هو أمير الجيوش أبو القاسم شاهنشاه الملك الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالي. كان والده بدر أرمنيًّا، اشتراه جمال الدولة بن عمار، وتربى عنده وتقدم بسببه، كان بدر نائبًا بعكا، فسار في البحر في ترميم دولة المستنصر العبيدي، فاستولى على الإقليم، وأباد عدة أمراء، ودانت له الممالك إلى أن مات، فقام بعده ابنه الأفضل، وعَظُم شأنه، وأهلك نزارًا ولد المستنصر صاحب دعوة الباطنية الإسماعيلية أصحاب ابن الصباح وقلعة ألموت، وكذلك أتابكه أفتكين متولي الثغر، وكان الأفضل بطلًا شجاعًا، وافر الهيبة، عظيم الرتبة، فلما هلك المستعلي نَصَب في الإمامة ابنه الآمر، وحجر عليه وقمعه، وكان الآمر طياشًا فاسقًا، فعمل على قتل الأفضل، فرتب عدةً وثبوا عليه، فأثخنوه، ونزل إليه الآمر، وتوجَّع له، فلما قُضِي الأفضل استأصل الآمر أمواله، وبقي الآمر في داره أربعين صباحًا والكَتَبة تضبط تلك الأموال والذخائر، وحبس أولاد الأفضل، وكانت ولايته بعد أبيه ثماني وعشرين سنة، منها: آخر أيام المستنصر، وجميع أيام المستعلي، إلى هذه السنة من أيام الآمر، وكانت الأمراء تكرهه لكونه سنيًّا، فكان يؤذيهم، وكان فيه عدل، والإسماعيلية يكرهونه لأسباب؛ منها: تضييقه على إمامهم، وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم، ومنها ترك معارضة أهل السنة في اعتقادهم، والنهي عن معارضتهم، وإذنه للناس في إظهار معتقدات أهل السنة والمناظرة عليها، فكثر الغرباء ببلاد مصر، وكان حَسَن السيرة، عادلًا. قال أبو يعلى بن القلانسي: "كان الأفضل حسن الاعتقاد، سُنِّيًّا، حميد السيرة، كريم الأخلاق، لم يأت الزمان بمثله". قال ابن خلكان: "ترك الأفضل من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار مكررة، ومن الدراهم مائتين وخمسين أردبًا، وسبعين ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهرة باثني عشر ألف دينار، ومائة مسمار ذهب زنة كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس كان يجلِسُ فيها، على كل مسمار منديل مشدود بذهب، كل منديل على لون من الألوان من ملابسه، وخمسمائة صندوق كسوة للبس بدنه، قال: وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والمسك والطيب والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، وخلف من البقر والجواميس والغنم ما يستحيي الإنسانُ من ذكره، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، وترك صندوقين كبيرين مملوءين إبر ذهب برسم النساء والجواري" قُتِل الأفضل في رمضان سنة 515، وله ثمان وخمسون سنة, ولما قتل ولي الوزارة بعد الأفضل أبو عبد الله بن البطائحي، ولقب المأمون، وتحكم في الدولة، وظهر الظلم والبدعة أيام البطائحي, وبقي كذلك حاكمًا في البلاد إلى سنة 519، فصُلِب.
هو الأميرُ جيوش بك صاحب الموصل كان تركيًا من مماليك السلطان محمد، عادلًا، حسن السيرة، ولما وليَ الموصل والجزيرة كان الأكراد بتلك الأعمال قد انتشروا، وكثُر فسادهم، وكثرت قلاعهم، والناس معهم في ضيق، فقصدهم وحصَرَ قلاعَهم، وفتح كثيرًا منها ببلد الهكارية، وبلد الزوزان، وبلد البشنوية، وخافه الأكراد، وتولى قصدهم بنفسه، فهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق، وأمِنَت الطرق، وانتشر الناسُ واطمأنوا، وبقي الأكراد لا يجسُرون أن يحملوا السلاحَ؛ لهيبته. قتله السلطان محمود؛ لأنه كان قد حسَّن لمسعود الخروج على أخيه محمود ورغَّبه في السلطنة، ثم عاد جيوش بك إلى خدمة السلطان محمود، فلما رضي عنه أقطعه أذربيجان وجعله مقدَّمَ عسكره، فجرى بينه وبين جماعة من الأمراء منافرة ومنازعات، فأغروا به السلطان، فقتله في رمضان على باب تبريز.
هو العلامة البارع ذو البلاغتين: أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، الأديب اللغوي النحوي البصري الحريري، صاحب المقامات المشهورة، كان يسكن بني حرام أحد محال البصرة مما يلي الشط، مولِدُه ومَرْباه بقرية المشان، من أعمال البصرة، وكان أحد أئمة عصره في الأدب والبلاغة والفصاحة، وله مصنفات كثيرة، من أبرزها المقامات، التي لا نظير لها في معناها، وقد سلك فيها منوالَ بديع الزمان صاحب المقامات، وقد اشتملت مقامات الحريري على شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، ومَن عرَفَها حقَّ معرفتها استدلَّ بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته، وكان سببُ وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله؛ قال: "كان أبي جالسًا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أُهبة السفر، رثُّ الحال، فصيح الكلام، حسنُ العبارة، فسألَتْه الجماعة: من أين الشيخُ، فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته، فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد، واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان بن خالد بن محمد القاشاني وزير الخليفة المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار مَن إشارتُه حُكم، وطاعتُه غُنم، إلى أن أنشئَ مقاماتٍ أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالِعُ شأوَ الضليع" وله كتاب درة الغواص في أوهام الخواص، ومُلحة الإعراب، وغيرها. قال الذهبي: "أملى الحريري بالبصرة مجالس، وعمل (درة الغواص في وهم الخواص)، و(المُلحة) وشرحها، و(ديوانًا) في الترسُّل، وغير ذلك، وخضع لنثره ونظمه البلغاء. قدم بغداد سنة 500، وحدَّث بها بجزء من حديثه، وبمقاماته".
أطاع الملك طغرل أخاه السلطان محمودًا، وكان قد خرج عن طاعته، وقصد أذربيجان في السنة الماضية ليتغلَّبَ عليها، وكان أتابكه كنتغدي يحسِّن له ذلك، ويقويه عليه، فاتفق أنه مَرِض، وتوفي في شوال سنة 515، وكان الأمير آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، عند السلطان محمود ببغداد، فاستأذنه في المضي إلى إقطاعه، فأذن له، فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كنتغدي من الملك طغرل، فسار إليه، واجتمع به، وأشار عليه بالمكاشفة لأخيه السلطان محمود، وقال له: إذا وصلت إلى مراغة اتصل بك عشرة آلاف فارس وراجل. فسار معه، فلما وصلوا إلى أردبيل أُغلقت أبوابها دونهم، فساروا عنها إلى قريب تبريز، فأتاهم الخبر أن السلطان محمودًا سيَّرَ الأمير جيوش بك إلى أذربيجان، وأقطعه البلاد، وأنه نزل مراغة في عسكر كثيف من عند السلطان، فلما تيقنوا ذلك عدلوا إلى خونج، وانتفض عليهم ما كانوا فيه، وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل -أتابك يعني الأمير الوالد- أيام أبيه، يدعونه إلى إنجادهم، وقد كان كنتغدي قبض عليه بعد موت السلطان محمد، ثم أطلقه السلطان سنجر، فعاد إلى إقطاعه، أبهر، وزنجان، وكاتبوه فأجابهم، واتصل بهم، وسار معهم إلى أبهر، فلم يتم لهم ما أرادوا، فراسلوا السلطان بالطاعة، فأجابهم إلى ذلك، فاستقرَّت القاعدة أول هذه السنة، وتمَّت.
هو الوزير الكبير، أبو طالب علي بن أحمد بن علي السميرمي، وزير السلطان محمود الغزنوي السلجوقي، صدرٌ معظَّم، كبير الشأن، شديد الوطأة، ذو عسف وظلم، وسوء سيرة، وقف مدرسة بأصبهان، وعمل بها خزانة كتب نفيسة، وكان مجاهرًا بالظلم والفسق، وأحدث على الناس مكوسًا وجدَّدها بعدما كانت قد أزيلت من مدة متطاولة. وكان يقول: "استحييتُ من كثرة ظلمِ من لا ناصِرَ له، وكثرةِ ما أحدثتُ من السُّنَن السيئة!". لما عزم على الخروج إلى همذان خرج وبين يديه السيوف المسلولة، والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة، فما أغنى عنه ذلك شيئًا، بل جاءه باطني فضربه فقتله، ثم مات الباطني بعده، ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب، حاسراتٍ عن وجوههن، قد أبدلهنَّ الله الذلَّ بعد العز، والخوفَ بعد الأمن، والحزنَ بعد السرور والفرح، جزاءً وفاقًا! وذلك يوم الثلاثاء آخر صفر، وقيل: إن الذي قتله عبدٌ كان للمؤيد الطغرائي وزير السلطان مسعود؛ فإن السميرمي قتل أستاذه ظلمًا، ونبزه بأنه فاسد الاعتقاد، فكلُّ قاتلٍ مقتولٌ.
هو الملك إيلغازي نجم الدين بن الأمير أرتق بن أكسب التركماني، صاحب ماردين، وحلب، وميافارقين، كان هو وأخوه الأمير سقمان من أمراء تاج الدولة تتش صاحب الشام، فأقطعهما القدس، وجرت لهما سِيَر، ثم استولى إيلغازي على ماردين. وكان ذا شجاعة ورأي وهيبة وصيتٍ، وجوادًا محترِمًا للمسلمين. حارب الفرنج غير مرة، وأخذ حلب بعد أولاد رضوان بن تتش، واستولى على ميافارقين وغيرها قبل موته بسنة, وهو أول من تملك ماردين، واستمرت في يد ذريته. توفي إيلغازي بميافارقين، فانقسمت دولته إلى أقسام؛ فابنه حسام الدين تمرتاش استقل بماردين وديار بكر، وابنه شمس الدين سليمان استقل بميافارقين، وسليمان بن عبد الجبار بن أرتق بن أخي إيلغازي استقل بحلب، ونور الدين بلك بن بهرام بن أخي إيلغازي استقل بخرتبرت.
هو الشيخ الإمام العلَّامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي، الشافعي، نسبة إلى بغا من قرى خراسان، صاحب التفسير المعروف بمعالم التنزيل، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه الشافعي، والجمع بين الصحيحين، والمصابيح في الصحاح والحسان، والأربعين حديثًا، وغير ذلك. اشتغل على القاضي حسين بن محمد المروروذي صاحب التعليقة قبل سنة 460. وبرع في هذه العلوم، وكان علَّامة زمانه فيها، وكان ديِّنًا ورعًا زاهدًا عابدًا صالحًا. قال الذهبي: "كان البغوي يُلقَّب بمحيي السنة وبرُكنِ الدين، وكان سيدًا إمامًا، عالِمًا علَّامة، زاهدًا قانعًا باليسير، كان يأكل الخبز وحده، فعُذِل في ذلك، فصار يأتدم بزيتٍ، وكان أبوه يعمل الفِرَاء ويبيعها، بورك له في تصانيفه، ورُزق فيها القَبول التام؛ لحُسن قصده، وصِدقِ نيته، وتنافسَ العلماءُ في تحصيلها، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصدًا في لباسه، له ثوبٌ خام، وعمامة صغيرة, وكان على منهاج السلف حالًا واعتقادًا، وله القدمُ الراسخة في التفسير، والباع المديد في الفقه" توفي بمروالروذ -وهي مدينة من مدائن خراسان- في شوال، ودفن بجنب شيخه القاضي حسين، وعاش بضعًا وسبعين سنة.
كان دبيس بن صدقة صاحب الحلة المزيدية قد أطلق عفيفًا خادِمَ الخليفة المسترشد بالله، وكان مأسورًا عنده، وحمَّله رسالة فيها تهديد للخليفة بإرسال قسيم الدولة البرسقي صاحب الموصل إلى قتاله، وتقويته بالمال، وأن السلطان كَحَل أخاه، وبالغ في الوعيد، ولبس السواد، وجزَّ شعره، وحلف لينهبَنَّ بغداد، ويخرِّبها، فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة وغضب، وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس؛ فبرز في رمضان سنة 516، وتجهز الخليفة، وبرز من بغداد، واستدعى العساكر، وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب، وعمل أصحابه كلَّ عظيم من الفساد، فوصل أهله إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودي ببغداد لا يتخلَّف من الأجناد أحد، ومن أحبَّ الجندية من العامة فليحضُر، فجاء خلق كثير، ففَرَّق فيهم الأموال والسلاح. فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسألُه الرضا عنه، فلم يُجِب إلى ذلك، وأُخرِجَت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة سنة 516، ودخلت هذه السنة، فنزل الخليفة مُستهَلَّ المحرم، بالحديثة، وجعل دبيس أصحابه صفًّا واحدًا: ميمنة، وميسرة، وقلبًا، وجعل الرجَّالة بين أيدي الخيالة بالسلاح، وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد، وسبي النساء، فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس، وبين أيديهم الإماءُ يَضرِبن بالدفوف، والمخانيث بالملاهي، ولم يُرَ في عسكر الخليفة غيرُ قارئ ومُسَبِّح وداع، فقامت الحرب على ساق، فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس، فانهزموا جميعهم وألقوا أنفُسَهم في الماء، فغرق كثير منهم، وقُتل كثير، ولما رأى المسترشد بالله اشتداد الحرب جرَّد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب، فلما انهزم عسكر دبيس وحُمِلت الأسرى بين يدي الخليفة أمر أن تُضرَب أعناقهم صبرًا، وعاد الخليفةُ إلى بغداد، فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة. وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه وأدركته الخيل، ففاتها وعبر الفرات، واختفى خبرُه بعد ذلك، وأُرجِف عليه بالقتل، ثم ظهر أمرُه أنه قَصَد غزية من عرب نجد، فطلب منهم أن يحالِفوه، فامتنعوا عليه فرحل إلى المنتفق، واتفق معهم على قصد البصرة وأخْذِها، فساروا إليها ودخلوها، ونهبوا أهلَها، وقتل الأمير "سخت كمان" مقدَّم عسكرها، وأُجلِيَ أهلها، فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهمالِه أمر دبيس، حتى تمَّ له من أمر البصرة ما أخربها، فتجهز البرسقي للانحدار إليه، فسمع دبيس ذلك ففارق البصرة، وسار على البر إلى قلعة جعبر، والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، وأطمعهم في أخذِها، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلَّموا البلد إليَّ. فلم يظفروا بها، فعادوا عنها، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل بن السلطان محمد، وأقام معه، وحَسَّن له قَصْدَ العراق.
اشتدَّت نكاية الكرج (وهم الجورجيون، سكان جورجيا) في بلد الإسلام، وعظم الأمر على الناس، لا سيما أهل دربند شروان، فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان محمود بن محمد السلجوقي، وشكَوا إليه ما يَلقَون منهم، وأعلَموه بما هم عليه من الضعف والعجز عن حفظ بلادهم، فسار إليهم والكرج قد وصلوا إلى شماخي، فنزل السلطان في بستان هناك، وتقدَّم الكرج إليه، فخافهم العسكر خوفًا شديدًا، وأشار الوزير شمس الملك عثمان بن نظام الملك على السلطان بالعود من هناك، فلما سمع أهل شروان بذلك قصدوا السلطان وقالوا له: نحن نقاتِلُ ما دمتَ عندنا، وإن تأخَّرتَ عنا ضَعُفت نفوس المسلمين وهلكوا، فقَبِل قولهم، وأقام بمكانِه، وبات العسكر على وجَلٍ عظيم، وهم بنيَّة المصاف، فأتاهم الله بفرج من عنده؛ حيث وقع بين الكرج وقفجاق اختلاف وعداوة، فاقتتلوا تلك الليلة ورحلوا شبهَ المنهزمين، وكفى الله المؤمنين القتال، وأقام السلطان بشروان مدة، ثم عاد إلى همذان فوصلها في جمادى الآخرة.
كان الأميرُ علي بن يحيى صاحب إفريقية لما استوحش من رجار صاحب صقلية، جدَّد الأسطول الذي له، فكثَّر عَدده وعُدده، وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية، فلما علم رجار ذلك كفَّ عن بعض ما كان يفعله، فاتفق أن عليًّا مات سنة 515، وولي ابنه الحسن، فلما دخلت سنة 516 سيَّرَ أمير المسلمين أسطولًا، ففتح نقوطرة بساحل بلاد قلورية، فلم يشكَّ رجار أن عليًّا كان سبب ذلك، فجدَّ في تعمير الشواني والمراكب، وحشد فأكثر، ومُنِع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب، فاجتمع له من ذلك ما لم يُعهَد مثله، قيل: كان ثلاثمائة قطعة، فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقَّع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية، فأمر باتخاذ العُدد، وتجديد الأسوار، وجَمْع المقاتِلة، فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير، فلما كان جمادى الآخرة سنة 517 سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة، فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرَّقتهم الريح، وغرق منهم مراكب كثيرة، ونازل من سَلِمَ منهم جزيرة قوصرة ففتحوها، وقتلوا من بها، وسَبَوا وغنموا، وساروا عنها، فوصلوا إلى إفريقية، ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الآخرة، فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك، والديماس حِصن منيع في وسطه حصن آخر، وهو مُشرِف على البحر، وسيَّر الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج، وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها، وأخذ الفرنج حصن الديماس، وجنود المسلمين محيطة بهم، فلما كان بعد ليال اشتدَّ القتال على الحصن الداخل، فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجَّت لها الأرض، وكبَّروا، فوقع الرعبُ في قلوب الفرنج، فلم يشكُّوا أن المسلمين يهجمون عليهم، فبادروا إلى شوانيهم، وقتلوا بأيديهم كثيرًا من خيولهم، وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس، ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلَّف عن الفرنج، وقتلوا كلَّ من عجز عن الطلوعِ إلى المراكِبِ، فلما صعد الفرنج إلى مراكِبِهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدِرون على النزول إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبِّرون عليهم ويَصيحون بهم، وأقامت عساكِرُ المسلمين على حصن الديماس في أُمم لا يُحصَون كثرةً، فحَصَروه، فلم يُمكِنْهم فتحُه لحصانته وقوته، فلما عدم الماء على من به من الفرنج، وضجروا من مواصلة القتال ليلًا ونهارًا، فتحوا باب الحصن وخرجوا، فقُتِلوا عن آخِرِهم، وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يومًا، ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد.
هو الأميرُ محمود بن قراجا، صاحِبُ حماة، كان ظالِمًا جائرًا. سار إلى حصن أفامية فهجم على الربض بغتةً، فأصابه سهم من القلعة في يده، فاشتدَّ ألمه، فعاد إلى حماة، وقلع الزُج -الحديدة في أسفل الرمح- من يده، ثم عملت عليه، فمات منه، واستراح أهلُ عمله من ظُلمِه وجَورِه، فلما سمع طغتكين، صاحب دمشق، الخبر سيَّرَ إلى حماة عسكرًا، فمَلَكها وصارت في جملة بلاده، ورتب فيها واليًا وعسكرًا لحمايتها.
استولى الفرنج على خرتبرت من بلاد ديار بكر، وسبب ذلك: أن بلك بن بهرام بن أرتق كان صاحب خرتبرت، فحضر قلعة كركر، وهي تقارب خرتبرت، فسمع الفرنج بالشام الخبرَ، فسار بغدوين ملك الفرنج في جموعه إليه ليرحلَه عنها؛ خوفًا أن يَقوى بملكها، فلما سمع بلك بقُربه منه رحل إليه، والتقيا في صفر واقتتلا؛ فانهزم الفرنج وأُسِرَ مَلِكُهم ومعه جماعة من أعيان فرسانهم، وسُجنوا بقلعة خرتبرت، وكان بالقلعة أيضًا جوسلين، صاحب الرها، وغيره من مقدَّمي الفرنج كان قد أسرهم سنة 515، وسار بلك عن خرتبرت إلى حران في ربيع الأول فملكها، فأعمل الفرنج الحيلة باستمالة بعض الجند، فظهروا وملكوا القلعة، فأما الملك بغدوين فإنه مضى إلى بلاده، واتصل الخبر ببلك صاحبها، فعاد في عساكره إليها وحصرها، وضيَّق على مَن بالقلعة، واستعادها من الفرنج، وجعل فيها من الجند من يحفظها، وعاد عنها.
صاحبُ ألموت الكيا الحسن بن الصباح بن علي بن محمد الحميري الإسماعيلي. رأس الإسماعيلية، كان داهية وأصله من مرو، وُلِد بطوس وتتلمذ على أحمد بن عطاش من أعيان الباطنية، وكان كاتبًا لبعض الرؤساء، ثم صار إلى مصر وتلقى من دعاتهم، وعاد داعية لقومه، فكان الحسنُ مُقدَّمَ الباطنية في أصبهان دعا إلى إمامة المستنصر الفاطمي فطاف البلاد للدعوة الإسماعيلية، وقوي أمرُه حتى استولى على قلعة ألموت في قزوين، ثم ضمَّ إليها قلاعًا أخرى، وكان لا يدعو إلا غبيًّا، ومن لا يَعرِف أمور الدنيا، ويُطعِمُه الجوز والعسل والشونيز، حتى يتسبَّط دماغُه، ثم يذكر له ما تمَّ على أهل البيت من الظلم، ثم يقول له: إذا كانت الأزارقةُ والخوارج سمحوا بنفوسِهم في القتال مع بني أمية، فما سببُ تخلُّفِك بنفسك عن إمامك؟ قال الذهبي: "أنفذ ملكشاه إليه يتهدَّدُه ويأمره بالطاعة، ويأمرُه أن يكُفَّ أصحابَه عن قَتلِ العلماء والأمراء، فقال للرسول: الجوابُ ما تراه، ثم قال لجماعة بين يديه: أريد أن أنفِذَكم إلى مولاكم في حاجةٍ، فمن ينهضُ بها؟ فاشرأبَّ كل واحد منهم، وظنَّ الرسولُ أنها حاجةٌ، فأومى إلى شابٍّ، فقال: اقتل نفسَك، فجذب سكينًا، فقال بها في غَلصَمتِه، فخرَّ ميتًا، وقال لآخر: ارمِ نفسَك من القلعةِ، فألقى نفسَه فتقطَّع، ثم قال للرسول: قُلْ له: عندي من هؤلاء عشرون ألفًا، هذا حَدُّ طاعتِهم، فعاد الرسول وأخبر ملكشاه، فعَجِبَ، وأعرضَ عن كلامِهم". وقد غلت الأقطار بجرائِمِ أتباعه الباطنية، فقَتَلوا غيلةً عِدَّةً من العلماء والأمراء، وأخذوا القلاع، وحاربوا، وقطعوا الطرق، وظهروا أيضًا بالشام، والتفَّ عليهم كل شيطان ومارق، وكلُّ ماكر ومتحَيِّل. قال الغزالي في (سر العالمين): "شاهدت قصةَ الحسن بن الصباح لما تزهَّدَ تحت حصن ألموت، فكان أهلُ الحصن يتمنَّون صعوده، ويتمنَّع ويقول: أما ترون المنكرَ كيف فشا، وفسد الناسُ، فصبا إليه خلقٌ، وذهب أميرُ الحصن يتصيَّد، فوثب على الحصن فتملَّكه، وبعث إلى الأمير من قتَلَه، وكثُرَت قلاعُهم، واشتغل عنهم أولاد ملكشاه باختلافِهم". هلك الحسن بن الصباح في قلعة ألموت وقام بعده بالأمر كيابرزك أميد الروذباري.
لَمَّا ملك الفرنجُ مدينة صور طمعوا وقَوِيَت نفوسهم، وتيقَّنوا الاستيلاءَ على بلاد الشام، واستكثروا من الجموع، ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، فأطمعهم طمعًا ثانيًا، لا سيما في حلب، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي، وبذل لهم على مساعدته بذولًا كثيرة، وقال: إنني أكون هاهنا نائبًا عنكم ومطيعًا لكم، فساروا معه إليها وحصروها، وقاتلوا قتالًا شديدًا، ووطَّنوا نفوسهم على المقام الطويل، وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها، وبَنَوا البيوت لأجل البرد والحر، فلما رأى أهلها ذلك ضَعُفت نفوسهم، وخافوا الهلاك، وظهر لهم من صاحِبِهم تمرتاش الوهنُ والعجزُ، وقَلَّت الأقوات عندهم، فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب أعملوا الرأي في طريق يتخلَّصون به، فرأوا أنه ليس لهم غيرُ قسيم الدولة البرسقي، صاحب الموصل، فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيءَ إليهم ليسلِّموا البلد إليه. فجمع عساكره وقصدهم، وأرسل إلى من بالبلد، وهو في الطريق، يقول: إنني لا أقدر على الوصول إليكم، والفرنج يقاتلونَكم، إلَّا إذا سلمتم القلعة إلى نوَّابي، وصار أصحابي فيها، فإنني لا أدري ما يُقَدِّرُه الله تعالى إذا أنا لقيتُ الفرنج، فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيدِ أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها، لم يبقَ منا أحد، وحينئذ تؤخَذُ حلب وغيرها، فأجابوه إلى ذلك، وسلَّموا القلعة إلى نوابه، فلما استقروا فيها، واستولوا عليها، سار في العساكر التي معه، فلما أشرف عليها رحل الفرنجُ عنها، وهو يراهم، فأراد مَن في مقدمة عسكره أن يحمِلَ عليهم، فمنَعَهم هو بنفسه، وقال: قد كُفِينا شَرَّهم، وحَفِظْنا بلدنا منهم، والمصلحةُ تركُهم حتى يتقرَّر أمر حلب ونُصلِحَ حالها، ونُكثر ذخائرها، ثم حينئذ نقصِدُهم ونقاتِلُهم. فلما رحل الفرنجُ خرج أهل حلب ولقُوه، وفرحوا به، وأقام عندهم حتى أصلح الأمورَ وقَرَّرها.
كانت مدينةُ صور تحت حكم الفاطميين العُبيديين بمصر، ولم تَزَل كذلك إلى سنة 506، وكان الفرنجُ قد حصروها، وضَيَّقوا عليها، ونهبوا بلدَها غير مرة، فتجهَّز ملكُ الفرنج، وجمع عساكِرَه ليسيرَ إلى صور، فخافهم أهلُ صور، فأرسلوا إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يطلُبون منه أن يُرسِلَ إليهم أميرًا من عنده يتولاهم ويحميهم، ويكونُ البلد له، وقالوا له: إن أرسلتَ إلينا واليًا وعسكرًا، وإلا سلَّمْنا البلد إلى الفرنج؛ فسيَّرَ إليهم عسكرًا، وجعل عندهم واليًا اسمه مسعود، وكان شهمًا شجاعًا عارفًا بالحرب ومكايدها، وأمدَّه بعسكر، وسير إليهم ميرة ومالًا فرَّقَه فيهم، وطابت نفوس أهل البلد، ولم تُغَيَّر الخطبة للآمر بن المستعلي الفاطمي، صاحب مصر، ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرِّفُه صورة الحال، ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها ويذُبٌّ عنها، سلَّمتُها إليه، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة، فشكره الأفضل على ذلك، وأثنى عليه، وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولًا، وسيَّره إلى صور، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة 516 بعد قتل الأفضل، فسُيِّرَ إليها أسطول على جاري العادة، وأمروا المقَدَّم على الأسطول أن يُعمِلَ الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين، ويقبض عليه، ويتسلَّم البلد منه. وكان السببُ في ذلك أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر العبيدي، صاحب مصر، بما يعتَمِدُه من مخالفتهم، والإضرار بهم، ففعلوا ذلك، وسار الأسطول فأرسى عند صور، فخرج مسعودٌ إليه للسلام على المقدَّم عليه، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقَدَّم اعتقله ونزل البلد، واستولى عليه، وعاد الأسطول إلى مصر وفيه الأمير مسعود، فأُكرِمَ وأُحسِنَ إليه وأُعيد إلى دمشق، وأما الوالي من قِبَل المصريين فإنه طيَّب قلوبَ الناس، وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود، فأحسن طغتكين الجواب، وبذل من نفسه المساعدةَ، ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قَوِيَ طمعهم فيها، وحدَّثوا نفوسهم بملكها، وشرعوا في الجمع والتأهُّب للنزول عليها وحَصْرها، فسمع الوالي بالخبر، فعلمَ أنَّه لا قوة له ولا طاقة على دفع الفرنج عنها؛ لقلة مَن بها من الجند والميرة، فأرسل إلى الآمر العُبيدي بذلك، فرأى أن يرُدَّ ولاية صور إلى طغتكين، صاحب دمشق، فأرسل إليه بذلك، فملك صور، ورتب بها من الجندِ وغيرهم ما ظنَّ فيه كفاية، وسار الفرنجُ إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة، وضيَّقوا عليهم، ولازموا القتال، فقَلَّت الأقوات، وسَئِمَ من بها القتالَ، وضَعُفَت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرُبَ منهم، ويذُبَّ عن البلد، ولعل الفرنج إذا رأوا قُرْبَه منهم رحلوا، فلم يتحركوا، ولزموا الحصار، فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجِدُهم، فلم ينجدوه، وتمادت الأيام وأشرف أهلها على الهلاك، فراسل حينئذ طغتكين، صاحب دمشق، الفرنجَ, وقرَّر الأمر على أن يُسَلِّمَ المدينةَ إليهم، ويُمَكِّنوا مَن بها من الجند والرعية من الخروجِ منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها، فاستقرَّت القاعدةُ على ذلك، وفُتِحت أبواب البلد، وملكه الفرنجُ، وفارقه أهلُه، وتفرَّقوا في البلاد، وحملوا ما أطاقوا، وتركوا ما عجزوا عنه، ولم يَعرِض الفرنجُ لأحد منهم، ولم يبقَ إلا الضعيف عجز عن الحركة، وملك الفرنج البلدَ في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وكان سقوط صور بيد الفرنج وهنًا عظيمًا على المسلمين؛ فإنَّه من أحصنِ البلادِ وأمنَعِها.
قصد دبيس والسلطانُ طغرل بغدادَ ليأخذاها من يد الخليفة، فلما اقتربا منها برز إليهما الخليفةُ في جحفلٍ عظيم، والناسُ مُشاةٌ بين يديه إلى أول منزلة، ثم ركب الناسُ بعد ذلك، فلما أمست الليلةُ التي يقتتلون في صبيحتها، ومِن عزمهم أن ينهبوا بغداد، أرسل الله مطرًا عظيمًا، ومرض السلطان طغرل في تلك الليلة، فتفَرَّقت تلك الجموع ورجعوا على أعقابهم خائبين خائفين، والتجأ دبيس وطغرل إلى الملك سنجر وسألاه الأمان من الخليفة، والسلطان محمود، فحَبَس سنجر دبيسًا في قلعة خدمةً للمسترشد.
جمع قسيمُ الدولة البرسقي صاحب الموصل عساكِرَه وسار إلى الشام، وقصد كفر طاب وحصَرَها، فمَلَكها من الفرنج، وسار إلى قلعة عزاز، وهي من أعمال حلب من جهة الشمال، وصاحبها جوسلين الفرنجي، فحصرها، فاجتمعت الفرنج؛ فارِسُها وراجِلُها، وقصدوه ليُرحلوه عنها، فلقيهم وضرب معهم مصافًّا، واقتتلوا قتالًا شديدًا صبروا كلهم فيه، فانهزم المسلمون وقُتِل منهم وأُسِر كثير، وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين، وعاد منهزمًا إلى حلب، فخلف بها ابنه مسعودًا، وعبر البرسقي الفراتَ إلى الموصل؛ ليجمعَ العساكر ويعاوِدَ القتال.
عَظُم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس، واستطال على المسلمين، فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج، وجاس في بلاد الإسلام، وخاضها، حتى وصل قرب قرطبة، وأكثر النهبَ والسبيَ والقتل، فاجتمع المسلِمونَ في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة، وقصدوه، فلم يكن له بهم طاقة، فتحصَّن منهم في حصن منيع له اسمه أرنيسول، فحصروه، وكبسهم ليلًا، فانهزم المسلمون، وكثُرَ القتل فيهم، وعاد إلى بلاده.
في هذه السنة عَظُم أمر الإسماعيلية بالشام، وقَوِيت شوكتهم، وملكوا بانياس في ذي القعدة منها، وسببُ ذلك أن بهرام بن أخت الأسداباذي، داعيَ الباطنية بحلب والشام، لَمَّا قُتِل خالُه ببغداد هرب إلى الشام، وصار داعيَ الإسماعيلية فيه، وكان يتردد في البلاد، ويدعو أوباش الناس وطغامَهم إلى مذهبه، فاستجاب له منهم من لا عقلَ له، فكثُر جمعه، إلا أنه يُخفي شخصَه فلا يُعرَف، وأقام بحلب مدة، ونفر إلى إيلغازي صاحبها، وأراد إيلغازي أن يعتَضِدَ به لاتقاء الناس شَرَّه وشر أصحابه؛ لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم، وقصد من يتمسَّك بهم، وأشار إيلغازي على طغتكين، صاحب دمشق، بأن يجعلَه عنده لهذا السبب، فقبل رأيه، وأخذه إليه، فأظهر حينئذ شخصه -بهرام داعية الباطنية الإسماعيلية- وأعلن دعوته، فكثر أتباعُه من كل من يريد الشرَّ والفساد، ووافقه الوزيرُ طاهر بن سعد المزدقاني، وإن لم يكن على عقيدته؛ قصدًا للاعتضاد به على ما يريد، فعَظُم شَرُّه واستفحل أمره، وصار أتباعه أضعافَ ما كانوا، فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذهب أهل السنة، وأنهم يشدِّدون عليه فيما ذهب إليه، لَمَلَك البلدَ، ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظةً وغلظةً عليه، فخاف عاديتَهم، قال الذهبي: "كان طغتكين سيفًا مسلولًا على الفرنج، ولكن له خرمة كان قد استفحل البلاءُ بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائنَ والقلاع متخفيًا، ويُغوي الأغتام والشطَّار، وينقاد له الجهَّال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرَّره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يُكرِمُه، ويبالِغُ اتقاء لشَرِّه، فتَبِعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكثُروا، ووافقه الوزير طاهر المزدقاني، وبث إليه سره، ثم التمس من الملك طغتكين قلعةً يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعَظُم الخطب، وتوجَّع أهلُ الخير، وتستَّروا مِن سَبِّهم، وكانوا قد قتلوا عدةً من الكبار، فتصدى لهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فقتل الوزير كمال الدين طاهر بن سعد المزدقاني، ونصب رأسه، وركب جندَه، فوضعوا السيفَ بدمشق في الملاحدة الإسماعيلية، فكبسوا منهم في الحال نحوًا من ستة آلاف نفس في الطرقات، وكانوا قد تظاهروا، وتفاقم أمرهم، وراح في هذه الكائنة الصالحُ بالطالح. وأما بهرام فتمرَّد وعتا وقَتَل شابًّا من أهل وادي التيم اسمه برق، فقام عشيرته، وتحالفوا على أخذ الثأر، فحاربهم بهرام، فكَبَسوه وذبحوه، وسَلَّمَت الملاحِدةُ بانياس للفرنج، وذَلُّوا. وقيل: إن المزدقاني كان قد كاتب الفرنج ليُسَلِّمَ إليهم دمشق، ويعطوه صور، وأن يهجموا البلد يوم جمعة، ووكل الملاحدةَ تغلق أبواب الجامع على الناس، فقتله لهذا تاج الملوك، وقد التقى الفرنجَ وهزمهم، وكانت وقعةً مشهودة. وفي سنة 520 أقبلت جموع الفرنج لأخذ دمشق، ونزلوا بشقحب، فجمع طغتكين التركمانيين وشطار دمشق، والتقاهم في آخر العام، وحَمِيَ القتال، ثم فرَّ طغتكين وفرسانه عجزًا، فعطفت الرجَّالةُ على خيام العدو، وقَتَلوا في الفرنج، وحازوا الأموالَ والغنائم، فوقعت الهزيمةُ على الفرنج، ونزل النصرُ".