موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ


ردُّ السَّلامِ بصيغةِ الجَمعِ إذا سلَّم عليه بصيغةِ الواحِدِ
عن مُعاويةَ بنِ قُرَّةَ، قال: قال لي أبي: (يا بُنَيَّ، إذا مَرَّ بك الرَّجُلُ فقال: السَّلامُ عليكُم، فلا تَقُلْ: وعليك، كأنَّك تَخُصُّه بذلك وَحدَه؛ فإنَّه ليس وحدَه، ولكِنْ قُل: السَّلامُ عليكُم) [164] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1037). صَحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (791)، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/39). .
قال ابنُ دَقيقِ العيدِ: (لقائِلٍ أن يَقولَ: إن كان ابتِداءُ السَّلامِ بصيغةِ الجَمعِ -وهو قَولُه: "السَّلامُ عليكُم"- فالرَّدُّ بصيغةِ الواحِدِ لا يَكونُ رَدًّا للتَّحيَّةِ بأحسَنَ مِنها أو مِثلِها؛ لأنَّ خِطابَ الواحِد بصيغةِ الجَمعِ يَقتَضي التَّعظيمَ، كإيرادِ ضَميرِ الجَمعِ للمُتَكلِّمينَ في مَوضِعِ ضَميرِ المُتَكلِّمِ؛ كنحن فَعَلْنا، ونَحنُ قُلْنا، وأشباهِه، وقد قيل في قَولِه تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] : إنَّه خِطابُ الواحِدِ بلفظِ الجَمعِ، وإذا كان كذلك فالرَّدُّ بصيغةِ خِطابِ الواحِدِ لا يَقتَضي مَعنى التَّعظيمِ، والابتِداءُ بلفظِ الجَمعِ يَقتَضيه، أو يَحتَمِلُه، فلا يَكونُ رَدًّا للتَّحيَّةِ بأحسَنَ مِنها أو مِثلِها، والاكتِفاءُ به مِن حيثُ حُصولُ مُسَمَّى السَّلامِ فيه) [165] ((شرح الإلمام)) (2/ 279). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 37). .
انتهاءُ السَّلامِ إلى (وبركاتُه)
1- عن مُحَمَّدِ بنِ عَمرِو بنِ عَطاءٍ، قال: (كُنتُ جالسًا عِندَ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ، فدَخل عليه رَجُلٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، فقال: السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه، ثُمَّ زادَ شيئًا مَعَ ذلك أيضًا، قال ابنُ عَبَّاسٍ -وهو يَومَئِذٌ قَد ذَهَبَ بَصَرُه-: مَن هذا؟ قالوا: هذا اليَمانيُّ الذي يَغشاك، فعَرَّفوه إيَّاه، قال: فقال ابنُ عَبَّاسٍ: إنَّ السَّلامَ انتَهى إلى البَرَكةِ) [166] أخرجه مالك (2/959) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8878). صَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (12/257). .
قال مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشَّيبانيُّ: (وبهذا نَأخُذُ، إذا قال: "السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه" فليَكفُفْ؛ فإنَّ اتِّباعَ السُّنَّةِ أفضَلُ) [167] ((موطأ مالك- رواية محمد بن الحسن الشيباني)) (ص: 324). وقال الباجيُّ: (قَولُ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: "إنَّ السَّلامَ انتَهى إلى البَرَكةِ" يُريدُ أنَّه لا يَزيدُ على ذلك فيه، وإنَّما هي ثَلاثةُ ألفاظٍ: السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه، فمَنِ اقتَصَرَ على بَعضِها أجزَأه، ومَنِ استَوعَبَها فقَد بَلغَ الغايةَ مِنه؛ فليس له أن يَزيدَ عليها. وقد قال القاضي أبو مُحَمَّدٍ: أكثَرُ ما يَنتَهي السَّلامُ إلى البَرَكةِ، يُريدُ أن لا يُزادَ على ذلك، ويَقتَضي ذلك أن لا يُغيِّرَ اللَّفظَ، وهذا فيما يَتَعَلَّقُ بابتِداءِ السَّلامِ أو رَدِّه، وأمَّا الدُّعاءُ فلا غايةَ له إلَّا المُعتادُ الذي يَليقُ بكُلِّ طائِفةٍ مِنَ النَّاسِ، وباللهِ التَّوفيقُ). ((المنتقى شرح الموطأ)) (7/ 280). .
وفي رِوايةٍ عن مُحَمَّدِ بنِ عَمرِو بنِ عَطاءٍ، قال: (بَينا أنا عِندَ ابنِ عَبَّاسٍ، وعِندَه ابنُه، فجاءَه سائِلٌ فسَلَّمَ عليه، فقال: السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه ومَغفِرَتُه ورِضوانُه، وعَدَّدَ مِن ذا، فقال ابنُ عَبَّاسٍ: ما هذا السَّلامُ؟! وغَضِبَ حتَّى احمَرَّت وجَنَتاه، فقال له ابنُه عليٌّ: يا أبَتاه، إنَّما هو سائِلٌ مِنَ السُّؤَّالِ، فقال: إنَّ اللَّهَ حَدَّ السَّلامَ حَدًّا، ونَهى عَمَّا وراءَ ذلك، ثُمَّ قَرَأ إلى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 73] ، ثُمَّ انتَهى) [168] أخرجها البيهقي في ((شعب الإيمان)) (8488). قال ابنُ حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/293): سنَدُه إلى ابنِ عَبَّاسٍ صَحيحٌ، وله طَريقٌ أخرى صَحيحةٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ. .
وفي رِوايةٍ عن عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أتاهم يَومًا في مَجلسٍ فسَلَّمَ عليهم، فقال: سَلامٌ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه، فقُلتُ: وعليك السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه ومَغفِرَتُه، فقال: مَن هذا؟ فقُلتُ: عَطاءٌ، فقال: انتَهِ إلى "وبَرَكاتُه"، قال: ثُمَّ تَلا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 73] ) [169] أخرجها ابنُ أبي حاتم في ((التفسير)) (11849)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8487) واللفظ له. .
2- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ بابيه (أنَّه كان مَعَ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ فسَلَّمَ عليه رَجُلٌ، فقال: سَلامٌ عليك ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه ومَغفِرَتُه، فانتَهَرَه ابنُ عُمَرَ، وقال: حَسبُك إذا انتَهيتَ إلى: "وبَرَكاتُه"، إلى ما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ) [170] أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (8490). .
3- قال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (الزِّيادةُ المَأمورُ بها المُستَحَبَّةُ: "ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه"، ولا يُستَحَبُّ الزِّيادةُ على ذلك) [171] ((فُصول الآداب)) (ص: 40). وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (أمَّا الرَّادُّ فالواجِبُ عليه أن يَرُدَّ ما سَمِعَه، والمَندوبُ أن يَزيدَ إن بَقَّى له المُبتَدِئُ ما يَزيدُ، فلوِ انتَهى المُبتَدِئُ بالسَّلامِ إلى غايَتِه -التي هي: السَّلامُ عليك ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه- لم يَزِدِ الرَّادُّ على ذلك شيئًا؛ لأنَّ السَّلامَ انتَهى إلى البَرَكةِ، كما قال عَبدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ. وقد أنكرَ عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ على مَن زادَ على ذلك شيئًا، وهذا كُلُّه مُستَفادٌ مِن قَولِه تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء: 86] ، أي: يُحاسِبُ على الأقوالِ كما يُحاسِبُ على الأفعالِ). ((المفهم)) (5/ 486). وقال أبو عَبدِ اللَّهِ القُرطُبيُّ: (الأحسَنُ أن يَزيدَ فيَقولَ: عليك السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ، لمَن قال: سَلامٌ عليك. فإن قال: سَلامٌ عليك ورَحمةُ اللهِ، زِدتَ في رَدِّك: وبَرَكاتُه. وهذا النِّهايةُ فلا مَزيدَ. قال اللهُ تعالى مُخبرًا عَنِ البيتِ الكريمِ: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ [هود: 73] ). ((الجامِع لأحكام القرآن)) (5/ 299). .
زيادةُ الواوِ في (عليكم):
قال ابنُ القَيِّمِ: (لو حَذَف الرَّادُّ "الواوَ" فقال: "عليك السَّلامُ"، هل يكونُ صحيحًا؟ فقالت طائفةٌ منهم المتولِّي وغيرُه: لا يكونُ جوابًا، ولا يسقُطُ به فَرضُ الرَّدِّ... وذهبت طائفةٌ أخرى إلى أنَّ ذلك ردٌّ صحيحٌ، كما لو كان بالواوِ، ونصَّ عليه الشَّافعيُّ -رحمه اللهُ- في كتابِه الكبير، واحتجَّ لهذا القولِ بقولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [الذاريات: 24-25]، أي: سلامٌ عليكم، لا بُدَّ من هذا، ولكِنْ حَسُن الحَذفُ في الرَّدِّ لأجلِ الحذفِ في الابتداءِ، واحتجُّوا بما في الصَّحيحَينِ عن أبي هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: "خَلَق اللهُ آدَمَ طولُه سِتُّون ذراعًا، فلمَّا خَلَقَه قال له: اذهَبْ فسَلِّمْ على أولئك النَّفَرِ من الملائِكةِ، فاستَمِعْ ما يحيُّونك؛ فإنَّها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذُرِّيَّتِك، فقال: السَّلامُ عليكم، فقالوا: السَّلامُ عليك ورحمةُ اللهِ، فزادوه: "ورحمةُ اللهِ" [172] أخرجه البخاري (3326) واللفظ له، ومسلم (2841). ، فقد أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ هذه تحيَّتُه وتحيَّةُ ذُرِّيَّتِه، قالوا: ولأنَّ المسَلَّمَ عليه مأمورٌ أن يُحَيِّيَ المُسلِّمَ بمِثلِ تحيَّتِه عَدلًا، وبأحسَنَ منها فَضلًا، فإذا ردَّ عليه بمِثلِ سَلامِه كان قد أتى بالعَدلِ) [173] ((زاد المعاد)) (2/ 385). .
وقال النَّوَويُّ: (إنْ حَذفَ الواوَ فقال: عليكم السَّلامُ، أجزأه ذلك، وكان جواباً، هذا هو المذهَبُ الصَّحيحُ المشهورُ الذي نصَّ عليه إمامُنا الشَّافِعيُّ رحمه اللهُ في "الأُم"، وقاله جمهورُ أصحابِنا.
وجزم أبو سَعدٍ المتوَلِّي من أصحابِنا في كتابِه "التَّتِمَّة" بأنَّه لا يجزِئُه، ولا يكونُ جوابًا، وهذا ضعيفٌ أو غَلَطٌ، وهو مخالِفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ، ونصِّ إمامِنا الشَّافِعيِّ.
أمَّا الكتابُ فقال اللهُ تعالى: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [هود: 69] ، وهذا وإن كان شرعًا لِمَن قَبْلَنا فقد جاء شَرعُنا بتقريرِه، وهو حديثُ أبي هُرَيرةَ ... في جوابِ الملائكةِ آدَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَنا أنَّ اللهَ تعالى قال: "هي تحيَّتُك وتحيَّةُ ذُرِّيَّتِك"، وهذه الأمَّةُ داخِلةٌ في ذرِّيَّتِه. واللهُ أعلَمُ.
واتَّفَق أصحابُنا على أنَّه لو قال في الجوابِ: عليكم، لم يكُنْ جوابًا، فلو قال: وعليكم بالواوِ، فهل يكونُ جوابًا؟ فيه وجهانِ لأصحابِنا) [174] ((الأذكار)) للنووي (ص: 244). .
أولُ مَن حيَّا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بتحيةِ الإسلامِ
قال أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه في حَديثِ إسلامِه: ((... وجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى استَلمَ الحَجَرَ، وطاف بالبيتِ هو وصاحِبُه، ثُمَّ صَلَّى، فلمَّا قَضى صَلاتَه فكُنتُ أنا أوَّلَ مَن حيَّاه بتَحيَّةِ الإسلامِ، فقُلتُ: السَّلامُ عليك يا رَسولَ اللهِ، فقال: وعليك ورَحمةُ اللهِ...)) الحَديثَ [175] أخرجه مسلم (2473). .
وفي رِوايةٍ: ((... فجاءَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فطاف بالبيتِ وصَلَّى رَكعَتينِ خَلفَ المَقامِ، قال: فأتيتُه، فإنِّي لأوَّلُ النَّاسِ حيَّاه بتَحيَّةِ الإسلامِ، قُلتُ: السَّلامُ عليك يا رَسولَ اللهِ، قال: وعليك السَّلامُ. مَن أنتَ؟...)) الحَديثَ [176] أخرجها مسلم (2473). .
حكمُ السَّلامِ على المرأةِ
قال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (يُكرَهُ السَّلامُ على شَوابِّ النِّساءِ؛ فإنَّ ذلك يَجلِبُ جَوابَهنَّ، وسَماعَ أصواتِهنَّ، وعَساه يَجلِبُ الفِتنةَ، وكم مِن صَوتٍ جَرَّ هَوًى وعِشقًا!) [177] ((فصول الآداب)) (ص: 40). ويُنظر: ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه)) للكوسج (9/ 4896). .
وقال يحيى: (سُئِل مالكٌ، هل يُسَلِّمُ على المَرأةِ؟ فقال: أمَّا المُتَجالَّةُ فلا أكرَهُ ذلك، وأمَّا الشَّابَّةُ فلا أحِبُّ ذلك) [178] ((موطَّأ مالك)) (2/ 959). .
وقال النَّوويُّ: (قال أصحابُنا: والمَرأةُ مَعَ المَرأةِ كالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ.
وأمَّا المَرأةُ مَعَ الرَّجُلِ، فقال الإمامُ أبو سَعدٍ المُتَولِّي: إن كانت زَوجَتَه أو جاريَتَه أو مَحرَمًا مِن مَحارِمِه، فهي مَعَه كالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، فيُستَحَبُّ لكُلِّ واحِدٍ مِنهما ابتِداءُ الآخَرِ بالسَّلامِ، ويَجِبُ على الآخَرِ رَدُّ السَّلامِ عليه، وإن كانت أجنَبيَّةً، فإن كانت جَميلةً يَخافُ الافتِتانَ بها لم يُسَلِّمِ الرَّجُلُ عليها، ولو سَلَّمَ لم يَجُزْ لها رَدُّ الجَوابِ، ولم تُسَلِّمْ هي عليه ابتِداءً، فإن سَلَّمَت لم تَستَحِقَّ جَوابًا، فإن أجابَها كُرِه له، وإن كانت عَجوزًا لا يُفتَتَنُ بها، جازَ أن تُسَلِّمَ على الرَّجُلِ، وعلى الرَّجُلِ رَدُّ السَّلامِ عليها، وإذا كانتِ النِّساءُ جَمعًا فيُسَلِّمُ عليهنَّ الرَّجُلُ، أو كان الرِّجالُ جَمعًا كثيرًا فسَلَّموا على المَرأةِ الواحِدةِ جاز، إذا لم يُخَفْ عليه ولا عليهنَّ ولا عليها أو عليهم فِتنةٌ...
عَن أسماءَ بنتِ يَزيدَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((مَرَّ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نِسوةٍ، فسَلَّمَ علينا» [179] أخرجه أبو داود (5204)، وابن ماجه (3701) واللفظ له، وأحمد (27561) واللفظ له. حَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27561). وذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3701). .
ورُوِّينا في صَحيحِ البخاريِّ عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كانت فينا امرَأةٌ -وفي رِوايةٍ: كانت لنا عَجوزٌ- تَأخُذُ مِن أصولِ السِّلقِ فتَطرَحُه في القِدرِ وتُكركِرُ حَبَّاتٍ مِن شَعيرٍ، فإذا صَلَّينا الجُمُعةَ انصَرَفنا نُسَلِّمُ عليها، فتُقَدِّمُه إلينا)) [180] أخرجه البخاري (938) باختِلاف يَسيرٍ، ولفظُه: عَن سَهلٍ قال: ((كانت فينا امرَأةٌ تَجعَلُ على أربِعاءَ في مَزرَعةٍ لها سِلقًا، فكانت إذا كان يَومُ جُمُعةٍ تَنزِعُ أصولَ السِّلقِ، فتَجعَلُه في قِدرٍ، ثُمَّ تَجعَلُ عليه قَبضةً مِن شَعيرٍ تَطحَنُها، فتَكونُ أصولُ السِّلقِ عَرْقَه، وكُنَّا نَنصَرِفُ مِن صَلاةِ الجُمُعةِ، فنُسَلِّمُ عليها، فتُقَرِّبُ ذلك الطَّعامَ إلينا، فنَلعَقُه، وكُنَّا نَتَمَنَّى يَومَ الجُمُعةِ لطَعامِها ذلك!)). ورِواية: ((كانت لنا عَجوزٌ)) لفظُها: ((كُنَّا نَفرَحُ يَومَ الجُمُعةِ، قُلتُ: ولمَ؟ قال: كانت لنا عَجوزٌ، تُرسِلُ إلى بُضاعةَ -قال ابنُ مَسلَمةَ: نَخلٍ بالمَدينةِ- فتَأخُذُ مِن أصولِ السِّلقِ، فتَطرَحُه في قِدرٍ، وتُكركِرُ حَبَّاتٍ مِن شَعيرٍ، فإذا صَلَّينا الجُمُعةَ انصَرَفنا، ونُسَلِّمُ عليها فتُقَدِّمُه إلينا، فنَفرَحُ مِن أجلِه، وما كُنَّا نَقيلُ ولا نَتَغَدَّى إلَّا بَعدَ الجُمُعةِ)) أخرجها البخاري (6248) واللفظ له، ومسلم (859) مُختَصَرًا. .
قُلتُ: تُكركِرُ، مَعناه: تَطحَنُ.
ورُوِّينا في صَحيحِ مسلمٍ عَن أمِّ هانِئٍ بنتِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ الفتحِ وهو يَغتَسِلُ، وفاطِمةُ تَستُرُه، فسَلَّمتُ...»، وذَكرَتِ الحَديثَ [181] أخرجه البخاري (3171)، ومسلم (336) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولفظُ مسلم: ((ذَهَبتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الفتحِ، فوجَدتُه يَغتَسِلُ، وفاطِمةُ ابنَتُه تَستُرُه بثَوبٍ، قالت: فسَلَّمتُ)). [182] ((الأذكار)) (ص: 252، 253). .
حكمُ السَّلامِ على أيقاظٍ عندَهم نِيامٌ
 إذا سَلَّمَ على أيقاظٍ عِندَهم نيامٌ، فالسُّنَّةُ أن يَخفِضَ صَوتَه بحيثُ يَحصُلُ سَماعُ الأيقاظِ، ولا يَستيقِظُ النِّيامُ؛ ففي حَديثِ المِقدادِ رَضِيَ اللهُ عنه الطَّويلِ، قال: ((كُنَّا نَرفعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَصيبَه مِنَ اللَّبَنِ، فيَجيءُ مِنَ اللَّيلِ، فيُسَلِّمُ تَسليمًا لا يوقِظُ نائِمًا، ويُسمِعُ اليَقِظانَ، وجَعَل لا يَجيئُني النَّومُ، وأمَّا صاحِبايَ فناما، فجاءَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ كما كان يُسَلِّمُ)) [183] أخرجه مسلم (2055) بلفظ: عَنِ المِقدادِ، قال: ((أقبلْتُ أنا وصاحِبانِ لي، وقد ذهبَت أسماعُنا وأبصارُنا مِن الجَهدِ، فجعلْنا نَعرِضُ أنفُسَنا على أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فليس أحدٌ منهم يقبَلُنا، فأتَينا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فانطلَق بنا إلى أهلِه، فإذا ثلاثةُ أعنُزٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: احتلِبوا هذا اللَّبنَ بَينَنا، قال: فكنَّا نحتلِبُ، فيشرَبُ كُلُّ إنسانٍ منَّا نَصيبَه، ونرفَعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَصيبَه، قال: فيجيءُ مِن اللَّيلِ، فيُسلِّمُ تسليمًا لا يوقِظُ نائِمًا، ويُسمِعُ اليَقظانَ، قال: ثُمَّ يأتي المسجِدَ، فيُصلِّي، ثُمَّ يأتي شرابَه فيشرَبُ، فأتاني الشَّيطانُ ذاتَ ليلةٍ وقد شرِبْتُ نَصيبي، فقال: مُحمَّدٌ يأتي الأنصارَ فيُتحِفونَه، ويُصيبُ عندَهم، ما به حاجةٌ إلى هذه الجُرعةِ، فأتَيتُها فشرِبْتُها، فلمَّا أن وغَلَت في بَطني، وعلِمْتُ أنَّه ليس إليها سبيلٌ، قال: ندَّمني الشَّيطانُ، فقال: وَيحَك، ما صنَعْتَ؟! أشرِبْتَ شرابَ مُحمَّدٍ؟! فيجيءُ فلا يجِدُه، فيدعو عليك، فتَهلِكُ، فتذهَبُ دُنياك وآخِرتُك! وعَلَيَّ شَمْلةٌ إذا وضعْتُها على قَدَمَيَّ خرَج رأسي، وإذا وضعْتُها على رأسي خرَج قَدَماي، وجعَل لا يجيئُني النَّومُ، وأمَّا صاحباي فناما، ولم يصنَعا ما صنعْتُ، قال: فجاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسلَّم كما كان يُسلِّمُ، ثُمَّ أتى المسجِدَ فصلَّى، ثُمَّ أتى شرابَه، فكشَف عنه، فلم يجِدْ فيه شيئًا، فرفَع رأسَه إلى السَّماءِ، فقُلتُ: الآنَ يدعو عليَّ فأهلِكُ! فقال: اللَّهمَّ أطعِمْ مَن أطعَمني، وأسْقِ مَن أسقاني، قال: فعَمَدتُ إلى الشَّملةِ فشَدَدتُها عَلَيَّ، وأخَذتُ الشَّفرةَ فانطَلقتُ إلى الأعنُزِ أيُّها أسمَنُ، فأذبَحُها لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا هي حافِلةٌ، وإذا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهنَّ، فعَمَدتُ إلى إناءٍ لآلِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كانوا يَطمَعونَ أن يَحتَلِبوا فيه! قال: فحَلبتُ فيه حتَّى عَلَته رِغوةٌ، فجِئتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أشرِبتُم شَرابَكُمُ اللَّيلةَ، قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشرَبْ، فشَرِبَ، ثُمَّ ناوَلَني، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشرَبْ، فشَرِبَ، ثُمَّ ناوَلَني، فلمَّا عَرَفتُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد رَوِيَ وأصَبتُ دَعوتَه، ضَحِكتُ حتَّى أُلقيتُ إلى الأرضِ! قال: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إحدى سَوآتِك يا مِقدادُ! فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كان مِن أمري كذا وكذا، وفعَلتُ كذا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما هذه إلَّا رَحمةٌ مِنَ اللهِ، أفلا كُنتَ آذَنْتَني فنوقِظُ صاحِبَينا فيُصيبانِ مِنها! قال: فقُلتُ: والذي بَعَثَك بالحَقِّ ما أُبالي إذا أصَبتَها وأصَبتُها مَعَك مَن أصابَها مِنَ النَّاسِ)). .
وقال الإمامُ أبو مُحَمَّدٍ القاضي حُسَينٌ، والإمامُ أبو الحَسَنِ الواحِديُّ، وغيرُهما: ويُشتَرَطُ أن يَكونَ الجَوابُ على الفَورِ، فإن أخَّرَه ثُمَّ رَدَّ لم يُعَدَّ جَوابًا، وكان آثِمًا بتَركِ الرَّدِّ [184] ((الأذكار)) للنووي (ص: 245). .
الأحوالُ التي يُكرهُ فيها السَّلامُ
أمَّا الأحوالُ التي يُكرَهُ فيها السلام، فمِن ذلك إذا كان المُسلَّمُ عليه مُشتَغِلًا بالبَولِ [185] عنِ ابنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَجُلًا مَرَّ ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبولُ، فسَلَّمَ، فلم يَرُدَّ عليه)). أخرجه مسلم (370). وعَنِ المُهاجِرِ بن قُنفُذٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّه أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَبولُ، فسَلَّمَ عليه، فلم يَرُدَّ عليه حتَّى تَوضَّأ، ثُمَّ اعتَذَرَ إليه، فقال: إنِّي كرِهتُ أن أذكُرَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ إلَّا على طُهرٍ. أو قال: على طَهارةٍ)). أخرجه أبو داود (17) واللفظ له، والنسائي (38)، وأحمد (19034). صَحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (206)، وابن حبان في ((صحيحه)) (803)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (592)، والنووي في ((المجموع)) (3/105)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/205). أو نَحوِه، فيُكرَهُ أن يُسَلَّمَ عليه، ولو سُلِّم لا يَستَحِقُّ جَوابًا، ومِن ذلك مَن كان نائِمًا أو ناعِسًا، ومِن ذلك مِن كان مُصَلِّيًا أو مُؤَذِّنًا في حالِ أذانِه أو إقامَتِه الصَّلاةَ، أو كان في حَمَّامٍ أو نَحوِ ذلك مِنَ الأمورِ التي لا يُؤثِرُ السَّلامَ عليه فيها، ومِن ذلك إذا كان يَأكُلُ واللُّقمةُ في فَمِه، فإن سَلَّمَ عليه في هذه الأحوالِ لم يَستَحِقَّ جَوابًا. أمَّا إذا كان على الأكلِ وليستِ اللُّقمةُ في فمِه، فلا بَأسَ بالسَّلامِ، ويَجِبُ الجَوابُ. وكذلك في حالِ المُبايَعةِ وسائِرِ المُعامَلاتِ يُسَلِّمُ ويَجِبُ الجَوابُ [186] ولا يُرَدُّ السَّلامُ، ولا يُشَمَّتُ العاطِسُ أثناءَ الخُطبةِ، وهذا مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، وهو قَولُ الشَّافِعيِّ في القَديمِ، ورِوايةٌ عَن أحمَدَ، واختارَه ابنُ بازٍ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/28)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (2/ 113)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/446)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/293)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/410، 411)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/162). يُنظَرُ بيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في: ((الموسوعة الفقهية بموقع الدرر السَّنية)) https://dorar.net/feqhia ...
وأمَّا المُلبِّي في الإحرامِ فيُكرَهُ أن يُسَلَّمَ عليه؛ لأنَّه يُكرَهُ له قَطعُ التَّلبيةِ، فإن سُلِّمَ عليه رَدَّ السَّلامَ باللَّفظِ، نَصَّ عليه الشَّافِعيُّ.
هذه هي الأحوالُ التي يُكرَهُ فيها السَّلامُ، ولا يستَحِقُّ فيها جَوابًا، فلو أرادَ المُسلَّمُ عليه أن يَتَبَرَّعَ برَدِّ السَّلامِ، هل يُشرَعُ له، أو يُستَحَبُّ؟ فيه تَفصيلٌ؛ فأمَّا المُشتَغِلُ بالبَولِ ونَحوِه فيُكرَهُ له رَدُّ السَّلامِ، وأمَّا الآكِلُ ونَحوُه فيُستَحَبُّ له الجَوابُ في المَوضِعِ الذي لا يَجِبُ، وأمَّا المُصَلِّي فيَحرُمُ عليه أن يَقولَ: وعليكُمُ السَّلامُ، فإن فَعَل ذلك بَطَلت صَلاتُه إن كان عالِمًا بتَحريمِه، وإن كان جاهِلًا لم تَبطُلْ.
والمُستَحَبُّ أن يَرُدَّ عليه في الصَّلاةِ بالإشارةِ [187] لحَديثِ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَثَني لحاجةٍ، ثُمَّ أدرَكتُه وهو يَسيرُ، فسَلَّمتُ عليه، فأشارَ إليَّ، فلمَّا فرَغَ دَعاني فقال: إنَّك سَلَّمتَ عليَّ آنِفًا وأنا أصَلِّي)) أخرجه مسلم (540)، وفي رِوايةٍ: ((فلمَّا انصَرَف قال: إنَّه لم يَمنَعْني أن أرُدَّ عليك إلَّا أنِّي كُنتُ أصَلِّي)) أخرجها مسلم (540). وعَن جَعفَرِ بنِ عَونٍ، حَدَّثنا هشامُ بنُ سَعدٍ، حَدَّثَنا نافِعٌ، قال: سَمِعتُ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ يَقولُ: ((خَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى قُباءٍ يُصَلِّي فيه، قال: فجاءَته الأنصارُ فسَلَّموا عليه وهو يُصَلِّي، قال: فقُلتُ لبلالٍ: كيف رَأيتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرُدُّ عليهم حينَ كانوا يُسَلِّمونَ عليه وهو يُصَلِّي؟ قال: يَقولُ هَكذا، وبَسَطَ جَعفرُ بنُ عَونٍ كَفَّه، وجَعَل بَطنَه أسفَلَ، وظَهرَه إلى فَوقٍ)). أخرجه أبو داود (927) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (215)، والبيهقي (3540). صَحَّحه النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/508)، وشعيب الأرناؤورط في تخريج ((سنن أبي داود)) (927)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (927). وفي رِوايةٍ عَن زيدِ بنِ أسلَمَ، قال: قال ابنُ عُمَرَ: ((دَخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم مَسجِدَ قُباءٍ ليُصَلِّيَ فيه، فدَخَل عليه رِجالٌ يُسَلِّمونَ عليه، فسَألتُ صُهيبًا، وكان مَعَه: كيف كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصنَعُ إذا سُلِّمَ عليه؟ قال: كان يُشيرُ بيَدِه)). أخرجها النسائي (1187) واللفظ له، وابن ماجه (1017)، وأحمد (4568). صَحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (2/107)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2258)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (4330)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1187)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (510). وفي رِوايةٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((مَرَرتُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يُصَلِّي، فسَلَّمتُ عليه فرَدَّ إشارةً، قال: ولا أعلمُه إلَّا قال: إشارةً بإصبَعِه)). أخرجها أبو داود (925) واللفظ له، والترمذي (367)، وأحمد (18931). صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (2259)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (1/388)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (925). ورَدُّ المُصَلِّي السَّلامَ في الصَّلاةِ بالإشارةِ هو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. ينظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/314)، ((المجموع)) للنووي (4/104)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/212) قال ابنُ عبد البر: (وأجمَع العلماءُ على أنَّ مَن سُلِّم عليه وهو يُصلِّي لا يردُّ كلامًا، وكذلك أجمعوا على أنَّ مَن ردَّ إشارةً أجزأه، ولا شيءَ عليه) ((التمهيد)) (21/109). والرَّاجِحُ عندَ المالكيَّة وجوبُ ردِّ السَّلامِ بالإشارةِ في الصَّلاة.  ومذهبُ الشَّافعيَّة: استحبابُ الردِّ في الحالِ إشارةً، وإلَّا فبعدَ السلامِ لفظًا.  ويُنظَرُ بيان ذلك في: ((الموسوعة الفقهية بموقع الدرر السَّنية)) https://dorar.net/feqhia ، ولا يَتَلفَّظَ بشَيءٍ.
وإن رَدَّ بَعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ باللَّفظِ فلا بَأسَ [188] عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا نُسَلِّمُ في الصَّلاةِ ونَأمُرُ بحاجَتِنا، فقَدِمتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يُصَلِّي، فسَلَّمتُ عليه فلم يَرُدَّ عليَّ السَّلامَ، فأخَذَني ما قَدُمَ وما حدُث، فلمَّا قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلاةَ، قال: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُحدِثُ مِن أمرِه ما يَشاءُ، وإنَّ اللَّهَ تعالى قَد أحدَثَ ألَّا تَكلَّموا في الصَّلاةِ، فرَدَّ عليَّ السَّلامَ)). أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7522) مختصرًا، وأخرجه موصولًا أبو داود (924) واللفظ له، والنسائي (1221) صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (2243)، وابن عبد البر في ((الاستذكار)) (1/548)، وابن الملقن في ((الإعلام)) (3/344)، وحسن إسناده النووي في ((المجموع)) (4/103). .
وأمَّا المُؤَذِّنُ فلا يُكرَهُ له رَدُّ الجَوابِ بلفظِه المُعتادِ؛ لأنَّ ذلك يَسيرٌ لا يُبطِلُ الأذانَ ولا يُخِلُّ به [189] يُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 251). .
السلامُ على أهلِ الذِّمَّةِ
أهلُ الذِّمَّةِ لا يَجوزُ ابتداؤهم بالسَّلامِ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تبدؤوا اليَهودَ ولا النَّصارى بالسَّلامِ، فإذا لقيتُم أحَدَهم في طَريقٍ فاضطَرُّوه إلى أضيَقِه)) [190] أخرجه مسلم (2167). .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا سَلَّمَ عليكُم أهلُ الكِتابِ فقولوا: وعليكُم)) [191] أخرجه البخاري (6258)، ومسلم (2163). .
وعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا سَلَّمَ عليكُمُ اليَهودُ فإنَّما يَقولُ أحَدُهم: السَّامُ عليك، فقُل: وعليك)) [192] أخرجه البخاري (6257) واللفظ له، ومسلم (2164). . وفي المَسألةِ أحاديثُ كثيرةٌ.
وإذا مَرَّ واحِدٌ على جَماعةٍ فيهم مُسلِمونَ، أو مُسلِمٌ وكفَّارٌ، فالسُّنَّةُ أن يُسَلِّمَ عليهم يَقصِدُ المُسلِمينَ أوِ المُسلِمَ؛ فعن أسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ على مَجلسٍ فيه أخلاطٌ مِنَ المُسلمينَ، والمُشرِكينَ عَبَدةِ الأوثانِ، واليَهودِ، فسَلَّمَ عليهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [193] أخرجه البخاري (6254)، ومسلم (1798) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ركِبَ حمارًا عليه إكافٌ، تحته قَطيفةٌ فَدَكيَّةٌ. وأردف وراءَه أسامةَ، وهو يعودُ سَعدَ بنَ عُبادةَ في بني الحارِثِ بنِ الخَزرَجِ. وذاك قبلَ وَقعةِ بَدرٍ، حتَّى مَّر بمجلِسٍ فيه أخلاطٌ من المسلِمين والمُشرِكين عَبَدةِ الأوثانِ، واليهودِ، فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ، وفي المجلِسِ عبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ، فلمَّا غَشِيَت المجلِسَ عَجاجةُ الدَّابَّةِ، خَمَّر عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ أنفَه بردائِه، ثمَّ قال: لا تُغَبِّروا علينا، فسَلَّم عليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ وَقَف...)). ويُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 253). .
وإذا كتَبَ كِتابًا إلى مُشرِكٍ، وكَتَب فيه سَلامًا أو نَحوَه، فيَنبَغي أن يَكتُبَ ما جاء في حَديثِ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنه في قِصَّةِ هِرَقلَ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كتَبَ: ((مِن مُحَمَّدٍ عَبدِ اللَّهِ ورَسولِه إلى هِرَقلَ عَظيمِ الرُّومِ، سَلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهدى)) [194] أخرجه البخاري (2941) واللفظ له، ومسلم (1773). .
حُكمُ السَّلامِ على أهلِ الفُسوقِ والبدَعِ
يَنبَغي تَركُ السَّلامِ على المُبتَدِعِ، وكَذا على مَنِ ارتَكَبَ ذَنبًا عَظيمًا ولم يَتُبْ مِنه، حتَّى يُقلعَ [195] قال البخاريُّ: (بابُ مَن لم يُسَلِّمْ على من اقترف ذنبًا، ولم يَرُدَّ سلامَه حتى تتبيَّنَ توبتُه، وإلى متى تتبيَّنُ توبةُ العاصي). ((صحيح البخاري)) (8/ 57). وقال أيضًا: (بابُ ما يجوزُ مِن الهِجرانِ لِمن عصى). ((صحيح البخاري)) (8/ 21). وقال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ الرَّجُلَ المسلِمَ الذي ليس بمشهورٍ بفِسقٍ ولا بدعةٍ يُسَلِّمُ ويُسَلَّمُ عليه، فيُسَنُّ له السَّلامُ، ويجِبُ الرَّدُّ عليه. قال أصحابُنا: والمرأةُ مع المرأةِ كالرَّجُلِ مع الرَّجُلِ... وأمَّا المبتَدِعُ ومَن اقترف ذنبًا عظيمًا ولم يَتُبْ منه، فينبغي أن لا يُسَلَّمَ عليهم، ولا يُرَدَّ عليهم السَّلامُ، كذا قاله البخاريُّ وغيرُه من العُلَماءِ... قلتُ: فإن اضطُرَّ إلى السَّلامِ على الظَّلَمةِ، بأن دخَل عليهم وخاف ترتُّبَ مَفسَدةٍ في دينِه أو دنياه أو غيرِهما إنْ لم يُسَلِّمْ، سَلَّم عليهم. قال الإمامُ أبو بكرِ بنُ العَرَبيِّ: قال العُلَماءُ: يُسَلِّمُ، وينوي أنَّ السَّلامَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تعالى، المعنى: اللهُ عليكم رقيبٌ). ((الأذكار)) (ص: 252، 255). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه في حَديثِ تَخَلُّفِه عن غَزوةِ تَبوكَ قال: ((... ونَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُسلمينَ عن كَلامِنا -أيُّها الثَّلاثَةُ- مِن بَينِ مَن تَخَلَّف عنه، فاجتَنَبَنا النَّاسُ، وتَغَيَّروا لنا حَتَّى تَنَكَّرَت في نَفسي الأرضُ، فما هي التي أعرِفُ! فلَبِثْنا على ذلك خَمسينَ ليلةً، فأمَّا صاحِباي فاستَكانا وقَعَدا في بُيوتِهما يبكيانِ، وأمَّا أنا فكُنتُ أشَبَّ القَومِ وأجلدَهم، فكُنتُ أخرُجُ فأشهدُ الصَّلاةَ مع المُسلمينَ، وأطوفُ في الأسواقِ ولا يُكَلِّمُني أحَدٌ، وآتي رَسولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم فأسلِّمُ عليه وهو في مَجلسِه بَعدَ الصَّلاةِ، فأقولُ في نَفسي: هل حَرَّكَ شَفتَيه برَدِّ السَّلامِ عليَّ أم لا؟ ثُمَّ أصَلّي قَريبًا مِنه، فأُسارِقُه النَّظَرَ، فإذا أقبَلتُ على صَلاتي أقبَلَ إليَّ، وإذا التَفتُّ نَحوه أعرَضَ عني! حَتَّى إذا طال عليَّ ذَلكَ مِن جَفوةِ النَّاسِ مَشَيتُ حَتَّى تَسوَّرتُ جِدارَ حائِطِ أبي قَتادَةَ، وهو ابنُ عَمّي وأحَبُّ النَّاسِ إليَّ، فسلَّمتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السَّلامَ...)). [196] أخرجه البخاري (4418) واللفظ له، ومسلم (2769)
مَن غلَب على ظنِّه أنَّه لا يَردُّ عليه هل يُسلِّمُ عليه
إذا مَرَّ على واحِدٍ أو أكثَرَ، وغَلبَ على ظَنِّه أنَّه إذا سَلَّمَ لا يَرُدُّ عليه، إمَّا لتَكبُّرِ المَمرورِ عليه، وإمَّا لإهمالِه المارَّ أوِ السَّلامَ، وإمَّا لغيرِ ذلك، فيَنبَغي أن يُسَلِّمَ ولا يَترُكَه لهذا الظَّنِّ، فإنَّ السَّلامَ مَأمورٌ به، والذي أُمِرَ به المارُّ أن يُسَلِّمَ، ولم يُؤمَرْ بأن يُحَصِّلَ الرَّدَّ [197] عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّ السَّلامَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ وضَعَه اللهُ في الأرضِ، فأفشوه بينَكُم، إنَّ الرَّجُلَ إذا سَلَّمَ على القَومِ فرَدُّوا عليه كانت عليهم فضلُ دَرَجةٍ؛ لأنَّه ذَكَّرَهم بالسَّلامِ، وإن لم يَرُدَّ عليه رَدَّ عليه مَن هو خيرٌ مِنه وأطيَبُ). أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1039) واللفظ له، والخطيب في ((الموضح)) (1/419). صَحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (793). وعَن عَبدِ اللَّهِ بنِ الصَّامِتِ، قال: (قُلتُ لأبي ذَرٍّ: مَرَرتُ بعَبدِ الرَّحمنِ بنِ أمِّ الحَكمِ، فسَلَّمتُ فما رَدَّ عليَّ شيئًا، فقال: يا ابنَ أخي، ما يَكونُ عليك مِن ذلك؟ رَدَّ عليك مَن هو خيرٌ مِنه؛ مَلكٌ عَن يَمينِه). أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1038) صَحَّح إسنادَه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (792). ، مَعَ أنَّ المَمرورَ عليه قَد يُخطِئُ الظَّنُّ فيه ويَرُدُّ [198] ((الأذكار)) للنووي (ص: 258). .
مِن أسماءِ الله السلامُ
قال ابنُ الأثيرِ: (في أسماءِ اللهِ تعالى: «السَّلامُ». قيل: مَعناه سَلامَتُه مِمَّا يَلحَقُ الخَلقَ مِنَ العَيبِ والفَناءِ. والسَّلامُ في الأصلِ السَّلامةُ. يُقالُ: سَلِمَ يَسلَمُ سَلامةً وسَلامًا. ومِنه قيلَ للجَنَّةِ: دارُ السَّلامِ؛ لأنَّها دارُ السَّلامةِ مِنَ الآفاتِ.
والتَّسليمُ: مُشتَقٌّ مِنَ السَّلامِ -اسمِ اللهِ تعالى- لسَلامَتِه مِنَ العيبِ والنَّقصِ. وقيل: مَعناه: إنَّ اللَّهَ مُطَّلعٌ عليكُم فلا تَغفُلوا. وقيل: مَعناه: اسمُ السَّلامِ عليك، أي: اسمُ اللهِ عليك؛ إذ كان اسمُ اللهِ يُذكَرُ على الأعمالِ تَوقُّعًا لاجتِماعِ مَعاني الخيراتِ فيه، وانتِفاءِ عَوارِضِ الفَسادِ عنه. وقيل: مَعناه: سَلِمتَ مِنِّي فاجعَلْني أسلَمُ مِنك، مِنَ السَّلامةِ بمَعنى السَّلامِ) [199] ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 392، 393). ويُنظر: ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/ 922)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (11/ 248)، ((شرح الإلمام بأحاديث الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/ 28)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 13). وقال السُّهيليُّ: (ذَهَبَ أكثَرُ أهلِ اللُّغةِ إلى أنَّ السَّلامَ والسَّلامةَ بمَعنًى واحِدٍ، كالرَّضاعِ والرَّضاعةِ، ولو تَأمَّلوا كلامَ العَرَبِ وما تُعطيه هاءُ التَّأنيثِ مِنَ التَّحديدِ، لرَأوا أنَّ بينَهما فُرقانًا عَظيمًا، وأنَّ الجَلالَ أعَمُّ مِنَ الجَلالةِ بكثيرٍ، وأنَّ اللَّذاذَ أبلغُ مِنَ اللَّذاذةِ، وأنَّ الرَّضاعةَ تَقَعُ على الرَّضعةِ الواحِدةِ، والرَّضاعُ أكثَرُ مِن ذلك، فكذلك السَّلامُ والسَّلامةُ، وقِسْ على هذا: تَمرةً وتَمرًا، ولقاةً ولقًى، وضَربةً وضَربًا، إلى غيرِ ذلك، وتَسَمَّى سُبحانَه بالسَّلامِ لِما شَمِل جَميعَ الخَليقةِ وعَمَّهم مِنَ السَّلامةِ مِنَ الاختِلالِ والتَّفاوُتِ؛ إذِ الكُلُّ جارٍ على نِظام الحِكمةِ، كذلك سَلِمَ الثَّقلانِ مِن جَورٍ وظُلمٍ أن يَأتيَهم مِن قِبَلِه سُبحانَه، فإنَّما الكُلُّ مُدَبَّرٌ بفَضلٍ أو عَدلٍ، أمَّا الكافِرُ فلا يَجري عليه إلَّا عَدلُه، وأمَّا المُؤمِنُ فيَغمُرُه فَضلُه؛ فهو سُبحانُه في جَميعِ أفعالِه سَلامٌ، لا حَيفَ ولا ظُلمَ، ولا تَفاوُتَ ولا اختِلالَ، ومَن زَعَمَ مِنَ المُفسِّرينَ لهذا الاسمِ أنَّه تَسَمَّى به لسَلامَتِه مِنَ الآفاتِ والعُيوبِ فقَد أتى بشَنيعٍ مِنَ القَولِ؛ إنَّما السَّلامُ مَن سُلِمَ مِنه، والسَّالمُ مَن سَلِمَ مِن غيرِه، وانظُرْ إلى قَولِه سُبحانَه: كُوني بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء: 69] ، وإلى قَولِه: سَلَامٌ هِيَ [القَدر: 5] ، ولا يُقالُ في الحائِطِ: سالمٌ مِنَ العَمى، ولا في الحَجَرِ: إنَّه سالمٌ مِنَ الزُّكامِ، أو مِنَ السُّعالِ، إنَّما يُقالُ: سالمٌ فيمَن تَجوزُ عليه الآفةُ، ويَتَوقَّعُها ثُمَّ يَسلَمُ مِنها، والقُدُّوسُ سُبحانَه مُتَعالٍ عَن تَوقُّعِ الآفاتِ مُتَنَزِّهٌ عَن جَوازِ النَّقائِصِ، ومِن هذه صِفَتُه لا يُقالُ: سَلِمَ، ولا يَتَسَمَّى بسالمٍ، وهم قَد جَعَلوا سَلامًا بمَعنى سالمٍ، والذي ذَكَرناه أوَّلُ هو مَعنى قَولِ أكثَرِ السَّلَفِ، والسَّلامةُ: خَصلةٌ واحِدةٌ مِن خِصالِ السَّلامِ). ((الرَّوض الأنف)) (2/ 432، 433). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (لمَّا كان السَّلامُ اسمًا مِن أسماءِ الرَّبِّ تَبارَك وتعالى، وهو اسمُ مَصدَرٍ في الأصلِ -كالكلامِ والعَطاءِ- بمَعنى السَّلامةِ؛ كان الرَّبُّ تعالى أحَقَّ به مِن كُلِّ ما سِواه؛ لأنَّه السَّالمُ من كُلِّ آفةٍ وعيبٍ ونَقصٍ وذَمٍّ، فإنَّ له الكمالَ المُطلَقَ مِن جَميعِ الوُجوهِ، وكمالُه مِن لوازِمِ ذاتِه، فلا يَكونُ إلَّا كذلك، والسَّلامُ يَتَضَمَّنُ سَلامةَ أفعالِه مِنَ العَبَثِ والظُّلمِ وخِلافِ الحِكمةِ، وسَلامةَ صِفاتِه مِن مُشابَهةِ صِفاتِ المَخلوقينَ، وسَلامةَ ذاتِه من كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، وسَلامةَ أسمائِه من كُلِّ ذَمٍّ؛ فاسمُ السَّلامِ يَتَضَمَّنُ إثباتَ جَميعِ الكَمالاتِ له، وسَلبَ جَميعِ النَّقائِصِ عنه.
وهذا مَعنى: سُبحانَ اللَّهِ، والحَمدُ للَّهِ، ويَتَضَمَّنُ إفرادَه بالألوهيَّةِ وإفرادَه بالتَّعظيمِ، وهذا مَعنى: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أكبَرُ، فانتَظَمَ اسمُ "السَّلامِ" الباقياتِ الصَّالحاتِ التي يُثنى بها على الرَّبِّ جَلَّ جَلالُه.
ومِن بَعضِ تَفاصيلِ ذلك: أنَّه الحيُّ الذي سَلِمَت حياتُه مِنَ المَوتِ والسِّنةِ والنَّومِ والتَّغيُّرِ، القادِرُ الذي سَلِمَت قُدرَتُه مِنَ اللُّغوبِ والتَّعَبِ والإعياءِ والعَجزِ عَمَّا يُريدُ، العليمُ الذي سَلِمَ عِلمُه أن يَعزُبَ عنه مِثقالُ ذَرَّةٍ، أو يَغيبَ عنه مَعلومٌ مِنَ المَعلوماتِ، وكذلك سائِرُ صِفاتِه على هذا.
فرِضاه سُبحانَه سَلامٌ أن يُنازِعَه الغَضَبُ، وحِلمُه سَلامٌ أن يُنازِعَه الانتِقامُ، وإرادَتُه سَلامٌ أن يُنازِعَها الإكراهُ، وقُدرتُه سَلامٌ أن يُنازِعَها العَجزُ، ومَشيئَتُه سَلامٌ أن يُنازِعَها خِلافُ مُقتَضاها، وكلامُه سَلامٌ أن يَعرِضَ له كذِبٌ أو ظُلمٌ، بَل تَمَّت كَلِماتُه صِدقًا وعَدلًا، ووَعدُه سَلامٌ أن يَلحَقَه خُلفٌ، وهو سَلامٌ أن يَكونَ قَبلَه شيءٌ أو بَعدَه شيءٌ، أو فوقَه شيءٌ أو دونَه شيءٌ، بَل هو العالي على كُلِّ شيءٍ، وفوقَ كُلِّ شيءٍ، وقَبلَ كُلِّ شيءٍ وبَعدَ كُلِّ شيءٍ، والمُحيطُ بكُلِّ شيءٍ، وعَطاؤُه ومَنعُه سَلامٌ أن يَقَعَ في غيرِ مَوقِعِه، ومَغفِرتُه سَلامٌ أن يُباليَ بها أو يَضيقَ بذُنوبِ عِبادِه، أو تَصدُرَ عن عَجزٍ عن أخذِ حَقِّه، كما تَكونُ مَغفِرةُ النَّاسِ، ورَحمتُه وإحسانُه ورَأفتُه وبِرُّه وجودُه وموالاتُه لأوليائِه وتَحَبُّبُه إليهم وحَنانُه عليهم وذِكرُه لهم وصَلاتُه عليهم: سَلامٌ أن يَكونَ لحاجةٍ مِنه إليهم، أو تَعَزُّزٍ بهم أو تَكثُّرٍ بهم. وبالجُملةِ فهو السَّلامُ مِن كُلِّ ما يُنافي كلامَه المُقَدَّسَ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ...
وقد جَعَل سُبحانَه السَّلامَ تَحيَّةَ أوليائِه في الدُّنيا وتَحيَّتَهم يَومَ لقائِه، ولمَّا خَلقَ آدَمَ وكمَّل خَلقَه فاستَوى، قال اللهُ له: اذهَبْ إلى أولئِك النَّفَرِ مِنَ المَلائِكةِ فاستَمِعْ ما يُحيُّونَك به؛ فإنَّها تَحيَّتُك وتَحيَّةُ ذُرِّيَّتِك من بَعدِك [200]ينظر ما أخرجه البخاري (3326)، ومسلم (2841) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((خَلقَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ آدَمَ على صورَتِه، طولُه سِتُّونَ ذِراعًا، فلمَّا خَلقَه قال: اذهَبْ فسَلِّمْ على أولئِك النَّفرِ، وهم نَفرٌ مِنَ المَلائِكةِ جُلوسٌ، فاستَمِع ما يُجيبونَك؛ فإنَّها تَحيَّتُك وتَحيَّةُ ذُرِّيَّتِك ...)). .
وقال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام: 127] ، وقال: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ [يونس: 25] .
وقد اختُلِف في تَسميةِ الجَنَّةِ بدارِ السَّلامِ، فقيل: السَّلامُ هو اللهُ، والجَنَّةُ دارُه، وقيل: السَّلامُ هو السَّلامةُ، والجَنَّةُ دارُ السَّلامةِ مِن كُلِّ آفةٍ وعَيبٍ ونَقصٍ، وقيل: سُمِّيَت دارَ السَّلامِ؛ لأنَّ تَحيَّتَهم فيها سَلامٌ، ولا تَنافيَ بينَ هذه المَعاني كُلِّها.
وأمَّا قَولُ المُسَلِّمِ: السَّلامُ عليكُم، فهو إخبارٌ للمُسلَّمِ عليه بسَلامَتِه مِن غِيلةِ المُسلِمِ وغِشِّه ومَكرِه ومَكروهٍ يَنالُه مِنه، فيَرُدُّ الرَّادُّ عليه مِثلَ ذلك، أي: فعَل اللهُ ذلك بك وأحَلَّه عليك. والفَرقُ بينَ هذا الوجهِ وبينَ الوَجهِ الأوَّلِ: أنَّه في الأوَّلِ خَبَرٌ، وفي الثَّاني طَلبٌ.
ووجهٌ ثالثٌ: وهو أن يَكونَ المَعنى: اذكُرِ اللَّهَ الذي عافاك مِنَ المَكروهِ، وأمَّنَك مِنَ المَحذورِ، وسلَّمك مِمَّا تَخافُ، وعامَلَنا مِنَ السَّلامةِ والأمانِ بمِثلِ ما عامَلك به، فيَرُدُّ الرَّادُّ عليه مِثلَ ذلك، ويُستَحَبُّ له أن يَزيدَه، كما أنَّ مَن أهدى لك هَديَّةً يُستَحَبُّ لك أن تُكافِئَه بزيادةٍ عليها، ومَن دَعا لك يَنبَغي أن تَدعوَ له بأكثَرَ مِن ذلك.
ووجهٌ رابعٌ: وهو أن يَكونَ مَعنى سَلامِ المُسلِّمِ ورَدِّ الرَّادِّ بشارةً مِنَ اللهِ سُبحانَه، جَعَلها على ألسِنةِ المُسلِمينَ لبَعضِهم بَعضًا بالسَّلامةِ مِنَ الشَّرِّ، وحُصولِ الرَّحمةِ والبَرَكةِ، وهي دَوامُ ذلك وثَباتُه، وهذه البشارةُ أُعطَوها لدُخولِهم في دينِ الإسلامِ، فأعظَمُهم أجرًا أحسَنُهم تَحيَّةً، وأسبَقُهم في هذه البِشارةِ، كما في الحَديثِ: ((وخيرُهما الذي يَبدَأُ صاحِبَه بالسَّلامِ)) [201] أخرجه البخاري (6077)، ومسلم (2560) باختِلاف يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلم: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثَلاثِ ليالٍ، يَلتَقيانِ فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخيرُهما الذي يَبدَأُ بالسَّلامِ)). .
واشتَقَّ اللَّهُ سُبحانَه لأوليائِه مِن تَحيَّةِ بينِهمُ اسمًا مِن أسمائِه، واسمُ دينِه الإسلامُ الذي هو دينُ أنبيائِه ورُسُلِه ومَلائِكتِه؛ قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83] .
ووجهٌ خامِسٌ: وهو أنَّ كُلَّ أمَّةٍ مِنَ الأمَمِ لهم تَحيَّةُ بينِهم مِن أقوالٍ وأعمالٍ، كالسُّجودِ وتَقبيلِ الأيدي وضَربِ الجوكِ، وقَولِ بَعضِهم: أنعِمْ صَباحًا، وقَولِ بَعضِهم: عِشْ ألفَ عامٍ، ونَحوَ ذلك؛ فشَرع اللهُ تَبارَك وتعالى لأهلِ الإسلامِ "سَلامٌ عليكُم"، وكانت أحسَنَ مِن جَميعِ تَحيَّاتِ الأمَمِ بينَها؛ لتَضَمُّنِها السَّلامةَ التي لا حياةَ ولا فلاحَ إلَّا بها؛ فهي الأصلُ المُقَدَّمُ على كُلِّ شيءٍ.
وانتِفاعُ العَبدِ بحياتِه إنَّما يَحصُلُ بشيئَينِ: بسَلامَتِه مِنَ الشَّرِّ، وحُصولِ الخيرِ، والسَّلامةُ مِنَ الشَّرِّ مُقَدَّمةٌ على حُصولِ الخيرِ، وهي الأصلُ؛ فإنَّ الإنسانَ، بَل وكُلُّ حيَوانٍ، إنَّما يَهتَمُّ بسَلامَتِه أوَّلًا، وغَنيمَتِه ثانيًا، على أنَّ السَّلامةَ المُطلَقةَ تَتَضَمَّنُ حُصولَ الخيرِ؛ فإنَّه لو فاتَه حَصَل له الهلاكُ والعَطبُ أوِ النَّقصُ، ففواتُ الخيرِ يَمنَعُ حُصولَ السَّلامةِ المُطلَقةِ، فتَضَمَّنَتِ السَّلامةُ نَجاةَ العَبدِ مِنَ الشَّرِّ، وفوزَه بالخيرِ مَعَ اشتِقاقِها مِنِ اسمِ اللهِ.
والمَقصودُ أنَّ السَّلامَ اسمُه ووَصفُه وفِعلُه، والتَّلفُّظُ به ذِكرٌ له [202] عَن أبي الجُهَيمِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أقبَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن نَحوِ بئرِ جَمَلٍ، فلقيَه رَجُلٌ فسَلَّمَ عليه، فلم يَرُدَّ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أقبَل على الجِدارِ، فمَسَحَ بوَجهِه ويَديه، ثُمَّ رَدَّ عليه السَّلامَ)). أخرجه البخاري (337) واللفظ له، ومسلم (369). قال ابنُ الجَوزيِّ: (بِئرُ جَمَلٍ: اسمُ مَوضِعٍ. وكأنَّه كرِهَ أن يَرُدَّ عليه وهو غيرُ طاهرٍ؛ لأنَّ السَّلامَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تعالى). ((كشف المشكل)) (2/ 158). ، كما في السُّنَنِ أنَّ رَجُلًا سَلَّم على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يَرُدَّ عليه حتَّى تيَمَّمَ ورَدَّ عليه، وقال: ((إنِّي كرِهتُ أن أذكُرَ اللَّهَ إلَّا على طَهارةٍ)) [203] أخرجه أبو داود (17) واللفظ له، والنسائي (38)، وأحمد (19034) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ المُهاجِرِ بنِ قُنفُذٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أبي داوُد: عَنِ المُهاجِرِ بنِ قُنفُذٍ: ((أنَّه أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَبولُ، فسَلَّمَ عليه، فلم يَرُدَّ عليه حتَّى تَوضَّأ، ثُمَّ اعتَذَرَ إليه، فقال: إنِّي كرِهتُ أن أذكُرَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ إلَّا على طُهرٍ. أو قال: على طَهارةٍ)). صَحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (206)، وابن حبان في ((صحيحه)) (803)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (592)، والنووي في ((المجموع)) (3/105)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/205). .
فحَقيقٌ بتَحيَّةٍ هذا شَأنُها أن تُصانَ عن بَذلِها لغيرِ أهلِ الإسلامِ، وألَّا يُحيَّى بها أعداءُ القُدُّوسِ السَّلامِ؛ ولهذا كانت كُتُبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى مُلوكِ الكُفَّارِ: «سَلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهدى» [204] أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773) مِن حَديثِ أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ولم يَكتُبْ لكافِرٍ: "سَلامٌ عليكُم" أصلًا؛ فلهذا قال في أهلِ الكِتابِ: «ولا تَبدَؤوهم بالسَّلامِ») [205] ((أحكام أهل الذِّمَّةِ)) (1/ 413-421). [206] أخرجه مسلم (2167) عَن أبي هُرَيرةَ، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَبدَؤوا اليَهودَ ولا النَّصارى بالسَّلامِ)). .
فائدة في سِّرِّ نَصبِ سَلامِ ضيفِ إبراهيمَ من المَلائِكةِ، ورَفعِ سَلامِه
قال ابنُ القَيِّمِ في السِّرِّ في نَصبِ سَلامِ ضيفِ إبراهيمَ من المَلائِكةِ، ورَفعِ سَلامِه في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [هود: 69] ، وقَولِه عَزَّ وجَلَّ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [الذاريات: 24-25]: (قَد عَرَفتَ قَولَ النُّحاةِ فيه أنَّ سَلامَ المَلائِكةِ تَضمَّنُ جُملةً فِعليَّةً؛ لأنَّ نَصبَ السَّلامِ يَدُلُّ على: سَلَّمْنا عليك سَلامًا. وسَلامُ إبراهيمَ تَضمَّن جُملةً اسميَّةً؛ لأنَّ رَفعَه يَدُلُّ على أنَّ المَعنى: سَلامٌ عليكُم، والجُملةُ الاسميَّةُ تَدُلُّ على الثُّبوتِ والتَّقَرُّرِ، والفِعليَّةُ تَدُلُّ على الحُدوثِ والتَّجَدُّدِ؛ فكان سَلامُه عليهم أكمَلَ مِن سَلامِهم عليه، وكان له مِن مَقاماتِ الرَّدِّ ما يَليقُ بمَنصِبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مَقامُ الفَضلِ؛ إذ حيَّاهم بأحسَنَ مِن تَحيَّتِهم، هذا تَقريرُ ما قالوه.
وعِندي فيه جَوابٌ أحسَنُ مِن هذا، وهو: أنَّه لم يَقصِدْ حِكايةَ سَلامِ المَلائِكةِ فنَصَبَ قَولَه: سَلامًا انتِصابَ مَفعولِ القَولِ المُفرَدِ، كأنَّه قيل: قالوا قَولًا سَلامًا، وقالوا سَدادًا وصَوابًا، ونَحوَ ذلك؛ فإنَّ القَولَ إنَّما تُحكى به الجُمَلُ، وأمَّا المُفرَدُ فلا يَكونُ مَحكيًّا به، بَل مَنصوبٌ به انتِصابَ المَفعولِ به، ومِن هذا قَولُه تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] ، ليس المُرادُ أنَّهم قالوا هذا اللَّفظَ المُفرَدَ المَنصوبَ، وإنَّما مَعناه قالوا قَولًا سَلامًا، مِثلَ: سَدادًا وصَوابًا، وسُمِّيَ القَولُ سَلامًا؛ لأنَّه يُؤَدِّي مَعنى السَّلامِ ويَتَضَمَّنُه مِن رَفعِ الوَحشةِ وحُصولِ الاستِئناسِ.
وحَكى عن إبراهيمَ لفظَ سَلامِه، فأتى به على لفظِه مَرفوعًا بالابتِداءِ مَحكيًّا بالقَولِ، ولولا قَصدُ الحِكايةِ لقال: سَلامًا، بالنَّصبِ؛ لأنَّ ما بَعدَ القَولِ إذا كان مَرفوعًا فعلى الحِكايةِ ليس إلَّا؛ فحَصَل مِنَ الفرقِ بينَ الكلامينِ في حِكايةِ سَلامِ إبراهيمَ ورَفعِه، ونَصبِ ذلك؛ إشارةً إلى مَعنًى لطيفٍ جِدًّا، وهو أنَّ قَولَه: "سَلامٌ عليكُم" مِن دينِ الإسلامِ المُتَلقَّى عن إمامِ الحُنَفاءِ وأبي الأنبياءِ، وأنَّه مِن مِلَّةِ إبراهيمَ التي أمَرَ اللَّهُ باتِّباعِها، فحَكى لنا قَولَه؛ ليَحصُلَ الاقتِداءُ به والاتِّباعُ له، ولم يَحكِ قَولَ أضيافِه، وإنَّما أخبَرَ به على الجُملةِ دونَ التَّفصيلِ والكيفيَّةِ، واللهُ أعلَمُ؛ فزِنْ هذا الجَوابَ والذي قَبلَه بميزانٍ غيرِ جائِرٍ، يَظهَرْ لك أقواهما، وباللهِ التَّوفيقُ) [207] ((بدائع الفوائد)) (2/ 157، 158). ويُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (35/ 83، 92، 107). .
ما يَنبغي بعدَ السَّلامِ
قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: (قَولُه: "السَّلامُ عليكم"، يَقولُ: أنتَ مِنِّي سالمٌ، وأنا مِنك سالمٌ، ثُمَّ يَدعو له ويَقولُ: وعليكُمُ السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه؛ فلا يَنبَغي لهَذينِ إذا سَلَّمَ بَعضُهما على بَعضٍ أن يَذكُرَه مِن خَلفِه بما لا يَنبَغي له مِن غِيبةٍ أو غَيرِها) [208] ((حلية الأولياء)) لأبي نَعيم (7/ 282). .
الدَّاخِلُ إلى المَسجِدِ هَل يُقدِّمُ السَّلامَ على الحُضورِ أم تَحيَّةَ المَسجِدِ ؟
اختَلَف العُلَماءُ في ذلك؛ فمنهم مَن قال: الدَّاخِلُ إلى المَسجِدِ يَبتَدِئُ برَكعَتَينِ تَحيَّةَ المَسجِدِ، ثُمَّ يَجيءُ فيُسَلِّمُ على القَومِ [209] قال ابنُ القَيِّمِ: (مِن هَديِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الدَّاخِلَ إلى المسجدِ يبتدئُ بركعتينِ تحيَّةَ المسجدِ، ثمَّ يجيءُ فيُسَلِّمُ على القومِ، فتكونُ تحيَّةُ المسجِدِ قَبلَ تحيَّةِ أهلِه، فإنَّ تلك حَقُّ الله تعالى، والسَّلامُ على الخَلقِ هو حَقٌّ لهم، وحقُّ اللهِ في مِثلِ هذا أحَقُّ بالتقديمِ بخلافِ الحقوقِ الماليَّةِ، فإنَّ فيها نزاعًا معروفًا، والفَرقُ بينهما حاجةُ الآدميِّ وعَدَمُ اتِّساعِ الحقِّ الماليِّ لأداءِ الحقَّينِ، بخلافِ السَّلامِ. وكانت عادةُ القومِ معه هكذا، يدخُلُ أحدُهم المسجِدَ فيُصَلِّي ركعتينِ، ثمَّ يجيءُ فيُسَلِّمُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولهذا جاء في حديثِ رفاعةَ بنِ رافعٍ «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينما هو جالِسٌ في المسجِدِ يومًا -قال رفاعةُ: ونحن معه- إذ جاء رجُلٌ كالبَدَويِّ، فصلَّى، فأخَفَّ صلاتَه، ثمَّ انصرف فسَلَّم على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وعليك، فارجِعْ فصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصَلِّ»...، وذكر الحديث [أخرجه أبو داود (857)، والنسائي (1314) بنحوه، والترمذي (302) واللفظ له. صححه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/590)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (302)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (553)، وحسنه الترمذي وقال: وقد روي عن رفاعة من غير وجه]، فأنكَر عليه صلاتَه، ولم ينكِرْ عليه تأخيرَ السَّلامِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ما بعدَ الصَّلاةِ. وعلى هذا، فيُسَنُّ لداخِلِ المسجِدِ إذا كان فيه جماعةٌ ثلاثُ تحيَّاتٍ مترتَّبةٍ: أن يقولَ عندَ دخولِه: باسمِ اللهِ، والصَّلاةُ على رسولِ اللهِ، ثمَّ يُصَلِّي ركعتينِ تحيَّةَ المسجِدِ، ثمَّ يُسَلِّمُ على القَومِ). ((زاد المعاد)) (2/ 377، 378). .
واستدلوا على ذلك بحديث أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخل المَسجِدَ، فدَخل رَجُلٌ فصَلَّى، ثُمَّ جاءَ فسَلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليه السَّلامَ، فقال: ارجِعْ فصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصَلِّ، فصَلَّى، ثُمَّ جاءَ فسَلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ارجِعْ فصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصَلِّ، ثَلاثًا، فقال: والذي بَعَثَك بالحَقِّ فما أُحسِنُ غَيرَه، فعَلِّمْني...)) الحديثَ [210] أخرجه البخاري (793) واللفظ له، ومسلم (397) .
ومنهم من قال: يَبدَأُ بالسَّلامِ إذا لَقِيَ أحَدًا ثمَّ يُصَلِّي تحيَّةَ المسجِدِ [211] قال ابنُ رَجَبٍ: (استَدَلَّ بعضُهم بهذا الحديثِ [أي: حديثِ المُسيءِ صَلاتَه] على أنَّ مَن دَخَل المسجِدَ وفيه قومٌ جُلوسٌ، فإنَّه يبدأُ فيُصَلِّي تحيَّةَ المسجِدِ، ثمَّ يُسَلِّمُ على من فيه، فيبدأُ بتحيَّةِ المسجِدِ قَبلَ تحيَّةِ النَّاسِ، وفي هذا نَظَرٌ، وهذه واقعةُ عَينٍ، فيَحتَمِلُ أنَّه لمَّا دَخَل المسجِدَ صَلَّى في مؤخَّرِه قريبًا من البابِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صَدرِ المسجِدِ، فلم يكُنْ قد مَرَّ عليهم قَبلَ صلاتِه، أو أنَّه لمَّا دخل المسجِدَ مشى إلى قريبٍ من قِبلةِ المسجِدِ بالبُعدِ من الجالِسين في المسجِدِ، فصلَّى فيه، ثمَّ انصرف إلى النَّاسِ. يدُلُّ على ذلك: أنَّه رُوِيَ في هذا الحديثِ: أنَّ رجُلًا دخل المسجِدَ فصلَّى، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ناحيةِ المسجِدِ، فجاء فسَلَّم، وذكَرَ الحديثَ. خرَّجه ابنُ ماجَهْ. فأمَّا مَن دَخَل المسجِدَ فمَرَّ على قومٍ فيه، فإنَّه يُسَلِّمُ عليهم ثمَّ يُصَلِّي). ((فتح الباري)) (7/ 169، 170). وقال ابنُ بازٍ: (إذا دَخَل المسجدَ وأتى الصَّفَّ يقولُ: السَّلامُ عليكم، قبلَ أن يبدَأَ بالصَّلاةِ، السَّلامُ عليكم، على الحاضِرين). يُنظر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الإمام ابن باز. وقال الألبانيُّ: (لا بدَّ من التَّفصيلِ؛ لأنَّ المبدَأَ في السَّلامِ كما هو مذكورٌ في حديثِ: "للمُسلِمِ على المسلمِ خَمسٌ: إذا لَقِيتَه فسَلِّمْ عليه"، فإذا دَخَل الدَّاخِلُ المسجِدَ إمَّا أن نتصوَّرَ أنَّه تحقَّق اللِّقاءُ بَينَه وبَينَ أحدِ الجالِسين على الأقَلِّ، أو أن نتصوَّر أنَّه لم يلقَ أحدًا... ففي الصُّورةِ الأولى يُبادِرُه بالسَّلامِ تحقيقًا لمبدأِ الحقوقِ هذه: "للمُسلِمِ على المسلمِ خَمسٌ: إذا لَقِيتَه فسَلِّمْ عليه" بعدَ هذا نقولُ: دخل الدَّاخِلُ للمسجِدِ، وفي الزَّاويةِ -مثلًا- اليُمنى أو اليُسرى شخصٌ وهو بعيدٌ عنه، بحيثُ إنَّه لا يظهَرُ معنى أنَّه لَقِيَه، فهو يبدأُ بالصَّلاةِ، سواءٌ كان تحيَّةً أو كان فرضًا، فإذا ذهب إليه تحقَّق حينَ ذاك أنَّه لَقِيَه، فيُسَلِّمُ عليه، فحديثُ المسيءِ صلاتَه ليس فيه أنه لَقِيَ الرَّسولَ عليه السَّلامُ...،  بل على العكسِ من ذلك، في الحديثِ ما يُشعِرُ أنَّ اللِّقاءَ لم يتحقَّقْ؛ لأنَّ الحديثَ يقولُ: إنَّه بعدَ أن صلَّى أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَولُه: أتى النَّبيَّ كما لو قُلنا: لَقِيَ النَّبيَّ، فحينما لَقِيَه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بادَرَه بالسَّلامِ؛ فلذلك نستطيعُ أن نجمَعَ بينَ قاعدةِ: (إذا لَقِيتَه فسلِّمْ عليه)، وبَينَ حادثةِ المسيءِ صلاتَه بأن نفصِّلَ، فنقولَ: إن كان حينَ دَخَل المسجِدَ لَقِيَ أحدًا، لا بُدَّ أن يبادِرَه بالسَّلامِ، وإذا لم يلقَ لكن هناك بعيدًا عن مكانِ صلاتِه إنسانٌ، فذهب إليه فسَلَّم عليه، فيكونُ جَمَع بينَ الحديثَينِ تمامًا، أمَّا أن نقولَ: " للمُسلِمِ على المسلمِ خَمسٌ: إذا لَقِيتَه فسَلِّمْ عليه" إلَّا في المسجِدِ، تبدأُ بالتَّحيَّةِ ثمَّ سلِّم عليه، لا يَصلُحُ أبدًا حديثُ المسيءِ في تخصيصِ ذلك المبدأِ العامِّ لمِثلِ هذه الحادثةِ التي ليس فيها ذلك الوضوحُ الذي يصحُّ أن يُسلَّطَ على النَّصِّ العامِّ، فيُخَصِّصَه بما عدا هذه الصُّورةَ). يُنظر: بوابة تراث الإمام الألباني على الشبكة العنكبوتية. .
واستدلُّوا على ذلك بحديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((حَقُّ المُسلمِ على المُسلِمِ سِتٌّ. قيل: ما هنَّ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: إذا لَقِيتَه فسَلِّمْ عليه...)) الحديثَ [212] أخرجه مسلم (2162). .

انظر أيضا: