موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالثُ: حُكمُ الاستِدلالِ بالمَصلَحةِ المُرسَلةِ


اختَلف العُلماءُ فيما إذا استَجَدَّت حادِثةٌ ونَزَلت بالأُمَّةِ نازِلةٌ، ولم يَكُنْ لها حُكمٌ مَنصوصٌ عليه في كِتابِ اللهِ، ولا سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا إجماعَ للسَّابقينَ بخُصوصِها، ولم تَسبِقْها حادِثةٌ فتُلحَقَ بها بمُقتَضى اشتِراكِها مَعَها في عِلَّةِ الحُكمِ، وكان لهذه النَّازِلةِ أو في هذا الأمرِ مَنفَعةٌ للأُمَّةِ، فهَل يَصِحُّ الاحتِجاجُ بهذه المَنفَعةِ والمَصلَحةِ على شَرعيَّةِ الحُكمِ أو لا؟
اختَلفت آراءُ الأُصوليِّينَ في ذلك، والمُختارُ أنَّ المَصلَحةَ المُرسَلةَ حُجَّةٌ بشَرطِ كَونِها مِن جِنسِ المَصالِحِ التي يَعتَبرُها الشَّارِعُ؛ بأن تَكونَ مُلائِمةً لأصلٍ كُلِّيٍّ أو جُزئيٍّ مِن أُصولِ الشَّرعِ، أي: أنَّها تُعَدُّ دَليلًا مُعتَبرًا يُؤخَذُ به بشَرطِ قُربِها مِن مَعاني الأُصولِ الثَّابتةِ.
والعَمَلُ بها عِندَ مالِكٍ [2616] قال القَرافيُّ: (ما لم يَشهَدْ له باعتِبارٍ ولا بإلغاءٍ، وهو المَصلَحةُ المُرسَلةُ، وهيَ عِندَ مالِكٍ رَحِمَه اللهُ حُجَّةٌ)، وقال أيضًا: (قد تَقدَّمَ أنَّ المَصلَحةَ المُرسَلةَ في جَميعِ المَذاهِبِ عِندَ التَّحقيقِ؛ لأنَّهم يَقيسونَ ويُفرِّقونَ بالمُناسَباتِ، ولا يَطلُبونَ شاهدًا بالاعتِبارِ، ولا نَعني بالمَصلَحةِ المُرسَلةِ إلَّا ذلك). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 446). ، ونُسِبَ ذلك إلى الشَّافِعيِّ [2617] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/161، 162). وقال الزَّركَشيُّ: (حَكاه ابنُ بَرهانَ في الوجيزِ عنِ الشَّافِعيِّ، وقال: "إنَّه الحَقُّ المُختارُ"). ((البحر المحيط)) (8/85). وقال الزَّركَشيُّ ناقِلًا عنِ القُرطُبيِّ: (ذَهَبَ الشَّافِعيُّ ومُعظَمُ أصحابِ أبي حَنيفةَ إلى الاعتِمادِ عليه، وهو مَذهَبُ مالكٍ). ((البحر المحيط)) (8/84). وقال أيضًا: (قال البَغداديُّ في جنَّةِ النَّاظِرِ: لا تَظهَرُ مُخالفةُ الشَّافِعيِّ لمالكٍ في المَصالِحِ؛ فإنَّ مالكًا يَقولُ: إنَّ المُجتَهدَ إذا استَقرَأ مَوارِدَ الشَّرعِ ومَصادِرَه أفضى نَظَرُه إلى العِلمِ برِعايةِ المَصالِحِ في جُزئيَّاتِها وكُلِّيَّاتِها، وأنْ لا مَصلَحةَ إلَّا وهيَ مُعتَبَرةٌ في جِنسِها، لكِنَّه استَثنى مِن هذه القاعِدةِ كُلَّ مَصلحةٍ صادَمَها أصلٌ مِن أُصولِ الشَّريعةِ، قال: وما حَكاه أصحابُ الشَّافِعيِّ عنه لا يَعدو هذه المَقالةَ؛ إذ لا أخُصُّ مِنها إلَّا الأخذَ بالمَصلَحةِ المُعتَبَرةِ بأصلٍ مُعَيَّنٍ، وذلك مُغايِرٌ للاستِرسالِ الذي اعتَقدوه مَذهَبًا، فبانَ أنَّ مَن أخذَ بالمَصلحةِ غَيرِ المُعتَبرةِ فقد أخَذَ بالمُرسَلةِ التي قال بها مالِكٌ؛ إذ لا واسِطةَ بَينَ المَذهَبَينِ). ((البحر المحيط)) (8/85،84). ، وأحمدَ [2618] قال الزَّركَشيُّ: (قال ابنُ دَقيقِ العيدِ: نَعَم، الذي لا شَكَّ فيه أنَّ لمالِكٍ تَرجيحًا على غَيرِه مِنَ الفُقَهاءِ في هذا النَّوعِ، ويَليه أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ. ولا يَكادُ يَخلو غَيرُهما عنِ اعتِبارِه في الجُملةِ، ولكِنْ لهَذين تَرجيحٌ في الاستِعمالِ على غَيرِهما. انتَهى. وقال القَرافيُّ: هيَ عِندَ التَّحقيقِ في جَميعِ المَذاهِبِ؛ لأنَّهم يَعقِدونَ ويَقومونَ بالمُناسَبةِ، ولا يَطلُبونَ شاهدًا بالاعتِبارِ، ولا يُعنى بالمَصلَحةِ المُرسَلةِ إلَّا ذلك). ((البحر المحيط)) (8/ 84). ويُنظَرُ حَولَ بَيانِ رَأيِ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ وأتباعِه في الأخذِ بالمُناسِبِ المُرسَلِ: ((الوصف المناسب لشرع الحكم)) لأحمد الشنقيطي (ص: 291). ، وعُزِي ذلك إلى مُعظَمِ أصحابِ أبي حَنيفةَ [2619] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/161، 162)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/84). ، وهو اختيارُ الطُّوفيِّ مِنَ الحَنابلةِ [2620]  يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (3/211) (3/213). ويُنظر أيضًا: ((التحبير)) للمرداوي (7/3393). ، واختارَه الغَزاليُّ [2621] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 175، 176). وقال الغَزاليُّ: (إذا فسَّرنا المَصلحةَ بالمُحافظةِ على مَقاصِدِ الشَّرعِ، فلا وجهَ للخِلافِ في اتِّباعِها، بَل يَجِبُ القَطعُ بكَونِها حُجَّةً، وحَيثُ ذَكَرنا خِلافًا فذلك عِندَ تَعارُضِ مَصلَحَتَينِ ومَقصودينِ، وعِندَ ذلك يَجِبُ تَرجيحُ الأقوى). ((المستصفى)) (ص: 179). ، والبَيضاويُّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ، واشتَرَطَ البَيضاويُّ لاعتِبارِها أن تَكونَ المَصلَحةُ ضَروريَّةً قَطعيَّةً كُلِّيَّةً [2622] يُنظر: ((منهاج الوصول)) (ص:228). قال ابنُ السُّبكيِّ: (والضَّروريَّةُ: ما تَكونُ في الضَّروريَّاتِ الخَمسِ، أعني الدِّينَ والعَقلَ والنَّفسَ والمالَ والنَّسَبَ، والقَطعيَّةُ: التي تَجزِمُ بحُصولِ المَصلَحةِ فيها، والكُلِّيَّةُ: هيَ التي تَكونُ موجِبةً لفائِدةٍ تَعُمُّ جَميعَ المُسلمينَ). ((الإبهاج)) (6/2635). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ [2623]  يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/174)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (2/425).
النُّصوصُ الدَّالَّةُ على أنَّ مَصالِحَ الخَلقِ ودَفعَ المَضارِّ عنهم مَطلوبُ الشَّرعِ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] وقَولِه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، وقَولِه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 13] ، وقَولِه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، وقَولِه عزَّ وجَلَّ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] ، فهذه الآياتُ وغَيرُها مِمَّا في نَفسِ مَعناها دالَّةٌ على أنَّ الأحكامَ مُراعًى فيها مَصالِحُ العِبادِ؛ إذ لا تَكونُ بَعثَتُه رَحمةً إلَّا إذا حَقَّقَت مَصالِحَهم، ورَفعُ الحَرَجِ والتَّيسيرُ هو مُقتَضى تَحقيقِ المَصالِحِ، ومِن خِلالِه يَظهَرُ أنَّ الشَّريعةَ إنَّما وُضِعَت لتَحقيقِ مَصالِحِ العِبادِ ورَفعِ الحَرَجِ عنهم، فإذا لم يُؤخَذْ بالمَصلَحةِ في كُلِّ مَوضِعٍ تَحَقَّقَت فيه كان النَّاسُ في حَرَجٍ وضيقٍ، وقد رَفعَ اللهُ تَبارَكَ وتعالى الحَرَجَ بقَولِه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] [2624]  يُنظر: ((المصالح المرسلة)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 83). .
ثانيًا: عَمَلُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
كان الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم يَبنونَ الكَثيرَ مِنَ الأحكامِ على المَصالِحِ المُرسَلةِ التي لم يَرِدْ دَليلٌ على اعتِبارِها ولا إلغائِها مِن غَيرِ إنكارٍ على واحِدٍ مِنهم في ذلك، فكان ذلك إجماعًا مِنهم على العَمَلِ بالمَصالِحِ المُرسَلةِ والاعتِدادِ بها في تَشريعِ الأحكامِ، ومِن ذلك:
جَمُعُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لصُحُفِ القُرآنِ المُتَفرِّقةِ، ولم يَكُنْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد جَمَعَها، ومُحارَبَتُه لمانِعي الزَّكاةِ، واستِخلافُه عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه، ولم يَكُنِ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدِ استَخلفَه.
ووَضَعَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه الخَراجَ، ودَوَّنَ الدَّواوينَ، وأوقَف تَنفيذَ حَدِّ السَّرِقةِ عامَ المَجاعةِ؛ تَحقيقًا للمَصلَحةِ التي تَتَرَتَّبُ على ذلك.
وجَدَّدَ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه أذانًا ثانيًا لصَلاةِ الجُمُعةِ، وجَمع المُسلِمينَ على مُصحَفٍ واحِدٍ.
وضَمَّنَ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه الصُّنَّاعَ، مُبَيِّنًا أنَّه لا يُصلِحُ النَّاسَ إلَّا ذلك.
وغَيرُ ذلك مِنَ المَسائِلِ والفُروعِ الدَّالَّةِ على نَظَرِ الصَّحابةِ للمَصالِحِ واعتِمادِها في فتاويهم مِن غَيرِ إنكارٍ مِن أحَدِهم؛ مِمَّا يَدُلُّ على احتِجاجِهم بالمَصالِحِ المُرسَلةِ تَطبيقًا وعَمَلًا [2625]  يُنظر: ((المصالح المرسلة)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 88)، ((المصالح المرسلة وأثرها في المعاملات)) لعبد العزيز العمار (ص: 70). .
قال إمامُ الحَرَمَينِ: (وأمَّا الشَّافِعيُّ فقال: "إنَّا نَعلمُ قَطعًا أنَّه لا تَخلو واقِعةٌ عن حُكمِ اللهِ تعالى مَعزوٍّ إلى شَريعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... والذي يَقَعُ به الاستِقلالُ هاهنا: أنَّ الأئِمَّةَ السَّابقينَ لم يُخْلُوا واقِعةً -على كَثرةِ المَسائِلِ وازدِحامِ الأقضيةِ والفتاوى- عن حُكمِ اللهِ تعالى، ولو كان ذلك مُمكِنًا لكانت تَقَعُ، وذلك مَقطوعٌ به أخذًا مِن مُقتَضى العادةِ، وعلى هذا عَلِمنا بأنَّهم رَضِيَ اللهُ عنهمُ استَرسَلوا في بناءِ الأحكامِ استِرسالَ واثِقٍ بانبساطِها على الوقائِعِ، مُتَصَدٍّ لإثباتِها فيما يَعِنُّ ويَسنَحُ، مُتَشَوِّفٍ إلى ما سَيَقَعُ، ولا يَخفى على المُنصِفِ أنَّهم ما كانوا يُفتونَ فتوى مَن تَنقَسِمُ الوقائِعُ عِندَه إلى ما يَعرَى عن حُكمِ اللهِ، وإلى ما لا يَعرى عنه.
فإذا تَبَيَّنَ ذلك بَنَينا عليه المَطلوبَ وقُلْنا: لوِ انحَصَرَت مَآخِذُ الأحكامِ في المنصوصاتِ والمَعاني المُستَثارةِ مِنها لما اتَّسَعَ بابُ الاجتِهادِ؛ فإنَّ المنصوصاتِ ومَعانيَها المَعزوَّةَ إليها لا تَقَعُ مِن مُتَّسَعِ الشَّريعةِ غَرفةً مِن بَحرٍ، ولو لم يَتَمَسَّكِ الماضونَ بمَعانٍ في وقائِعَ لم يَعهَدوا أمثالَها لكان وُقوفُهم عنِ الحُكمِ يَزيدُ على جَرَيانِهم، وهذا إذا صادَف تَقريرًا لم يَبقَ لمُنكِري الاستِدلالِ مُضطَرَبًا"...) [2626]  ((البرهان)) (2/162). .
وقال سِراجُ الدِّينِ الأُرْمَويُّ: (نَعلمُ بالضَّرورةِ أنَّ الصَّحابةَ ما كانوا يَلتَفِتونَ إلى الشَّرائِطِ التي يَعتَبرُها فُقَهاءُ الزَّمانِ، بَل كانوا يُراعونَ المَصلحةَ) [2627]  ((التحصيل)) (2/ 333). .
وقال القَرافيُّ: (مِمَّا يُؤَكِّدُ العَمَلَ بالمَصلَحةِ المُرسَلةِ أنَّ الصَّحابةَ رِضوانُ اللهِ عليهم عَمِلوا أُمورًا لمُطلَقِ المَصلَحةِ لا لتَقدُّمِ شاهدٍ بالاعتِبارِ، نَحوُ كِتابةِ المُصحَفِ، ولم يَتَقدَّمْ فيه أمرٌ ولا نَظيرٌ، ووِلايةِ العَهدِ مِن أبي بَكرٍ لعُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، ولم يَتَقدَّمْ فيها أمرٌ ولا نَظيرٌ، وكذلك تَركُ الخِلافةِ شورى، وتَدوينُ الدَّواوينِ، وعَمَلُ السِّكَّةِ للمُسلِمينَ، واتِّخاذُ السِّجنِ، فعَل ذلك عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه، وهَدْمُ الأوقافِ التي بإزاءِ مَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّوسِعةُ بها في المَسجِدِ عِندَ ضيقِه فعَلَه عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه، وتَجديدُ الأذانِ في الجُمُعةِ بالسُّوقِ، وهو الأذانُ الأوَّلُ، فعَله عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه، ثُمَّ نَقَله هشامٌ إلى المَسجِدِ، وذلك كَثيرٌ جِدًّا، لمُطلَقِ المَصلَحةِ) [2628]  ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 446). .
وقال الشَّاطِبيُّ بَعدَ ذِكرِ اتِّفاقِ الصَّحابةِ على جَمعِ القُرآنِ: (لم يَرِدْ نَصٌّ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما صَنَعوا مِن ذلك، ولكِنَّهم رَأوه مَصلحةً تُناسِبُ تَصَرُّفاتِ الشَّرعِ قَطعًا؛ فإنَّ ذلك راجِعٌ إلى حِفظِ الشَّريعةِ، والأمرُ بحِفظِها مَعلومٌ، وإلى مَنعِ الذَّريعة للاختِلافِ في أصلِها الذي هو القُرآنُ، وقد عُلمَ النَّهيُ عنِ الاختِلافِ بما لا مَزيدَ عليه) [2629]  ((الاعتصام)) (2/614). .
ثالثًا: أدِلَّةٌ مِنَ المَعقولِ
1- أنَّ اللَّهَ تعالى إنَّما بَعَثَ الرُّسُلَ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ لتَحصيلِ مَصالِحِ العِبادِ، فإذا وجَدْنا مَصلحةً غَلبَ على الظَّنِّ أنَّها مَطلوبةٌ للشَّرعِ وجَبَ العَمَل بها؛ لأنَّ العَمَلَ بالظَّنِّ واجِبٌ، فيَصِحُّ الاحتِجاجُ بالمَصالِحِ المُرسَلةِ بناءً على ذلك [2630]  يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 446)، ((التحصيل)) لسراج الدين الأرموي (2/ 332). .
2- أنَّه لا يَجوزُ خُلوُّ واقِعةٍ مِنَ الوقائِعِ عن حُكمِ اللهِ تعالى، والوقائِعُ غَيرُ مُتَناهيةٍ، وقد تَطرَأُ على النَّاسِ طَوارِئُ لم تَطرَأْ على مَن سَبَقَهم، وتَستَوجِبُ بَيانَ أحكامِها مِن غَيرِ وُجودِ نَصٍّ يَشمَلُها بعَينِها، أو إجماعٍ يَتَضَمَّنُها، أو نَظيرٍ تُقاسُ عليه، فإن لم يُنظَرْ إلى المَصالِحِ والمَفاسِدِ في مِثلِها لأدَّى إلى أن تَضيقَ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ عن مَصالحِ العِبادِ [2631] يُنظر: ((الوصف المناسب لشرع الحكم)) لأحمد الشنقيطي (ص:271). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (مَنِ استَقرى الشَّريعةَ في مَوارِدِها ومَصادِرِها وجَدَها مَبنيَّةً على قَولِه: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 173] ، فكُلُّ ما احتاجَ النَّاسُ إليه في مَعاشِهم ولم يَكُنْ سَبَبُه مَعصيةً هيَ تَركُ واجِبٍ، أو عَمَلُ مُحَرَّمٍ- لم يَحرُمْ عليهم؛ لأنَّهم في مَعنى المُضطَرِّ الذي ليس بباغٍ ولا عادٍ) [2632]  يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/64). .
وقيل: لا يُحتَجُّ بالمَصالِحِ المُرسَلةِ مُطلقًا، ولا يَصحُّ أن يُبنى عليها حُكمٌ مِنَ الأحكامِ، وهو مَذهَبُ الظَّاهريَّةِ [2633]  يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/48). ، ونَسَبَه الزَّركَشيُّ للجُمهورِ، فقال: (وهو قَولُ الأكثَرينَ) [2634]  ((البحر المحيط)) (8/ 83). ، ومِمَّنِ اختارَه الآمِديُّ [2635] يُنظر: ((الإحكام)) (4/160). ، وابنُ الحاجِبِ [2636]  يُنظر: ((مختصر ابن الحاجب)) (2/1199-1201). .

انظر أيضا: