موسوعة الآداب الشرعية

ثاني عشرَ: عَدَمُ الحَلِفِ في البَيعِ


يُكرَهُ الإكثارُ مِنَ الحَلِفِ في البَيعِ ولو كان صادِقًا.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم: 10] .
قال الكَرجيُّ القَصَّابُ: (فيه دَليلٌ على أنَّ مَن أكثَرَ الأيمانَ هانَ على الرَّحمَنِ، واتَّضَعَت مَرتَبَتُه عِندَ النَّاسِ) [2610] ((النكت الدالة على البيان)) (4/ 380). .
وقال الرَّازيُّ: (الحَلَّافُ مَن كان كَثيرَ الحَلِفِ في الحَقِّ والباطِلِ، وكَفى به مَزجَرةً لمَنِ اعتادَ الحَلِفَ!) [2611] ((مفاتيح الغيب)) (30/ 603، 406). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (النَّهيُ عن طاعةِ المَرءِ نَهيٌ عنِ التَّشَبُّهِ به بالأَولى، فلا يُطاعُ المُكَذِّبُ والحَلَّافُ، ولا يُعمَلُ بمِثلِ عَمَلِهما ... الحَلَّافُ مَقرونٌ بالمَهينِ؛ لأنَّ الحَلَّافَ هو كَثيرُ الحَلِفِ، وإنَّما يَكونُ على الخَبَرِ أوِ الطَّلَبِ، فهو إمَّا تَصديقٌ أو تَكذيبٌ، أو حَضٌّ أو مَنعٌ، وإنَّما يُكثِرُ الرَّجُلُ ذلك في خَبَرِه إذا احتاجَ أن يُصَدَّقَ ويُوثَقَ بخَبَرِه. ومَن كان كَثيرَ الحَلِفِ كان كَثيرَ الكَذِبِ في العَهدِ مُحتاجًا إلى النَّاسِ، فهو مِن أذَلِّ النَّاسِ حَلَّافٍ مَهِينٍ حَلَّافٍ في أقوالِه، مَهِينٍ في أفعالِه) [2612] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 63-66). .
2- قال تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] .
أي: واحفَظوا -أيُّها المُؤمِنونَ- أيمانَكُم عنِ الحَلِفِ باللهِ تعالى كَذِبًا، وعن كَثرةِ الحَلِفِ، وعنِ الحِنثِ فيها -إلَّا إن كان الحِنثُ خَيرًا- وعن تَركِ الكَفَّارةِ إذا لَزِمَتكُم [2613] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (4/ 446). قال الماوَرديُّ: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] يَحتَمِلُ وجهَينِ؛ أحَدُهما: يَعني: احفَظوها أن تَحلِفوا. والثَّاني: احفَظوها أن تَحنَثوا). ((النكت والعيون)) (2/ 63). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (في قَولِه تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] ثَلاثةُ أقوالٍ؛ أحَدُها: أقِلُّوا مِنها... والثَّاني: احفَظوا أنفُسَكُم مِنَ الحِنثِ فيها. والثَّالثُ: راعَوها لكَي تُؤَدُّوا الكَفَّارةَ عِندَ الحِنثِ فيها). ((زاد المسير)) (1/ 581). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي قتادةَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إيَّاكُم وكَثرةَ الحَلِفِ في البَيعِ؛ فإنَّه يُنَفِّقُ [2614] يُنَفِّقُ، أي: يُرَوِّجُ المَتاعَ، ويُكَثِّرُ الرَّغَباتِ فيه، مِن قَولِهم: نَفَقَ البَيعُ يَنفُقُ نَفاقًا: إذا كَثُرَ المُشتَرونَ والرَّغَباتُ. يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتُّورِبِشْتيِّ (2/ 663). ثُمَّ يَمحَقُ [2615] يَمحَقُ، أي: يُهلِكُ ويَذهَبُ ببَرَكَتِه. يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتُّورِبِشْتيِّ (2/ 663). ) [2616] أخرجه مسلم (1607). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((الحَلِفُ مَنفَقةٌ [2617] أي: سَبَبٌ لسُرعةِ بَيعِ السِّلعةِ، وكَثرةِ الرَّغبةِ، والحِرصِ عليها بسَبَبِ اليَمينِ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 194). للسِّلعةِ، مَمحَقةٌ [2618] أي: مُذهِبةٌ للبَرَكةِ، مُهلِكةٌ لَها. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 18). للبَرَكةِ)) [2619] أخرجه البخاري (2087). .
وفي رِوايةٍ: ((الحَلِفُ مَنفَقةٌ للسِّلعةِ، مَمحَقةٌ للرِّبحِ)) [2620] أخرجها مُسلم (1606). .
قال النَّوويُّ: (فيه النَّهيُ عن كَثرةِ الحَلِفِ في البَيعِ؛ فإنَّ الحَلِفَ مِن غَيرِ حاجةٍ مَكروهٌ، ويَنضَمُّ إليه هنا تَرويجُ السِّلعةِ، ورُبَّما اغتَرَّ المُشتَري باليَمينِ) [2621] ((شرح مسلم)) (11/ 44، 45). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّما حَذَّرَ مِن كَثرةِ الحَلِفِ؛ لأنَّ الغالِبَ مِمَّن كَثُرَت أيمانُه وُقوعُه في الكَذِبِ والفُجورِ، وإن سَلِمَ مِن ذلك على بُعدِه لَم يَسلَمْ مِنَ الحِنثِ أوِ النَّدَمِ؛ لأنَّ اليَمينَ حِنثٌ أو مَندَمةٌ. وإن سَلِمَ مِن ذلك لَم يَسلَمْ مِن مَدحِ السِّلعةَ المَحلوفِ عليها، والإفراطِ في تَزيينِها ليُرَوِّجَها على المُشتَري، مَعَ ما في ذلك مِن ذِكرِ اللهِ تعالى لا على جِهةِ التَّعظيمِ، بَل على جِهةِ مَدحِ السِّلعةِ، فاليَمينُ على ذلك تَعظيمٌ للسِّلَعِ لا تَعظيمٌ للهِ تعالى. وهذه كُلُّها أنواعٌ مِنَ المَفاسِدِ لا يُقدِمُ عليها إلَّا مَن عَقلُه ودينُه فاسِدٌ) [2622] ((المفهم)) (4/ 523). .
3- عن سَلمانَ الفارِسيِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ: ((ثَلاثةٌ لا يُكَلِّمُهمُ اللهُ يَومَ القيامةِ، ولا يُزَكِّيهم، ولَهم عَذابٌ أليمٌ: أشيمِطٌ [2623] أُشَيمِطٌ: مُصَغَّرُ أَشمَطَ، وهو مَنِ ابيَضَّ بَعضُ شَعرِ رَأسِه كِبَرًا، واختَلطَ بأسوَدِه. يُنظر: ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (2/ 588). زانٍ، وعائِلٌ مُستَكبِرٌ [2624] العائِلُ: الفقيرُ. يُنظر: ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (2/ 588). ، ورَجُلٌ جَعَلَ اللهُ له بضاعةً فلا يَبيعُ إلَّا بيَمينِه، ولا يَشتَري إلَّا بيَمينِه)) [2625] أخرجه الطبراني في ((المعجم الصغير)) (821) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4511). صحَّحه ابنُ باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (19/97)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3072). .
4- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أربَعةٌ يُبغِضُهمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: البَيَّاعُ الحَلَّافُ، والفَقيرُ المُختالُ، والشَّيخُ الزَّاني، والإمامُ الجائِرُ)) [2626] أخرجه النسائي (2576)، وابن حبان (5558)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4512). صحَّحه ابنُ حبان، والسفاريني الحنبلي في ((شرح كتاب الشهاب)) (451)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2576)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5558). .
أمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ الإكثارَ يَقودُ إلى الكَذِبِ في الحَلِفِ -وهو مُحَرَّمٌ- فكُرِهَ سَدًّا للذَّريعةِ [2627] ((الفتاوى الحديثية)) لابن حجر الهيتمي (ص: 103). .
مسألةٌ: الحَلِفُ على نِيَّةِ المُستحلِفِ
اليَمينُ على نيَّةِ المُستَحلِفِ [2628] الأصلُ في اليَمينِ أنَّها على نيَّةِ الحالفِ ما لم يَكُنْ مُستَحلَفًا وفيها ظُلمٌ على المُستَحلِفِ. وتُعتَبَرُ نيَّةُ الحالفِ إذا احتَمَلها لفظُه، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. ويُنظر بَيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في: ((فقه الأيمان والنذور)) بإشراف علوي السقاف (ص: 116). إذا كان مَظلومًا [2629] وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ في الجُملةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (30/185)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/434)، ((تحفة المحتاج للهيتمي وحاشية الشرواني)) (10/315)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/378).
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَمينُك على ما يُصَدِّقُكَ عليه صاحِبُك)) [2630] أخرجه مسلم (1653). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اليَمينُ على نيَّةِ المُستَحلِفِ)) [2631] أخرجه مسلم (1653). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّه لو اعتُبِرَت نِيَّةُ الحالِفِ حيثُ يَبطُلُ بها حَقٌّ، لضاعَت الحُقوقُ [2632] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/315)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/139). .

انظر أيضا: