موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: الحِلمُ والصَّبرُ


يَنبَغي لمَن يَأمُرُ بالمَعروفِ ويَنهى عنِ المُنكَرِ أن يَكونَ ذا حِلمٍ وصَبرٍ [2148] قال ابنُ تَيميَّةَ: (يَنبَغي لمَن أمَرَ بالمَعروفِ ونَهى عنِ المُنكَرِ أن يَكونَ فقيهًا فيما يَأمُرُ به، فقيهًا فيما يَنهى عنه، رَفيقًا فيما يَأمُرُ به، رَفيقًا فيما يَنهى عنه، حَليمًا فيما يَأمُرُ به، حَليمًا فيما يَنهى عنه؛ فالفِقهُ قَبلَ الأمرِ ليَعرِفَ المَعروفَ ويُنكِرَ المُنكَرَ، والرِّفقُ عِندَ الأمرِ ليَسلُكَ أقرَبَ الطَّرقِ إلى تَحصيلِ المَقصودِ، والحِلمُ بَعدَ الأمرِ ليَصبرَ على أذى المَأمورِ المَنهيِّ؛ فإنَّه كَثيرًا ما يَحصُلُ له الأذى بذلك؛ ولهذا قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان: 17] ، وقد أُمِرَ نَبيُّنا بالصَّبرِ في مَواضِعَ كَثيرةٍ، كما قال تعالى في أوَّل المُدَّثِّرِ: قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 2 - 7] ، وقال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48]، وقال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام: 34] ، وقال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 48] .. وقد جَمَعَ سُبحانَه بَينَ التَّقوى والصَّبرِ في مِثلِ قَولِه: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] . والمُؤمِنونَ كانوا يَدعونَ إلى الإيمانِ باللهِ وما أَمَرَ به مِنَ المَعروفِ ويَنهَونَ عَمَّا نَهى اللَّهُ عنه مِنَ المُنكَرِ، فيُؤذيهمُ المُشرِكونَ وأهلُ الكِتابِ. وقد أخبَرَهم بذلك قَبلَ وُقوعِه وقال لهم: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] ، وقد قال يوسُفُ عليه السَّلامُ: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] . فالتَّقوى تَتَضَمَّنُ طاعةَ اللهِ، ومِنها الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ، والصَّبرُ يَتَناولُ الصَّبرَ على المَصائِبِ التي مِنها أذى المَأمورِ المَنهيِّ للآمِرِ النَّاهي). ((مجموع الفتاوى)) (15/ 167، 168). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] .
فالآمِرُ بالمعروفِ والنَّاهي عن المنكَرِ إذا أمَر ونهَى، فلا بُدَّ أن يُؤذَى في العادةِ وأنْ يُبتلَى؛ لذا أمَره بالصَّبرِ على ذلك [2149] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649). .
2- قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأشَجِّ أشَجِّ عَبدِ القَيسِ: ((إنَّ فيك خَصلتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ، والأناةُ)) [2150] أخرجه مسلم (17). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قَسَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسمًا، فقال رَجُلٌ: إنَّها لقِسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ اللهِ! قال: فأتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسارَرتُه، فغَضِبَ مِن ذلك غَضَبًا شَديدًا، واحمَرَّ وجهُه حتَّى تَمَنَّيتُ أنِّي لم أذكُرْه له. قال: ثُمَّ قال: قد أوذِيَ موسى بأكثَرَ مِن هذا فصَبَر!)) [2151] أخرجه البخاري (3405) واللَّفظُ له، ومسلم (1062). .
فائدةٌ فيما يُهوِّنُ على المسلمِ تحمُّلَ الأذَى
1- عن أبي جَعفَرٍ الخَطْميِّ، أنَّ جَدَّه عُمَيرَ بنَ حَبيبٍ -وكانت له صُحبةٌ- أوصى بَنيه، فقال: (يا بَنيَّ ... إذا أرادَ أحَدُكُم أن يَأمُرَ بالمَعروفِ ويَنهى عنِ المُنكَرِ فليُوطِّنْ نَفسَه على الصَّبرِ على الأذى، ويَثِقْ بالثَّوابِ مِنَ اللهِ؛ فإنَّ مَن وثِقَ بالثَّوابِ لم يَجِدْ مَسَّ الأذى) [2152] رواه أحمد في ((الزهد)) (1031)، وابن أبي الدنيا في ((الحلم)) (17). .
2- قال ابنُ رَجَبٍ: (اعلَمْ أنَّ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ تارةً يَحمِلُ عليه رَجاءُ ثَوابِه، وتارةً خَوفُ العِقابِ في تَركِه، وتارةً الغَضَبُ للهِ على انتِهاكِ مَحارِمِه، وتارةً النَّصيحةُ للمُؤمِنينَ، والرَّحمةُ لهم ورَجاءُ إنقاذِهم مِمَّا أوقَعوا أنفُسَهم فيه مِنَ التَّعَرُّضِ لغَضَبِ اللهِ وعُقوبَتِه في الدُّنيا والآخِرةِ، وتارةً يَحمِلُ عليه إجلالُ اللهِ وإعظامُه ومَحَبَّتُه، وأنَّه أهلٌ أن يُطاعَ فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَرَ فلا يُكفَرَ، وأنَّه يُفتَدى مِنِ انتِهاكِ مَحارِمِه بالنُّفوسِ والأموالِ، كما قال بَعضُ السَّلَفِ: ودِدتُ أنَّ الخَلقَ كُلَّهم أطاعوا اللَّهَ، وأنَّ لحمي قُرِض بالمَقاريضِ.
وكان عَبدُ المَلِكِ بنُ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ رَحِمَهما اللهُ يَقولُ لأبيه: ودِدتُ أنِّي غَلَت بي وبك القُدورُ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
ومَن لحَظَ هذا المَقامَ والذي قَبلَه هانَ عليه كُلُّ ما يَلقى مِنَ الأذى في اللهِ تعالى، ورُبَّما دَعا لمَن آذاه كَما قال ذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا ضَرَبَه قَومُه، فجَعَل يَمسَحُ الدَّمَ عن وَجهِه ويَقولُ: «رَبِّ اغفِرْ لقَومي؛ فإنَّهم لا يَعلَمونَ» [2153] لفظُه: قال عبدُ اللهِ: ((كَأنِّي أنظُرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَحكي نَبيًّا مِنَ الأنبياءِ، ضَرَبَه قَومُه فأدْمَوه، فهو يَمسَحُ الدَّمَ عن وَجهِه، ويَقولُ: رَبِّ اغفِرْ لقَومي؛ فإنَّهم لا يَعلمونَ)) أخرجه البخاري (6929) واللَّفظُ له، ومسلم (1792). [2154] ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 255، 256). .

انظر أيضا: