موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: الفَرقُ بَينَ المُشتَرَكِ وبَينَ ما يَشتَبِهُ مَعَه


أوَّلًا: الفرقُ بَينَ المُشتَرَكِ والمُتَواطِئِ والمُشَكِّكِ
المُشتَرَكُ: لَفظٌ وُضِع لمَعانٍ مُتَعَدِّدةٍ، وكُلٌّ مِنَ المُتَواطِئِ والمُشَكِّكِ لَفظٌ مَوضوعٌ للمَعنى المُشتَرَكِ بَينَ أفرادِه، فإن حَصَلَ مَعناه في أفرادِه على التَّساوي فهو المُتَواطِئُ، وإن حَصَلَ المَعنى في بَعضِ أفرادِه بتَفاوُتٍ في مَفهومِه فهو المُشَكِّكُ [115] تَقدَّمَ تَعريفُ كُلٍّ مِنَ المُشتَرَكِ والمُتَواطِئِ والمُشَكِّكِ. ويُنظر أيضًا: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 31)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 150). .
ثانيًا: الفرقُ بَينَ المُشتَرَكِ، والعامِّ [116] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 342)، ((الوافي)) للسغناقي (1/105)، ((دلالة الألفاظ على المعاني)) لمحمود توفيق (ص: 520)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/79).
المُشتَرَكُ: لَفظٌ وُضِعَ لمَعانٍ مُتَعَدِّدةٍ بأوضاعٍ مُتَعَدِّدةٍ، كالقُرءِ.
وأمَّا العامُّ: فهو لَفظٌ وُضِعَ لمَعنًى واحِدٍ، وهذا المَعنى الواحِدُ يَشمَلُ أفرادًا غَيرَ مَحصورينَ -وإن كانوا في الواقِعِ مَحصورينَ- فإنَّه بحَسَبِ الوَضعِ اللُّغَويِّ لا يَدُلُّ على عَدَدٍ مَحصورٍ مِن هذه الأفرادِ، وإنَّما يَشمَلُهم جميعًا، كلَفظِ (الطَّلَبةِ)؛ فإنَّه يَدُلُّ على أعدادٍ غَيرِ مَحصورينَ، ويَشمَلُهم جَميعًا.
وعلى هذا فالمُشتَرَكُ خِلافُ العامِّ؛ لأنَّ العامَّ يَتَناولُ الأشياءَ مِن جِنسٍ واحِدٍ بمَعنًى واحِدٍ يَشمَلُ الكُلَّ. أمَّا المُشتَرَكُ: فلَفظٌ يَتَناولُ مَعانيَ مُختَلِفةً على سَبيلِ البَدَلِ.
ثالِثًا: الفرقُ بَينَ المُشتَرَكِ والمُطلَقِ [117] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 342).
المُشتَرَكُ خِلافُ المُطلَقِ؛ حَيثُ إنَّ المُشتَرَكَ يَتَناولُ واحِدًا مُعَيَّنًا عِندَ المُتَكَلِّمِ، مجهولًا عِندَ السَّامِعِ.
والمُطلَقُ يَتَناولُ واحِدًا غَيرَ مُعَيَّنٍ، شائِعًا في الجِنسِ، ويَتَعَيَّنُ ذلك باختيارِ مَن فوَّضَ إليه، كقَولِ القائِلِ: (أعطِ هذا الدِّرهَمَ رجلًا مِنَ الرِّجالِ) فهو أمرٌ بالإعطاءِ إلى واحِدٍ مِنَ الرِّجالِ غَيرِ مُتَعَيِّنٍ عِندَ الآمِرِ والمَأمورِ، ولَكِن يَتَعَيَّنُ باختيارِ المَأمورِ.
رابِعًا: الفرقُ بَينَ المُشتَرَكِ والمُجمَلِ
أوَّلًا: وَجهُ الشَّبَهِ بَينَهما:
أنَّ كُلَّ واحِدٍ منها لا يُفيدُ لسامِعِه المُرادَ به [118] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/343). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (كِلاهما لا يُفهَمُ منه المُرادُ، ولا يَدُلُّ عليه) [119] ((بيان تلبيس الجهمية)) (8/396). .
ثانيًا: الفرقُ بَينَهما:
1- أنَّ الإجمالَ إنَّما يَكونُ بالنِّسبةِ إلى الفهمِ، والِاشتِراكَ بالنِّسبةِ إلى وضعِ اللَّفظِ واستِعمالِه؛ فالمُجمَلُ يَستَدعي ثُبوتَ احتِمالَينِ مُتَساويَينِ بالنِّسبةِ إلى الفهمِ، سَواءٌ وُضِع اللَّفظُ لهما على وَجهِ الحَقيقةِ، أو في أحَدِهما مَجازٌ وفي الآخَرِ حَقيقةٌ. فالإجمالُ إنَّما هو بالنِّسبةِ إلى الفهمِ. والمُشتَرَكُ لا يَكونُ إلَّا لاحتِمالَينِ مُتَساويَينِ بالنِّسبةِ إلى الوضعِ، لا بالنِّسبةِ إلى الفهمِ، فقد يَتَساوى بالنِّسبةِ إلى الوضعِ، ولا يَتَساوى بالنِّسبةِ إلى الفهمِ، فلا يَكونُ مُجمَلًا [120] يُنظر: ((البحر المحيط)) (5/64)، ((تشنيف المسامع)) (2/837) كلاهما للزركشي، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/35). .
وبَيانُ ذلك: أنَّ كَونَ الدَّليلِ مجمَلًا أمرٌ نِسبيٌّ يَختَلِفُ مِن عالِمٍ لآخَرَ؛ فقد يَكونُ الدَّليلُ مُجمَلًا عِند عالمٍ، ومُبيَّنًا عِندَ غَيرِه، وذلك بحَسَبِ ما يَصِلُ إليه اجتِهادُ كُلٍّ مِنهما.
وأمَّا الاشتِراكُ فهو مِن حَيثُ الوضعُ في اللُّغةِ، فاللَّفظُ قد يَكونُ مُشتَرَكًا ولَكِنَّه يُستَعمَلُ في أحَدِ مَعانيه، فلا يَكونُ مُجمَلًا، وقد يَغمُضُ المُرادُ منه فيَكونُ مُجمَلًا.
وأيضًا فإنَّ الإجمالَ في الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ قد بُيِّنَ، ولَم يَبقَ لَفظٌ مُجمَلٌ لا بَيانَ له، على الأرجَحِ مِن قَولَي العُلَماءِ.
أمَّا الاشتِراكُ فلا أحَدَ يَدَّعي انتِهاءَه مِنَ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ [121] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 399). .
2- أنَّ اللَّفظَ المُشتَرَكَ إن تَجَرَّدَ عنِ القَرائِنِ فهو مُجمَلٌ؛ قال القَرافيُّ: (اللَّفظُ المُشتَرَكُ مُجمَلٌ، يَفتَقِرُ في حَملِه على شَيءٍ إلى قَرينةٍ تُضافُ إليه، فتُعَيِّنُ تلك القَرينةُ المُرادَ به، وعِندَ عَدَمِ تلك القَرينةِ يَجِبُ التَّوقُّفُ في حَملِ اللَّفظِ على شَيءٍ) [122] ((العقد المنظوم)) (1/161). .
وذَكَرَ الإسنَويُّ مُخالَفةَ الشَّافِعيِّ والباقلَّانيِّ في ذلك، فقال: (اللَّفظُ المُشتَرَكُ قد يَقتَرِنُ به قَرينةٌ مُبَيِّنةٌ للمُرادِ، وقد يَتَجَرَّدُ عنها؛ فإن تَجَرَّد عنِ القَرائِنِ فهو مُجمَلٌ، إلَّا عِندَ الشَّافِعيِّ والقاضي؛ فإنَّه يَحمِلُه على الجَميعِ) [123] ((نهاية السول)) (ص: 117). . وبَيانُ ذلك: أنَّ المُشتَرَكَ يَكونُ مِن قَبيلِ المُجمَلِ عِندَ مَن مَنَعَ مِن حَملِه على مَعانيه، وأمَّا مَن يَحمِلُه على مَعانيه فليس مِن قَبيلِ المُجمَلِ، إلَّا أن تَكونَ مَعانيه مُتَضادَّةً، فلا يُحمَلُ على أحَدِ المَعاني، وأيضًا ما لَم تَكُنْ هناكَ قَرينةٌ تُعيِّنُ أحَدَ المَعاني [124] يُنظر: ((الشرح الكبير لمختصر الأصول)) للمنياوي (ص: 314). .
3- أنَّ المُجمَلَ أعَمُّ مِنَ المُشتَرَكِ عُمومًا مُطلَقًا، فكُلُّ مُشتَرَكٍ مُجمَلٌ، وليس كُلُّ مُجمَلٍ مُشتَرَكًا؛ لأنَّ المُجمَلَ يَشمَلُ ما احتَمَلَ مَعنَيَينِ سَواء، واللَّفظُ فيهما حَقيقةٌ أو مَجازٌ، أو أحَدُهما حَقيقةٌ والآخَرُ مَجازٌ مُساوٍ للحَقيقةِ [125] يُنظر: ((نفائس الأصول)) (5/2194)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص275) كلاهما للقرافي، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1763)، ((التحبير)) للمرداوي (6/2754). .
وبَيانُ ذلك أنَّه لَمَّا كان الإجمالُ له سَبَبانِ -أحَدُهما: الاشتِراكُ اللَّفظيُّ، وهو اللَّفظُ المُشتَرَكُ، والثَّاني: الاشتِراكُ المَعنَويُّ، وهو المُتَواطِئُ- كان الإجمالُ أعَمَّ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهما، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما أخَصَّ مِنه، فصارَ كُلُّ مُشتَرَكٍ وضعًا مُجمَلًا، وليس كُلُّ مُجمَلٍ مُشتَرَكًا وضعًا، وكذلك أيضًا نَقولُ: كُلُّ مُتَواطِئٍ مُجمَلٌ، وليس كُلُّ مُجمَلٍ مُتَواطِئًا [126] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/298). .
4- فرَّقَ الحَنَفيَّةُ بَينَهما في: أنَّه قد يُتَوصَّلُ إلى العَمَلِ بالمُشتَرَكِ عِندَ التَّأمُّلِ في صيغةِ اللَّفظِ، فيُرَجَّحُ بَعضُ المُحتَمَلاتِ، ويُعرَفُ أنَّه هو المُرادُ بدَليلٍ في اللَّفظِ مِن غَيرِ بَيانٍ آخَرَ.
وأمَّا المُجمَلُ: فلا يُستَدرَكُ المُرادُ به بمُجَرَّدِ التَّأمُّلِ في صيغةِ اللَّفظِ المُجمَلِ، بَل لا بُدَّ مِنَ الرُّجوعِ في بَيانِه إلى المُجمَلِ؛ ليَصيرَ المُرادُ بذلك البَيانِ مَعلومًا.
وإنَّما لا يُدرَكُ المُرادُ بالمُجمَلِ إلَّا ببَيانٍ مِنَ المُجمَلِ لأمرَينِ:
إمَّا لمَعنًى زائِدٍ ثَبَتَ شَرعًا على المَعنى اللُّغَويِّ، كالرِّبا؛ فنَفسُ الرِّبا -وهو الزِّيادةُ- غَيرُ مُحَرَّمٍ؛ لأنَّ البَيعَ وُضِعَ للاستِرباحِ، ولَكِنَّ المُرادَ فَضلٌ خالٍ عنِ العِوَضِ المَشروطِ في العَقدِ، ومَعلومٌ أنَّه بالتَّأمُّلِ في صيغةِ اللَّفظِ لا يُعرَفُ هَذا، بَل بالشَّرعِ.
أو لانسِدادِ بابِ التَّرجيحِ لُغةً، كقَولِ اللهِ تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] ؛ فإنَّ (الحَقَّ) مُجمَلٌ لا يُفهَمُ المُرادُ به مِن لَفظِه، فلَم يُدْرَ أنَّه خَمسٌ أو عَشرٌ أو غَيرُ ذلك، فإذا تُكُلِّمَ به مِن غَيرِ سَبقِ قَرينةٍ كان مجمَلًا؛ لانسِدادِ بابِ التَّرجيحِ لُغةً، فوجَبَ الرُّجوعُ فيه إلى بَيانِ المُجمَلِ [127] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 104)، ((أصول السرخسي)) (1/126)، ((كشف الأسرار)) للنسفي (1/201). .
قال السَّرَخسيُّ: (الفَرقُ بَينَ المُشتَرَكِ والمُجمَلِ: أنَّه قد يُتَوصَّلُ إلى العَمَلِ بالمُشتَرَكِ عِندَ التَّأمُّلِ في صيغةِ اللَّفظِ، فيُرَجَّحُ بَعضُ المُحتَمَلاتِ، ويُعرَفُ أنَّه هو المُرادُ بدَليلٍ في اللَّفظِ مِن غَيرِ بَيانٍ آخَرَ. والمُجمَلُ: ما لا يُستَدرَكُ به المُرادُ بمُجَرَّدِ التَّأمُّلِ في صيغةِ اللَّفظِ ما لَم يَرجِعْ في بَيانِه إلى المُجمَلِ؛ ليَصيرَ المُرادُ بذلك البَيانِ مَعلومًا، لا بدَليلٍ في لَفظِ المُجمَلِ) [128] ((أصول السرخسي)) (1/126). .
وقال ابنُ السَّاعاتيِّ: (المُشتَرَكُ يُفارِقُ المُجمَلَ مِن حَيثُ يَتَرَجَّحُ بَعضُ مَدلولاتِه بالِاجتِهادِ، والمُجمَلُ لا يُدرَكُ إلَّا ببَيانٍ مِنَ المُجمَلِ. وما يَتَرَجَّحُ مِنَ المُشتَرَكِ بالرَّأيِ مُؤَوَّلٌ، وما بُيِّنَ مِنَ المُجمَلِ مُفسَّرٌ) [129] ((بديع النظام)) (1/29). .
خامِسًا: الفرقُ بَينَ المُشتَرَكِ وبَينَ المَجازِ مَعَ الحَقيقةِ [130] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/177). قال القَرافيُّ: (هذه المَسألةُ مَرجِعُها إلى الحَنَفيَّةِ، وقد سَألتُهم عنها ورَأيتُها مَسطورةً في كُتُبِهم). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 119).
ذَكَر بَعضُ الحَنَفيَّةِ الفَرقَ بَينَ المُشتَرَكِ وبَينَ المَجازِ مَعَ الحَقيقةِ، وهو أنَّ الحَقيقةَ والمَجازَ لا يَجتَمِعانِ في لَفظٍ واحِدٍ، في مَحَلٍّ واحِدٍ، ويَجوزُ أن يَجتَمِعا في مَحَلَّينِ مُختَلِفينِ، بشَرطِ أن لا يَكونَ المَجازُ مزاحِمًا للحَقيقةِ، مُدخِلًا للجِنسِ على صاحِبِ الحَقيقةِ؛ فإنَّ الثَّوبَ الواحِدَ على اللَّابِسِ يَجوزُ أن يَكونَ نِصفُه مِلكًا، ونِصفُه عاريَّةً.
ففي قَولِ اللهِ تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء: 23] يَتَناولُ الجَدَّاتِ، وبَناتِ البَناتِ، والِاسمُ للأُمِّ حَقيقةٌ، وللجَدَّاتِ مَجازٌ، وكذلك اسمُ البَناتِ لبَناتِ الصُّلبِ حَقيقةٌ، ولأولادِ البَناتِ مَجازٌ.
وكذلك قَولُه تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء: 22] ؛ فإنَّه موجِبٌ لحُرمةِ مَنكوحةِ الجَدِّ كما يوجِبُ حُرمةَ مَنكوحةِ الأبِ. فعَرَفنا أنَّه يَجوزُ الجَمعُ بَينَهما في لَفظٍ واحِدٍ، ولَكِن في مَحَلَّينِ مُختَلِفينِ حتَّى يَكونَ حَقيقةً في أحَدِهما، مجازًا في المَحَلِّ الآخَرِ.
وهذا بخِلافِ المُشتَرَكِ؛ فالِاحتِمالُ فيه باعتِبارِ مَعانٍ مُختَلِفةٍ، ولا تَصَوُّرَ لاجتِماعِ تلك المَعاني في كَلِمةٍ واحِدةٍ.
ويَكونُ هذا نَظيرَ ما قاله أبو حَنيفةَ في قَولِ اللهِ تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء: 43] : إنَّه يَتَناولُ جَميعَ أجناسَ الأرضِ، باعتِبارِ مَعنًى يَجمَعُ الكُلَّ، وهو التَّصاعُدُ مِنَ الأرضِ، وإن كان الاسمُ للتُّرابِ حَقيقةً.

انظر أيضا: