موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: ألَّا يكونَ الحلِفُ مانعًا مِن فِعلِ الخَيراتِ


يَنبَغي عَدَمُ اتِّخاذِ اليَمينِ حُجَّةً تَمنَعُ مِنَ القيامِ بفِعلِ الخَيراتِ، ومَن حَلَف على ألَّا يَفعَلَ خَيرًا فعليه أن يُكَفِّرَ عن يَمينِه ويَفعَلَ الخَيرَ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ
أ- من الكِتابِ
1- قال تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 224] .
أي: لا تَجعَلوا الحَلِفَ باللهِ تعالى حُجَّةً لَكُم تَمنَعُكُم مِنَ القيامِ بفِعلِ الخَيراتِ، كبِرِّ الوالدَينِ وذي القُربى، أو تَمنَعُكُم مِن تَحقيقِ التَّقوى بامتِثالِ ما أمَرَ اللهُ تعالى به واجتِنابِ ما نَهى عنه، أو تَمنَعُكُم مِنَ السَّعيِ في الإصلاحِ بَينَ النَّاسِ بالمَعروفِ، وذلك كَأن يَحلِفَ امرُؤٌ باللهِ تعالى على ألَّا يَصِلَ رَحِمَه، فإذا طُلِبَ مِنه أن يَفعَلَ ما أمَرَ اللهُ تعالى به مِن صِلةِ الرَّحِمِ، قال: قد حَلَفتُ ألَّا أفعَلَ ذلك، فيَجعَلُ الحَلِفَ باللهِ عَزَّ وجَلَّ حُجَّةً يَتَقَوَّى بها على تَركِ الخَيراتِ؛ فنَهى اللهُ تعالى عِبادَه عن ذلك، فإذا حَلَف أحَدُهم فلَيسَ له الامتِناعُ مِن ذلك والتَّعَلُّلُ باليَمينِ، بَل عليه أن يَحنَثَ، ويُكَفِّرَ عن يَمينِه، ويَأتيَ الذي هو خَيرٌ [2574] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (1/ 641). .
2- قال تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (وَلَا يَأْتِلِ مِنَ الألِيَّةِ، وهيَ: الحَلِفُ، أي: لا يَحلِفْ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي: الطَّولِ والصَّدَقةِ والإحسانِ وَالسَّعَةِ، أي: الجِدَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي: لا تَحلِفوا ألَّا تَصِلوا قَراباتِكُمُ المَساكِينَ والمُهاجِرينَ. وهذه في غايةِ التَّرَفُّقِ والعَطفِ على صِلةِ الأرحامِ؛ ولهذا قال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أي: عَمَّا تَقدَّمَ مِنهم مَنِ الإساءةِ والأذى، وهذا مِن حِلمِه تعالى وكَرَمِه ولُطفِه بخَلقِه مَعَ ظُلمِهم لأنفُسِهم.
وهذه الآيةُ نَزَلَت في الصِّدِّيقِ حينَ حَلَف ألَّا يَنفَعَ مِسطَحَ بنَ أُثاثةَ بنافِعةٍ بَعدَما قال في عائِشةَ ما قال، فلَمَّا أنزَلَ اللهُ بَراءةَ أُمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ، وطابَتِ النُّفوسُ المُؤمِنةُ واستَقَرَّت، وتابَ اللهُ على مَن كان تَكَلَّم مِنَ المُؤمِنينَ في ذلك، وأُقيمَ الحَدُّ على مَن أُقيمَ عليه؛ شَرَعَ تَبارَكَ وتعالى -ولَه الفَضلُ والمِنَّةُ- يُعَطِّفُ الصِّدِّيقَ على قريبِه ونَسيبِه، وهو مِسطَحُ بنُ أُثاثةَ؛ فإنَّه كان ابنَ خالةِ الصِّدِّيقِ، وكان مِسكينًا لا مالَ له إلَّا ما يُنفِقُ عليه أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وكان من المهاجِرين في سبيلِ اللَّهِ، وقد وَلَق وَلْقةً تاب اللَّهُ عليه منها، وضُرِبَ الحَدَّ عليها. وكان الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنه معروفًا بالمعروفِ، له الفَضلُ والأيادي على الأقارِبِ والأجانِبِ. فلمَّا نزلت هذه الآيةُ إلى قولِه: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: فإنَّ الجزاءَ من جِنسِ العَمَلِ، فكما تَغفِرُ عن المذنِبِ إليك نغفِرُ لك، وكما تصفَحُ نصفَحُ عنك. فعند ذلك قال الصِّدِّيقُ: بلى، واللَّهِ إنَّا نُحِبُّ -يا رَبَّنا- أن تغفِرَ لنا! ثمَّ رجَع إلى مِسطَحٍ ما كان يَصِلُه من النَّفقةِ، وقال: واللَّهِ لا أنزِعُها منه أبدًا [2575] لَفظُه: ((فلَمَّا أنزَلَ اللهُ هذا في بَراءَتي قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه -وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثاثةَ لقرابتِه منه-: واللهِ لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعدَ ما قال لعائشةَ، فأنزل اللهُ تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا [النور: 22] إلى قولِه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] ، فقال أبو بكرٍ: بلى واللهِ، إني لأحِبُّ أن يغفِرَ اللهُ لي، فرجَع إلى مِسطَحٍ النَّفَقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللَّهِ لا أنزِعُها منه أبدًا...)). أخرجه البخاري (4750) واللفظ له، ومسلم (2770) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، في مقابلةِ ما كان قال: واللَّهِ لا أنفَعُه بنافعةٍ أبدًا؛ فلهذا كان الصِّدِّيقُ هو الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عنه وعن بِنتِه) [2576] ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 31). .
ففي الآيةِ النَّهيُ عنِ الحَلفِ ألَّا يَفعَلَ خَيرًا، وأنَّ الأَولى بالإنسانِ إذا حَلَف على أمرٍ فرَأى غَيرَه خَيرًا مِنه أن يَحنَثَ ولا يَستَمِرَّ على اليَمينِ [2577] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (4/ 310)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 190). قال الكَرجيُّ القَصَّابُ: (اليَمينُ إذا وقَعَت على ما لا قُربةَ فيه إلى اللهِ فالطَّاعةُ تَركُها، وتَركُ المُضيِّ عليها، وإن لَم يَكُنِ التَّركُ مَفروضًا إذا كان غَيرُه أقرَبَ مِنه؛ لأنَّ سياقَ الآيةِ يَدُلُّ على أنَّ اللَّهَ جَلَّ وتعالى نَدَب أبا بَكرٍ إلى العَودِ إلى مِسطَحٍ بفَضلِه، وتَركِ مُعاقَبَتِه على ما كان مِنه إلى ابنَتِه نَدبًا، ولَم يَفرِضْ عليه فَرضًا. لَولا ذلك ما دَلَّه -وهو أعلَمُ- على العَفوِ والصَّفحِ، ولا وعَدَه عليه الغُفرانَ؛ إذِ العَفوُ والصَّفحُ بابا فَضلٍ لا يُجبَرُ أحَدٌ عليه). ((النكت)) (2/ 441). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رَهطٍ مِنَ الأشعَريِّينَ نَستَحمِلُه [2578] نَستَحمِلُه: أي: نَطلُبُ مِنه أن يَحمِلَنا ويَحمِلَ أثقالَنا على الإبِلِ، وذلك في غَزوةِ تَبوكَ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/ 215). ، فقال: واللهِ لا أحمِلُكُم، وما عِندي ما أحمِلُكُم عليه، قال: فلَبِثْنا ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ أُتيَ بإبِلٍ، فأمَرَ لَنا بثَلاثِ ذَودٍ غُرِّ الذُّرى [2579] الذَّودُ: ما بَينَ الثِّنتَينِ إلى التِّسعةِ أو ما بَينَ الثَّلاثِ إلى العَشرةِ مِنَ الإبِلِ. غُرِّ الذُّرى: أي: ذَوي الأسنِمةِ البِيضِ مِن سِمَنِهنَّ وكَثرةِ شُحومِهنَّ. يُنظَرُ: ((إرشاد السَّاري)) للقسطلاني (5/ 216). ، فلمَّا انطَلَقْنا قُلنا -أو قال بَعضُنا لبَعضٍ-: لا يُبارِكُ اللهُ لَنا! أتَينا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَستَحمِلُه فحَلَف ألَّا يَحمِلَنا، ثُمَّ حَمَلَنا، فأتَوه فأخبَروه، فقال: ما أنا حَمَلتُكُم ولَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُم، وإنِّي واللَّهِ إن شاءَ اللهُ لا أحلِفُ على يَمينٍ، ثُمَّ أرى خَيرًا مِنها، إلَّا كَفَّرتُ عن يَميني، وأتَيتُ الذي هو خَيرٌ)) [2580] أخرجه البخاري (6623)، ومسلم (1649) واللفظ له. .
2- عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ سَمُرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ سَمُرةَ، لا تَسألِ الإمارةَ؛ فإنَّك إن أُعطِيتَها عن مَسألةٍ وُكِلتَ إليها، وإن أُعطيتَها عن غَيرِ مَسألةٍ أُعِنتَ عليها، وإذا حَلَفتَ على يَمينٍ فرَأيتَ غَيرَها خَيرًا مِنها، فكَفِّرْ عن يَمينِك، وائْتِ الذي هو خَيرٌ)) [2581] أخرجه البخاري (7146)، ومسلم (1652) واللفظ له. .
3- عن عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا حَلَف أحَدُكُم على اليَمينِ، فرَأى خَيرًا مِنها، فليُكَفِّرْها، وليَأتِ الذي هو خَيرٌ)) [2582] أخرجه مسلم (1651). .
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أعتَمَ [2583] أعتَمَ الإنسانُ: إذا دَخَل في العَتَمةِ، وهي ظُلمةُ أوَّلِ اللَّيلِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 669). رَجُلٌ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ رَجَعَ إلى أهلِه فوجَدَ الصِّبيةَ قد ناموا، فأتاه أهلُه بطَعامِه، فحَلَف لا يَأكُلُ مِن أجْلِ صِبيتِه، ثُمَّ بَدا له فأكَلَ، فأتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكَرَ ذلك له، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن حَلَف على يَمينٍ، فرَأى غَيرَها خَيرًا مِنها، فليَأتِها، وليُكَفِّرْ عن يَمينِه)) [2584] أخرجه مسلم (1650). .
5- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال أبو القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا استَلَجَّ أحَدُكُم في اليَمينِ فإنَّه آثَمُ له عِندَ اللهِ مِنَ الكَفَّارةِ التي أُمِرَ بها)) [2585] أخرجه ابن ماجه (2114) واللفظ له، وأحمد (7743). صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (8038) وقال: على شرط الشيخين، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2114)، وصحَّح إسنادَه على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7743). .
وفي رِوايةٍ: ((واللَّهِ لأن يَلِجَّ أحَدُكُم بيَمينِه في أهلِه آثَمُ له عِندَ اللهِ مِن أن يُعطيَ كَفَّارَته التي افتَرَضَ اللهُ عليه)) [2586] أخرجه البخاري (6625) واللفظ له، ومسلم (1655). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (لَجَّ واستَلَجَّ واستَلجَجَ في يَمينِه، مِنَ اللَّجاجِ: وهو أن يَستَمِرَّ على حُكمِ اليَمينِ وتَركِ التَّكفيرِ، وهو يَعلَمُ أنَّ الحِنثَ أفضَلُ، كَأن حَلَف ألَّا يَصِلَ قَرابَتَه ولا يَطَأَ زَوجَتَه، فإقامَتُه على ذلك شَرٌّ له مِن أن يُكَفِّرَ، وإن كانتِ الكَفَّارةُ لَيسَت شَرًّا) [2587] ((كشف المشكل)) (3/ 502). .
وفي الحَديثِ دَليلٌ على (أنَّ الكَفَّارةَ عنِ الحانِثِ في اليَمينِ فَرضٌ، كما قال تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] ) [2588] ((إكمال المعلم)) لعياض (5/ 423). .
ج- من الإجماعِ
نُقِل الإجماعُ على أن مَن حَلَف على ألَّا يَفعَلَ خَيرًا فعليه أن يَفعَلَ الخَيرَ وتلزمُه الكفَّارةُ [2589] قال النَّوويُّ: (مَن حَلَف على فِعلِ شَيءٍ أو تَركِه، وكان الحِنثُ خَيرًا مِنَ التَّمادي على اليَمينِ، استُحِبَّ له الحِنثُ وتَلزَمُه الكَفَّارةُ، وهذا مُتَّفَقٌ عليه. وأجمَعوا على أنَّه لا تَجِبُ عليه الكَفَّارةُ قَبلَ الحِنثِ، وعَلى أنَّه يَجوزُ تَأخيرُها عنِ الحِنثِ، وعَلى أنَّه لا يَجوزُ تَقديمُها على اليَمينِ). ((شرح مسلم)) (11/ 108، 109). يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (15/ 58)، ((السراج المنير شرح الجامع الصغير)) للعزيزي (4/ 289). .

انظر أيضا: