المَبحَثُ الثَّاني: أنواعُ التَّقليدِ وأحكامُه
التَّقليدُ ثَلاثةُ أنواعٍ:أحَدُها: التَّقليدُ غَيرُ السَّائِغِوهو ما كان بَعدَ قيامِ الحُجَّةِ وظُهورِ الدَّليلِ على خِلافِ قَولِ المُقَلِّدِ: وهذا التَّقليدُ لا يَجوزُ. ونَقَل الإجماعَ على ذلك الشَّافِعيُّ
[402] قال ابنُ تَيميَّةَ: (وقد حَكى الشَّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بَعدَهم على أنَّ مَنِ استَبانَت لَه سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَكُنْ لَه أن يَدَعَها لِقَولِ أحَدٍ). وقال أيضًا: (ولا يَستَريبُ أحَدٌ مِن أئِمَّةِ الإسلامِ في صِحَّةِ ما قال الشَّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فإنَّ الحُجَّةَ الواجِبَ اتِّباعُها على الخَلقِ كافَّةً إنَّما هو قَولُ المَعصومِ الذي لا يَنطِقُ عنِ الهَوى). ((الرسالة التبوكية)) (ص: 40). ومِن نُصوصِ الشَّافِعيِّ في هذا قَولُه: (ولا يَجوزُ لعالمٍ أن يَدَعَ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقَولِ أحَدٍ سِواه). ((الأم)) (7/ 275). وقَولُه: (وإذا ثَبَتَ عن رَسولِ اللهِ الشَّيءُ، فهو اللَّازِمُ لِجَميعِ مَن عَرَفه، لا يُقَوِّيه ولا يوهنُه شَيءٌ غَيرُه، بَلِ الفَرضُ الذي على النَّاسِ اتِّباعُه، ولم يَجعَلْ لأحَدٍ مَعَه أمرًا يُخالِفُ أمرَه). ((الرسالة)) (ص: 330). ، وابنُ تَيميَّةَ
[403] قال: (فإن تَبَيَّنَ لَه ما جاءَ به الرَّسوُلُ لَم يَجُزْ لَه التَّقليدُ في خِلافِه باتِّفاقِ المُسلِمينَ). ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 244). ، وصَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ
[404] قال: (وإن كان عالِمًا بَلَغَ دَرَجةَ الاجتِهادِ، فإنِ اجتَهَدَ في الواقِعةِ وأدَّى اجتِهادُه إلى حُكمٍ، لَم يَجُزْ لَه الرُّجوعُ إلى غَيرِه في تلك الواقِعةِ إجماعًا). ((نهاية الوصول)) (8/ 3909). ، وابنُ مَعمَرٍ
[405] قال: (التَّقليدُ بَعدَ قيامِ الحُجَّةِ وظُهورِ الدَّليلِ على خِلافِ قَولِ المُقَلِّدِ: فهذا لا يَجوزُ، وقدِ اتَّفقَ السَّلَفُ والأئِمَّةُ على ذَمِّه وتَحريمِه). ((حكم التقليد)) (ص: 37). ؛ وذلك لأنَّ كُلَّ اجتِهادٍ يُخالِفُ النَّصَّ فهو اجتِهادٌ باطِلٌ، ولا تَقليدَ إلَّا في مَحَلِّ الاجتِهادِ؛ لأنَّ نُصوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ حاكِمةٌ على كُلِّ المُجتَهِدينَ، فليس لأحَدٍ مِنهم مُخالَفتُها كائِنًا مَن كان
[406] يُنظَر: ((أضواء البيان)) لمحمد الأمين الشنقيطي (7/ 351). .
النَّوع الثَّاني: التَّقليدُ السَّائِغُوهو تَقليدُ أهلِ العِلمِ عِندَ العَجزِ عن مَعرِفةِ الدَّليلِ، والمُقَلِّدُ هنا نَوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: العامِّيُّ الذي لا عِلمَ له، فلَه التَّقليدُ.وحَكى ابنُ عبدِ البَرِّ
[407] قال: (ولَم تَختَلِفِ العُلَماءُ أنَّ العامَّةَ عليها تَقليدُ عُلَمائِها، وأنَّهمُ المُرادونَ بقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] ، وأجمَعوا على أنَّ الأعمى لا بُدَّ له مِن تَقليدِ غَيرِه مِمَّن يَثِقُ بمَيزِه بالقِبلةِ إذا أشكَلَت عليه، فكذلك مَن لا عِلمَ لَه ولا بَصَرَ بمَعنى ما يَدينُ به لا بُدَّ لَه مِن تَقليدِ عالِمِه). ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 989). وابنُ قُدامةَ الإجماعَ عليه
[408] قال في بَيانِ حُكمِ التَّقليدِ في الفُروعِ: (جازَ التَّقليدُ فيها، بَل وجَبَ على العامِّيِّ ذلك. وذَهَبَ بَعضُ القدَريَّةِ إلى أنَّ العامَّةَ يَلزَمُهمُ النَّظَرُ في الدَّليلِ في الفُروعِ أيضًا. وهو باطِلٌ بإجماعِ الصَّحابةِ؛ فإنَّهم كانوا يُفتونَ العامَّةَ، ولا يَأمُرونَهم بنَيلِ دَرَجةِ الاجتِهادِ، وذلك مَعلومٌ على الضَّرورةِ والتَّواتُرِ مِن عُلَمائِهم وعَوامِّهم). ((روضة الناظر)) (2/ 383). ، وعُزِي إلى الجُمهورِ
[409] جاء في ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 459): (العامِّيُّ الذي لَيسَ مَعَه آلةُ الاجتِهادِ في الفُروعِ يَجوزُ له التَّقليدُ فيها عِندَ الشَّافِعيَّةِ والجُمهورِ). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (وأمَّا تَقليدُ العاجِزِ عنِ الاستِدلالِ فيُجَوِّزُه الجُمهورُ، ومَنَع منه طائِفةٌ مِن أهلِ الظَّاهِرِ). ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 244). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك: قَولُ اللهِ تعالى:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] [410] يُنظَر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 133)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/ 633). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى أحالَ على سُؤالِ أهلِ العِلمِ، وواضِحٌ أنَّنا نَسألُهم لنَأخُذَ بقَولِهم
[411] يُنظَر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/310). .
ولأنَّ العامِّيَّ لا يَتَمَكَّنُ مِن مَعرِفةِ الحَقِّ بأدِلَّتِه، فإذا تَعَذَّرَ عليه مَعرِفةُ الحَقِّ بنَفسِه لم يَبْقَ إلَّا التَّقليدُ؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] [412] يُنظَر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/83). .
ومِنَ الأدِلَّةِ: القياسُ على التَّقليدِ في القِبلةِ؛ فالعامِّيُّ ليسَ مِن أهلِ الاجتِهادِ، فكان عليه التَّقليدُ، كتَقليدِ الأعمى في القِبلةِ؛ فإنَّه لمَّا لم يَكُنْ مَعَه آلةُ الاجتِهادِ في القِبلةِ كان عليه تَقليدُ البَصيرِ في ذلك
[413] يُنظَر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 134). .
النَّوعُ الثَّاني: مَن كان مُحَصِّلًا لبَعضِ العُلومِ، ولَكِنَّه قاصِرُ النَّظَرِ عن مَعرِفةِ الدَّليلِ ومَعرِفةِ الرَّاجِحِ مِن كَلامِ العُلَماءِ. فهذا له التَّقليدُ أيضًا
[414] يُنظَر: ((قواعد الأصول)) لصفي الدين البغدادي (ص: 190)، ((شرح العضد على ابن الحاجب)) (3/ 634). .
وهو مَذهَبُ الجُمهورِ
[415] قال ابنُ تَيميَّةَ: (الذي عليه جَماهيرُ الأُمَّةِ أنَّ الاجتِهادَ جائِزٌ في الجُملةِ، والتَّقليدَ جائِزٌ في الجُملةِ، لا يوجِبونَ الاجتِهادَ على كُلِّ أحَدٍ، ويُحَرِّمونَ التَّقليدَ، ولا يوجِبونَ التَّقليدَ على كُلِّ أحَدٍ، ويُحَرِّمونَ الاجتِهادَ، وأنَّ الاجتِهادَ جائِزٌ للقادِرِ على الاجتِهادِ، والتَّقليدَ جائِزٌ للعاجِزِ عنِ الاجتِهادِ). ((مجموع الفتاوى)) (20/ 203). ، واختارَه مِنَ الحَنَفيَّةِ
[416] يُنظَر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/ 445). مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ
[417] يُنظَر: ((القول السديد)) لابن ملا فروخ الحنفي (ص: 108)، ويُنظَر أيضًا: ((المحصول)) للرازي (6/ 84)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 198). ، ومِنَ المالِكيَّةِ ابنُ الحاجِبِ
[418] يُنظَر: ((مختصر في الأصول)) لابن الحاجب (2/ 1252- 1253)، ((مختصر ابن الحاجب)) بشرح العضد (3/ 634). ، والقَرافيُّ
[419] يُنظَر: ((الذخيرة)) (1/ 148). ، واختارَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ النَّوَويُّ
[420] يُنظَر: ((المجموع)) (1/ 54). ، والآمِديُّ
[421] يُنظَر: ((الإحكام)) (4/ 228). ، ومِنَ الحَنابِلةِ أبو الخَطَّابِ الكَلوذانيُّ
[422] يُنظَر: ((التمهيد)) (4/400- 401). ، وحَمَدُ بنُ مَعمَرٍ
[423] يُنظَر: ((حكم التقليد)) (ص: 43). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك: عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، وقَولِ اللهِ تعالى:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] [424] ((حكم التقليد)) لحمد ابن معمر (ص: 44). .
وهذا يَشمَلُ جَميعَ مَن لا يَعلَمُ العِلمَ؛ فإنَّ عِلَّةَ الأمرِ بالسُّؤالِ هو الجَهلُ، والأمرُ المُقَيَّدُ بالعِلَّةِ يَتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِها، وهذا غَيرُ عالِمٍ بهذه المَسألةِ، فيَجِبُ عليه فيها السُّؤالُ
[425] ((شرح العضد على ابن الحاجب)) (3/ 634). .
وقيلَ: يَجِبُ على العامِّيِّ النَّظَرُ في الدَّليلِ، والامتِناعُ عنِ التَّقليدِ. وهو مَذهَبُ ابنِ حَزمٍ
[426] يُنظَر: ((الإحكام)) (6/ 116، 166)، ((النبذة الكافية)) (ص: 72). ، وهو قَولٌ مَحكيٌّ عن بَعضِ المُعتَزِلةِ
[427] يُنظَر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/ 383)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 539). ، وخَصَّه الآمِديُّ بالمُعتَزِلةِ البَغداديِّينَ
[428] يُنظَر: ((الإحكام)) (4/ 228). .