موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الأوَّلُ: دُخولُ الأُمَّةِ في الأمرِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


اختَلَف الأُصوليُّونَ في أنَّ الأمرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَل هو أمرٌ لأُمَّتِه أو لا؟
والرَّاجِحُ: أنَّ الأمرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو أمرٌ لأُمَّتِه، ولا يَخرُجُ أحَدٌ عنه إلَّا بدَليلٍ يَخُصُّه؛ فإذا أمَرَ اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بفِعلِ عِبادةٍ بلَفظٍ ليس فيه تَخصيصٌ، كقَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 1-2] ، ويَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ، ويَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1-2] ، أو فعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلًا قد عُرِف أنَّه واجِبٌ أو نَدبٌ أو مُباحٌ؛ فإنَّ أُمَّتَه يُشارِكونَه في حُكمِ ذلك الأمرِ والفِعلِ، حتَّى يَدُلَّ دَليلٌ على تَخصيصِه.
وهو قَولُ أحمَدَ [1027] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/322)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/859)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2460). ، وبه قال الحَنَفيَّةُ [1028] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/225)، ((بديع النظام)) للساعاتي (2/457)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/224). ، وأكثَرُ المالِكيَّةِ [1029] يُنظر: ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/223)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/206). ، وبَعضُ الشَّافِعيَّةِ [1030] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/226). ، وأكثَرُ الحَنابِلةِ [1031] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 31)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/859)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/504)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2460). ، وقال الإسنَويُّ: (ظاهِرُ كَلامِ الشَّافِعيِّ في البُوَيطيِّ أنَّه يتناوَلُهم) [1032] يُنظر: ((نهاية السول)) (ص: 190). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: قَولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب: 37] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أخبَرَ أنَّه زَوَّجَه مَن كانتِ امرَأةَ مَن تَبَنَّاه؛ لكَي يَقتَديَ النَّاسُ به في ذلك، فلا يَمتَنِعوا مِنَ التَّزويجِ بنِساء مَن تَبنَّوه؛ ولذلك عَلَّلَ الإباحةَ بنَفيِ الحَرَجِ عن أُمَّتِه، ولَوِ اختَصَّ به الحُكمُ لَما كان عِلَّةً لذلك، فثَبَتَ بهذا أنَّهم مُشارِكونَ له فيما فعَلَه؛ إذ إنَّه لَو خُصَّ لَم يَصِحَّ التَّعليلُ [1033] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/225)، ((العدة)) لأبي يعلى (1/322)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/860)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/506)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2461). .
ثانيًا: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد كان يُسألُ عنِ الأمرِ فيُجيبُ عن حالِ نَفسِه، وهذا يَدُلُّ على أنَّه لا فرقَ بَينَه وبَينَهم، ومِن أمثِلةِ ذلك:
ما رَوته عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رجلًا سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: تُدرِكُني الصَّلاةُ وأنا جُنُبٌ فأصومُ؟ فقال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "وأنا تُدرِكُني الصَّلاةُ وأنا جُنُبٌ فأصومُ" [1034] أخرجه مسلم (1110). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه أجابَهم بفِعلِه، ولَو كان الحُكمُ مُختَصًّا به لَم يَصلُحْ فِعلُه أن يَكونَ جَوابًا لهم [1035] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2462). .
ثالِثًا: أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم كانوا يَرجِعونَ إلى أفعالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يُختَلَفُ فيه مِن أحكامِ الشَّرعِ [1036] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/329)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/861)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/506). ، مِثلُ ما رويَ عنِ اختِلافِهم في الغُسلِ مِنِ التِقاءِ الختانَينِ مِن غَيرِ إنزالٍ [1037] عن أبي هرَيرةَ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إذا جَلَسَ بَينَ شُعَبِها الأربَعِ ثُمَّ جَهَدَها، فقد وجَبَ عليه الغُسلُ)). أخرجه البخاري (291)، ومسلم (348). وفي رِوايةٍ: ((وإن لَم يُنزِلْ)) أخرجها مُسلِم (348). وفي لَفظٍ: ((إذا جَلَسَ بَينَ شُعَبِها الأربَعِ ومَسَّ الخِتانُ الخِتانَ، فقد وجَبَ الغُسلُ)). أخرجه مسلم (349) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. وفي لَفظٍ: عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: خَرَجتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ الاثنَينِ إلى قُباءَ حتَّى إذا كُنَّا في بَني سالِمٍ وقَف رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بابِ عِتبانَ، فصَرَخَ به، فخَرَجَ يَجُرُّ إزارَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أعجَلنا الرَّجُلَ! فقال عِتبانُ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ الرَّجُلَ يَعجَلُ عنِ امرَأتِه ولَم يُمنِ، ماذا عليه؟ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ. أخرجه مسلم (343). وفي لَفظ: ((إذا جَلَسَ بَينَ شُعَبِها الأربَعِ وأجهَدَ نَفسَه؛ فقد وجَبَ الغُسلُ، أنزَلَ أو لَم يُنزِلْ)). أخرجه أحمَد (8574) واللَّفظُ له، والطيالسي (2571)، والبيهقي (780) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. قال ابنُ شاهين في ((الناسخ والمنسوخ)) (75): صحيح غريب، وصَحَّح إسنادَه ابنُ القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/223)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (8574)، وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (1/122): إسنادُه على شرطِ الشَّيخين، وقال ابنُ حزم في ((المحلى)) (3/2): فيه زيادةٌ ثابتةٌ عن الأحاديثِ التي فيها إسقاطُ الغُسلِ. .
وقيلَ: إذا تَوجَّهَ الأمرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم تَدخُلِ الأُمَّةُ فيه بإطلاقِه، أي: أنَّ الحُكمَ يَكونُ مَقصورًا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تَدخُلُ أُمَّتُه فيه إلَّا بدَليلٍ يوجِبُ التَّسويةَ بَينَهما في الحُكمِ. وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ كالباقِلَّانيِّ [1038] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/181). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [1039] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/260)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/193). كالشِّيرازيِّ [1040] يُنظر: ((شرح اللمع)) (1/282). والسَّمعانيِّ [1041] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/227). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ كأبي الحَسَنِ التَّميميِّ [1042] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/324)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 31)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/859). ، وأبي الخَطَّابِ الكَلْوَذانيِّ [1043] يُنظر: ((التمهيد)) (1/276). .
أثَرَ الخِلافِ في المَسألةِ [1044] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2469)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1413). :
يَظهَرُ أثَرُ الخِلافِ هنا في أنَّ أصحابَ القَولِ الرَّاجِحِ قَصَدوا أنَّ دُخولَ الأُمَّةِ في الأوامِرِ الموجَّهةِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد ثَبَتَ عن طَريقِ اللَّفظِ والنَّصِّ، ولا تَخرُجُ عنه إلَّا بدَليلٍ خارِجيٍّ.
أمَّا أصحابُ القَولِ الثَّاني فإنَّهم قَصَدوا أنَّ الخِطابَ مُختَصٌّ بمَن وُجِّهَ إليه، ولا يَدخُلُ غَيرُه فيه إلَّا بدَليلٍ، كَقياسِ غَيرِ المُخاطَبِ على المُخاطَبِ.
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ.
وعلى القَولِ الثَّاني: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ القياسِ.
والفرقُ بَينَ ما ثَبَتَ عن طَريقِ النَّصِّ، وما ثَبَتَ عن طَريقِ القياسِ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ أقوى مِنَ الحُكمِ الثَّابِتِ عن طَريقِ القياسِ.
الثَّاني: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ يَنسَخُ ويُنسَخُ به، أمَّا الحُكمُ الثَّابِتُ عن طَريقِ القياسِ فلا يَنسَخُ ولا يُنسَخُ به؛ لأنَّه ثَبَتَ عن طَريقِ الاجتِهادِ، والنَّسخُ خاصٌّ بالنُّصوصِ.

انظر أيضا: