موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الأولى: أن يَكونَ فِعلًا مِن أمرٍ أو نَهيٍ


مُتَعَلَّقُ التَّكليفِ هو الأمرُ والنَّهيُ، وكِلاهما لا يَكونُ إلَّا فِعلًا، فلا تَكليفَ إلَّا بفِعلٍ، أي: أنَّ حُكمَ الشَّارِعِ التَّكليفيَّ لا يَتَعَلَّقُ إلَّا بفِعلِ المُكلَّفِ [576] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 242)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 415)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 69)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/370)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 128)، ((العذب النمير)) لمحمد الأمين الشنقيطي (5/ 398)، ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبدالكريم النملة (2/161). .
فإذا كان حُكمُ الشَّارِعِ أمرًا مِن إيجابٍ أو نَدبٍ، فلا بُدَّ فيه مِن فِعلٍ، وهذا بالإجماعِ، ومِمَّن نَقَلَه الزَّركشيُّ [577] قال الزَّركشيُّ: (لا خِلافَ أنَّ المُكلَّفَ به في الأمرِ الفِعلُ). ((تشنيف المسامع)) (1/ 292). ، والمَرداويُّ [578] قال المَرداويُّ: (إذا كُلِّفَ بغيرِ نَهيٍ، كالأمرِ، كان مُكلَّفًا بفِعلٍ بلا نِزاعٍ بينَ العُلَماءِ، وإنَّما تَرَكوه لوُضوحِه، وعَدَمِ الخِلافِ فيه؛ لأنَّ مُقتَضاه إيجادُ فِعلٍ مَأمورٍ به، كالصَّلاةِ، والصَّومِ، ونَحوِهما). ((التحبير)) (3/ 1163). ؛ فمُتَعَلَّقُ الإيجابِ فِعلُ الواجِبِ على سَبيلِ الحَتمِ، ومُتَعَلَّقُ النَّدبِ فِعلُ المَندوبِ لا على سَبيلِ الحَتمِ والإلزامِ، فالتَّكليفُ في الحالَتينِ بفِعلٍ؛ لأنَّ مُقتَضاه: إيجادُ الفِعلِ المَأمورِ به، كالصَّلاةِ والزَّكاةِ وصيامِ التَّطَوُّعِ [579] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 128)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 367). .
وإذا كان حُكمُ الشَّارِعِ نَهيًا مِن تَحريمٍ أو كراهةٍ فقَدِ اختَلَف العُلَماءُ فيه، والرَّاجِحُ أنَّ التَّكليفَ في النَّهيِ تَكليفٌ بفِعلٍ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ العُلَماءِ [580] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/ 491-492)، ((إجابة السائل)) للصنعاني (ص: 290)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/376). قال ابنُ النَّجَّارِ: (مُتَعَلَّقُ المَأمورِ به "في نَهيٍ"، نَحوُ قَولِه: وَلَا ‌تَقْتُلُوا ‌النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام: 151] ، "كفُّ النَّفسِ" عِندَ الأكثَرِ. وهو الأصَحُّ عِندَ الفُقَهاءِ مِن أصحابِنا وغيرِهم. وقيلَ: مَعناه: فِعلُ ضِدِّ المَنهيِّ عنه، ونُسِبَ إلى الجُمهورِ. قال الكورانيُّ: هذا عَينُ الأوَّلِ؛ إذ كفُّ النَّفسِ مِن جُزئيَّاتِ فِعلِ الضِّدِّ). ((شرح الكوكب المنير)) (1/ 491-492). وقال الصَّنعانيُّ: (مَسألةٌ اختَلَف فيها العُلَماءُ، وهي هل التَّكليفُ في النَّهيِ بفِعلٍ أو لا؟ فقال الجُمهورُ بالأوَّلِ). ((إجابة السائل)) (ص: 290). ويُنظر: مسألةُ: هل يُعتَبَرُ التَّركُ فِعلًا؟ ، وعَزاه الشَّاطِبيُّ إلى المُحَقِّقينَ) [581] قال في ((الموافقات)) (1/175): (‌التَّركُ ‌عندَ ‌المحَقِّقينَ فِعلٌ من الأفعالِ الدَّاخِلةِ تحتَ الاختيارِ). .
فالمُكلَّفُ به في النَّهيِ هو الكفُّ المَقصودُ للنَّفسِ عنِ الفِعلِ، أو فِعلِ ضِدٍّ مَن أضدادِه، لا نَفيُ الفِعلِ المَحضِ؛ حيثُ إنَّ كفَّ النَّفسِ المَقصودَ عنِ المَنهيِّ عنه فِعلٌ.
قال الغَزاليُّ: (الأمرُ بالصَّومِ أمرٌ بالكفِّ، والكفُّ فِعلٌ يُثابُ عليه، والمُقتَضى بالنَّهيِ عنِ الزِّنا والشُّربِ التَّلَبُّسُ بضِدٍّ مِن أضدادِه، وهو التَّركُ، فيَكونُ مُثابًا على التَّركِ الذي هو فِعلُه... أمَّا الصَّومُ فالكَفُّ فيه مَقصودٌ، ولذلك تُشتَرَطُ فيه النِّيَّةُ، وأمَّا الزِّنا والشُّربُ فقَد نُهيَ عن فِعلِهما فيُعاقَبُ فاعِلُهما، ومَن لَم يَصدُرْ مِنه ذلك فلا يُعاقَبُ ولا يُثابُ إلَّا إذا قَصَدَ كفَّ الشَّهوةِ عنهما مَعَ التَّمَكُّنِ، فهو مُثابٌ على فِعلِه، وأمَّا مَن لَم يَصدُرْ مِنه النَّهيُ عن فِعلِه فلا يُعاقَبُ عليه ولا يُثابُ؛ لأنَّه لَم يَصدُرْ مِنه شيءٌ، ولا يَبعُدُ أن يَكونَ مَقصودُ الشَّرعِ ألَّا تَصَدُرَ مِنه الفواحِشُ، ولا يُقصَدُ مِنه التَّلَبُّسُ بأضدادِها) [582] ((المستصفى)) (ص: 72). .
فهذا تَفصيلٌ بينَ التَّركِ المُجَرَّدِ المَقصودِ لنَفسِه مِن غيرِ أن يُقصَدَ مَعَه ضِدُّه بالمُكلَّفِ فيه بالفِعلِ كالصَّومِ، فالكفُّ مِنه مَقصودٌ؛ ولهذا وجَبَت فيه النِّيَّةُ، وبينَ التَّركِ المَقصودِ مِن جِهةِ إيقاعِ ضِدِّه، كالزِّنا والشُّربِ؛ فالمُكلَّفُ فيه بالضِّدِّ [583] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/376). فمَن تَرَك المُحَرَّمَ امتِثالًا لأمرِ اللهِ أُثيبَ حَسَنةً كامِلةً، ويَخرُجُ بقَولِنا: امتِثالًا، مَن تَركَه عَجزًا؛ فإنَّه يَكونُ كالذي فعَلَه مِن حيثُ النِّيَّةُ، أمَّا إن فعَلَ الأسبابَ ثُمَّ عَجَز عن عَمَلِ المُحَرَّمِ، فهذا يُكتَبُ عليه وِزرُ فاعِلِه كامِلًا، وأمَّا مَن تَرَك المُحَرَّمَ غَفلةً فلَم يَطرَأْ على ذِهنِه هذا الشَّيءُ المُحَرَّمُ، فإنَّه لا يُثابُ ولا يُعاقَبُ. يُنظر: ((شرح الأصول)) لابن عثيمين (ص: 60). .
فالأمرُ بالصَّومِ أمرٌ بكفِّ النَّفسِ عنِ الفِطرِ، والكفُّ فِعلٌ للإنسانِ وهو داخِلٌ تَحتَ كَسبِه يُؤجَرُ عليه، وكذلك لمَّا نَهى عن شُربِ الخَمرِ، والسَّرِقةِ، والزِّنا؛ فإنَّه اقتَضى التَّلَبُّسَ بضِدٍّ مِن أضدادِه، وهو: التَّركُ، فيَكونُ التَّركُ داخِلًا تَحتَ كَسبِ المُكلَّفِ، فيُثابُ عليه، فالتَّركُ في الحَقيقةِ فِعلٌ؛ لكونِه ضِدَّ الحالِ التي هو عليها [584] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 429)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 128)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/376). .
الأدِلَّةُ:
الأدِلَّةُ على ذلك مِنَ القُرآنِ الكريمِ، والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، وآثارِ الصَّحابةِ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكريمِ
 قَولُ اللهِ تعالى: كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 79] .
فقَد أطلَقَ اللهُ سُبحانَه على تَركِ التَّناهي لفظَ الفِعلِ، في قَولِه: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ مَعَ أنَّه تَركٌ، وفي هذا دَليلٌ بأنَّ المُكلَّفَ به في النَّهيِ فِعلٌ، وهو الانتِهاءُ، أيِ الكَفُّ، فالكفُّ فِعلٌ [585] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (6/ 294). .
وكذلك قولُه تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ ‌مَهْجُورًا [الفرقان: 30] .
فالاتِّخاذُ "افتِعالٌ"، والمَهجورُ: المَتروكُ [586] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/ 55) وقال ابن السبكي في ((طبقات الشافعية الكبرى)) (1/100): لَقَد وقَعتُ على ثَلاثةِ أدِلَّةٍ تَدُلُّ على أنَّ الكفَّ فِعلٌ، لَم أرَ أحَدًا عَثَرَ عليها: أحَدُها: قَولُه تعالى وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا فتَأمَّلْه، وتَقريرُه: أنَّ الاتِّخاذَ افتِعالٌ مِن (أخَذَ) أو مِن (وَخَذ) أو مِن (تَخِذَ) أقوالٌ ثَلاثةٌ للتَّصريفيِّينَ، أرجَحُها أوَّلُها، وعليه فهل أُبدِلَت تاءً أو واوًا؟ قَولانِ، والحاصِلُ: أنَّ الأخذَ: التَّناوُلُ، والمَهجورُ: المَتروكُ، فصارَ المَعنى: تَناوَلوه مَتروكًا، أي: فعَلوا تَركَه. .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لسانِه ويَدِه)) [587] أخرجه البخاري (10) واللفظ له، ومسلم (40) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. وأخرجه مسلم (41) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. ؛ فسَمَّى كفَّ الأذى إسلامًا، فدَلَّ على أنَّ الكفَّ فِعلٌ [588] يُنظر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/ 55). .
وقيل: التَّكليفُ في النَّهيِ ليس تَكليفًا بفِعلٍ، وهو قَولٌ لبَعضِ المُعتَزِلةِ [589] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 69)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/ 442)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 293- 293). ويُنظر أيضا: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 80)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 376)، ((آراء المعتزلة الأصولية)) للضويحي (ص: 284). .

انظر أيضا: