موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: عَدَمُ الإكثارِ مِنَ الحَلِفِ في البَيعِ وغَيرِه ولَو كان صادِقًا


يَنبَغي ألَّا يُكثِرَ المَرءُ مِنَ الحَلِفِ -لا سيَّما في البَيعِ- ولَو كان صادِقًا [2544] يُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 367)، ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 124)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/ 1908)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (3/ 278)، ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (2/ 1/ 59). ، و(مَن أكثَرَ الأيمانَ هانَ على الرَّحمَنِ، واتَّضَعَت مَرتَبَتُه عِندَ النَّاسِ) [2545] ((النكت)) للكرجي القصاب (4/ 380). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكِتابِ
1- قال تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم: 10] .
قال الرَّازيُّ: (الحَلَّافُ: مَن كان كَثيرَ الحَلِفِ في الحَقِّ والباطِلِ، وكَفى به مَزجَرةً لمَنِ اعتادَ الحَلِفَ!) [2546] ((مفاتيح الغيب)) (30/ 603، 406). .
وقال ابنُ عَطيَّةَ: (الحَلَّافُ: المُرَدِّدُ لحَلِفِه الذي قد كَثُرَ مِنه، والمَهِينُ: الضَّعيفُ الرَّأيِ والعَقلِ، قاله مُجاهِدٌ) [2547] ((المحرر الوجيز)) (5/ 347). .
وقال البَغَويُّ: (قَولُه: مَهِينٍ ضَعيفٍ حَقيرٍ. قيلَ: هو فعَيلٌ مِنَ المَهانةِ، وهيَ قِلَّةُ الرَّأيِ والتَّمييزِ. وقال ابنُ عَبَّاسٍ: كَذَّابٍ. وهو قَريبٌ مِنَ الأوَّلِ؛ لأنَّ الإنسانَ إنَّما يَكذِبُ لمَهانةِ نَفسِه عليه) [2548] ((معالم التنزيل)) (5/ 136). ويُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (23/ 158). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (النَّهيُ عن طاعةِ المَرءِ نَهيٌ عنِ التَّشَبُّهِ به بالأَولى، فلا يُطاعُ المُكَذِّبُ والحَلَّافُ، ولا يُعمَلُ بمِثلِ عَمَلِهما... الحَلَّافُ مَقرونٌ بالمَهينِ؛ لأنَّ الحَلَّافَ هو كَثيرُ الحَلِفِ، وإنَّما يَكونُ على الخَبَرِ أوِ الطَّلَبِ، فهو إمَّا تَصديقٌ أو تَكذيبٌ، أو حَضٌّ أو مَنعٌ، وإنَّما يُكثِرُ الرَّجُلُ ذلك في خَبَرِه إذا احتاجَ أن يُصَدَّقَ ويُوثَقَ بخَبَرِه. ومَن كان كَثيرَ الحَلِفِ كان كَثيرَ الكَذِبِ في العَهدِ مُحتاجًا إلى النَّاسِ، فهو مِن أذَلِّ النَّاسِ حَلَّافٍ مَهِينٍ حَلَّافٍ في أقوالِه، مَهِينٍ في أفعالِه) [2549] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 63-66). .
2- قال تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] .
أي: واحفَظوا -أيُّها المُؤمِنونَ- أيمانَكُم عنِ الحَلِفِ باللهِ تعالى كَذِبًا، وعن كَثرةِ الحَلِفِ، وعنِ الحِنثِ فيها -إلَّا إن كان الحِنثُ خَيرًا- وعن تَركِ الكَفَّارةِ إذا لَزِمَتكُم [2550] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (4/ 446). قال الماوَرْديُّ: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] يَحتَمِلُ وجهَينِ؛ أحَدُهما: يَعني: احفَظوها أن تَحلِفوا. والثَّاني: احفَظوها أن تَحنَثوا). ((النكت والعيون)) (2/ 63). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (في قَولِه تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] ثَلاثةُ أقوالٍ؛ أحَدُها: أقِلُّوا مِنها... والثَّاني: احفَظوا أنفُسَكُم مِنَ الحِنثِ فيها. والثَّالِثُ: راعُوها لكَي تُؤَدُّوا الكَفَّارةَ عِندَ الحِنثِ فيها). ((زاد المسير)) (1/ 581). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي قتادةَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إيَّاكُم وكَثرةَ الحَلِفِ في البَيعِ؛ فإنَّه يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمحَقُ [2551] قال التُّورِبِشْتيُّ: (يُنَفِّقُ، أي: يُرَوِّجُ المَتاعَ، ويُكَثِّرُ الرَّغَباتِ فيه، مِن قَولِهم: نَفَقَ البَيعُ يَنفُقُ نَفاقًا: إذا كَثُرَ المُشتَرونَ والرَّغَباتُ، ويَمحَقُ، أي: يُهلِكُ ويَذهَبُ ببَرَكَتِه؛ قال اللهُ تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة: 276] ، أي: يُفنيه). ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (2/ 663). ) [2552] أخرجه مسلم (1607). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((الحَلِفُ مَنفَقةٌ [2553] أي: سَبَبٌ لسُرعةِ بَيعِ السِّلعةِ، وكَثرةِ الرَّغبةِ، والحِرصِ عليها بسَبَبِ اليَمينِ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 194). للسِّلعةِ، مَمحَقةٌ [2554] أي: مُذهِبةٌ للبَرَكةِ، مُهلِكةٌ لَها. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 18). للبَرَكةِ)) [2555] أخرجه البخاري (2087). .
وفي رِوايةٍ: ((الحَلِفُ مَنفَقةٌ للسِّلعةِ، مَمحَقةٌ للرِّبحِ)) [2556] أخرجها مسلم (1606). .
قال النَّوويُّ: (فيه النَّهيُ عن كَثرةِ الحَلِفِ في البَيعِ؛ فإنَّ الحَلِفَ مِن غَيرِ حاجةٍ مَكروهٌ، ويَنضَمُّ إليه هنا تَرويجُ السِّلعةِ، ورُبَّما اغتَرَّ المُشتَري باليَمينِ) [2557] ((شرح مسلم)) (11/ 44، 45). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّما حَذَّرَ مِن كَثرةِ الحَلِفِ؛ لأنَّ الغالِبَ مِمَّن كَثُرَت أيمانُه وُقوعُه في الكَذِبِ والفُجورِ، وإن سَلِمَ مِن ذلك على بُعدِه لَم يَسلَمْ مِنَ الحِنثِ أوِ النَّدَمِ؛ لأنَّ اليَمينَ حِنثٌ أو مَندَمةٌ. وإن سَلِمَ مِن ذلك لَم يَسلَمْ مِن مَدحِ السِّلعةَ المَحلوفِ عليها، والإفراطِ في تَزيينِها ليُرَوِّجَها على المُشتَري، مَعَ ما في ذلك مِن ذِكرِ اللهِ تعالى لا على جِهةِ التَّعظيمِ، بَل على جِهةِ مَدحِ السِّلعةِ، فاليَمينُ على ذلك تَعظيمٌ للسِّلَعِ لا تَعظيمٌ للهِ تعالى. وهذه كُلُّها أنواعٌ مِنَ المَفاسِدِ لا يُقدِمُ عليها إلَّا مَن عَقلُه ودينُه فاسِدٌ) [2558] ((المفهم)) (4/ 523). .
3- عن سَلمانَ الفارِسيِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ: ((ثَلاثةٌ لا يُكَلِّمُهمُ اللهُ يَومَ القيامةِ، ولا يُزَكِّيهم، ولَهم عَذابٌ أليمٌ: أشيمِطُ زانٍ، وعائِلٌ مُستَكبِرٌ [2559] قال المُنذِريُّ: (أُشَيمِطُ: مُصَغَّرُ أشمَطَ، وهو مَنِ ابيَضَّ بَعضُ شَعرِ رأسِه كِبَرًا، واختَلَط بأسودِه. والعائِلُ: الفقيرُ). ((الترغيب والترهيب)) (2/ 588). ، ورَجُلٌ جَعَلَ اللهُ له بضاعةً فلا يَبيعُ إلَّا بيَمينِه، ولا يَشتَري إلَّا بيَمينِه)) [2560] أخرجه الطبراني في ((المعجم الصغير)) (821) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4511). صحَّحه ابنُ باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (19/97)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3072). .
فوائِدُ:
1- قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (حَقُّ المُسلمِ أن يَتَحاشى مِنَ الاستِعانةِ باليَمينِ في الحَقِّ، فكَيف في الباطِلِ! وأن يَتَحَقَّقَ تَقديرَ القَسَمِ وما يُرادُ به؛ ليَعلَمَ أنَّ الأغراضَ الدُّنيَويَّةَ أوبَخُ أمرًا وأخَسُّ قَدرًا مِن أن يفزَعَ فيها إلى الحَلِفِ باللهِ، وتَقديرُ ذلك قَولُ القائِلِ إذا قال: تاللَّهِ إنَّ لي عليك كَذا، أي: كَونُ ذلك لي عليك حَقٌّ كما أنَّ وُجودَ اللهِ تعالى حَقٌّ، وهذا كَلامٌ يَتَحاشى مِنه مَن كان في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ مِن تَعظيمِ اللَّهِ، وقد قال اللهُ سُبحانَه: وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة: 41] ...
وحَقُّ العاقِلِ إذا اضطُرَّ إليه أن يَسلُكَ سَبيلَ التَّعريضِ فيه دونَ التَّصريحِ، وما لا يُضطَرُّ إليه تَرَكَه تَعريضًا وتَصريحًا، وإن بَدَر مِنه سَهوًا حَلَف شَفْعَه بالاستِثناءِ...؛ فإنَّه يَدفَعُ الحِنثَ، ويُذهِبُ الخُبثَ، ويُنجِزُ الحاجةَ، ويَدفعُ اللَّجاجةَ.
وقيلَ: العاقِلُ إذا تَكَلَّمَ أتبَعَ كَلامَه ندمًا، والأحمَقُ إذا تَكَلَّمَ أتبَعَ كَلامَه حَلِفًا، وعَلامةُ الكاذِبِ جُودُه بيَمينِه على غَيرِ مُستَحلفٍ، قال الشَّاعِرُ المُتَنَبِّي:
وفي اليَمينِ على ما أنتَ واعِدُه... ما دَلَّ أنَّك في الميعادِ مُتَّهَمُ
وقال بَعضُ الحُكَماءِ: اللَّغوُ في الحَلافةِ يَدُلُّ على كَذِبِ أربابِها؛ فإنَّ ذلك لقِلَّةِ الرُّكونِ إلى قَولِهم) [2561] ((الذريعة الى مكارم الشريعة)) (ص: 202، 203). .
2- قال الرَّازيُّ: (الحِكمةُ في الأمرِ بتَقليلِ الأيمانِ أنَّ مَن حَلَف في كُلِّ قَليلٍ وكَثيرٍ باللهِ انطَلَقَ لسانُه بذلك ولا يَبقى لليَمينِ في قَلبِه وَقعٌ، فلا يُؤمَنُ إقدامُه على اليَمينِ الكاذِبةِ، فيَختَلُّ ما هو الغَرَضُ الأصليُّ في اليَمينِ، وأيضًا كُلَّما كان الإنسانُ أكثَرَ تَعظيمًا للهِ تعالى كان أكمَلَ في العُبوديَّةِ، ومِن كَمالِ التَّعظيمِ أن يَكونَ ذِكرُ اللهِ تعالى أجَلَّ وأعلى عِندَه مِن أن يَستَشهِدَ به في غَرَضٍ مِنَ الأغراضِ الدُّنيَويَّةِ) [2562] ((مفاتيح الغيب)) (6/ 425). .

انظر أيضا: