موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الأوَّلُ: تَعريفُ الإلهامِ، وبَيانُ الفِرَقِ بَينَه وبَينَ ما يَشتَبِهُ به مِن مُصطَلحاتٍ


أوَّلًا: تَعريفُ الإلهامِ لُغةً
الإلهامُ في اللُّغةِ: مُشتَقٌّ مَن (لهم)، يُقالُ: لهِمَه لَهمًا ولهَمًا، وتَلهَّمَه والتَهَمَه، أي: ابتَلعَه، والتَهَمَ الفَصيلُ ما في ضَرعِ أُمِّه، أيِ: استَوفاه، وألهَمَه اللهُ خَيرًا، أي: لقَّنَه إيَّاه، ومِن هذا البابِ الإلهامُ، كأنَّه شيءٌ أُلقيَ في الرُّوعِ فالتَهَمَه [2779]  يُنظر: ((أساس البلاغة)) للزمخشري (2/187)، ((لسان العرب)) لابن منظور (12/554). .
وهو إيقاعُ شَيءٍ في قَلبِ العاقِلِ، يُفضي إلى العَمَلِ به، ويَحمِلُه عليه، ويَميلُ قَلبُه إليه، حَقًّا كان أو باطِلًا، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 8] [2780]  يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 678). ويُنظر أيضًا: ((الصحاح)) للجوهري (5/2037)، ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص:797). .
ثانيًا: تَعريفُ الإلهامِ اصطِلاحًا
الإلهامُ في اصطِلاحِ الأُصوليِّينَ: هو إيقاعُ شَيءٍ في الصَّدرِ يَثلُجُ له الصَّدرُ يَخُصُّ به اللهُ تعالى بَعضَ أصفيائِه [2781] يُنظر: ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 111). .
وقيل: ما حَرَّكَ القَلبَ بعِلمٍ يَدعوك إلى العَمَلِ به مِن غَيرِ استِدلالٍ بآيةٍ ولا نَظَرٍ في حُجَّةٍ [2782] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص:392). .
وقيل: ما يَخلُقُ اللهُ تعالى في قَلبِ المُؤمِنِ العاقِلِ مِنَ العِلمِ الضَّروريِّ الدَّاعي له إلى العَمَلِ المَرغوبِ فيه [2783] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 679). .
وقيل: هو اتِّباعُ الرَّجُلِ ما اشتَهاه بقَلبِه أو أشارَ إليه في أمرٍ مِن غَيرِ نَظَرٍ واستِدلالٍ [2784] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص:678). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبَيانُ مُحتَرَزاتِه [2785] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2119). :
- عِبارةُ "إيقاعُ شَيءٍ في الصَّدرِ": جِنسٌ في التَّعريفِ يَشمَلُ الإلهامَ وغَيرَه.
- عِبارةُ "يَثلُجُ له الصَّدرُ": أي: يَنشَرِحُ ويَطَمئِنُّ [2786] قال العَطَّارُ ناقِلًا عنِ النَّجَّاريِّ: (شَبَّه حالةَ اطمِئنانِ القَلبِ بالوارِداتِ الرَّبَّانيَّةِ وسُكونَ شُبهَتِه بحالةِ سُكونِ حَرارةِ القِدرِ الحاصِلةِ بإصابةِ بَردِ الثَّلجِ له). ((حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع)) (2/398). ، وهيَ تُخرِجُ ما عَدا الإلهامَ مِنَ الوَسوَسةِ ونَحوِها مِمَّا لا يَنشَرِحُ به الصَّدرُ.
فالإلهامُ شَيءٌ يَقَعُ في قَلبِ الإنسانِ يَدعوه إلى العَمَلِ مِن غَيرِ دَليلٍ مِن وَحيٍ، ولا نَظَرٍ في حُجَّةٍ عَقليَّةٍ، بَل هو مِنحةٌ مِنَ اللهِ تعالى يَخُصُّ بها بَعضَ أوليائِه [2787] يُنظر: بحث ((دلالة الإلهام)) لكمال أوقاسين - مجلة البحوث العلمية والدراسات الإسلامية بجامعة الجزائر (العدد:4/ص:347). .
الفَرقُ بَينَ المَعنى اللُّغَويِّ والاصطِلاحيِّ:
مِمَّا سَبَقَ نَجِدُ أنَّ مَعنى الإلهامِ في اللُّغةِ قد يَكونُ حَقًّا، وقد يَكونُ باطِلًا، وذلك قد يَكونُ بواسِطةِ الشَّيطانِ وهَوى النَّفسِ، فيَكونُ وَسوَسةً.
وأمَّا في الاصطِلاحِ فهو مُستَعمَلٌ فيما يَقَعُ في القَلبِ بطَريقِ الحَقِّ دونَ الباطِلِ، ويَدعوه إلى مُباشَرةِ الخَيراتِ دونَ الشَّهَواتِ [2788]  يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 678). .
والمُلهَمُ: هو الذي يُلقى في نَفسِه الشَّيءُ، فيُخبِرُ به حَدْسًا وفِراسةً، وهو نَوعٌ يَختَصُّ اللهُ به مَن يَشاءُ مِن عِبادِه الذينَ اصطَفى، مِثلُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه، كَأنَّهم حُدِّثوا بشَيءٍ فقالوه [2789]  يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/350). .
ثالثًا: الفَرقُ بَينَ الإلهامِ وما يَشتَبِهُ به مِن مُصطَلَحاتٍ
1- الفَرقُ بَينَ الإلهامِ والتَّحَرِّي:
التَّحَرِّي: هو بَذلُ المَجهودِ في طَلَبِ المَقصودِ، وهو العَمَلُ بشَهادةِ القَلبِ وحُكمِه عِندَ عَدَمِ سائِرِ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ والعَقليَّةِ، بنَوعِ نَظَرٍ واستِدلالٍ بالأحوالِ، وهو حُكمٌ عَرَفناه بالشَّرعِ، في مَوضِعٍ ليس ثَمَّةَ دَليلٌ مِنَ الأُصولِ الأربَعةِ (الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ) قائِمًا؛ لِما رُويَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن شَكَّ في صَلاتِه فلم يَدْرِ أثلاثًا صَلَّى أم أربَعًا، فليَتَحَرَّ الصَّوابَ وليَبْنِ عليه)) [2790]  أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه؛ بلَفظِ: ((وإذا شَكَّ أحَدُكُم في صَلاتِه فليَتَحَرَّ الصَّوابَ، فليُتِمَّ عليه)). ، وذلك بخِلافِ الإلهامِ كما سَبَقَ بَيانُه؛ فهو شَيءٌ يَقَعُ في القَلبِ يَطمئِنُّ به.
والإلهامُ يَكونُ في حَقِّ العَدلِ الوَرِعِ القائِمِ بأوامِرِ اللهِ ونَواهيه، لا في حَقِّ الفاسِقِ، والتَّحَرِّي في الأحكامِ مَشروعٌ في حَقِّ الكُلِّ [2791] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص:684)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/446)، ((معجم مقاليد العلوم)) للسيوطي (ص: 49). .
2- الفَرقُ بَينَ الإلهامِ والتَّحديثِ:
المُحَدَّثُ: هو الذي يُحَدَّثُ في سِرِّه وقَلبِه بشَيءٍ، فيَكونُ كَما حُدِّثَ به [2792] يُنظر: بحث ((دلالة الإلهام)) لكمال أوقاسين - مجلة البحوث العلمية والدراسات الإسلامية بجامعة الجزائر (العدد:4/ص:349). ، مِثلُ ما كان لعُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه؛ فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((قد كان فيما قَبلَكُم مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثون، فإن يَكُ في أُمَّتي أحَدٌ فإنَّه عُمَرُ)) [2793]  أخرجه مسلم (2398) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: ((قد كان يَكونُ في الأُمَمِ قَبلكُم مُحَدَّثونَ، فإن يَكُنْ في أُمَّتي مِنهم أحَدٌ، فإنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ مِنهم)). وأخرجه البخاري (3689) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
والتَّحديثُ أخَصُّ مِنَ الإلهامِ، وذَهَبَ الهَرَويُّ إلى أنَّ الإلهامَ هو نَفسُ التَّحديثِ [2794] فقد قال: (الإلهامُ مَقامُ المُحَدِّثينَ). ((منازل السائرين)) (ص: 82). ، بَينَما رَأى ابنُ القَيِّمِ أنَّ بَينَهما عُمومًا وخُصوصًا؛ فكُلُّ تَحديثٍ إلهامٌ، وليسَ كُلُّ إلهامٍ تَحديثًا [2795] قال ابنُ القَيِّمِ: (التَّحديثُ أخَصُّ مِنَ الإلهامِ؛ فإنَّ الإلهامَ عامٌّ للمُؤمِنينَ بحَسَبِ إيمانِهم، فكُلُّ مُؤمِنٍ قد ألهَمَه اللهُ رُشدَه الذي حَصَل له به الإيمانُ، وأمَّا التَّحديثُ فإلهامٌ خاصٌّ، وهو -أي الإلهامُ- الوَحيُ إلى غَيرِ الأنبياءِ، إمَّا مِنَ المُكَلَّفينَ، كقَولِه تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، وإمَّا مِن غَيرِ المُكَلَّفينَ، كقَولِه تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، فهذا كُلُّه وحيُ إلهامٍ). ((مدارج السالكين)) (1/70، 71). .
3- الفَرقُ بَينَ الإلهامِ والفِراسةِ:
الفِراسةُ هيَ الاستِدلالُ بهَيئاتِ الإنسانِ وأشكالِه وألوانِه وأقوالِه على أخلاقِه وفضائِلِه ورَذائِلِه [2796] يُنظر: ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص:145). .
وقد نَبَّهَ اللَّهُ تعالى على صِدقِها بقَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر: 75] ، وقَولِه تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة: 273] ، وبقَولِه: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] [2797] يُنظر: ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص:145). .
ولم يُفرِّقِ الرَّاغِبُ الأصفَهانيُّ بَينَ الإلهامِ والفِراسةِ والتَّحديثِ [2798] يُنظر: ((الذريعة)) (ص:145: 147). ، وجَعَل الهَرَويُّ مَقامَ الفِراسةِ أقَلَّ مِن مَقامِ الإلهامِ؛ لأنَّ الفِراسةَ رُبَّما وقَعَت نادِرةً، واستَصعَبَت على صاحِبِها وقتًا واستَعصَت عليه، والإلهامُ لا يَكونُ إلَّا في مَقامِ القُربِ والحُضورِ [2799] يُنظر: ((منازل السائرين)) (ص: 82). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (التَّحقيقُ في هذا: أنَّ كُلًّا مِن (الفِراسةِ)، و (الإلهامِ) يَنقَسِمُ إلى عامٍّ وخاصٍّ، وأنَّ خاصَّ كُلِّ واحِدٍ مِنهما فوقَ عامِّ الآخَرِ، وعامَّ كُلِّ واحِدٍ قد يَقَعُ كَثيرًا، وخاصُّه قد يَقَعُ نادِرًا. ولكِنَّ الفَرقَ الصَّحيحَ: أنَّ الفِراسةَ قد تَتَعَلَّقُ بنَوعِ كَسبٍ وتَحصيلٍ [2800] قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (والضَّربُ الثَّاني مِنَ الفِراسةِ: يَكونُ بصِناعةٍ مُتَعَلَّمةٍ، وهيَ مَعرِفةُ ما بَينَ الألوانِ والأشكالِ وما بَينَ الأمزِجةِ والأخلاقِ والأفعالِ الطَّبيعيَّةِ، ومِن عَرَف ذلك وكان ذا فَهمٍ ثاقِبٍ قَويَ في الفِراسةِ، وقد عُمِل في ذلك كُتُبٌ، فمَن تَتبَّع الصَّحيحَ مِنها اطَّلعَ مِنها على صِدقِ ما ضَمَّنوه، والفِراسةُ ضَربٌ مِنَ الظَّنِّ). ((الذريعة)) (ص:146). ، وأمَّا الإلهامُ فمَوهِبةٌ مُجَرَّدةٌ لا تُنالُ بكَسبٍ البَتَّةَ) [2801] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/71). .
4- الفَرقُ بَينَ الإلهامِ والوَسوَسةِ:
أنَّ المَأمورَ به إن كان حَقًّا فهو إلهامٌ، وإن كان المَأمورُ به باطِلًا فهو وَسوَسةٌ مَذمومةٌ، والعِبرةُ بذلك عَرضُ ما أُلقيَ في النَّفسِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، فما دَلَّا على أنَّه حَقٌّ فهو مِنَ الإلهامِ المَحمودِ، وما عَدا ذلك فهو وَسواسٌ مَذمومٌ [2802] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/529)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/114). .

انظر أيضا: