موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: حُجِّيَّةُ السُّنَّةِ


مَعنى حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ: أنَّها دَليلٌ على حُكمِ اللهِ تعالى، يُفيدُنا العِلمَ أو الظَّنَّ به، ويُظهِرُه ويَكشِفُه لنا. فإذا عَلِمنا أو ظَنَنَّا الحُكمَ بواسِطَتِه، وجَبَ علينا امتِثالُه والعَمَلُ به. فالمَعنى الحَقيقيُّ للحُجِّيَّةِ: هو الإظهارُ والكَشفُ والدَّلالةُ، ويَلزَمُ على هذا وُجوبُ العَمَلِ بالمَدلولِ؛ حَيثُ إنَّه حُكمُ اللهِ تعالى [107] يُنظر: ((حجية السنة)) لعبد الغني عبد الخالق (ص: 243). .
فالسُّنَّةُ النَّبَويَّةُ هيَ الأصلُ الثَّاني مِن الأدِلَّةِ بَعدَ كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ [108] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 273). ، وقد جاءَت الأدِلَّةُ مُتَوافِرةً بمَكانتِها وحُجِّيَّتِها.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن القُرآنِ:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] .
2- قَولُه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80] .
3- قَولُه تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] .
4- قَولُه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31] .
5- قَولُه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
6- قَولُه تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
7- قَولُه تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
8- قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] .
9- قَولُه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] .
فاللهُ تعالى في هذه الآياتِ أمَرَ باتِّباعِ رَسولِه وطاعَتِه وبَيَّنَ أنَّ طاعةَ رَسولِه طاعةٌ له، وأمَر المُسلمينَ إذا تَنازَعوا في شَيءٍ أن يَرُدُّوه إلى اللهِ وإلى الرَّسولِ، ونَفى الإيمانَ عَمَّن لم يَطمَئِنَّ إلى قَضاءِ الرَّسولِ ولم يُسَلِّمْ له، وتوعَّد مَن يُخالِفُ رَسولَه، ولم يَجعَلْ للمُؤمِنِ خيارًا إذا قَضى اللهُ ورَسولُه أمرًا [109] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 273)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 37). .
وبَيَّن أنَّ السُّنَّةَ وحيٌ مِن اللهِ تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 113] ، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعصومٌ فيما يُخبرُ به عن اللهِ تعالى وعن شَرعِه؛ لأنَّ كَلامَه لا يَصدُرُ عن هَوًى، وإنَّما يَصدُرُ عن وَحيٍ يوحى [110] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
وفي هذا كُلِّه بُرهانٌ مِن اللهِ على أنَّ تَشريعَ الرَّسولِ هو تَشريعٌ إلهيٌّ يَجِبُ اتِّباعُه [111] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/340-344)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 37). .
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ [112] قد يُعتَرَضُ على الاستِدلالِ بالسُّنَّةِ على حُجِّيَّتِها، بأنَّ هذا يَكونُ دَورًا، وهو مُمتَنِعٌ. ويُجابُ على ذلك: بأنَّ الاستِدلالَ بالسُّنَّةِ على حُجِّيَّتِها مَبنيٌّ على قاعِدةٍ مُقَرَّرةٍ عِندَ عُلماءِ الكَلامِ، وهيَ عِصمةُ الأنبياءِ عن الكَذِبِ. والعِصمةُ لا يُمكِنُ لأحَدٍ إنكارُها؛ لوُضوحِها عِندَ كُلِّ مَن اعتَقدَ برِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَلَّ ذلك على حُجِّيَّةِ أوامِرِه ونَواهيه وأفعالِه وتَقريراتِه. يُنظر: ((حجية السنة)) لعبد الغني عبد الخالق (ص: 279). :
مِن الأحاديثِ الدَّالَّةِ على حُجِّيَّتِها ما يلي:
1- عن المِقدامِ بن مَعديكَرِبَ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألَا إنِّي أوتيتُ الكِتابَ ومِثلَه مَعَه [113] قال ابنُ قُتَيبةَ: (والكِتابُ هو القُرآنُ، و"مِثلُه" يَعني السُّنَنَ التي كان يَأتيه بها جِبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليسَت في الكِتابِ، كرَجمِ المُحصَنِ، ونَفيِ البِكرِ، وتَحريمِ نِكاحِ المَرأةِ على عَمَّتِها وخالتِها، ومِقدارِ ما يُقطَعُ مِن يَدِ السَّارِقِ، وأشباهِ ذلك. هذا مِمَّا يَعمَلُ به المُسلمونَ، وليسَ له ذِكرٌ في الكِتابِ). ((المسائل والأجوبة)) (ص: 188). ، ألَا يوشِكُ رَجُلٌ شَبعانُ على أريكَتِه يَقولُ: عليكُم بهذا القُرآنِ، فما وجَدتُم فيه مِن حَلالٍ فأحِلُّوه، وما وجَدتُم فيه مِن حَرامٍ فحَرِّموه، ألَا لا يَحِلُّ لكُم لَحمُ الحِمارِ الأهليِّ، ولا كُلُّ ذي نابٍ مِن السَّبُعِ، ولا لُقَطةُ مُعاهَدٍ إلَّا أن يَستَغنيَ عنها صاحِبُها، ومَن نَزَل بقَومٍ فعليهم أن يُقرُوه، فإن لم يُقرُوه فله أن يُعقِبَهم بمِثلِ قِراه)) [114] أخرجه أبو داود (4604) واللفظ له، وأحمد (17174). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (12)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4604)، وحسنه لغيره الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (591). .
وفي رِوايةٍ: ((ألَا وإنَّ ما حَرَّمَ رَسولُ اللهِ مِثلُ ما حَرَّمَ اللهُ)) [115] أخرجها الترمذي (2664) باختلاف يسير، وابن ماجه (12)، وأحمد (17194) واللفظ لهما. صحَّحها ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (12)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17194). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: "أوتيتُ الكِتابَ ومِثلَه مَعَه" يَحتَمِلُ وجهَينِ مِن التَّأويلِ:
أحَدُهما: أن يَكونَ مَعناه أنَّه أوتيَ مِن الوَحيِ الباطِنِ غَيرِ المَتلوِّ مِثلَ ما أُعطيَ مِن الظَّاهِرِ المَتلوِّ.
ويَحتَمِلُ أن يَكونَ مَعناه أنَّه أوتيَ الكِتابَ وَحيًا يُتلى، وأوتيَ مِن البَيانِ، أي: أُذِنَ له أن يُبَيِّنَ ما في الكِتابِ، ويَعُمَّ ويَخُصَّ، وأن يَزيدَ عليه فيُشَرِّعَ ما ليسَ له في الكِتابِ ذِكرٌ، فيَكونَ ذلك في وُجوبِ الحُكمِ ولُزومِ العَمَلِ به كالظَّاهرِ المَتلوِّ مِن القُرآنِ) [116] ((معالم السنن)) (4/ 298). .
2- عن العِرباضِ بنِ ساريةَ، قال: وعَظَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا بَعدَ صَلاةِ الغَداةِ مَوعِظةً بَليغةً ذَرَفت مِنها العُيونُ ووجِلَت مِنها القُلوبُ، فقال رَجُلٌ: إنَّ هذه مَوعِظةُ مُودِّعٍ، فماذا تَعهَدُ إلينا يا رَسولَ اللهِ؟ قال: ((أوصيكُم بتَقوى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعةِ، وإنْ عَبدٌ حَبَشيٌّ؛ فإنَّه مَن يَعِشْ مِنكُم يَرى اختِلافًا كَثيرًا، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّها ضَلالةٌ، فمَن أدرَكَ ذلك مِنكُم فعليه بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المَهديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ)) [117] أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) واللفظ له، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5)، والحاكم في ((المستدرك)) (329)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/1164). .
فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فعليه بسُنَّتي)) أمرٌ بلُزومِ سُنَّتِه، والتَّمَسُّكِ بها، والاحتِجاجِ بها عِندَ حُصولِ الاختِلافِ في الأُمَّةِ.
ثالثًا: الإجماعُ
أجمَعَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم في حَياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَعدَ وفاتِه على وُجوبِ اتِّباعِ سُنَّتِه، فكانوا في حَياتِه يُمضونَ أحكامَه ويَمتَثِلونَ لأوامِرِه ونَواهيه وتَحليلِه وتَحريمِه، ولا يُفرِّقونَ في وُجوبِ الاتِّباعِ بَينَ حُكمٍ أُوحيَ إليه في القُرآنِ وحُكمٍ صَدَرَ عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَفسِه [118] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 38). .
ونَقَل الإجماعَ على حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ جَماعةٌ مِن أهلِ العِلمِ؛ مِنهم الشَّافِعيُّ [119] قال: (لمَ أسمَعْ أحَدًا -نَسَبه النَّاسُ أو نَسَب نَفسَه إلى عِلمٍ- يُخالفُ في أنَّ فرضَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ اتِّباعُ أمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتَّسليمُ لحُكمِه، بأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لم يَجعَلْ لأحَدٍ بَعدَه إلَّا اتِّباعَه، وأنَّه لا يَلزَمُ قَولٌ بكُلِّ حالٍ إلَّا بكِتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ ما سِواهما تَبَعٌ لهما، وأنَّ فرضَ اللهِ تعالى علينا وعلى مَن بَعدَنا وقَبلَنا في قَبولِ الخَبَرِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واحِدٌ لا يَختَلفُ في أنَّ الفرضَ والواجِبَ قَبولُ الخَبَرِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((الأم)) (7/ 287). ، وابنُ عبدِ البَرِّ [120] قال: (أمَّا أُصولُ العِلمِ فالكِتابُ والسُّنَّةُ، وتَنقَسِمُ السُّنَّةُ قِسمَينِ؛ أحَدُهما: تَنقُلُه الكافَّةُ عن الكافَّةِ، فهذا مِن الحُجَجِ القاطِعةِ للأعذارِ إذا لم يوجَدْ هنالكَ خِلافٌ، ومَن رَدَّ إجماعَهم فقد رَدَّ نَصًّا مِن نُصوصِ اللَّهِ يَجِبُ استِتابَتُه عليه وإراقةُ دَمِه إن لم يَتُبْ؛ لخُروجِه عَمَّا أجمَعَ عليه المُسلمونَ العُدولُ وسُلوكِه غَيرَ سَبيلِ جَميعِهم. والضَّربُ الثَّاني مِن السُّنَّةِ: أخبارُ الآحادِ الثِّقاتِ الأثباتِ العُدولِ، والخَبَرُ الصَّحيحُ الإسنادِ المُتَّصِلُ مِنها يوجِبُ العَمَلَ عِندَ جَماعةِ الأُمَّةِ الذينَ هم الحُجَّةُ والقُدوةُ). ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 779- 780). ، وابنُ تيميَّةَ [121] قال: (وهذه السُّنَّةُ إذا ثَبَتَت فإنَّ المُسلمينَ كُلَّهم مُتَّفِقونَ على وُجوبِ اتِّباعِها). ((مجموع الفتاوى)) (19/ 85 - 86). وقال أيضًا: (وليُعلَمْ أنَّه ليسَ أحَدٌ مِن الأئِمَّةِ المَقبولينَ عِندَ الأُمَّةِ قَبولًا عامًّا يَتَعَمَّدُ مُخالفةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شَيءٍ مِن سُنَّتِه دَقيقٍ ولا جَليلٍ؛ فإنَّهم مُتَّفِقونَ اتِّفاقًا يَقينيًّا على وُجوبِ اتِّباعِ الرَّسولِ، وعلى أنَّ كُلَّ أحَدٍ مِن النَّاسِ يُؤخَذُ مِن قَولِه ويُترَكُ إلَّا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((مجموع الفتاوى)) (20/ 232). ، والشَّوكانيُّ [122] قال: (قد اتَّفقَ مَن يُعتَدُّ به مِن أهلِ العِلمِ على أنَّ السُّنَّةَ المُطَهَّرةَ مُستَقِلَّةٌ بتَشريعِ الأحكامِ، وأنَّها كالقُرآنِ في تَحليلِ الحَلالِ وتَحريمِ الحَرامِ). ((إرشاد الفحول)) (1/ 96). وقال أيضًا: (ثُبوتُ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ واستِقلالُها بتَشريعِ الأحكامِ ضَرورةٌ دينيَّةٌ، ولا يُخالفُ في ذلك إلَّا مَن لا حَظَّ له في دينِ الإسلامِ). ((إرشاد الفحول)) (1/ 97). .
رابعًا: أنَّ القُرآنَ فَرضَ اللهُ فيه على النَّاسِ عِدَّةَ فرائِضَ مُجمَلةٍ غَيرِ مُبَيَّنةٍ، لم تُفَصَّلْ في القُرآنِ أحكامُها ولا كَيفيَّةُ أدائِها، فقال تعالى: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ولم يُبَيِّنْ كَيف تُقامُ الصَّلاةُ وتُؤتى الزَّكاةُ ويُؤَدَّى الصَّومُ والحَجُّ. وقد بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الإجمالَ بسُنَّتِه القَوليَّةِ والعَمَليَّةِ؛ لأنَّ اللَّهَ سُبحانَه جَعَل إليه هذا التَّبيينَ، فقال عَزَّ شَأنُه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. فلو لم تَكُنْ هذه السُّنَنُ البَيانيَّةُ حُجَّةً على المُسلمينَ يَجِبُ اتِّباعُها، ما أمكَنَ تَنفيذُ فرائِضِ القُرآنِ ولا اتِّباعُ أحكامِه [123] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 38). .
والحاصِلُ بَعدَ كُلِّ ما سَبَقَ مِن الأدِلَّةِ -وغَيرُها كَثيرٌ-: أنَّه يَجِبُ على جَميعِ المُكَلَّفينَ اتِّباعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَحرُمُ عليهم مُخالفتُه، ويَجِبُ عليهم تَركُ كُلِّ قَولٍ لقَولِه؛ فلا حُكمَ لأحَدٍ مَعَه، ولا قَولَ لأحَدٍ مَعَه، كما لا تَشريعَ لأحَدٍ مَعَه، وكُلُّ مَن سِواه فإنَّما يَجِبُ اتِّباعُه على قَولِه إذا أمَرَ بما أمَرَ به، ونَهى عَمَّا نَهى عنه، فكان مُبَلِّغًا مَحضًا ومُخبِرًا، لا مُنشِئًا ومُؤَسِّسًا، فمَن أنشَأ أقوالًا وأسَّس قَواعِدَ بحَسَبِ فَهمِه وتَأويلِه لم يَجِبْ على الأُمَّةِ اتِّباعُها، ولا التَّحاكُمُ إليها حتَّى تُعرَضَ على ما جاءَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإن طابَقَته ووافقَته وشهِدَ لها بالصِّحَّةِ قُبِلَت حينَئِذٍ، وإن خالفته وجَبَ رَدُّها واطِّراحُها، فإن لم يَتَبَيَّنْ فيها أحَدُ الأمرَينِ جُعِلت مَوقوفةً، وكان أحسَنُ أحوالِها أن يَجوزَ الحُكمُ والإفتاءُ بها وتَركُه، وأمَّا أنَّه يَجِبُ ويَتَعَيَّنُ فكَلَّا [124] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/12). .

انظر أيضا: