفِرنجِ وجَمَعوا جُنودَهم وفيهم المُرتَزَقَة للِقاءِ يوسفَ بنِ تاشفين.
تُوفِّي أبو بكرٍ محمدُ بن عبدِالعزيز بنِ المنصورِ بن أبي عامرٍ أَميرُ بلنسية، واستُخلِفَ بعدَه ابنُه عُثمانُ أبو عَمرٍو، ولكنَّ القادِرَ بن ذي النونِ الذي انتَهَت دَولتُه في طُليطلة على يَدِ ألفونسو يَمُدُّهُ ألفونسو نَفسُه ويُساعِدُه على الاستِيلاءِ على بلنسية فيُسَيِّرُ له سَرِيَّةً قَويَّةً فيقومُ باستِخلاصِ بلنسية من عُثمانَ ويُقيمُ فيها دَولةَ بني ذي النون.
قام ابنُ جَهيرٍ بإنهاءِ دَولةِ بَنِي مَروان في كلٍّ مِن آمد التي سَلَّمَها أَهلُها إليه بعدَ حِصارِها وكانوا قد سَئِموا مِن المُعامَلَةِ السَّيِّئَةِ من وُلاتِها وكان بينهم كَثيرٌ من النَّصارَى المتحكمين، كما تَمَلَّكَ ميافارقين وأَنهَى فيها حُكمَ بَنِي مَروان، وهي أيضًا سَلَّمَها أَهلُها، ثم مَلَكَ جَزيرةَ ابنِ عُمرَ وهي أيضا لبَنِي مَروان فحاصَروها ودَخَلوا حِصنَها عُنوةً ومَلَكوها، فكان هذا إنهاءً لدَولةِ بَنِي مَروان.
هو السُّلطانُ الأَميرُ شَرفِ الدَّولةِ أبو المَكارِمِ مُسلِمُ بن مَلِكِ العَربِ أبي المعالي قُريشِ بن بدران بن مُقَلَّدٍ حُسام الدَّولةِ أبي حَسَّان بن المُسَيِّب بنِ رافعٍ العقيليُّ, كان يَتَرَفَّض كأَبيهِ, ونَهَبَ أَبوهُ دارَ الخِلافَةِ في فِتنَةِ البساسيري، وأَجارَ القائمَ بالله, وماتَ سَنةَ 453هـ كَهْلًا، فقامَ شَرفُ الدولةِ بعدَه، واستَولَى على دِيارِ رَبيعةَ، ومُضَر، وتَمَلَّكَ حَلَب، وأَخذَ الحملَ والإتاوةَ من بلادِ الرُّومِ في أنطاكية، ونَحوِها. وسار إلى دِمشقَ فحاصَرَها. وكان قد تَهَيَّأَ له أَخذُها، فبَلغَه أنَّ حران قد عَصَى عليه أَهلُها، فسار إليهم، فحارَبَهم وحارَبوهُ، فافتَتَحها وبَذلَ السَّيْفَ، وقَتَلَ بها خِلْقًا من أَهلِ السُّنَّةِ. قال الذهبيُّ: "كان رافِضِيًّا خَبِيثًا، أَظهرَ ببِلادِه سَبَّ السَّلَفِ، واتَّسَعَت مَملكتُه، وأَطاعَتهُ العَربُ، واستَفحلَ أَمرُه حتى طَمِعَ في الاستِيلاءِ على بغداد بعدَ وَفاةِ طُغرلبك. وكان فيه أَدَبٌ، وله شِعرٌ جَيِّدٌ. وكان له في كلِّ قَريةٍ قاضٍ، وعاملٌ، وصاحِبُ خَبَرٍ. وكان أَحْوَلَ، له سِياسَةٌ تامَّةٌ. وكان لِهَيْبَتِه الأَمنُ وبعضُ العَدلِ في أيامِه مَوجودًا. وكان يَصرِف الجِزيةَ في بِلادِه إلى العَلَوِيِّين". وهو الذي عَمَّرَ سُورَ المَوصِل وشَيَّدَها في سِتَّةِ أَشهُر من سَنةِ 474هـ. ثم إنه جَرَى بينه وبين السُّلطانِ سُليمان بن قتلمش السلجوقي مصاف على بابِ أنطاكية، كان سُليمانُ بن قتلمش قد مَلَكَ مَدينةَ أنطاكية، فلمَّا أَرسلَ إليه شَرفُ الدولةِ مُسلمَ بن قريش يَطلُب منه ما كان يَحمِلُه إليه الفردوس من المالِ، أَجابهُ بأن المالَ الذي كان يَحمِلُه صاحِبُ أنطاكية فإنَّما هو لِكَونِه كافرًا، وكان يَحمِل جِزيةَ رَأسِه وأَصحابِه، وهو بِحَمدِ الله مُؤمنٌ، فنَهَبَ شَرفُ الدولةِ بَلدَ أنطاكية، فنَهبَ سُليمانُ أيضًا بَلدَ حَلَب، فلَقِيَهُ أَهلُ السَّوادِ يَشكُون إليه نَهْبَ عَسكرِه، فقال:أنا كنتُ أَشَدَّ كَراهِيةً لما يَجرِي، ولكنَّ صاحِبَكم أَحوَجَني إلى ما فَعلتُ، ولم تَجرِ عادَتي بنَهبِ مالِ مُسلمٍ، ولا أَخْذِ ما حَرَّمَتهُ الشَّريعةُ. وأَمَرَ أَصحابَه بإعادَةِ ما أَخذوهُ منهم، فأَعادَهُ، ثم إن شَرفَ الدولةِ جَمعَ الجُموعَ من العَربِ والتُّركمانِ، وسار إلى أنطاكية لِيَحصرَها، فلمَّا سَمِعَ سُليمانُ الخَبرَ جَمعَ عَساكِرَه وسار إليه، فالتَقَيا في طَرفٍ من أَعمالِ أنطاكية، واقتَتَلوا، فانهَزمَت العَربُ، فتَبِعَهم شَرفُ الدولةِ مُنهَزِمًا، ثم قُتِلَ، وله بِضعٌ وأَربعون سَنَةً. ولما قُتِلَ قَصدَ بَنُو عُقيلٍ أَخاهُ إبراهيمَ بنَ قُريشٍ، وهو مَحبوسٌ، فأَخرَجوهُ ومَلَّكوهُ أَمرَهُم، وكان قد مَكثَ في الحَبسِ سِنينَ كَثيرةً بحيث إنَّه لم يُمكِنهُ المَشيُ والحَركةُ لمَّا أُخرِجَ، ثم سار سُليمانُ بن قتلمش إلى حَلَب فحَصرَها مُستَهلَّ رَبيعٍ الأوَّلِ، فأَقامَ عليها إلى خامسِ رَبيعٍ الآخرَ، فلم يَبلُغ منها غَرَضًا، فرَحلَ عنها.
هو العَلَّامةُ، البارِعُ، مُفتِي العِراقِ، قاضي القُضاةِ، أبو عبدِ الله محمدُ بن عليِّ بن محمدِ بن حَسنِ بن عبدِ الوهاب بن حسويهِ الدَّامغاني الحَنفيُّ. وُلِدَ بدامغان، سَنةَ 398هـ, وتَفَقَّهَ بخُراسان، وقَدِمَ بغدادَ شابًّا، فأَخَذَ عن القدوريِّ، وحَصَّل المَذهبَ على فَقْرٍ شَديدٍ. فكان يَحرُس في دَربِ الرِّياحِ، تَفَقَّهَ بدامغان على أبي صالحٍ الفَقيهِ، ثم قَصدَ نيسابور، فأقم فأَقامَ أَربعةَ أَشهُر بها، وصَحِبَ أبا العَلاءِ صاعِدَ بنَ محمدٍ قاضِيَها، ثم وَرَدَ بغدادَ, ووَلِيَ القَضاءَ للقائمِ بأَمرِ الله، فدامَ في القَضاءِ ثلاثين سَنَةً وأَشهُرًا. كان القاضي أبو الطَّيِّبِ يقول: "الدَّامغاني أَعرَفُ بمَذهَبِ الشافعيِّ مِن كَثيرٍ مِن أَصحابِنا". كان بَهِيَّ الصُّورَةِ، حَسَنَ المعاني في الدِّينِ والعِلْمِ والعَقلِ والحِلمِ وكَرَمِ العِشرَةِ والمُروءَةِ، له صَدَقاتٌ في السِّرِّ، وكان مُنصِفًا في العِلمِ، وكان يُورِدُ في دَرسِه من المُداعَباتِ والنَّوادِرِ نَظيرَ ما يُورِد الشيخُ أبو إسحاقَ الشيرازيُّ، فإذا اجتَمَعا، صار اجتِماعُهُما نُزهةً. قال الذهبيُّ: "كان ذا جَلالةٍ وحِشمَةٍ وافِرَةٍ إلى الغايَةِ، يُنظَر بالقاضي أبي يوسف في زَمانِه, وفي أَولادِه أئمَّةٌ وقُضاة". وَلِيَ قَضاءَ القُضاةِ بعدَ أبي عبدِ الله بن ماكولا، سَنةَ 447هـ، وله خمسون سَنةً. ماتَ في رَجب، ودُفِنَ بِدارِه، ثم نُقِلَ ودُفِنَ بِقُبَّةِ الإمامِ أبي حَنيفةَ إلى جانِبِه. عاشَ ثمانينَ سَنَةً وثلاثة أَشهُر وخمسة أيام، وغَسَّلَهُ أبو الوَفاءِ بن عَقيلٍ وأبو ثابتٍ الرَّازيُّ تِلميذُه. وصَلَّى عليه وَلَدُه قاضي القُضاةِ أبو الحَسنِ, وله أَصحابٌ كَثيرون عُلماء، انتَشَروا في البِلاد.
كانت الوَقعةُ بين تتش بن ألب أرسلان صاحِبِ دِمشقَ وبين سُليمانَ بن قتلمش صاحِبِ حَلَب وأنطاكية وتلك الناحيَةِ، فانهَزمَ أَصحابُ سُليمانَ وقَتَلَ هو نَفسَه بخِنجَر كان معه، وقِيلَ: بل جاءَهُ سَهمٌ على وَجهِه فسَقطَ مَيِّتًا مِن فَوْرِه، ويُذكَر أنَّه دُفِنَ بجانبِ مُسلمِ بنِ قُريشٍ صاحبِ حَلَب قَبلَه وهو مَن قَتلَه في أَحداثِ السَّنَةِ سابقة السَّابقةِ.
سارَ السُّلطانُ ملكشاه من أصبهان إلى حَلَب فمَلَكَها، ومَلَكَ ما بين ذلك من البلادِ التي مَرَّ بها، مثل حران والرها وقَلعَة جعبر، وكان جعبر شَيخًا كبيرًا قد عَمِيَ، وله وَلَدان، وكان قُطّاعُ الطَّريقِ يَلجَأون إليها فيَتَحصَّنون بها، فرَاسَلَ السُّلطانُ سابقَ بن جعبر في تَسليمِها فامتَنَع عليه، فنَصَبَ عليها المناجيق المجانيق والعرادات ففَتَحَها وأَمَرَ بِقَتْلِ سابق.
وكان المُعتَمِدُ على الله أبو عبدِ الله محمدُ بن عَبَّاد أَعظمَ مُلوكِ الأندلسِ من المسلمين، وكان يَملِك أكثرَ البلادِ مثل قُرطُبة وإشبيلية، وكان يُؤدِّي إلى الفونسو السادس -الأذفونش- ضَريبةً كلَّ سَنَةٍ. فلمَّا مَلَكَ الفونسو طليطلة أَرسلَ إليه المُعتَمِدُ الضَّريبةَ على عادَتِه، فرَدَّها عليه ولم يَقبَلها منه، فأَرسلَ إليه يَتهدَّدهُ ويَتوعَّدهُ أنَّه يَسيرُ إلى مَدينةِ قُرطُبة ويَتملَّكها إلَّا أن يُسلِّم إليه جَميعَ الحُصونِ التي في الجَبلِ، ويُبقِي السهلَ للمُسلمين، وكان الرسولُ في جَمعٍ كَثيرٍ كانوا خمسمائة فارس، فأَنزَله محمدُ بن عبَّاد، وفَرَّقَ أَصحابَه على قُوَّادِ عَسكرِه، ثم أَمَرَ كلَّ مَن عنده منهم رَجُل أن يَقتُلَه، وأَحضرَ الرَّسولَ وصَفَعَهُ، وسَلِمَ من الجَماعةِ ثلاثةُ نَفَرٍ، فعادوا إلى ألفونسو فأَخبَروه الخَبرَ وكان مُتوجِّهًا إلى قُرطُبة لِيُحاصِرَها، فلمَّا بَلَغَهُ الخَبَرُ عادَ إلى طُليطلة ليَجمعَ آلاتَ الحِصارِ، ورَحلَ المُعتمدُ إلى إشبيلية فلمَّا عاد إليها، وسَمِعَ مَشايخَ قُرطبة بما جَرَى، ورأوا قُوَّةَ الفِرنج، وضَعفَ المُسلمين، واستِعانَةَ بَعضِ مُلوكِهم بالفِرنج على بعضٍ، اجتَمَعوا وقالوا: هذه بلادُ الأندلسِ قد غَلَبَ عليها الفِرنجُ، ولم يَبقَ منها إلَّا القليلُ، وإن استَمرَّت الأَحوالُ على ما نَرَى عادت نَصرانيةً كما كانت. وساروا إلى القاضي عبدِ الله بن محمدِ بن أدهم، فقالوا له: ألا تَنظُر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغارِ والذِّلَّةِ، وعَطائِهم الجِزيةَ بعدَ أن كانوا يَأخُذونَها، وقد رأينا رَأيًا نَعرِضُه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نَكتُب إلى غَربِ إفريقية ونَبذُل لهم، فإذا وَصَلوا إلينا قاسَمناهُم أَموالَنا، وخَرَجنا معهم مُجاهِدين في سبيلِ الله. قال: نخافُ، إذا وَصَلوا إلينا، يُخَرِّبون بِلادَنا، كما فَعَلوا بإفريقية، ويَتركون الفِرنجَ ويَبدؤون بكم، والمُرابِطون أَصلَحُ منهم وأَقربُ إلينا. قالوا له: فكاتب أَميرَ المُسلمين، وارغَب إليه لِيَعبُرَ إلينا، ويُرسِل بعضَ قُوَّادِه. وقَدِمَ عليهم المُعتمِدُ بن عبَّاد، وهُم في ذلك، فعَرَضَ عليه القاضي ابنُ أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابنُ عبَّاد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتَنَع، وإنَّما أرادَ أن يُبرِّئ نَفسَه من تُهمةٍ، فأَلَحَّ عليه المُعتمِدُ ابنُ عبَّاد وقال: "إنْ دُهِينَا من مُداخَلَةِ الأضدادِ، فأَهْوَنُ الأَمرينِ أَمرُ المُلَثَّمين، ورِعايةُ أولادِنا جِمالَهم أَهوَنُ من أن يَرعوا خَنازيرَ الفِرنج". فسارَ إلى أَميرِ المسلمين يوسفَ بنِ تاشفين، فأَبلغَه الرِّسالةَ، وأَعلَمهُ ما فيه المسلمون من الخَوفِ من ألفونسو. وما زالت وُفودُ الأندلسِ تَفِدُ على يوسفَ بنِ تاشفين مُستَعطِفين مُجهَشِينَ بالبُكاءِ ناشِدينَ بالله, ومُستَنجِدينَ بفُقهاءِ حَضرتِه ووُزراءِ دَولتِه فيَسمَع إليهم ويُصغِي لِقَولِهم وتَرِقُّ نَفسُه لهم, ولمَّا انتَهَت الرُّسُلُ إلى ابنِ تاشفين أَقبلَ عليهم وأَكرمَ مَثواهُم وجَرَت بينه وبينهم مُراوضاتٌ ثم انصَرَفوا إلى مُرسِلِهم ثم عَبَرَ يوسفُ البحرَ عُبورًا سَهلًا حتى أتى الجَزيرةَ الخَضراءَ فخَرجَ إليه أَهلُها بما عندهم من الأقواتِ والضِّيافاتِ وأَقاموا له سُوقًا جَلَبوا إليه ما عندهم من سائرِ المَرافِقِ وأَذِنوا للغُزاةِ في دُخولِ البلدِ والتَّصَرُّفِ فيها, ثم أَرسلَ ابنُ تاشفين لألفونسو يَدعوهُ للإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ فاختارَ الحربَ، فقام يوسفُ بن تاشفين في الحالِ وكان بمَدينةِ سَبتَة، فأَمرَ بعُبورِ العَساكرِ إلى الأندَلُسِ، وأَرسلَ إلى مراكش في طَلبِ مَن بَقِيَ مِن عَساكرِه، فأَقبلَت إليه يَتلُو بَعضُها بَعضًا، فلمَّا تَكامَلَت عنده عَبَرَ البحرَ وسارَ، فاجتَمعَ بالمُعتَمِدِ بن عبَّاد بإشبيلية، وكان قد جَمعَ عَساكرَه أيضًا، وخَرجَ من أَهلِ قُرطُبة عَسكرٌ كَثيرٌ. وقَصدَهُ المُتَطَوِّعَةُ من سائرِ بلادِ الأندلسِ، ووَصَلت الأَخبارُ إلى ألفونسو فجَمعَ فِرسانَه وسارَ من طُليطلة، وكَتبَ إلى أَميرِ المسلمين كِتابًا كَتَبَهُ له بعضُ أُدباءِ المُسلِمين، يُغلِظ له القَولَ، ويَصِفُ ما عنده من القُوَّةِ والعَددِ، وبالَغَ الكاتِبُ في الكِتابِ. فأَمَرَ أَميرُ المُسلمين أبا بكرِ بن القَصيرَةِ أن يُجيبَهُ، وكان كاتِبًا مُفْلِقًا، فكَتبَ فأَجادَ، فلمَّا قَرأهُ على أَميرِ المُسلِمين قال: هذا كِتابٌ طَويلٌ، أَحضِر كِتابَ ألفونسو واكتُب في ظَهرِه: الذي يكون سترا له الذي سَيكونُ سَتَراهُ. فلمَّا عادَ الكِتابُ إلى ألفونسو ارتاعَ لذلك، وعَلِمَ أنَّه بُلِيَ بِرَجُلٍ له عَزْمٌ وحَزْمٌ، فازداد استِعدادًا, فجَمعَ ألفونسو فِرسانَه ثم سارَ من طُليطِلة، وسارَ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين، والمُعتَمِدُ بن عبَّاد، حتى أَتوا أَرضًا يُقال لها: الزَّلَّاقَة، من بَلدِ بطليوس، فأَرسلَ ابنُ تاشفين للمُعتَمِد يَأمُرُه أن يكونَ في المُقدِّمَةِ، ففَعلَ، وقد ضَربَ الفونسو خِيامَه في لَحْفِ جَبَلٍ، والمُعتَمِدُ في سَفْحِ جَبَلٍ آخرَ، يَتَراءونَ، ويَنزِلُ أَميرُ المُسلِمين ابنُ تاشفين وَراءَ الجَبَلِ الذي عنده المُعتَمِد، وظَنَّ ألفونسو أنَّ عَساكِرَ المُسلِمين ليس إلَّا الذي يَراهُ. وكان الفِرنجُ في خمسين ألفًا، فتَيَقَّنوا الغَلَبَ، ثم أَقبَلَت الجُيوشُ، ونَزلَت تِجاهَ الفِرنجِ، فاختارَ ابنُ عبَّادٍ أن يكونَ هو المُصادِمُ للفِرنجِ أوَّلًا، وأن يكون ابنُ تاشفين رِدْفًا له. ففَعَلوا ذلك، وأَرسلَ ألفونسو إلى المُعتَمِد في مِيقاتِ القِتالِ، فقال: غَدًا الجُمعةُ، وبَعدَه الأحدُ، فيكونُ اللِّقاءُ يومَ الاثنينِ، فقد وَصلنا على حالِ تَعَبٍ، واستَقرَّ الأَمرُ على هذا، وركب ليلة الجمعة سَحَرًا، وصَبَّحَ بجَيشِه جَيشَ المُعتَمِد بُكرَةَ الجُمعَةِ، غَدْرًا، وظَنًّا منه أن ذلك المُخَيَّم هو جَميعُ عَسكرِ المُسلِمين، فوَقعَ القِتالُ بينهم فصَبرَ المسلمون، فأَشرَفوا على الهَزيمَةِ، وكان المُعتَمِد قد أَرسلَ إلى أَميرِ المُسلِمين ابنِ تاشفين يُعلِمه بمَجيءِ الفِرنجِ للحربِ، فقال: احمِلوني إلى خِيامِ الفِرنجِ، فسار إليها، فبينما هُم في القِتالِ وَصَلَ أَميرُ المُسلِمين إلى خِيامِ الفِرنجِ، فنَهَبَها، وقَتَلَ مَن فيها، فلمَّا رأى الفِرنجُ ذلك لم يَتَمالَكوا أن انهَزَموا، وأَخَذَهم السَّيفُ، وتَبِعَهم المُعتَمِدُ مِن خَلفِهم، ولَقِيَهم أَميرُ المُسلِمين من بين أَيدِيهم، ووَضَعَ فيهم السَّيفَ، فلم يُفلِت منهم أَحَدٌ، ونَجَا ألفونسو في نَفَرٍ يَسيرٍ قِيلَ: 30 رَجُلًا, وجَعلَ المُسلِمون من رُؤوسِ القَتلَى كُوَمًا كَثيرةً، فكانوا يُؤذِّنون عليها إلى أن جِيفَت فأَحرَقوها، وكانت الوَقعَةُ يومَ الجُمعةِ في العَشْرِ الأُوَلِ من شَهرِ رَمضان، وغَنِمَ المسلمون غَنيمةً عَظيمةً, وعَفَّ يوسفُ عن الغَنائمِ، وآثَرَ بها مُلوكَ الأندلسِ لِيَتِمَّ له الأَجرُ، فأَحَبُّوه وشَكَروا له, ورَجعَ أَميرُ المُسلِمين إلى الجَزيرةِ الخَضراء، وعَبرَ إلى سَبتَة، وسار إلى مراكش، فأقامَ بها إلى العامِ المُقبِل.
دَخَلَ السُّلطانُ ملكشاه بغدادَ في ذي الحجَّةِ، بعدَ أن فَتَحَ حَلَبَ وغَيرَها من بلادِ الشَّامِ والجَزيرةِ، وهي أَوَّلُ مَرَّةٍ يَدخُل فيها بغدادَ، ونَزلَ بدارِ المَملكةِ، وأَرسلَ إلى الخَليفةِ هَدايا كَثيرةً، فقَبِلَها الخَليفةُ، ومِن الغَدِ أَرسلَ نِظامُ المُلْكِ إلى الخَليفَةِ خَدمةً كَثيرةً، فقَبِلَها، وزارَ السُّلطانُ ونِظامُ المُلْكِ مَشهدَ موسى بن جَعفرٍ، وقَبْرَ مَعروفٍ، وأحمدَ بن حَنبلٍ وأبي حَنيفةَ، وغيرَها من القُبورِ المَعروفَةِ، وطُلِبَ نِظامُ المُلْكِ إلى دارِ الخِلافَةِ لَيلًا، فمَضَى في الزَّبْزَبِ-سفينة صغيرة- وعاد من لَيلتِه، ومَضَى السُّلطانُ ونِظامُ المُلْكِ إلى الصَّيدِ في البَرِّيَّةِ، فزارا مَشهدَ أَميرِ المؤمنينَ عَلِيٍّ، ومَشهدَ الحُسينِ، ودَخلَ السُّلطانُ البَرَّ، فاصطادَ شَيئًا كَثيرًا من الغِزلان وغَيرِها، وأَمرَ ببِناءِ مَنارةَ القُرونِ بالسبيعيِّ، وعاد السُّلطانُ إلى بغدادَ، ودَخلَ الخَليفةُ، فخَلَعَ عليه الخِلَعَ السُّلطانيَّةَ، ولمَّا خَرجَ من عندِه لم يَزَل نِظامُ المُلْكِ قائمًا يُقدِّم أَميرًا أَميرًا إلى الخَليفةِ، وكلَّما قَدَّمَ أَميرًا يقول: هذا العَبدُ فلان بن فلان، وأَقطاعُه كذا وكذا، وعِدَّةُ عَسكرِه كذا وكذا، إلى أن أتى على آخرِ الأُمراءِ، وفَوَّضَ الخَليفةُ إلى السُّلطانِ أَمْرَ البلادِ والعِبادِ، وأَمَرَهُ بالعَدلِ فيهم، وطَلَبَ السُّلطانُ أن يُقَبِّلَ يَدَ الخَليفةِ، فلم يُجِبهُ، فسأل أن يُقَبِّلَ خاتَمَه، فأَعطاهُ إيَّاهُ فقَبَّلَهُ، ووَضعَهُ على عَينِه، وأَمَرَهُ الخَليفةُ بالعَوْدِ فعادَ، وخَلَعَ الخَليفةُ أيضًا على نِظامِ المُلْكِ، ودَخلَ نِظامُ المُلْكِ إلى المدرسةِ النِّظاميَّةِ، وجَلسَ في خَزانَةِ الكُتُبِ، وطالَعَ فيها كُتُبًا، وسَمِعَ الناسُ عليه بالمدرسةِ جُزْءَ حَديثٍ، وأَمْلَى جُزءًا آخرَ، وأَقامَ السُّلطانُ ببغداد إلى صَفَر سَنةَ 480هـ وسارَ منها إلى أصبهان.
تَزوَّج الخَليفةُ المُقتَدِي بابنةِ السُّلطانِ ملكشاه فاشتَرطَت عليه أن لا يُبقِي تَحتَه لا زَوجةً ولا سُرِّيَّةً إلا هي وَحدَها، فأُجِيبَت رَغبتُها. فنُقِلَ جِهازُها إلى دارِ الخِلافَةِ على مائةٍ وثلاثين جَمَلًا مُجَلَّلَةً بالدِّيباجِ الرُّوميِّ، وكان أَكثرَ الأحمالِ الذهبُ والفِضَّةُ وعلى أربعٍ وسبعين بَغْلًا مُجَلَّلَةً بأَنواعِ الدِّيباجِ المَلَكِيِّ، وأَجراسُها وقَلائدُها من الذهبِ والفِضَّةِ، وكان على سِتَّةٍ منها اثنا عشر صُندوقًا من فِضَّةٍ لا يُقَدَّر ما فيها من الجَواهرِ والحُلِيِّ، وبين يدي البِغالِ ثلاثةٌ وثلاثون فَرَسًا من الخَيْلِ الرَّائقَةِ، عليها مَراكِبُ الذهبِ مُرَصَّعَةً بأَنواعِ الجَوهَرِ، ومَهْدٌ عَظيمٌ كَثيرُ الذَّهبِ، وسار بين يدي الجِهازِ سعدُ الدولةِ كوهرائين، والأَميرُ برسق، وغيرُهما، ونَثَرَ أَهلُ نَهرِ معلى عليهم الدَّنانيرَ والثِّيابَ، وكان السُّلطانُ قد خَرجَ عن بغدادَ مُتَصَيِّدًا، ثم أَرسلَ الخَليفةُ الوَزيرَ أبا شُجاعٍ إلى تركان خاتون، زَوجَةِ السُّلطانِ، وبين يَديهِ نحو ثلاثمائة مَوْكِبِيَّةٍ، ومِثلُها مَشاعِلُ، ولم يَبقَ في الحَريمِ دُكَّانٌ إلَّا وقد أُشعِل فيها الشَّمعةُ والاثنتانِ وأكثرُ من ذلك، وأَرسلَ الخَليفةُ مع ظُفَر خادمِه مَحِفَّةً لم يُرَ مِثلُها حُسْنًا، وقال الوَزيرُ لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أَميرُ المؤمنين يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقد أَذِنَ في نَقلِ الوَديعَةِ إلى دارِه. فأَجابَت بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وحَضَرَ نِظامُ المُلْكِ فمَن دُونَه مِن أَعيانِ دَولةِ السُّلطانِ، ثم جاءَت الخاتون ابنةُ السُّلطانِ بعدَ الجَميعِ، في مَحِفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، عليها من الذهبِ والجَواهرِ أكثرُ شيءٍ، وقد أَحاطَ بالمَحِفَّةِ مائتا جاريةٍ من الأتراكِ بالمَراكبِ العَجيبةِ، وسارَت إلى دارِ الخِلافةِ، وكانت ليلةً مَشهودَةً لم يُرَ ببغدادَ مِثلُها، فلمَّا كان الغَدُ أَحضرَ الخَليفةُ أُمراءَ السُّلطانِ لِسِماطٍ أَمَرَ بِعَمَلِهِ وخَلَعَ عليهم كُلِّهم، وعلى كلِّ مَن له ذِكْرٌ في العَسكرِ، وأَرسلَ الخِلَعَ إلى الخاتون زَوجةِ السُّلطانِ، وإلى جَميعِ الخَواتين.
كان الأَميرُ تَميمُ بن المُعِزِّ بن باديس صاحِب المَهدِيَّةِ قد أَكثرَ غَزْوَ بِلادِ الرُّومِ في البَحرِ، فخَرَّبَها، وشَتَّتَ أَهلَها، فاجتَمَعوا من كلِّ جِهَةٍ، واتَّفَقوا على إنشاءِ الشواني -سُفُن حَربيَّة ضَخمَة - لِغَزوِ المَهدِيَّة، ودَخلَ معهم البيشانيون، والجنوبيون، وهما من الفِرنج، فأَقاموا يُعمِّرون الأُسطولَ أَربعَ سِنين، واجتَمَعوا بجَزيرَةِ قوصرة في أَربعِ مائةِ قطعةٍ، فأَرادَ تَميمٌ أن يُسَيِّر عُثمانَ بنَ سَعيدٍ المَعروف بالمُهْرِ، مُقَدَّم الأُسطولِ الذي له، لِيَمنَعَهم من النُّزولِ، فمَنعَه من ذلك بعضُ قُوَّادِه، فجاءَت الرُّومُ، وأَرسَلوا، وطَلَعوا إلى البَرِّ، ونَهَبوا، وخَرَّبوا، وأَحرَقوا، ودَخَلوا زويلةَ ونَهَبوها، وكانت عَساكرُ تَميمٍ غائبةً في قِتالِ الخارجِين عن طاعَتِه، ثم صالَحَ تَميمٌ الرُّومَ على ثلاثين ألف دِينارٍ، وَرَدِّ جَميعِ ما حَووهُ مِن السَّبْيِ.
شَرَعَ أَهلُ بابِ البَصرَةِ في بِناءِ القَنطرَةِ الجَديدةِ، واتُّفِقَ أن كوهرائين سار في سميرية -نوع من السُّفُن-، وأَصحابُه يَسيرونَ على شاطئِ دِجلَة بسميريه، فوَقفَ أَهلُ بابِ الأزج على امرأةٍ كانت تَسقِي الناسَ من مُزَمَّلَةٍ لها على دِجلَة، فحَمَلوا عليها، على عادةٍ لهم، وجَعَلوا يَكسِرونَ الجِرارَ، ويَقولون: الماءُ للسَّبيلِ! فلما رَأت سعدَ الدولةِ كوهرائين استَغاثَت به، فأَمَرَ بإبعادِهم عنها، فضرَبَهم الأتراكُ بالمقارِعِ، فسَلَّ العامَّةُ سُيوفَهم ثم إن كوهرائين خَرجَ من السميرية إليهم راجِلًا، فحَمَل أَحدُهم عليه، فطَعَنَه بأَسفلَ رُمحِه، فأَلقاهُ في الماءِ والطِّينِ، فحَمَلَ أَصحابُه على العامَّةِ، فقاتَلوهُم، وحَرَصوا على الظَّفَرِ بالذي طَعَنَهُ، فلم يَصِلوا إليه، وأَخذَ ثَمانيةَ نَفَرٍ، فقَتَلَ أَحدَهم، وقَطعَ أَعصابَ ثَلاثةِ نَفَرٍ، وأَرسلَ قَباءَه إلى الدِّيوانِ وفيه أَثَرُ الطَّعنَةِ والطِّينِ يَستَنفِر على أَهلِ بابِ الأزج. ثم إن أهلَ الكَرخِ عَقَدوا لِأَنفُسِهم طاقًا آخرَ على بابِ طاقِ الحراني، وفَعَلوا كفِعلِ أَهلِ البَصرَةِ.
كان قد مَلَكَ سمرقند أحمدُ خان بن خضر خان، وهو ابنُ أخي تركان خاتون، زَوجةِ السُّلطانِ ملكشاه، وكان صَبِيًّا ظالِمًا، قَبيحَ السِّيرَةِ، يُكثِر مُصادَرةَ الرَّعيَّةِ، فنَفَروا منه، وكَتَبوا إلى السُّلطانِ سِرًّا يَستَغيثون به، ويَسأَلونَه القُدومَ عليهم لِيَملِك بِلادَهم، فتَحرَّكَت دَواعي السُّلطانِ إلى مُلْكِها، فسار من أصبهان، وجَمعَ العَساكرَ من البلادِ جَميعِها، فعَبَرَ النهرَ فلمَّا قَطعَ النهرَ قَصَدَ بُخارى، وأَخذَ ما على طَريقِه، ثم سار إليها ومَلَكَها وما جاوَرَها من البلادِ، وقَصَدَ سمرقند ونازَلَها، وحَصرَ البلدَ، وضَيَّقَ عليه، وأَعانَه أَهلُ البلدِ بالإقاماتِ، وفَرَّقَ أحمد خان، صاحِبُ سمرقند، أَبراجَ السُّورِ على الأُمراءِ ومَن يَثِقُ بهِ مِن أَهلِ البَلدِ، فرَمَى السُّلطانُ ملكشاه السُّورَ بالمنجنيقات، فأَحدثَ فيه عِدَّةَ ثُلَمٍ، وأَخَذَ أَحدَ الأَبراجِ، فلمَّا صَعدَ عَسكرُ السُّلطانِ إلى السُّورِ هَربَ أحمدُ خان، واختَفَى في بُيوتِ بَعضِ العامَّةِ فدُلَّ عليه وأُخِذَ وحُمِلَ إلى السُّلطانِ وفي رَقَبَتِه حَبلٌ، فأَكرَمَه السُّلطانُ، وأَطلَقَه وأَرسلَه إلى أصبهان، ومعه مَن يَحفَظهُ، ورَتَّبَ بسمرقند الأَميرَ العَميدَ أبا طاهرٍ عَميدَ خوارزم.
وسار السُّلطانُ قاصِدًا كاشغر، فبَلَغَ إلى يوزكند، وأَرسلَ منها رُسُلًا إلى مَلِكِ كاشغر يَأمُرهُ بإقامَةِ الخُطبَةِ، وضَرْبِ السِّكَّةِ باسمِه ويَتوَعَّدهُ إن خالَفَ بالمَسيرِ إليه. ففَعلَ ذلك وأَطاعَ، وحَضرَ عند السُّلطانِ، فأَكرَمَه وعَظَّمَه، وتابَعَ الإنعامَ عليه، وأَعادَهُ إلى بَلدِه.
خَرجَت عَساكرُ صاحبِ مصر العُبيديِّ بقِيادَةِ بَدرٍ أَميرِ الجُيوشِ إلى الشامِ في جَماعةٍ من المُقدِّمين، فحَصَروا مَدينةَ صُور، وكان قد تَغلَّبَ عليها القاضي عَيْنُ الدولةِ بن أبي عَقيلٍ، وامتَنعَ عليهم، ثم تُوفِّي، ووَلِيَها أَولادُه، فحَصرَهُم العَسكرُ المصريُّ فلم يكُن لهم من القُوَّةِ ما يَمتَنِعون بها، فسَلَّموها إليهم، ثم سار بدرُ بالعَسكرِ عنها إلى مَدينةِ صَيْدا، ففَعلوا بها كذلك، ثم ساروا إلى مَدينةِ عَكَّا، فحَصَروها، وضَيَّقوا على أَهلِها، فافتَتَحوها، وقَصَدوا مَدينةَ جُبيل، فمَلَكوها أيضًا، وأَصلَحوا أَحوالَ هذه البلادِ، وقَرَّروا قَواعِدَها، وساروا عنها إلى مصر عائدِينَ، واستَعملَ أَميرُ الجُيوشِ على هذه البلادِ الأُمراءَ والعُمَّالَ.
لمَّا رَجعَ السُّلطانُ ملكشاه من كاشغر إلى خُراسان، وأَبعدَ عن سمرقند لم يَتَّفِق أَهلُها وعَسكرُها المعروفون بالجَكلِيَّة مع العَميدِ أبي طاهرٍ، نائبِ السُّلطانِ عندهم، حتى كادوا يَثِبونَ عليه، فاحتالَ حتى خَرجَ مِن عندهم، ومَضَى إلى خوارزم. كان مُقدِّم الجَكلِيَّة واسمُه عَيْنُ الدولةِ، قد خافَ السُّلطانَ لهذا الحادثِ، فكاتَبَ يعقوبَ تكين أخا مَلِكِ كاشغر، ومَملَكَتُه تُعرَف بآب نباشي، وبِيَدِه قَلعتُها، واستَحضَرهُ، فحَضرَ عنده بسمرقند، واتَّفَقا، ثم إن يعقوبَ عَلِمَ أن أَمرَهُ لا يَستَقيم مع عَيْنِ الدولةِ، فقَتَلَه، اتَّصلَت الأَخبارُ بعِصيانِ سمرقند بالسُّلطانِ ملكشاه، وقَتْلِ عَيْنِ الدولةِ، مُقدِّم الجَكليَّة، عادَ السُّلطانُ إلى سمرقند، فلمَّا وَصلَ إلى بُخارَى هَربَ يَعقوبُ المُستَولِي على سمرقند، ومَضَى إلى فرغانة، ولَحِقَ بوِلايَتِه، ووَصلَ جَماعةٌ من عَسكرِه إلى السُّلطانِ مُسْتَأْمِنِينَ، ولمَّا وَصلَ السُّلطانُ إلى سمرقند مَلَكَها، ورَتَّب بها الأَميرَ أبر.
سارَ السُّلطانُ ملكشاه في إثْرِ يعقوبَ لِقَتلِه مُقدِّمَ الجَكليَّة, والذي دَخلَ إلى أَخيهِ بكاشغر مُستجِيرًا به، فسَمِعَ السُّلطانُ بذلك، فأَرسلَ إلى مَلِكِ كاشغر يَتوعَّدُه، إن لم يُرسِلهُ إليه، أن يَقصِد بِلادَه، ويَصيرُ هو العَدُوَّ، فخافَ أن يَمنَع السُّلطانَ، فأَدَّاهُ اجتِهادُه إلى أن قَبَضَ على أَخيهِ يعقوبَ، وأَظهرَ أنه كان في طَلَبِه، فظَفَرَ به، وسَيَّرَهُ مع وَلَدِه، وجَماعةٍ من أَصحابِه، وكَّلَهم بيعقوب، وأَرسلَ معهم هَدايا كَثيرةً للسُّلطانِ، وأَمَرَ وَلدَه أنه إذا وَصلَ إلى قَلعةٍ بقُربِ السُّلطانِ أن يَسْمُلَ يعقوبَ ويَتركهُ، فإن رَضِيَ السُّلطانُ بذلك، وإلَّا سَلَّمَه إليه، فحَدثَ أن طغرل بن ينال استَولى على كاشغر وأَخَذَ صاحبَها أخا يعقوب, فأَطلَقوا يعقوبَ، فلمَّا رأى السُّلطانُ ذلك ورأى طَمَعَ طغرل بن ينال، ومَسيرَه إلى كاشغر، وقَبْضَ صاحِبِها، ومِلْكِه لها مع قُرْبِه منه، خاف أن يَنحَلَّ بَعضُ أَمرِه وتَزولَ هَيبتُه، وعَلِمَ أنه متى قَصدَ طغرل سار من بين يَديهِ، فإن عادَ عنه رَجعَ إلى بِلادِه، وكذلك يعقوب أخو صاحِبِ كاشغر، وأنه لا يُمكِنُه المَقامُ لِسِعَةِ البِلادِ وراءَهُ وخَوْفِ الموتِ بها، فوَضعَ تاجَ المُلْكِ على أن يَسعَى في إصلاحِ أَمرِ يعقوب معه، ففَعلَ ما أَمرَهُ به السُّلطانُ، فاتَّفَقَ هو ويعقوبُ، وعاد إلى خراسان، وجَعلَ يعقوبَ مُقابِلَ طغرل يَمنعُه من القُوَّةِ، ومِلْكِ البلادِ، وكلٌّ منهما يقوم في وَجهِ الآخرِ.