موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الخارِجُ على جِهةِ المَدحِ أوِ الذَّمِّ: هَل يَقتَضي العُمومَ؟


إذا ذَكَرَ اللهُ تعالى فاعِلَ المُحَرَّمِ، ثُمَّ قال بَعدَه: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 57] ، أو ذَكَر فاعِلَ المَأمورِ به، ثُمَّ قال بَعدَ ذِكرِه: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عِمرانَ: 134] ، فهل يَعُمُّ ذلك اللَّفظُ كُلَّ ظالِمٍ، وكُلَّ مُحسنٍ، أو يَختَصُّ ذلك بمَن تَقَدَّم قَبلَ ذِكرِ العامِّ [1485] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/356). ؟
اتَّفقَ الأُصوليُّونَ على أنَّ العامَّ المُرَتَّبَ على شَرطٍ تَقدَّم لا يَقتَضي العُمومَ، كقَولِ اللهِ تعالى: إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 25] .
فالشَّرطُ المُتَقدِّمُ هو صَلاحُ المُخاطَبينَ الحاضِرينَ، وصَلاحُهم لا يَكونُ سببًا للمَغفِرةِ لمَن تَقدَّم مِنَ الأُمَمِ قَبلَهم، أو يَأتي بَعدَهم؛ فإنَّ قَواعِدَ الشَّرعِ تَأبى ذلك، وإن سَعى كُلُّ أحَدٍ لا يَتَعَدَّاه لغُفرانِ غَيرِه، إلَّا أن يَكونَ له فيه تَسَبُّبٌ، وهاهنا لا تَسَبُّبَ، فلا يَتَعَدَّى، فيَتَعَيَّنُ أن يَكونَ المُرادُ: فإنَّه كان للأوَّابينَ مِنكُم غفورًا؛ فإنَّ شَرطَ الجَزاءِ لا يَتَرَتَّبُ جَزاؤُه على غَيرِه.
أمَّا إذا لَم يَكُنْ شَرطًا فهذا مَحَلُّ الخِلافِ في المَسألةِ [1486] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 222)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/358). .
والرَّاجِحُ: أنَّ الخارِجَ على جِهةِ المَدحِ أوِ الذَّمِّ يَقتَضي العُمومَ؛ وذلك لعَدَمِ التَّنافي بَينَ قَصدِ العُمومِ وبَينَ المَدحِ أوِ الذَّمِّ، ومَعَ عَدَمِ وُجودِ التَّنافي يَنبَغي التَّمَسُّكُ بما يُفيدُه اللَّفظُ مِنَ العُمومِ. وهو مَنقولٌ عنِ الأئِمَّةِ الأربَعةِ [1487] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/879)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 116)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2502). ، وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1488] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/273)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (2/467)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/90)، ((التحرير)) لابن الهمام (ص: 93)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/276). ، وجُمهورِ الأُصوليِّينَ [1489] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1761)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/266). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ، كابنِ الحاجِبِ [1490] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/783)، ((منتهى الوصول والأمل)) (ص: 87). ، والقَرافيِّ [1491] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 221)، ((العقد المنظوم)) (2/386). ، وهو المَذهَبُ عِندَ الشَّافِعيَّةِ [1492] يُنظر: ((البحر المحيط)) (4/166)، ((تشنيف المسامع)) (2/119) كلاهما للزركشي، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 287). ، واختارَه بَعضُ الحَنابِلةِ، كالكَلْوَذانيِّ [1493] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/160). ، والمَرداويِّ [1494] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2503). . ورَجَّحَه الشَّوكانيُّ، ثُمَّ قال: (لَم يَأتِ مَن مَنَعَ مِن عُمومِه عِندَ قَصدِ المَدحِ أوِ الذَّمِّ بما تَقومُ به الحُجَّةُ) [1495] ((إرشاد الفحول)) (1/331). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم قد حَمَلوه على العُمومِ؛ فقد رُويَ عن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال في الأُختَينِ المَملوكَتَينِ: (أحَلَّتهما آيةٌ، وحَرَّمَتهما آيةٌ) [1496] أخرجه عبد الرزاق (12728)، ومالك (3/772)، والبيهقي (14044). . وعُني بآيةِ التَّحليلِ قَولُ اللهِ تعالى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه رَضِيَ اللهُ عنه حَمَلَ الآيةَ على العُمومِ، مَعَ أنَّ القَصدَ كان هو المَدحَ لمَن حَفِظ فَرجَه عنِ الحَرامِ [1497] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/208)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/224). .
2- أنَّ صيغةَ العُمومِ قد وُجِدَت مُتَجَرِّدةً عن دَلالةِ التَّخصيصِ، فأشبَهَ إذا تَجَرَّدَت عن ذِكرِ المَدحِ أوِ الذَّمِّ.
ولأنَّ اقتِرانَ المَدحِ به لا يُنافي القَصدَ إلى بَيانِ الحُكمِ، فلَم يَمنَعِ التَّعَلُّقَ بعُمومِه، كاقتِرانِ حُكمٍ آخَرَ به.
ولأنَّ اقتِرانَ المَدحِ به يُؤَكِّدُ حُكمَ الإباحةِ، واقتِرانُ الذَّمِّ يُؤَكِّدُ حُكمَ التَّحريمِ، فهو بجَوازِ الاحتِجاجِ به أَولى.
ولأنَّه لَو كان اقتِرانُ ذِكرِ المَدحِ به يَمنَعُ مِن حَملِه على العُمومِ لَكان اقتِرانُ ذِكرِ العِقابِ به يَمنَعُ مِن ذلك، وهذا يُؤَدِّي إلى إبطالِ التَّعَلُّقِ بآيةِ السَّرِقةِ والرِّبا وغَيرِهما مِنَ العُموماتِ [1498] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 193)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/160). .
3- أنَّ التَّمَسُّكَ بالعُمومِ فيه إعمالٌ للصِّيغةِ في مُقتَضاها، وقَصدُ المُبالَغةِ في الحَثِّ على الفِعلِ والزَّجرِ عنه، وإن كان مَطلوبًا للمُتَكَلِّمِ، فلا يُنافي عُمومَه، فالجَمعُ بَينَ الأمرَينِ أَولى مِنَ العَمَلِ بأحَدِهما وتَعطيلِ الآخَرِ [1499] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/280)، ((تلقيح الفهوم)) للعلائي (ص: 400). .
وقيلَ: إنَّ الخارِجَ على جِهةِ المَدحِ أوِ الذَّمِّ لا يَقتَضي العُمومَ. ونُسِبَ إلى الشَّافِعيِّ [1500] يُنظر: ((الوصول)) لابن برهان (1/308)، ((الإحكام)) للآمدي (2/343)، ((تلقيح الفهوم)) للعلائي (ص: 400)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1761). وضَعَّف تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ نِسبةَ هذا القَولِ إلى الشَّافِعيِّ، فقال: (الثَّابِتُ عنِ الشَّافِعيِّ الصَّحيحُ مِن مَذهَبِه العُمومُ). ((رفع الحاجب)) (3/223). ، وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ [1501] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 221)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2503). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1502] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 28)، ((المحصول)) للرازي (3/135). ، وجَزَمَ به مِنهمُ القاضي حُسَينٌ [1503] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/266). ، وقَوَّاه العَلائيُّ [1504] يُنظر: ((تلقيح الفهوم)) (ص: 401). .
وقيلَ بالتَّفصيلِ، وهو أنَّ الخارِجَ على جِهةِ المَدحِ أوِ الذَّمِّ يَقتَضي العُمومَ إذا لم يُعارِضْه عامٌّ آخَرُ لا يُقصَدُ به المَدحُ أوِ الذَّمُّ، فيَتَرَجَّحُ الذي لم يُسَقْ لذلك عليه.
مِثالُه مَعَ عَدَم المُعارِضِ: قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13-14].
ومِثالُه مَعَ المُعارِضِ: قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون: 5 - 6] فإنَّه سيقَ للمَدحِ، وهو يَعُمُّ بظاهرِه الأُختَينِ بمِلكِ اليَمينِ جمعًا.
وعارَضَه في ذلك قَولُه تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: 23] ؛ فإنَّه لَم يُسَقْ للمَدحِ، وهو عامٌّ في الجَمعِ بمِلكِ اليَمينِ والنِّكاحِ، فرَجَحَ على الأوَّلِ؛ لأنَّه لبَيانِ الحُكمِ.
وقال بهذا التَّفصيلِ بَعضُ الأُصوليِّينَ، كأبي حامِدٍ الإسفِرايِينيِّ [1505] يُنظر: ((البحر المحيط)) (4/266)، ((تشنيف المسامع)) (2/684) كلاهما للزركشي. ، وابنِ السَّمعانيِّ [1506] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/208). ، والمَجدِ بنِ تيميَّةَ [1507] يُنظر: ((المسودة)) (ص: 133). ، وتاجِ الدِّينِ السُّبكيِّ [1508] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 46)، ((رفع الحاجب)) (3/224). .
قال المَرداويُّ: (وهذا في الحَقيقةِ عَينُ القَولِ بالعُمومِ؛ لأنَّ غايةَ المُعارَضةِ قَرينةُ تَقدُّمِ غَيرِه عليه في صُوَرِه) [1509] ((التحبير)) (5/2504). .
ومِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ للمَسألةِ:
ما إذا قال رَجُلٌ لأبنائِه: (واللَّهِ مَن فعَلَ كَذا مِنكُم عاقَبْتُه، أو إن فَعَلتُم كَذا عاقَبتُكُم): فعلى القَولِ بأنَّه لا يَعُمُّ فإنَّه يَحصُلُ البِرُّ بيَمينِه بمُعاقَبةِ أحَدِهم.
وعلى القَولِ بالعُمومِ فإنَّه لا يَبَرُّ بمُعاقَبةِ أحَدِهم لَو فعَلوه [1510] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 339)، ((شرح ذريعة الوصول)) للزبيدي (ص: 349). .

انظر أيضا: