موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعُ: الحِكمةُ مِنَ النَّسخِ


للنَّسخِ حِكَمٌ مُتَعَدِّدةٌ، مِنها [101] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/214)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/53)، ((الأصول من علم الأصول)) لابن عثيمين (ص: 56)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (2/549)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/230). :
1- مُراعاةُ مَصالِحِ العِبادِ بتَشريعِ ما هو أنفعُ لهم في دينِهم ودُنياهم، وبَيانُ ذلك أنَّ المَقصَدَ الرَّئيسَ للشَّريعةِ هو تَحقيقُ مَصالِحِ العِبادِ، وهذه المَصالِحُ يَتَوقَّفُ تَحقيقُها على مُراعاةِ العناصِرِ المُؤَثِّرةِ فيها، كاختِلافِ العاداتِ، والأزمانِ، والبُلدانِ؛ ولِذلك تَتَغَيَّرُ مَصلَحةُ النَّاسِ، وهذا يَقتَضي تَغييرَ الحُكمِ الذي يُحَقِّقُ هذه المَصلَحةَ، وقد تُشرَعُ الأحكامُ لأسبابٍ مُعَيَّنةٍ، ومَصالِحَ مَوقوتةٍ، ثُمَّ تَزولُ تلك الأسبابُ والمَصالِحُ، فيَقتَضي ذلك تَغييرَ الأحكامِ وتَبديلَها، وإلَّا أصبَحَت إمَّا خاليةً مِنَ المَصلَحةِ، وإمَّا مُعارِضةً للمَصلَحةِ ومُنافيةً لها، وهذا ما بَيَّنَته الآيةُ الكَريمةُ في قَولِ اللهِ تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ، أي: خَيرٍ مِنها للمُكَلَّفينَ رَحمةً بهم، وقد يَكونُ ذلك بالأثقَلِ، لِما يَستَلزِمُه مِن تَكثيرِ الثَّوابِ، وما يَتَرَتَّبُ عليه مِن فوائِدَ.
ومِن أمثِلةِ ذلك: نَسخُ الشَّرائِعِ السَّابِقةِ؛ فإنَّ شَرائِعَ الأنبياءِ السَّابِقينَ جاءَت لتَحقيقِ مَصالِحِ النَّاسِ بحَسَبِ زَمانِهم وأحوالِهم، ولَمَّا تَطَوَّرَ الزَّمانُ جاءَتِ الدَّعوةُ الواحِدةُ لمُختَلِفِ الشُّعوبِ والقَبائِلِ، فاقتَضى الحالُ أن تَكونَ الشَّريعةُ الخاتِمةُ عامَّةً وشامِلةً وخالِدةً؛ ولِذلك اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ شَريعةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَسَخَتِ الشَّرائِعَ السَّابِقةَ؛ ولِذلك كانتِ الآياتُ تَنزِلُ لمُخاطَبةِ النَّاسِ بقَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] ، ثُمَّ تقَرَّرَ ذلك بشَكلٍ قَطعيٍّ وجازِمٍ في قَولِ اللهِ سُبحانَه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] ، وقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] .
2- التَّطَوُّرُ في التَّشريعِ حتَّى يَبلُغَ الكَمالَ؛ فقد كان التَّدَرُّجُ في التَّشريعِ أحَدَ خَصائِصِ الشَّريعةِ الغَرَّاءِ؛ لمُراعاةِ واقِعِ الحَياةِ، وطَبيعةِ النُّفوسِ، وما ألِفَته مِن عاداتٍ وقيَمٍ ومَبادِئَ وأحكامٍ، وأخذًا بمَبدَأِ التَّدَرُّجِ في التَّربيةِ، ولأخذِ النَّاسِ مِنَ السَّهلِ إلى الصَّعبِ، ومِنَ الخَفيفِ إلى الأشَدِّ، وغَيرِ ذلك مِن حِكَمِ التَّدَرُّجِ. ومَبدَأُ التَّدَرُّجِ يَقتَضي تَشريعَ أحكامٍ مُعَيَّنةٍ تَتَناسَبُ مَعَ النَّاسِ والظُّروفِ والأنفُسِ والأحوالِ، ورَفعِ الحَرَجِ، ومُراعاةِ الطَّبيعةِ البَشَريَّةِ، ثُمَّ الِانتِقالِ بَعدَها إلى الأحكامِ الدَّائِمةِ الخالِدةِ التي تَصلُحُ للبَقاءِ واختِلافِ الزَّمانِ، وهذا ما وقَعَ كَثيرًا في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ.
ومِن أمثِلةِ ذلك: العِباداتُ؛ فإنَّ الصَّلاةَ شُرِعَت في أوَّلِ الأمرِ صَلاتَينِ: في الغَداةِ والعَشيِّ، حتَّى نِهايةِ العامِ العاشِرِ للبَعثةِ، ثُمَّ فُرِضَتِ الصَّلَواتُ الخَمسُ. وفُرِضَ الصِّيامُ في يَومِ عاشوراءَ، ثُمَّ نُسِخَ وفُرِضَ صيامُ شَهرِ رَمَضانَ كامِلًا. وكانتِ الزَّكاةُ اختياريَّةً في أوَّلِ الأمرِ، ثُمَّ فُرِضَت في السَّنةِ الثَّانيةِ للهجرةِ. وكانتِ العُمرةُ هيَ المَطلوبةَ في عامِ الحُدَيبيَةِ، ثُمَّ فُرِضَ الحَجُّ في السَّنةِ التَّاسِعةِ للهِجرةِ على القَولِ الرَّاجِحِ.
3- اختِبارُ المُكَلَّفينَ باستِعدادِهم لقَبولِ التَّحَوُّلِ مِن حُكمٍ إلى آخَرَ ورِضاهم بذلك، وبَيانُ ذلك أنَّ النَّاسَ قَبلَ مَجيءِ الإسلامِ في جاهليَّةٍ تَعُمُّها الفوضى، وعَدَمُ الِانضِباطِ بأنظِمةٍ وأحكامٍ وقُيودٍ، فاقتَضَت حِكمةُ الشَّارِعِ ألَّا يَنقُلَهم دَفعةً واحِدةً إلى ما يَستَقِرُّ عليه التَّشريعُ آخِرَ الأمرِ، بَل إنَّ اللَّهَ تعالى سَلَك بهم طَريقَ التَّدريجِ في التَّشريعِ مِنَ الأخَفِّ إلى الأشَدِّ؛ مِن أجلِ أن تَتَهَيَّأ نُفوسُهم إلى تَقَبُّلِ حُكمِه النِّهائيِّ، فيَأتي ذلك الحُكمُ، وهم على أتَمِّ الِاستِعدادِ لتَقَبُّلِه والعَمَلِ به؛ إذ لو ألزَمَهم بالأحكامِ النِّهائيَّةِ مِن أوَّلِ وهلةٍ لَأدَّى ذلك إلى تَنفيرِهم عنِ الإسلامِ.
ومِن أمثِلةِ ذلك: تَشريعُ الصَّلاةِ؛ فقد شُرِعَتِ الصَّلاةُ أوَّلًا رَكعَتَينِ في الغَداةِ، ورَكعَتَينِ في العَشيِّ، ثُمَّ شُرِعَت خَمسًا، رَكعَتَينِ رَكعَتَينِ عَدا المَغرِبَ؛ فقد كانت ثَلاثًا، ثُمَّ أُقِرَّت تلك الصَّلاةُ في السَّفرِ، وزيدَت في الحَضَرِ، فجُعِلَت أربَعًا في الظُّهرِ والعَصرِ والعِشاءِ.
وكذلك: تَحريمُ الخَمرِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى بَيَّنَ أوَّلًا ما في الخَمرِ مِنَ الإثمِ والنَّفعِ، وأنَّ إثمَه أكبَرُ مِن نَفعِه، ثُمَّ مَنَعَ -ثانيًا- الصَّلاةَ في حالةِ السُّكرِ، ثُمَّ حَرَّمَ الخَمرَ في جَميعِ الأوقاتِ.
وعُقوبةُ الزِّنا جَعَلَها الشَّارِعُ أوَّلًا الإيذاءَ بالقَولِ للرِّجالِ، والحَبسَ في البُيوتِ للنِّساءِ، ثُمَّ نُسِخَ ذلك إلى الجَلدِ لغَيرِ المُحصَنِ، والتَّغريبِ والرَّجمِ للمُحصَنِ.
4- اختِبارُ المُكَلَّفينَ بقيامِهم بوظيفةِ الشُّكرِ إذا كان النَّسخُ إلى أخَفَّ، ووظيفةِ الصَّبرِ إذا كان النَّسخُ إلى أثقَلَ؛ ليَظهَرَ المُؤمِنُ الحَقُّ فيَفوزَ، وليَظهَرَ المُنافِقُ فيَهلِكَ، وليَمِيزَ اللهُ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
ومِن أمثِلةِ ذلك: أنَّ اللَّهَ أمَر إبراهيمَ عليه السَّلامُ بذَبحِ ابنِه إسماعيلَ عليه السَّلامُ، ثُمَّ نَسَخَ ذلك.
وكذلك نَسخُ وُجوبِ التَّرَبُّصِ حَولًا كامِلًا عنِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها بالتَّرَبُّصِ أربَعةَ أشهُرٍ وعَشرًا؛ فقد كانت عِدَّةُ المَرأةِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها في الجاهليَّةِ سَنةً كامِلةً، فأمَر اللهُ المُسلِمينَ أن يوصوا لأزواجِهم نَفَقةً طَوالَ العِدَّةِ لمُدَّةٍ سَنةٍ، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة: 240] ، ثُمَّ نَسَخَ اللهُ تعالى ذلك وجَعَلَ عِدَّةَ المَرأةِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها أربَعةَ أشهُرٍ وعَشَرةَ أيَّامٍ، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] ؛ وذلك تَخفيفًا على الأرمَلةِ.

انظر أيضا: