المَبحَثُ السَّابِعُ: في
حَرفُ الجَرِّ (في) يُفيدُ الظَّرفيَّةَ، أي: أنَّ ما بَعدَها ظَرفٌ ووِعاءٌ لِما قَبلَها، والظَّرفيَّةُ أصلُ مَعانيها، فإذا قُلتَ: فلانٌ في البَيتِ، فإنَّما تُريدُ: أنَّ البَيتَ قد حَواه، وكذلك: المالُ في الكيسِ، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى:
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] ، وقَولُ اللهِ تعالى:
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران: 97] [2601] يُنظر: ((الأصول في النحو)) لابن السراج (1/412)، ((أصول الشاشي)) (ص: 232)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 45)، ((نزهة الأعين النواظر)) لابن الجوزي (ص: 475)، ((المحصول)) للرازي (1/376)، ((الإحكام)) للآمدي (1/62). ، سَواءٌ كانتِ الظَّرفيَّةُ زَمانيَّةً، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى:
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] ، أو مَكانيَّةً، نَحوُ قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 78] ، وسَواءٌ كانت حَقيقيَّةً كما سَبَقَ، أو مَجازيَّةً، فقد تُستَعارُ (في) في مَواضِعَ تَدُلُّ عليها القَرينةُ، فإن قُلتَ: في فُلانٍ عَيبٌ. فمَجازٌ واتِّساعٌ؛ لأنَّكَ جَعَلتَ الرَّجُلَ مَكانًا للعَيبِ يَحتَويه، وإنَّما هذا تَمثيلٌ بذاكَ يُقارِبُ الشَّيءَ وليس مِثلَه، ومِنه قَولُهم: في يَدِ فُلانٍ ضَيعةٌ نَفيسةٌ، ومُحالٌ أن تَكونَ يَدُه وِعاءً لِما هو أكثَرُ منها، ولَكِنَّ هذا اتِّساعٌ، كأنَّه بشِدَّةِ تَمَكُّنِه مِنَ الضَّيعةِ، وقوَّةِ تَصرُّفِه فيها بمَنزِلةِ الشَّيءِ الذي في يَدِه، وهذا كُلُّه اتِّساعٌ في الكَلامِ
[2602] يُنظر: ((الأصول في النحو)) لابن السراج (1/412)، ((نزهة الأعين النواظر)) لابن الجوزي (ص: 475). ويُنظر أيضًا: ((أصول الشاشي)) (ص: 232)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/ 181)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (1/ 347)، ((الكوكب الدري)) (ص: 323)، ((نهاية السول)) (ص: 143) كلاهما للإسنوي. .
ومِن مَعاني في:
1- السَّبَبيَّةُ:تَأتي (في) للسَّبَبيَّةِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة: 178] .
ومِنه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دَخَلَتِ امرَأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ رَبَطَتها)) [2603] أخرجه البخاري (3318) واللفظ له، ومسلم (2242) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. مَعناه: بسَبَبِها؛ لأنَّها لَيسَت في الهِرَّةِ
[2604] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 103)، ((الجنى الداني)) للمرادي (ص: 251)، ((تمهيد القواعد)) لناظر الجيش (6/2955). .
وهذا المَعنى لـ (في) أنكَرَه جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ
[2605] مِنهمُ الرَّازيُّ؛ حَيثُ قال: (ومِنَ الفُقَهاءِ مَن قال: إنَّها للسَّبَبيَّةِ، كقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "في النَّفسِ المُؤمِنةِ مِائةٌ مِنَ الإبِلِ"، وهو ضَعيفٌ؛ لأنَّ أحَدًا مِن أهلِ اللُّغةِ ما ذَكَرَ ذلك، مَعَ أنَّ المَرجِعَ في هذه المَباحِثِ إليهم). ((المَحصول)) (1/377). ، وأثبَتَه آخَرونَ
[2606] كالقَرافيِّ؛ حَيثُ قال: (كَونُها للسَّبَبيَّةِ أنكَرَه جَماعةٌ مِنَ الأُدَباءِ، والصَّحيحُ ثُبوتُه). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 103). .
2- المُصاحَبةُ:قد تَأتي (في) للمُصاحَبةِ، وهيَ التي يَحسُنُ في مَوضِعِها حَرفُ (مَعَ)، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى:
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [الأعراف: 38] ، وقَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأحقاف: 18] [2607] يُنظر: ((نزهة الأعين النواظر)) ص: 476)، ((الجنى الداني)) للمرادي (ص: 250)، ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/35)، ((تمهيد القواعد)) لناظر الجيش (6/2954)، ((التصريح بمضمون التوضيح)) للأزهري (1/649). .
3- بمَعنى: إلى:تَأتي (في) بمَعنى (إلى) على قَولٍ، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى:
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97] ، وقَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ [إبراهيم: 9] [2608] يُنظر: ((نزهة الأعين النواظر)) ص: 476)، ((الجنى الداني)) للمرادي (ص: 252). .
4- بمَعنى: مِن:تَأتي (في) بمَعنى (مِن) على قَولٍ، ومِن ذلك قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء: 5] ، أي: منها، وقَولُه تعالى:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا [النحل: 89] [2609] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/95)، ((نزهة الأعين النواظر)) ص: 476)، ((الجنى الداني)) للمرادي (ص: 252)، ((التصريح بمضمون التوضيح)) للأزهري (1/650). .
5- مَعنى المُقايَسةِ:تَأتي (في) بمَعنى المُقايَسةِ، وهيَ الدَّاخِلةُ على تالٍ بقَصدِ تَعظيمِه، وتَحقيرِ مَتلُوِّه، ومِنه قَولُه تعالى:
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38] أي: بالقياسِ إلى الآخِرةِ
[2610] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/225)، ((تمهيد القواعد)) لناظر الجيش (6/2955)، ((التصريح بمضمون التوضيح)) للأزهري (1/649). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:يَتَفرَّعُ على مَعاني في عِدَّةُ فُروعٍ فِقهيَّةٍ، ومِنها:
1- لَو قال: غَصَبتُك ثَوبًا في مِنديلٍ، أو: لزَيدٍ عِندي ثَوبٌ في مِنديلٍ؛ فعِندَ الحَنَفيَّةِ
[2611] قال الجَصَّاصُ: (مِن أجلِ ذلك قال أصحابُنا فيمَن قال: غَصَبتُ مِن فُلانٍ ثَوبًا في مِنديلٍ: إنَّه إقرارٌ بالمِنديلِ أيضًا؛ لأنَّه أقَرَّ أنَّه كان ظَرفًا له في حالِ الغَصبِ، وصارَ مَغصوبًا مَعَه). ((الفصول)) (1/95). ويُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/223). وسُحنونَ مِنَ المالِكيَّةِ
[2612] قال القَرافيُّ: (فالمَحَلُّ، كقَولِه: غَصَبتُ فُلانًا ثَوبًا في مِنديلٍ، فقال سُحنون: يُؤخَذُ بالثَّوبِ والمِنديلِ، ويُصَدَّقُ في صِفتِهما، وقال ابنُ عبدِ الحَكَمِ: لا يَلزَمُه المِنديلُ). ((الفروق)) (4/161). لَزِمَه رَدُّ كِلَيهما: الثَّوبِ والمِنديلِ؛ لأنَّ ذلك إقرارٌ منه بكِلَيهما؛ لأنَّه أقَرَّ بغَصبِ مَظروفٍ في ظَرفٍ، فلا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بغَصبِه لهما، وعِندَ بَعضِ المالِكيَّةِ
[2613] قال القاضي عبدُ الوهَّابِ: (إذا قال: له عليَّ ثَوبٌ في مِنديلٍ أو في صُندوقٍ، كان مُقِرًّا بالثَّوبِ دونَ الوِعاءِ، ولَو قال: له عِندي عَسَلٌ في زِقٍّ، لَكان مُقِرًّا بالعَسَلِ والزِّقِّ، وفَرَّق أصحابُنا بَينَهما: بأنَّ العَسَلَ يَفتَقِرُ إلى الوِعاءِ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أخذُه إلَّا في وِعاءٍ، والثَّوبُ يُمكِنُ أخذُه بغَيرِ مِنديلٍ، فلَم يَتَضَمَّنِ الإقرارُ به إقرارًا بظَرفِه). ((المعونة على مذهب عالم المدينة)) (ص: 1252). ويُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (2/69). ، والشَّافِعيَّةِ
[2614] قال الشَّافِعيُّ: (لَو قال: له عليَّ ثَوبٌ في مِنديلٍ، قيلَ له: قد يَصلُحُ أن تَكونَ أقرَرتَ بثَوبٍ ومِنديلٍ، ويَصلُحُ أن تَكونَ أقرَرتَ له بثَوبٍ فجَعَلتَه في مِنديلٍ لنَفسِك، فتَقولُ له: عليَّ ثَوبٌ في مِنديلٍ لي، فعليك ثَوبٌ، وتَحلِفُ ما أقرَرتَ له بمِنديلٍ. وأصلُ ما أقولُ مِن هذا أنِّي أُلزِمُ النَّاسَ أبَدًا اليَقينَ، وأطرَحُ عنهمُ الشَّكَّ، ولا أستَعمِلُ عليهمُ الأغلَبَ. وهَكَذا إذا قال: تَمرٌ في جِرابٍ، أو: ثَمَرٌ في قارورةٍ، أو: حِنطةٌ في مِكيالٍ، أو: ماءٌ في جَرَّةٍ، أو: زَيتٌ في وِعاءٍ). ((الأم)) (6/241). وقال الزَّركَشيُّ: (قال الأُستاذُ أبو مَنصورٍ: ولا يَجِبُ أن يَكونَ الظَّرفُ في حُكمِ المَقرورِ به؛ ولذلك قُلنا فيمَن قال: لزَيدٍ عَليَّ أو عِندي ثَوبٌ في مِنديلٍ: إنَّ إقرارَه يَتَناولُ الثَّوبَ دونَ المِنديلِ، وزَعَمَ العِراقيُّ أنَّه إقرارٌ بهما). ((البحر المحيط)) (3/198). ، ووَجهٌ عِندَ الحَنابِلةِ
[2615] قال القاضي أبو يَعلى: (فإذا قال: لفُلانٍ عليَّ ثَوبٌ في مِنديلٍ، أو تَمرٌ في جِرابٍ، لَم يَدخُلِ الظَّرفُ في الإقرارِ). ((العدة)) (1/204). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/128)، ((الفروع)) لابن مفلح (11/460). : لا يَدخُلُ الظَّرفُ في الإقرارِ؛ لأنَّ إقرارَه لَم يَتَناولِ الظَّرفَ، فيَحتَمِلُ أن يَكونَ في ظَرفٍ للمُقِرِّ، فلَم يَلزَمْه.
2- لَو قال لامرَأتِه: أنتِ طالِقٌ في غَدٍ، فإن أطلَقَ الكَلامَ تُطلَّقُ عِندَ الفَجرِ؛ لأنَّه يَقتَضي وُقوعَ الطَّلاقِ في جُزءٍ مِنَ الغَدِ على سَبيلِ الإبهامِ؛ فعِندَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَقَعُ الطَّلاقُ بأوَّلِ الجُزءِ لعَدَمِ المُزاحِمِ له، ويَكونُ بمَنزِلةِ قَولِه: أنتِ طالِقٌ غَدًا، وإن قال: نَويتُ آخِرَ النَّهارِ فإنَّه يَصدُقُ عِندَ أبي حَنيفةَ قَضاءً؛ لأنَّ ذِكرَ حَرفِ الظَّرفِ (في) دَليلٌ على أنَّه قَصَدَ جُزءًا مِنَ الغَدِ، فالوُقوعُ إنَّما يَكونُ في جُزءٍ، ولَكِنَّ ذلك الجُزءَ مُبهَمٌ في كَلامِه؛ فعِندَ عَدَمِ النِّيَّةِ حُمِلَ على أوَّلِه، فإذا نَوى آخِرَ النَّهارِ كان ذلك منه بَيانًا لمُبهَمِ كَلامِه، وهو مُصَدَّقٌ في بَيانِ مُبهَمِ كَلامِه.
وعِندَ الصَّاحِبَينِ -أبي يوسُفَ ومُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ- لا يَصدُقُ قَضاءً فيما لَو نَوى آخِرَ كَلامِه؛ لأنَّه نَوى التَّخصيصَ فيما موجِبُه العُمومُ
[2616] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/87)، ((المبسوط)) للسرخسي (6/115)، ((أصول السرخسي)) (1/223)، ((المهذب)) للشيرازي (3/32)، ((البيان)) للعمراني (10/186)، ((فتح الغفار)) لابن نجيم (ص: 211)، ((نيل المآرب)) للتغلبي (2/243). .
3- لَو قال: أنتِ طالِقٌ في الدَّارِ أو في الكوفةِ، فإنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ عليها حَيثُما تكونُ؛ لأنَّ المَكانَ لا يَصلُحُ ظَرفًا للطَّلاقِ؛ فإنَّ الطَّلاقَ إذا وقَعَ في مَكانٍ فهو واقِعٌ في الأمكِنةِ كُلِّها، وهيَ إذا اتَّصَفت بالطَّلاقِ في مَكانٍ تَتَّصِفُ به في الأمكِنةِ كُلِّها، إلَّا أن يَقولَ: عنَيتُ إذا دَخَلتِ، فحينَئِذٍ لا يَقَعُ الطَّلاقُ ما لَم تَدخُلْ، باعتِبارِ أنَّه كَنَّى بالمَكانِ عنِ الفِعلِ المَوجودِ فيه، أو أضمَرَ الفِعلَ في كَلامِه، فكَأنَّه قال: أنتِ طالِقٌ في دُخولِك الدَّارَ
[2617] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (10/292)، ((أصول السرخسي)) (1/224)، ((بحر المذهب)) للروياني (10/162)، ((الفروق)) للكرابيسي (1/171)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/223)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 226)، ((فصول البدائع)) للفناري (1/168)، ((فتح الغفار)) لابن نجيم (ص: 212). .
4- لَو قال: لفُلانٍ عَلَيَّ عَشَرةُ دَراهمَ في عَشَرةٍ، تَلزَمُه عَشَرةٌ؛ لأنَّ العَدَدَ لا يَصلُحُ ظَرفًا لمِثلِه، فالدَّراهِمُ لا تَصلُحُ ظَرفًا؛ فيَلغو، فإن قَصَد بـ (في): (مَعَ) لَزِمَه عِشرونَ؛ لأنَّ (في) يَأتي أيضًا بمَعنى مَعَ، لَكِن بدونِ القَصدِ لا يَلزَمُه إلَّا عَشرةٌ؛ لأنَّ المالَ بالشَّكِّ لا يَجِبُ، وإن قَصَد مِائةً كما هو مُتَعارَفُ الحِسابِ؛ فإنَّه يُحمَلُ عليه؛ لأنَّه بَيَّن قَصدَه وفيه تَشديدٌ عليه، فيُصَدَّقُ
[2618] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/225،224)، ((الكافي)) للسغناقي (2/996)، ((فتح الغفار)) لابن نجيم (ص: 212). قال عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ: (فإذا قال: لفُلانٍ عليَّ عَشَرةُ دَراهمَ في عَشَرةِ دَراهمَ، يَلزَمُه عَشَرةُ دَراهمَ عِندَنا، إلَّا أن يَعنيَ مَعنى "مَعَ"، فيَلزَمُه عِشرونَ. وقال زُفَرُ -رَحِمَه اللهُ-: يَلزَمُه عِشرونَ بكُلِّ حالٍ. وقال الحَسَنُ: يَلزَمُه مِائةٌ؛ لأنَّ العَشَرةَ في العَشَرةِ في مُتَعارَفِ الحِسابِ مِائةٌ، فيُحمَلُ عليها. إلَّا أنَّا نَقولُ: أثَرُ الضَّربِ في تَكثيرِ الأجزاءِ إلَّا في زيادةِ المالِ، وعَشَرةُ دَراهمَ وَزنًا وإن تكثُرُ أجزاؤُها لا تَصيرُ أكثَرَ مِن عَشَرةٍ. وزُفَرُ -رَحِمَه اللهُ- يَقولُ: لمَّا تَعَذَّرَ العَمَلُ بحَقيقةِ هذا الحَرفِ -لأنَّ العَدَدَ لا يَكونُ ظَرفًا لمِثلِه بلا شُبهةٍ- حُمِلَ على "مَعَ" أو "واو العَطفِ"؛ لِما ذَكَرنا أنَّ في الظَّرفِ مَعنى المُقارَنةِ والجَمعِ؛ قال اللهُ تعالى: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي [الفجرَ: 29] أي: مَعَهم. وإنَّا نَقولُ: جِهةُ المَجازِ هاهنا مُتَعَدِّدةٌ؛ فإنَّ "في" قد يَكونُ بمَعنى "على"، وبمَعنى "مِن"، كما يَكونُ بمَعنى "مَعَ"؛ قال تعالى إخبارًا: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] ، أي: عليها، وقال عَزَّ اسمُه: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [النساء: 5] ، أي: منها، وليس أحَدُ الوُجوهِ أَولى مِنَ الباقي، فيُعتَبَرُ أوَّلُ كَلامِه، فيَلزَمُه عَشَرةٌ ويَلغو آخِرُه. إلَّا أن يَقولَ: عَنَيتُ هذه وهذه، فحينَئِذٍ يُعمَلُ بَيانُه؛ لأنَّه بَيَّن أنَّه استَعمَلَه بمَعنى مَعَ أو بمَعنى الواو، وفيه تَشديدٌ عليه، فيُصَدَّقُ). ((كشف الأسرار)) (2/183). ويُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/137). وقال ابنُ أبي زَيدٍ القَيرَوانيُّ: (وأمَّا إن قال: عَشَرةُ دَراهمَ في عَشَرةِ دَراهمَ، فعَلَيه مِائةُ دِرهَمٍ؛ لأنَّه لا يَخرُجُ إلَّا إلى الحِسابِ). ((النوادر والزيادات)) (9/219). وقال المازَريُّ: (فإذا قال: له عِندي دينارٌ في دينارٍ، ودِرهَمٌ في دِرهَمٍ، لَم يَلزَمْه عِندَ سُحنون سِوى دِرهَمٍ واحِدٍ. وإذا قيلَ: له عِندي عَشَرةُ دَراهمَ في عَشَرةِ دَراهمَ، لَزِمَه مِائةُ دِرهَمٍ. ومَذهَبُ ابنِ عبدِ الحَكَمِ أنَّه لا يَلزَمُه إلَّا العَدَدُ الأوَّلُ، ويَسقُطُ ما ذَكَرَ بَعدَه مِن قَولِه: في كَذا، إذا حَلَفَ المُقِرُّ أنَّه لَم يُرِدْ بذلك التَّضعيفَ، وصَرفَ الحِسابِ. وسَبَبُ هذا الاختِلافِ ما قدَّمناه مِرارًا مِن كَونِ الاعتِمادِ في هذا على ما يُفيدُه لَفظُ المُقِرِّ مِن ناحيةِ اللُّغةِ أو مِن ناحيةِ عُرفِ الاستِعمالِ. وكَأنَّ سُحنونًا رَأى أنَّ الظَّرفيَّةَ لمَّا استَحالَت وامتَنَعَ أن يَكونَ الدِّرهَمُ وِعاءً للدِّرهَمِ، بخِلافِ ما قدَّمناه في السُّؤالِ الذي قَبلَ هذا مِن قَولِه: له عِندي زَيتٌ في زِقٍّ، وجَبَ حَملُ ذلك على مَعنًى آخَرَ مُستَعمَلٍ في العُرفِ، وهو ضَربُ الحِسابِ، فألزَمَه العَدَدُ الخارِجُ مِنَ المَضروبِ فيه، فقال: إذا قال: له عِندي عَشَرةُ دَراهمَ، لَزِمَه مِائةُ دِرهَمٍ؛ لكَونِ هذا اللَّفظِ يُستَعمَلُ في ضَربِ الحِسابِ، فوجَبَ الحَملُ عليه؛ لكَونِه الظَّاهرَ فيه. وكَأنَّ مُحَمَّدَ بنَ عبدِ الحَكَمِ لَم يَرَ ذلك كالصَّريحِ في ضَربِ الحِسابِ، بَل هو مُحتَمِلٌ لأن يُريدَ مَعنًى غَيرَ ضَربِ الحِسابِ، مِثلُ أن يَكونَ المُرادُ به عَشَرةَ دَراهمَ في مِائةِ دِرهَمٍ أخَذتُها مِنه. فلا يَجِبُ حَملُ هذا اللَّفظِ، مَعَ احتِمالِه لهذا المَعنى الثَّاني، على ضَربِ الحِسابِ إذا حَلَف أنَّه لَم يُرِدْ ضَربَ الحِسابِ. فهذا سَبَبُ الخِلافِ بَينَ هَذَينِ المَذهَبَينِ). ((شرح التلقين)) (3/73،72). .