فَوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ
هديُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الطَّعامِ1- قال ابنُ القَيِّمِ: (كان هَديُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسِيرتُه في الطَّعامِ: لا يَرُدُّ مَوجودًا ولا يَتَكَلَّفُ مَفقودًا، فما قُرِّبَ إليه شَيءٌ مِنَ الطَّيِّباتِ إلَّا أكَله، إلَّا أن تَعافَه نَفسُه فيَترُكَه مِن غَيرِ تَحريمٍ، وما عابَ طَعامًا قَطُّ، إنِ اشتَهاه أكَله وإلَّا تَرَكَه
[1549] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ما عابَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا قَطُّ؛ إنِ اشتَهاه أكَله، وإلَّا تَرَكَه)). أخرجه البخاري (3563) واللَّفظُ له، ومسلم (2064). ، كَما تَرَكَ أكلَ الضَّبِّ لمَّا لم يَعتَدْه، ولم يُحَرِّمْه على الأُمَّةِ، بَل أُكِل على مائِدَتِه وهو يَنظُرُ
[1550] لفظُه: عن أبي أُمامةَ بنِ سَهلِ بنِ حُنَيفٍ الأنصاريِّ، أنَّ ابنَ عبَّاسٍ أخبَرَه ((أنَّ خالدَ بنَ الوليدِ -الذي يُقالُ له: سَيفُ اللهِ- أخبَرَه أنَّه دَخَل مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَيمونةَ -وهيَ خالتُه وخالةُ ابنِ عبَّاسٍ- فوجَدَ عِندَها ضَبًّا مَحنوذًا، قد قدِمَت به أُختُها حُفيدةُ بنتُ الحارِثِ مِن نَجدٍ، فقدَّمَتِ الضَّبَّ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان قَلَّما يُقدِّمُ يَدَه لطَعامٍ حتَّى يُحَدَّثَ به ويُسَمَّى له، فأهوى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه إلى الضَّبِّ، فقالتِ امرَأةٌ مِنَ النِّسوةِ الحُضورِ: أخبِرْنَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قدَّمتُنَّ له، هو الضَّبُّ يا رَسولَ اللهِ، فرَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه عنِ الضَّبِّ، فقال خالدُ بنُ الوليدِ: أحَرامٌ الضَّبُّ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: لا، ولكِن لم يَكُنْ بأرضِ قَومي، فأجِدُني أعافُه، قال خالدٌ: فاجتَرَرتُه فأكَلتُه ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنظُرُ إليَّ)). أخرجه البخاري (5391) واللَّفظُ له، ومسلم (1946). .
وأكَل الحَلوى والعَسَلَ وكان يُحِبُّهما
[1551] لفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّ الحَلواءَ والعَسَلَ)). أخرجه البخاري (5431)، ومسلم (1474). ، وأكَل لحمَ الجَزورِ والضَّأنِ
[1552] لفظُه: عن أنَسِ بنِ مالِكٍ، أنَّه قال: ((صَلَّى لنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَصرَ، فلمَّا انصَرَف أتاه رَجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا نُريدُ أن نَنحَرَ جَزورًا لنا، ونَحنُ نُحِبُّ أن تَحضُرَها، قال: نَعَم، فانطَلقَ وانطَلَقنا مَعَه، فوجَدنا الجَزورَ لم تُنحَرْ، فنُحِرَت، ثُمَّ قُطِّعَت، ثُمَّ طُبخَ مِنها، ثُمَّ أكَلنا قَبلَ أن تَغيبَ الشَّمسُ)). أخرجه مسلم (624). وعن رافِعِ بنِ خَديجٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَصرَ، فنَنحَرُ جَزورًا، فتُقسَمُ عَشرَ قِسَمٍ، فنَأكُلُ لحمًا نَضيجًا قَبل أن تَغرُبَ الشَّمسُ)). أخرجه البخاري (2485) واللَّفظُ له، ومسلم (625). وعن عَبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أُهدِيَت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاةٌ، فجَثا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على رُكْبتَيه يَأكُلُ...)). أخرجه أبو داود (3773)، وابن ماجه (3263) واللفظ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3263)، وصحَّح إسنادَه البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/8)، وجوَّده النووي في ((رياض الصالحين)) (301)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (9/452)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/43). والدَّجاجِ
[1553] لفظهُ: عن أبي موسي الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأكُلُ دَجاجًا)). أخرجه البخاري (5517). ، ولحمَ الحُبارى
[1554] لفظُه: عن سَفينةَ مَولى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((أكَلتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحمَ حُبارى)). أخرجه أبو داود (3797)، والترمذي (1828) واللَّفظُ له. ضَعَّفه الألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)) (3797)، وضعف إسناده النووي في ((المجموع)) (9/18)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3797)، وقال البخاري كما في ((تهذيب الكمال)) للمِزي (14/81): إسنادُه مَجهولٌ، وقال الترمذيُّ: غَريبٌ لا نَعرِفُه إلَّا مِن هذا الوَجهِ. ، ولحمَ حِمارِ الوَحشِ
[1555] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قتادةَ السُّلَميِّ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ يَومًا جالسًا مَعَ رِجالٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَنزِلٍ في طَريقِ مَكَّةَ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نازِلٌ أمامَنا، والقَومُ مُحرِمونَ وأنا غَيرُ مُحرِمٍ، فأبصَروا حِمارًا وحشيًّا وأنا مَشغولٌ أخصِفُ نَعلي، فلم يُؤذِنوني له، وأحَبُّوا لو أنِّي أبصَرتُه، فالتَفتُّ فأبصَرتُه، فقُمتُ إلى الفرَسِ فأسرَجتُه، ثُمَّ رَكِبتُ ونَسيتُ السَّوطَ والرُّمحَ، فقُلتُ لهم: ناوِلوني السَّوطَ والرُّمحَ، فقالوا: لا واللهِ لا نُعينُكَ عليه بشَيءٍ، فغَضِبتُ فنَزَلتُ فأخَذتُهما ثُمَّ رَكِبتُ، فشَدَدتُ على الحِمارِ فعَقَرتُه، ثُمَّ جِئتُ به وقد ماتَ، فوقَعوا فيه يَأكُلونَه، ثُمَّ إنَّهم شَكُّوا في أكلِهم إيَّاه وهم حُرُمٌ، فرُحْنا، وخَبَّأتُ العَضُدَ مَعي، فأدرَكنا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَألناه عن ذلك، فقال: مَعَكُم مِنه شَيءٌ؟ فناولتُه العَضُدَ فأكَلها حتَّى تَعَرَّقَها وهو مُحرِمٌ)). أخرجه البخاري (2570) واللَّفظُ له، ومسلم (1196). والأرنَبِ
[1556] لفظُه: عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أنفَجْنا أرنَبًا بمَرِّ الظَّهرانِ، فسَعى القَومُ، فلَغَبوا، فأدرَكتُها فأخَذتُها، فأتَيتُ بها أبا طَلحةَ، فذَبَحَها وبَعَثَ بها إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بوَرِكِها أو فَخِذَيها -قال: فَخِذَيها، لا شَكَّ فيه- فقَبِلَه، قُلتُ: وأكَل مِنه؟ قال: وأكَل مِنه، ثُمَّ قال بَعدُ: قَبِلَه)). أخرجه البخاري (2572) واللَّفظُ له، ومسلم (1953). ، وطَعامَ البَحرِ
[1557] كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((بَعَثَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِن تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، قالَ: فَقُلتُ: كيفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بهَا؟ قالَ: نَمَصُّهَا كما يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ المَاءِ، فَتَكْفِينَا يَومَنَا إلى اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بعِصِيِّنَا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بالمَاءِ فَنَأْكُلُهُ، قالَ: وَانْطَلَقْنَا علَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا علَى سَاحِلِ البَحْرِ كَهَيْئَةِ الكَثِيبِ الضَّخْمِ، فأتَيْنَاهُ فَإِذَا هي دَابَّةٌ تُدْعَى العَنْبَرَ، قالَ: قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وفي سَبيلِ اللهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا، قالَ: فأقَمْنَا عليه شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُ مِائَةٍ حتَّى سَمِنَّا، قالَ: وَلقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِن وَقْبِ عَيْنِهِ بالقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ منه الفِدَرَ كَالثَّوْرِ -أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ- فَلقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فأقْعَدَهُمْ في وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا مِن أَضْلَاعِهِ فأقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ معنَا، فَمَرَّ مِن تَحْتِهَا، وَتَزَوَّدْنَا مِن لَحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَذَكَرْنَا ذلكَ له، فَقالَ: هو رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهلْ معكُمْ مِن لَحْمِهِ شَيءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ قالَ: فأرْسَلْنَا إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ منه فأكَلَهُ)). أخرجه مسلم (1935). ، وأكلَ الشِّواءَ
[1558] لفظُه: عن أُمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّها قَرَّبَت إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَنبًا مَشويًّا فأكَل مِنه، ثُمَّ قامَ إلى الصَّلاةِ وما تَوضَّأ)). أخرجه الترمذي (1829) واللَّفظُ له، والنسائي (183)، وأحمد (26622). صحَّحه ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (3/329)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (26/120)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1829)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوَجهِ. ، وأكَل الرُّطَبَ والتَّمرَ
[1559] لفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((ما أكَل آلُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكلتَينِ في يَومٍ إلَّا إحداهما تَمرٌ)). أخرجه البخاري (6455). وفي لفظٍ: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((ما شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَينِ مِن خُبزِ بُرٍّ إلَّا وأحَدُهما تَمرٌ)). أخرجه مسلم (2971). وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقعيًا يَأكُلُ تَمرًا)). أخرجه مسلم (2044). ، وشَرِبَ اللَّبَنَ خالصًا
[1560] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرِبَ لبَنًا فمَضمَضَ، وقال: إنَّ له دَسَمًا)). أخرجه البخاري (211) واللَّفظُ له، ومسلم (358). ومَشوبًا
[1561] لفظُه: عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُتيَ بلبَنٍ قد شيبَ بماءٍ، وعن يَمينِه أعرابيٌّ، وعن شِماله أبو بَكرٍ، فشَرِبَ ثُمَّ أعطى الأعرابيَّ، وقال: الأيمَنَ فالأيمَنَ)). أخرجه البخاري (5619) واللَّفظُ له، ومسلم (2029). ، والسَّويقَ
[1562] لفظُه: عن سُوَيدِ بنِ النُّعمانِ، قال: عن بَشيرِ بنِ يَسارٍ مَولى بَني حارِثةَ، أنَّ سُوَيدَ بنَ النُّعمانِ أخبَرَه: ((أنَّه خَرَجَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ خَيبَرَ، حتَّى إذا كانوا بالصَّهباءِ -وهيَ أدنى خَيبَرَ- فصَلَّى العَصرَ، ثُمَّ دَعا بالأزوادِ، فلم يُؤتَ إلَّا بالسَّويقِ، فأمَرَ به فثُرِّيَ، فأكَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأكَلنا، ثُمَّ قامَ إلى المَغرِب، فمَضمَضَ ومَضمَضنا، ثُمَّ صَلَّى ولم يَتَوضَّأْ)). أخرجه البخاري (209). ، والعَسَلَ بالماءِ
[1563] لم نَقِفْ على أنَّ شُربَ العَسَلِ بالماءِ كان مِن هَديِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما لدَينا مِن كُتُبٍ مُسنَدةٍ. ، وشَرِبَ نَقيعَ التَّمرِ
[1564] لفظُه: عن سَهلِ بنِ سَعدٍ، قال: ((دَعا أبو أُسَيدٍ السَّاعِديُّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عُرسِه، وكانتِ امرَأتُه يَومَئِذٍ خادِمَهم، وهيَ العَروسُ، قال سَهلٌ: تَدرونَ ما سَقَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ أنقَعَت له تَمَراتٍ مِنَ اللَّيلِ، فلمَّا أكَل سَقَته إيَّاه)). أخرجه البخاري (5176) واللَّفظُ له، ومسلم (2006). ، وأكَل الخَزيرةَ، وهيَ حَساءٌ يُتَّخَذُ مِنَ اللَّبَنِ والدَّقيقِ
[1565] لفظُه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في بَيتِها، فأتَته فاطِمةُ ببُرمةٍ فيها خَزيرةٌ، فدَخَلت بها عليه، فقال لها: ادعي زَوجَكِ وابنَيكِ. قالت: فجاءَ عليٌّ والحُسَينُ والحَسَنُ، فدَخَلوا عليه فجَلسوا يَأكُلونَ مِن تلك الخَزيرةِ، وهو على مَنامةٍ له على دُكَّانٍ تَحتَه كِساءٌ خَيبريٌّ. قالت: وأنا أُصَلِّي في الحُجرةِ، فأنزَل اللهُ عَزَّ وجَلَّ هذه الآيةَ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] قالت: فأخَذَ فَضلَ الكِساءِ فغَشَّاهم به، ثُمَّ أخرج يَدَه فألوى بها إلى السَّماءِ، ثُمَّ قال: اللهُمَّ هؤلاء أهلُ بَيتي وخاصَّتي، فأذهِبْ عنهمُ الرِّجسَ وطَهِّرْهم تَطهيرًا، اللهُمَّ هؤلاء أهلُ بَيتي وخاصَّتي، فأذهِبْ عنهمُ الرِّجسَ وطَهِّرْهم تَطهيرًا. قالت: فأدخَلتُ رَأسي البَيتَ، فقُلتُ: وأنا مَعَكُم يا رَسولَ اللهِ، قال: إنَّكِ إلى خَيرٍ، إنَّكِ إلى خَيرٍ. أخرجه أحمد (26508) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (766)، والطبراني (3/55) (2668) مختصرًا. صحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (26508)، وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (4/392): يصلح للتمسك به. ، وأكَل القِثَّاءَ بالرُّطَبِ
[1566] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ، قال: ((رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأكُلُ القِثَّاءَ بالرُّطَبِ)). أخرجه البخاري (5440)، ومسلم (2043) واللَّفظُ له. ، وأكَل الأقِطَ
[1567] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أهدَت أُمُّ حُفَيدٍ خالةُ ابنِ عبَّاسٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقِطًا وسَمنًا وأضُبًّا، فأكَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الأقِطِ والسَّمنِ، وتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا، قال ابنُ عبَّاسٍ: فأُكِل على مائِدةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو كان حَرامًا ما أُكِل على مائِدةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)). أخرجه البخاري (2575) واللَّفظُ له، ومسلم (1947). ، وأكَل التَّمرَ بالخُبزِ
[1568] لفظُه: عن عبدِ الحَميدِ بنِ صَيفيٍّ -مِن وَلَدِ صُهَيبٍ- عن أبيه عن جَدِّه صُهَيبٍ، قال: ((قدِمتُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَينَ يَدَيه خُبزٌ وتَمرٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ادنُ فكُلْ، فأخَذتُ آكُلُ مِنَ التَّمرِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَأكُلُ تَمرًا وبك رَمَدٌ؟! قال: فقُلتُ: إنِّي أمضُغُ مِن ناحيةٍ أُخرى! فتَبَسَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)). أخرجه ابن ماجه (3443) واللَّفظُ له، والحاكِمُ (5819). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3443)، وصحَّح إسناده الحاكم، والبوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/51)، وجَوَّده الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/14)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/26). وعن أنَسِ بنِ مالكٍ، قال: ((جِئتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا فوجَدتُه جالسًا مَعَ أصحابِه يُحَدِّثُهم، وقد عَصَّبَ بَطنَه بعِصابةٍ -قال أُسامةُ: وأنا أشُكُّ- على حَجَرٍ، فقُلتُ لبَعضِ أصحابِه: لمَ عَصَّبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَطنَه؟ فقالوا: مِنَ الجوعِ، فذَهَبتُ إلى أبي طَلحةَ -وهو زَوجُ أُمِّ سُليمٍ بنتِ مِلحانَ- فقُلتُ: يا أبَتاه، قد رَأيتُ رَسولَ اللهِ عَصَّبَ بَطنَه بعِصابةٍ، فسَألتُ بَعضَ أصحابِه، فقالوا: مِنَ الجوعِ، فدَخَل أبو طَلحةَ على أُمِّي، فقال: هل مِن شَيءٍ؟ فقالت: نَعَم، عِندي كِسَرٌ مِن خُبزٍ وتَمَراتٌ، فإن جاءَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحدَه أشبَعناه، وإن جاءَ آخَرُ مَعَه قَلَّ عنهم)). أخرجه مسلم (2040). ، وأكَل الخُبزَ بالخَلِّ
[1569] لفظُه: عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، يَقولُ: ((أخَذَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدي ذاتَ يَومٍ إلى مَنزِله، فأخرج إليه فِلَقًا مِن خُبزٍ، فقال: ما مِن أُدُمٍ؟ فقالوا: لا إلَّا شَيءٌ مِن خَلٍّ، قال: فإنَّ الخَلَّ نِعمَ الأُدُمُ!)). أخرجه مسلم (2052). ، وأكَل الثَّريدَ، وهو الخُبزُ باللَّحمِ
[1570] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ سَرجِسَ، قال: ((رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأكَلتُ مَعَه خُبزًا ولحمًا -أو قال: ثَريدًا-، قال: فقُلتُ له: أستَغفَرَ لكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: نَعَم، ولكَ، ثُمَّ تَلا هذه الآيةَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] ، قال: ثُمَّ دُرتُ خَلفَه، فنَظَرتُ إلى خاتَمِ النُّبوَّةِ بَينَ كَتِفيه، عِندَ ناغِضِ كَتِفِه اليُسرى، جُمعًا عليه خِيلانٌ كأمثالِ الثَّآليلِ)). أخرجه مسلم (2346). ، وأكَل الخُبزَ بالإهالةِ
[1571] لفظُه: عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّه مَشى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخُبزِ شَعيرٍ، وإهالةٍ سَنِخةٍ)). أخرجه البخاري (2069). وهيَ الوَدَكُ، وهو الشَّحمُ المُذابُ، وأكَل مِنَ الكَبدِ المَشويَّةِ
[1572] لفظُه: عن أبي رافِعٍ، قال: ((أشهَدُ لكُنتُ أشوي لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَطنَ الشَّاةِ، ثُمَّ صَلَّى ولم يَتَوضَّأْ)). أخرجه مسلم (357). والمرادُ ببَطنِ الشَّاةِ، الكَبِدُ والطِّحالُ وما مَعَهما مِنَ القَلبِ وغَيرِهما مِن حَشوِ البَطنِ، فكان يَأكُلُ مِنها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (2/ 204). ، وأكَل القَديدَ، وأكَل الدُّبَّاءَ المَطبوخةَ وكان يُحِبُّها، وأكَل المَسلوقةَ
[1573] عن أنَسِ بنِ مالكٍ قال: ((إنَّ خَيَّاطًا دَعا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لطَعامٍ صَنَعَه، قال أنَسٌ: فذَهَبتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ذلك الطَّعامِ، فقَرَّبَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُبزًا مِن شَعيرٍ، ومَرَقًا فيه دُبَّاءٌ وقَديدٌ، قال أنَسٌ: فرَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِن حَولِ الصَّحفةِ، فلم أزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِن يَومِئِذٍ. وقال ثُمامةُ، عن أنَسٍ: فجَعَلتُ أجمَعُ الدُّبَّاءَ بَينَ يَدَيه)). أخرجه البخاري (5439) واللَّفظُ له، ومسلم (2041). وفي لفظٍ: قال: ((كُنتُ غُلامًا أمشي مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَخَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على غُلامٍ له خَيَّاطٍ، فأتاه بقَصعةٍ فيها طَعامٌ وعليه دُبَّاءٌ، فجَعَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ، قال: فلمَّا رَأيتُ ذلك جَعَلتُ أجمَعُه بَينَ يَدَيه، قال: فأقبَل الغُلامُ على عَمَلِه، قال أنَسٌ: لا أزالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعدَ ما رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَنَعَ ما صَنَعَ)). أخرجه البخاري (5435). ، وأكَل الثَّريدَ بالسَّمنِ
[1574] لفظُه: عن أنَسِ بنِ مالكٍ يَقولُ: قال أبو طَلحةَ لأُمِّ سُلَيمٍ: ((لقد سَمِعتُ صَوتَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضعيفًا أعرِفُ فيه الجوعَ، فهل عندكِ مِن شيءٍ؟ قالت: نَعَم، فأخرَجَتْ أقراصًا من شعيرٍ، ثُمَّ أخرَجَتْ خِمارًا لها، فلفَّت الخُبزَ ببَعْضِه، ثُمَّ دسَّته تحت يَدي ولاثَتْني ببَعْضِه، ثُمَّ أرسلَتْني إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فذهبتُ به فوجدتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجِدِ ومعه النَّاسُ، فقمتُ عليهم، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرسلَك أبو طلحةَ؟ فقلتُ: نعم. قال: بطعامٍ؟ قلتُ: نعم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمن معه: قوموا، فانطلَقَ وانطلقتُ بَينَ أيديهم حتى جئتُ أبا طلحةَ فأخبَرْتُه. فقال أبو طلحةَ: يا أُمَّ سُليمٍ، قد جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ وليس عندنا ما نُطعِمُهم! فقالت: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، فانطَلَق أبو طلحةَ حتى لَقِيَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقبل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو طلحةَ معه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هلمَّ يا أُمَّ سُلَيمٍ ما عندكِ، فأتت بذلك الخُبزِ، فأمَر به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ففُتَّ، وعَصَرَت أمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً فأدَمَتْه، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه ما شاءَ اللهُ أن يقولَ، ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَذِنَ لهم فأكلوا حتى شَبِعوا، ثُمَّ خرجوا، ثُمَّ قال: ائذَنْ لعَشَرةٍ، فأَكل القَومُ كُلُّهم حتى شَبِعوا، والقومُ سبعون أو ثمانون رَجُلًا)). أخرجه البخاري (5381) واللَّفظُ له، ومسلم (2040). ، وأكَل الجُبنَ
[1575] لفظُه: عن ابنِ عُمَرَ، قال: ((أُتِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجُبنةٍ في تَبوكَ، فدَعا بسِكِّينٍ، فسَمَّى وقَطَعَ)). أخرجه أبو داود (3819) واللَّفظُ له، وابن حبان (5241)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (7084). ضعَّف إسنادَه النووي في ((المَجموع)) (9/69)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3819). وقد أنكره أبو حاتم الرازي كما في ((العلل)) لابن أبي حاتم (1488). ، وأكَل الخُبزَ بالزَّيتِ
[1576] لفظُه: عن عائِشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت: ((لقد ماتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما شَبعَ مِن خُبزٍ وزَيتٍ في يَومٍ واحِدٍ مَرَّتَينِ)). أخرجه مسلم (2974). وعن أنَسٍ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ إلى سَعدِ بنِ عُبادةَ، فجاءَ بخُبزٍ وزَيتٍ فأكَل)). أخرجه أبو داود (3854) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5648). صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3854)، وصحَّح إسناده النووي في ((الأذكار)) (247)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/29)، والشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (245). ، وأكَل البِطِّيخَ بالرُّطَبِ
[1577] لفظُه: عن عائِشةَ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَأكُلُ البِطِّيخَ بالرُّطَبِ)). أخرجه أبو داود (3836)، والترمذي (1843) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (5247)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1843)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1576)، وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/443). ، وأكَل التَّمرَ بالزُّبدِ وكان يُحِبُّه
[1578] لفظه: عنِ ابنَي بُسرٍ السُّلَميَّينِ، قالا: دَخَل علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقدَّمنا زُبدًا وتَمرًا، وكان يُحِبُّ الزُّبدَ والتَّمرَ. أخرجه أبو داود (3837) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3334). صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3837)، والوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1455)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3837). ، ولم يَكُنْ يَرُدُّ طَيِّبًا
[1579] عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ما عابَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا قَطُّ؛ إنِ اشتَهاه أكَله، وإلَّا تَرَكَه)). أخرجه البخاري (3563) واللَّفظُ له، ومسلم (2064). ولا يَتَكَلَّفُه
[1580] عن أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((ما عَلِمتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكَل على سُكرُجةٍ قَطُّ، ولا خُبِزَ له مُرَقَّقٌ قَطُّ، ولا أكَل على خِوانٍ قَطُّ)). قيل لقَتادةَ: فعَلامَ كانوا يَأكُلونَ؟ قال: على السُّفَرِ. أخرجه البخاري (5386). ، بَل كان هَديُه أكْلَ ما تَيَسَّرَ، فإن أعوَزَه صَبَر
[1581] عن عائِشةَ أُمِّ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ: يا عائِشةُ، هَل عِندَكُم شَيءٌ؟ قالت: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما عِندَنا شَيءٌ، قال: فإنِّي صائِمٌ)). أخرجه مسلم (1154). حتَّى إنَّه ليَربِطُ على بَطنِه الحَجَرَ مِنَ الجوعِ
[1582] عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه ، قال: ((جِئتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا فوجَدتُه جالسًا مَعَ أصحابِه يُحَدِّثُهم، وقد عَصَّبَ بَطنَه بعِصابةٍ -قال أُسامةُ: وأنا أشُكُّ- على حَجَرٍ، فقُلتُ لبَعضِ أصحابِه: لمَ عَصَّبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَطنَه؟ فقالوا: مِنَ الجوعِ، فذَهَبتُ إلى أبي طَلحةَ -وهو زَوجُ أُمِّ سُليمٍ بنتِ مِلحانَ- فقُلتُ: يا أبَتاه، قد رَأيتُ رَسولَ اللهِ عَصَّبَ بَطنَه بعِصابةٍ، فسَألتُ بَعضَ أصحابِه، فقالوا: مِنَ الجوعِ، فدَخَل أبو طَلحةَ على أُمِّي، فقال: هل مِن شَيءٍ؟ فقالت: نَعَم، عِندي كِسَرٌ مِن خُبزٍ وتَمَراتٌ، فإن جاءَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحدَه أشبَعناه، وإن جاءَ آخَرُ مَعَه قَلَّ عنهم)). أخرجه مسلم (2040). ، ويَرى الهِلالَ والهِلالَ والهِلالَ ولا يوقَدُ في بَيتِه نارٌ
[1583] لفظُه: عن عائِشةَ؛ ((أنَّها كانت تَقولُ: واللهِ يا ابنَ أُختي إن كُنَّا لنَنظُرُ إلى الهلالِ، ثُمَّ الهلالِ، ثُمَّ الهلالِ، ثَلاثةَ أهلَّةٍ في شَهرَينِ، وما أوقِدَ في أبياتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نارٌ!)). أخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972) واللَّفظُ له. .
وكان مُعظَمُ مَطعَمِه يُوضَعُ على الأرضِ في السُّفرةِ، وهيَ كانت مائِدَتَه
[1584] عن أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((ما عَلِمتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكَل على سُكرُجةٍ قَطُّ، ولا خُبِزَ له مُرَقَّقٌ قَطُّ، ولا أكَل على خِوانٍ قَطُّ)). قيل لقَتادةَ: فعَلامَ كانوا يَأكُلونَ؟ قال: على السُّفَرِ. أخرجه البخاري (5386). ، وكان يَأكُلُ بأصابِعِه الثَّلاثِ ويَلعَقُها إذا فَرَغَ
[1585] لفظُه: عن كَعبِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأكُلُ بثَلاثِ أصابعَ، ويَلعَقُ يَدَه قَبل أن يَمسَحَها)). أخرجه مسلم (2032). ، وهو أشرَفُ ما يَكونُ مِنَ الأكلةِ؛ فإنَّ المُتَكَبِّرَ يَأكُلُ بإصبَعٍ واحِدةٍ، والجَشِعَ الحَريصَ يَأكُلُ بالخَمسِ ويَدفعُ بالرَّاحةِ)
[1586] ((زاد المعاد)) (1/ 142). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ: (كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دَخَل على أهلِه رُبَّما يَسألُهم هَل عِندَكُم طَعام
[1587] عن عائِشةَ أُمِّ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ: يا عائِشةُ، هَل عِندَكُم شَيءٌ؟ قالت: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما عِندَنا شَيءٌ، قال: فإنِّي صائِمٌ)). أخرجه مسلم (1154). ؟ وما عابَ طَعامًا قَطُّ، بَل كان إذا اشتَهاه أكَله، وإن كَرِهَه تَرَكَه وسَكَتَ
[1588] عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ما عابَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا قَطُّ؛ إنِ اشتَهاه أكَله، وإلَّا تَرَكَه)). أخرجه البخاري (3563) واللَّفظُ له، ومسلم (2064). ، ورُبَّما قال: «أجِدُني أعافُه، إنِّي لا أشتَهيه»
[1589] أخرجه البخاري (5391)، ومسلم (1946) دونَ قَولِه: "إنِّي لا أشتَهيه"، ولفظُ البخاريِّ: عن أبي أُمامةَ بنِ سَهلِ بنِ حُنَيفٍ الأنصاريِّ، أنَّ ابنَ عبَّاسٍ أخبَرَه ((أنَّ خالدَ بنَ الوليدِ -الذي يُقالُ له: سَيفُ اللهِ- أخبَرَه أنَّه دَخَل مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَيمونةَ -وهيَ خالتُه وخالةُ ابنِ عبَّاسٍ- فوجَدَ عِندَها ضَبًّا مَحنوذًا، قد قدِمَت به أُختُها حُفيدةُ بنتُ الحارِثِ مِن نَجدٍ، فقدَّمَتِ الضَّبَّ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان قَلَّما يُقدِّمُ يَدَه لطَعامٍ حتَّى يُحَدَّثَ به ويُسَمَّى له، فأهوى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه إلى الضَّبِّ، فقالتِ امرَأةٌ مِنَ النِّسوةِ الحُضورِ: أخبِرْنَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قدَّمتُنَّ له، هو الضَّبُّ يا رَسولَ اللهِ، فرَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه عنِ الضَّبِّ، فقال خالدُ بنُ الوليدِ: أحَرامٌ الضَّبُّ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: لا، ولكِن لم يَكُنْ بأرضِ قَومي، فأجِدُني أعافُه، قال خالدٌ: فاجتَرَرتُه فأكَلتُه ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنظُرُ إليَّ)). أخرجه البخاري (5391) واللَّفظُ له، ومسلم (1946). .
وكان يَمدَحُ الطَّعامَ أحيانًا، كقَولِه لمَّا سَأل أهلَه الإدامَ، فقالوا: ما عِندَنا إلَّا خَلٌّ، فدَعا به فجَعَل يَأكُلُ مِنه ويَقولُ: «نِعمَ الأُدُمُ الخَلُّ!»
[1590] أخرجه مسلم (2052) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَأل أهلَه الأُدُمَ، فقالوا: ما عِندَنا إلَّا خَلٌّ، فدَعا به، فجَعَل يَأكُلُ به، ويَقولُ: نِعمَ الأُدُمُ الخَلُّ! نِعمَ الأُدُمُ الخَلُّ!)). ، وليسَ في هذا تَفضيلٌ له على اللَّبَنِ واللَّحمِ والعَسَلِ والمَرَقِ، وإنَّما هو مَدحٌ له في تلك الحالِ التي حَضَرَ فيها، ولو حَضَرَ لحمٌ أو لبَنٌ كان أَولى بالمَدحِ مِنه، وقال هذا جَبرًا وتَطييبًا لقَلبِ مَن قدَّمَه، لا تَفضيلًا له على سائِرِ أنواعِ الإدامِ.
وكان إذا قُرِّبَ إليه طَعامٌ وهو صائِمٌ، قال: «إنِّي صائِمٌ»
[1591] عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دُعيَ أحَدُكُم إلى طَعامٍ، وهو صائِمٌ، فليَقُلْ: إنِّي صائِمٌ)). أخرجه مسلم (1150). .
وأمَرَ مِن قُرِّب إليه الطَّعامُ وهو صائِمٌ أن يُصَلِّيَ -أي: يَدعوَ- لمَن قدَّمَه، وإن كان مُفطِرًا أن يَأكُلَ مِنه
[1592] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دُعيَ أحَدُكُم فليُجِبْ، فإن كان صائِمًا فليُصَلِّ، وإن كان مُفطِرًا فليَطعَمْ)). أخرجه مسلم (1431). .
وكان إذا دُعيَ لطَعامٍ وتَبِعَه أحَدٌ أعلمَ به رَبَّ المَنزِلِ، وقال: «إنَّ هذا تَبِعَنا، فإن شِئتَ أن تَأذَنَ له، وإن شِئتَ رَجَعَ»
[1593] أخرجه البخاري (2081)، ومسلم (2036) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي مَسعودٍ عُقبةَ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((جاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ يُكنى أبا شُعَيبٍ، فقال لغُلامٍ له قَصَّابٍ: اجعَلْ لي طَعامًا يَكفي خَمسةً؛ فإنِّي أُريدُ أن أدعوَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خامِسَ خَمسةٍ؛ فإنِّي قد عَرَفتُ في وَجهِه الجوعَ، فدَعاهم، فجاءَ مَعَهم رَجُلٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ هذا قد تَبِعَنا، فإن شِئتَ أن تَأذَنَ له فأْذَنْ له، وإن شِئتَ أن يَرجِعَ رَجَعَ. فقال: لا، بَل قد أذِنتُ له)). .
وكان يَتَحَدَّثُ على طَعامِه
[1594] قال النَّوويُّ في ((الأذكار)) (ص: 234): (بابُ استِحبابِ الكَلامِ على الطَّعامِ. فيه حَديثُ جابرٍ الذي قدَّمناه في بابِ مَدحِ الطَّعامِ [يَعني حَديثَ: «نِعمَ الأُدُمُ الخَلُّ»]. قال الإمامُ أبو حامِدٍ الغَزاليُّ في "الإحياءِ": مِن آدابِ الطَّعامِ أن يَتَحَدَّثوا في حالِ أكلِه بالمَعروفِ، ويَتَحَدَّثوا بحِكاياتِ الصَّالحينَ في الأطعِمةِ وغَيرِها). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 7). كَما تَقدَّمَ في حَديثِ الخَلِّ، وكَما قال لرَبيبِه عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ وهو يُؤاكِلُه: «سَمِّ اللَّهَ وكُلْ مِمَّا يَليك»
[1595] أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: عن عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ، يَقولُ: ((كُنتُ غُلامًا في حَجرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت يَدي تَطيشُ في الصَّحفةِ، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمينِكَ، وكُلْ مِمَّا يَليكَ؛ فما زالت تلك طِعْمتي بَعدُ)). .
ورُبَّما كان يُكَرِّرُ على أضيافِه عَرضَ الأكلِ عليهم مِرارًا، كما يَفعَلُه أهلُ الكَرَمِ، كَما في حَديثِ أبي هرَيرةَ عِندَ البخاريِّ في قِصَّةِ شُربِ اللَّبَنِ، وقَولِه له مِرارًا: «اشرَبْ»، فما زال يَقولُ: اشرَبْ، حتَّى قال: والذي بَعَثَك بالحَقِّ لا أجِدُ له مَسلَكًا
[1596] لفظُه: أنَّ أبا هرَيرةَ كان يَقولُ: ((أللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو إنْ كُنْتُ لأعتَمِدُ بكَبِدي على الأرضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كنتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ على بطني من الجُوعِ، ولقد قعَدْتُ يومًا على طريقِهم الذي يخرُجون منه، فمرَّ أبو بكرٍ فسألتُه عن آيةٍ من كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ بي عُمَرُ فسألتُه عن آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ أبو القاسمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتبسَّم حينَ رآني، وعرَف ما في نفسي وما في وجهي، ثُمَّ قال: يا أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ، ومضى فتبِعْتُه، فدخل فاستأذن فأَذِنَ لي، فدخل فوجد لبنًا في قَدَحٍ، فقال: مِنْ أين هذا اللَّبنُ؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةٌ، قال: أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ إلى أهلِ الصُّفَّةِ فادْعُهم لي، قال: وأهلُ الصُّفَّةِ أضيافُ الإسلامِ لا يأوُون إلى أهلٍ ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صَدَقةٌ بعث بها إليهم ولم يتناوَلْ منها شيئًا، وإذا أتته هَدِيَّةٌ أرسَلَ إليهم وأصاب منها وأَشركَهم فيها، فساءني ذلك، فقلتُ: وما هذا اللَّبَنُ في أهلِ الصُّفَّةِ؟! كُنتُ أَحقَّ أن أُصيبَ من هذا اللَّبَنِ شَربةً أتقوَّى بها! فإذا جاء أمرَني فكنتُ أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلُغَني من هذا اللَّبَنِ؟! ولم يَكُنْ من طاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه بُدٌّ، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذِنَ لهم، وأخذوا مجالِسَهم من البيتِ، قال: أبا هِرٍّ، قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: خُذْ فأعطِهم، قال: فأخذتُ القَدَحَ فجعَلْتُ أُعطيه الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَروَى، ثُمَّ يرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فأُعطي الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَرْوَى، ثُمَّ يرُدُّ عليَّ القَدَحَ، حتى انتهيتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد رَوِيَ القومُ كُلُّهم، فأخذ القَدَحَ فوضَعه على يَدِه، فنظر إليَّ فتبسَّم! فقال: يا أبا هِرٍّ! قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: بَقِيتُ أنا وأنت، قلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: اقعُدْ فاشرَبْ، فقعَدْتُ فشَرِبتُ، فما زال يقولُ: اشرَبْ، حتى قُلتُ: لا والذي بعثَك بالحقِّ ما أجِدُ له مَسلَكًا! قال: فأَرِني، فأعطيتُه القَدَحَ، فحَمِد اللهَ وسَمَّى وشَرِبَ الفَضْلةَ)). أخرجه البخاري (6452). .
وكان إذا أكَل عِندَ قَومٍ لم يَخرُجْ حتَّى يَدعوَ لهم؛ فدَعا في مَنزِلِ عَبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ، فقال: «اللَّهُمَّ بارِكْ لهم فيما رَزَقتَهم، واغفِرْ لهم وارحَمْهم» ذَكَرَه مُسلِمٌ
[1597] أخرجه مسلم (2042) عن عبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ، قال: ((نَزَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أبي، قال: فقَرَّبنا إليه طَعامًا ووَطبةً، فأكَل مِنها، ثُمَّ أُتيَ بتَمرٍ، فكان يَأكُلُه ويُلقي النَّوى بَينَ إصبَعَيه، ويَجمَعُ السَّبَّابةَ والوُسطى، قال شُعبةُ: هو ظَنِّي، وهو فيه -إن شاءَ اللهُ- إلقاءُ النَّوى بَينَ الإصبَعَينِ، ثُمَّ أُتيَ بشَرابٍ فشَرِبَه، ثُمَّ ناوله الذي عن يَمينِه، قال: فقال أبي وأخَذَ بلجامِ دابَّتِه: ادعُ اللَّهَ لنا، فقال: اللهُمَّ بارِكْ لهم فيما رَزَقتَهم، واغفِرْ لهم وارحَمْهم)). . ودَعا في مَنزِلِ سَعدِ بنِ عُبادةَ، فقال: «أفطَرَ عِندَكُمُ الصَّائِمونَ، وأكَل طَعامَكُمُ الأبرارُ، وصَلَّت عليكُمُ المَلائِكةُ
[1598] قال الشَّوكانيُّ: (اشتَمَل هذا الحَديثُ على ثَلاثِ دَعَواتٍ كُلُّها موجِبةٌ للأجرِ والبركةِ؛ فإنَّ مَن أفطَرَ عِندَه الصَّائِمونَ استَحَقَّ الأجرَ المَوعودَ به فيمَن فطَّرَ صائِمًا، ومَن أكَل طَعامَه الأبرارُ كان له أجرُ الإطعامِ مُوفرًا؛ لكَونِ الآكِلينَ له مِنَ الأبرارِ، ومَن صَلَّت عليه المَلائِكةُ فقد فازَ؛ لأنَّ دَعوتَهم له بالرَّحمةِ مَقبولةٌ). ((تحفة الذاكرين)) (ص: 224). »
[1599] أخرجه أبو داود (3854) واللَّفظُ له، وأحمد (12406) من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (8/29)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3854)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((الأذكار)) (247)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/16)، وابن حجر في ((التخليص الحبير)) (3/1232). .
وصَحَّ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «أنَّه دَخَل مَنزِلَه ليلةً فالتَمَسَ طَعامًا فلم يَجِدْه، فقال: «اللهُمَّ أطعِمْ مَن أطعَمَني، واسقِ مَن سَقاني»
[1600] أخرجه مسلم (2055) من حديثِ المِقدادِ بنِ عَمرِو بنِ الأسوَدِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: (... فجاءَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ كَما كان يُسَلِّمُ، ثُمَّ أتى المَسجِدَ فصَلَّى، ثُمَّ أتى شَرابَه فكَشَف عنه، فلم يَجِدْ فيه شَيئًا، فرَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ، فقُلتُ: الآنَ يَدعو عليَّ فأهلِكُ، فقال: اللهُمَّ أطعِمْ مَن أطعَمَني، وأسقِ مَن أسقاني ...). .
وكان يَدعو لمَن يُضيفُ المَساكينَ، ويُثني عليهم، فقال مَرَّةً: «ألَا رَجُلٌ يُضَيِّفُ هذا، رَحِمَه اللهُ»
[1601] أخرجه البخاري (4889)، ومسلم (2054) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُضيفَه، فلم يَكُنْ عِندَه ما يُضيفُه، فقال: ألا رَجُلٌ يُضَيِّفُ هذا، رَحِمَه اللهُ)). ، وقال للأنصاريِّ وامرَأتِه اللَّذَينِ آثَرا بقُوتِهما وقُوتِ صِبيانِهما ضَيفَهما: «لقد عَجِبَ اللهُ مِن صَنيعِكُما بضَيفِكُما اللَّيلةَ!»
[1602] أخرجه البخاري (4889)، ومسلم (2054) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلم: ((جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي مجهودٌ، فأرسَلَ إلى بعضِ نسائِه، فقالت: والذي بعَثَك بالحَقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ! ثمَّ أرسل إلى أخرى، فقالت مِثلَ ذلك، حتى قُلنَ كلُّهنَّ مِثلَ ذلك: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ! فقال: من يُضيفُ هذا اللَّيلةَ رحمه اللهُ؟ فقام رجلٌ من الأنصارِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ، فانطلق به إلى رَحلِه، فقال لامرأتِه: هل عندكِ شيءٌ؟ قالت: لا، إلَّا قوتَ صِبياني. قال: فعَلِّلِيهم بشيءٍ، فإذا دخَل ضيفُنا فأطفِئي السِّراجَ، وأريه أنَّا نأكُلُ، فإذا أهوى ليأكُلَ فقومي إلى السِّراجِ حتَّى تُطفئيه! قال: فقَعَدوا وأكلَ الضَّيفُ، فلمَّا أصبح غدا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: قد عَجِب اللهُ مِن صنيعِكما بضَيفِكما اللَّيلةَ!)). .
وكان لا يَأنَفُ مِن مُؤاكَلةِ أحَدٍ، صَغيرًا كان أو كَبيرًا، حُرًّا أو عبدًا، أعرابيًّا أو مُهاجِرًا)
[1603] ((زاد المعاد)) (2/ 366-369). .
مِن فوائدِ التَّسميةِ في أوَّلِ الطَّعامِ والحمدِ في آخرِهقال ابنُ القَيِّمِ: (للتَّسميةِ في أوَّلِ الطَّعامِ والشَّرابِ، وحَمدِ اللهِ في آخِرِه: تَأثيرٌ عَجيبٌ في نَفعِه واستِمرائِه، ودَفعِ مَضَرَّتِه.
قال الإمامُ أحمَدُ: إذا جَمَعَ الطَّعامُ أربَعًا فقد كَمَل: إذا ذُكِرَ اسمُ اللهِ في أوَّلِه، وحُمِدَ اللَّهُ في آخِرِه، وكَثُرَت عليه الأيدي، وكان مِن حِلٍّ)
[1604] ((زاد المعاد)) (4/ 213). .
الطعامُ الحارُّعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه كان يَقولُ: (لا يُؤكَلُ طَعامٌ حتَّى يَذهَبَ بُخارُه)
[1605] أخرجه البيهقي (14746). صحَّحه الألبانيُّ في ((إرواء الغَليل)) (1978)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (28/639). .
وقال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (لا يَأكُلْ مِن ذِروةِ الطَّعامِ، لكِن مِن جَوانِبِه، وكذلك الكَيلُ؛ فإنَّه أدعى للبَرَكةِ... ولا يَنفُخِ الطَّعامَ الحارَّ ولا البارِدَ)
[1606] ((فصول الآداب)) (ص: 47، 48). .
وقال القاسِميُّ: (يَحتَرِزُ مِن تَناوُلِ الشَّديدِ البُرودةِ والسُّخونةِ؛ فإنَّ له أضرارًا جَمَّةً؛ مِنها: تَسويسُ الأسنانِ؛ ولذا يَلزَمُ تَنظيفُ الأسنانِ بَعدَ الأكلِ بمِسواكٍ أو فُرشاةٍ وماءٍ؛ لإزالةِ آثارِ الطَّعامِ المُتَحَلِّلةِ)
[1607] ((جوامع الآداب)) (ص: 164). .
ماذا يفعلُ الجنبُ إذا أراد أنْ يأكُلَ أو يَشربَيُستَحَبُّ للجُنُبِ الوُضوءُ إذا أرادَ الأكلَ والشُّربَ أوِ النَّومَ
[1608] وهذا مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ، واختارَه ابنُ حَزمٍ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (2/156)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/260)، ((المحلى)) (1/100). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان جُنُبًا فأرادَ أن يَأكُلَ أو يَنامَ، تَوضَّأ وُضوءَه للصَّلاةِ)) [1609] أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305) واللَّفظُ له. .
2- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ سَأل رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيَرقُدُ أحَدُنا وهو جُنُبٌ؟ قال: ((نَعَم، إذا تَوضَّأ أحَدُكُم فليَرقُدْ وهو جُنُبٌ)) [1610] أخرجه البخاري (287) واللَّفظُ له، ومسلم (306). .
الصلاةُ بحضرةِ الطَّعامِ
يُكرَهُ ابتداءُ الصَّلاةِ بحَضرةِ طعامٍ يَشتَهيه [1611] وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: يُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/418)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (1/39)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/202)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/371). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِن السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا صَلاةَ بحَضرةِ الطَّعامِ، ولا هو يُدافِعُه الأخبثانِ)) [1612] أخرجه مسلم (560). .
2- عن ابنِ عُمرَ رضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا وُضِعَ عَشاءُ أحدِكم وأُقيمتِ الصَّلاةُ، فابْدَؤوا بالعَشاءِ، ولا يَعجَلْ حتَّى يَفرُغَ منه)) [1613] أخرجه البخاري (673) واللفظ له، ومسلم (559). .
ب- مِنَ الآثارِ
1- كان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (يُوضَعُ له الطَّعامُ، وتُقامُ الصَّلاةُ، فلا يأتيها حتى يَفرُغَ، وإنَّه ليَسمَعُ قِراءةَ الإمامِ) [1614] أخرجه البخاري (673). .
2- عن أبي هرَيرةَ وابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم: (أنَّهما كانا يَأكُلانِ طَعامًا، وفي التَّنُّورِ شِواءٌ، فأرادَ المُؤَذِّنُ أن يُقيمَ، فقال له ابنُ عبَّاسٍ: لا تَعجَلْ؛ لئَلَّا نَقومَ وفي أنفُسِنا مِنه شَيءٌ) [1615] أخرجه سعيد بن منصور كما في ((فتح الباري)) لابن حجر (2/189) واللفظ له، وابن أبي شيبة (552) بنحوِه. حسَّن إسنادَه ابنُ حَجَرٍ. .. وفي رِوايةٍ: (لئَلَّا يَعرِضَ لنا في صَلاتِنا) [1616] أخرجها ابنُ أبي شيبة (8009) ولفظُها: عن رَجُلٍ يُقالُ له زيادٌ، قال: (كُنَّا عِندَ ابنِ عبَّاسٍ، وشِواءٌ له في التَّنُّورِ، وحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فقُلْنا له، فقال: لا حتَّى نَأكُلَ، لا يَعرِضُ لنا في صَلاتِنا). .
جملةٌ مِن آدابِ الطَّعامِ
1- (كان ابنُ سِيرينَ إذا دُعيَ إلى وليمةٍ أو إلى عُرسٍ دَخَل مَنزِلَه، فيَقولُ: اسقوني شَربةَ سَويقٍ، فيُقالُ له: يا أبا بَكرٍ، أنتَ تَذهَبُ إلى العُرسِ تَشرَبُ سَويقًا! فكان يَقولُ: إنِّي أكرَهُ أن أجعَلَ حِدَّةَ جوعي على طَعامِ النَّاسِ!) [1617] يُنظر: ((الزهد)) لأحمد بن حنبل (1785)، ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان (9/ 182). .
وقالوا: (مِنَ اللُّؤمِ أن تُلقيَ كَلبَ جُوعِك على طَعامِ غَيرِك) [1618] ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 228). .
2- وقال ابنُ مُفلِحٍ: (قال ابنُ الجَوزيِّ: ومِن آدابِ الزَّائِرِ: ألَّا يَقتَرِحَ طَعامًا بعَينِه، وإن خُيِّر بَينَ طَعامَينِ اختارَ الأيسَرَ، إلَّا أن يَعلَمَ أنَّ مُضيفَه يُسَرُّ باقتِراحِه، ولا يُقَصِّرُ عن تَحصيلِ ذلك. قال: ويَنبَغي ألَّا يَقصِدَ بالإجابةِ إلى الدَّعوةِ نَفسَ الأكلِ، بَل يَنوي به الاقتِداءَ بالسُّنَّةِ، وإكرامَ أخيه المُؤمِنِ، ويَنوي صيانةَ نَفسِه عَمَّن يُسيءُ به الظَّنَّ، فرُبَّما قيل عنه إذا امتَنَعَ: هذا مُتَكَبِّرٌ، ولا يُكثِرُ النَّظَرَ إلى المَكانِ الذي يَخرُجُ مِنه الطَّعامُ؛ فإنَّه دَليلٌ مِنه على الشَّرَهِ.
وهذا منه يَدُلُّ على أنَّه لا يَنبَغي فِعلُ ما يَدُلُّ على الشَّرَهِ، ومنه الأكلُ الكَثيرُ الذي يَخرُجُ به عنِ العادةِ في ذلك الوَقتِ؛ ولهذا كان الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ رَحِمَه اللهُ إذا دُعيَ أكَلَ ما يَكسِرُ نَهمَتَه قَبلَ ذَهابِه، ولعَلَّه تَبِعَ في ذلك مَن مَضى مِنَ السَّلَفِ.
وقد ذَكَرَ ابنُ عبدِ البَرِّ عن عليٍّ أنَّه كان إذا دُعيَ إلى طَعامٍ أكَل شَيئًا قَبل أن يَأتيَه، ويَقولُ: قَبيحٌ بالرَّجُلِ أن يُظهِرَ نَهمَتَه في طَعامِ غَيرِه [1619] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (2/ 75). . وهذا -واللَّهُ أعلمُ- يَختَلفُ باختِلافِ الأشخاصِ والأحوالِ.
قال ابنُ الجَوزيِّ رَحِمَه اللهُ: ومِن آدابِ إحضارِ الطَّعامِ تَعجيلُه وتَقديمُ الفاكِهةِ قَبلَ غَيرِها؛ لأنَّه أصلَحُ في بابِ الطِّبِّ.
وقد قال تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشتَهُونَ [الواقعة: 20-21] [1620] ((الآداب الشرعية)) (3/ 208). .
3- قال الجيلانيُّ: (يُكرَهُ لأهلِ الفَضلِ والعِلمِ في الجُملةِ التَّسَرُّعُ إلى إجابةِ الطَّعامِ، والتَّسامُحُ بذلك؛ لِما فيه مِنَ الذِّلَّةِ والدَّناءةِ والشَّرَهِ، لا سيَّما إذا كان حاكِمًا، وقيل: ما وضَعَ أحَدٌ يَدَه في قَصعةِ أحَدٍ إلَّا ذَلَّ.
ويَحرُمُ التَّطَفُّلُ على طَعامِ النَّاسِ، وهو دُخولُه مَعَ المَدعوِّينَ مِن غَيرِ أن يُدعى، وهو ضَربٌ مِنَ الوقاحةِ والغَصبِ، ففيه إثمانِ: أحَدُهما: الأكلُ لِما لم يُدعَ إليه، والآخَرُ: دُخولُه إلى مَنزِلِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه، والنَّظَرُ إلى أسرارِه والتَّضييقُ على مَن حَضَرَه.
ومِنَ الأدَبِ: ألَّا يُكثِرَ النَّظَرَ في وُجوهِ الآكِلينَ؛ لأنَّه مِمَّا يُحشِمُهم.
ولا يَتَكَلَّمَ على الطَّعامِ بما يَستَقذِرُه النَّاسُ مِنَ الكَلامِ، ولا بما يُضحِكُهم؛ خَوفًا عليهم مِنَ الشَّرَقِ، ولا بما يَحزُنُهم؛ لئَلَّا يُنَغِّصَ على الآكِلينَ أكلَهم.
ويُكرَهُ أكلُ البَقلةِ الخَبيثةِ، وهيَ الثُّومُ والبَصَلُ والكُرَّاثُ؛ لكَراهةِ ريحِه، وقد رُويَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «مَن أكَل مِن هذه البَقلةِ الخَبيثةِ فلا يَقرَبَنَّ مُصَلَّانا» [1621] أخرجه البخاري (853)، ومسلم (564) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ مسلِمٍ: عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَن أكَل مِن هذه البَقلةِ الثُّومِ، وقال مَرَّةً: مَن أكَل البَصَلَ والثُّومَ والكُرَّاثَ، فلا يَقرَبَنَّ مَسجِدَنا، فإنَّ المَلائِكةَ تَتَأذَّى مِمَّا يَتَأذَّى مِنه بَنو آدَمَ)). .
وكَثرةُ الأكلِ بحَيثُ يخافُ مِنَ التُّخَمةِ مَكروهةٌ، وقد رُويَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «ما مَلأ ابنُ آدَمَ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنِه» [1622] أخرجه الترمذي (2380)، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ المِقدامِ بنِ مَعديَكرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذيِّ: ((ما مَلأ آدَميٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنٍ؛ بحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكلاتٌ يُقِمنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالةَ فثُلُثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِه)). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). .
ويُكرَهُ إخراجُ شَيءٍ مِن فيه ورَدُّه إلى القَصعةِ.
ويُكرَهُ التَّخَلُّلُ على الطَّعامِ.
ولا يَمسَحْ يَدَه بالخُبزِ ولا يَستَبذِلْه.
ولا يَخلِطْ طَعامًا بطَعامٍ يَعني ألوانَ الطبائِخِ؛ لأنَّه قد يَكرَهُ ذلك طِباعُ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ، وإن كانت نَفسُه تَميلُ إليه، فيَترُكُ ذلك لأجلِهم.
ولا يَجوزُ له ذَمُّ الطَّعامِ، ولا لصاحِبِ الطَّعامِ استِحسانُه ومَدحُه ولا تَقويمُه؛ لأنَّه دَناءةٌ.
ولا يَرفعْ يَدَه حتَّى يَرفَعوا أيديَهم، إلَّا أن يَعلمَ مِنهمُ الانبساطَ إليه، فلا يَتَكَلَّفُ ذلك.
ولا يَقرِنْ بَينَ التَّمرَتَينِ؛ لنَهيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك [1623] لفظُه: عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، يَقولُ: ((نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقرِنَ الرَّجُلُ بَينَ التَّمرَتَينِ جَميعًا، حتَّى يَستَأذِنَ أصحابَه)). أخرجه البخاري (2489) واللَّفظُ له، ومسلم (2045). ، وقيل: لا يُكرَهُ ذلك إن كان وحدَه، أو كان هو صاحِبَ الطَّعامِ.
ولا يَتَخَيَّرِ الأطعِمةَ على صاحِبِ الدَّارِ، بَل يَقنَعُ بما قدَّمَه؛ لأنَّ ذلك يَحمِلُه على التَّكَلُّفِ، فإنِ استَدعى مِنه صاحِبُ الدَّارِ التَّشَهِّيَ عليه كان له أن يَذكُرَ شَهوتَه) [1624] ((الغنية لطالبي طريق الحق)) (1/ 56-58). ويُنظرُ ما تَقدَّمَ ذِكرُه في آدابِ الضِّيافةِ والضَّيفِ في البابِ الثَّاني مِنَ الكِتابِ الثَّالِثِ. .
4- قال الحجَّاويُّ: (يُكرَهُ الأكلُ مِن ذِروةِ الطَّعامِ والشَّرابِ، والتَّنَفُّسُ في إناءَيهما، وأكلُه حارًّا إن لم تَكُنْ حاجةٌ، ومِمَّا يَلي غَيرَه إن كان الطَّعامُ نَوعًا واحِدًا، فإن كان أنواعًا أو فاكِهةً -قال الآمِديُّ: أو كان يَأكُلُ وحدَه- فلا بَأسَ.
ويُسَنُّ مَسحُ الصَّحفةِ، وأكلُ ما تَناثَرَ مِنه، والأكلُ عِندَ حُضورِ رَبِّ الطَّعامِ وإذنِه، والأكلُ بثَلاثِ أصابعَ، ويُكرَهُ بما دونَها وبما فوقَها ما لم تَكُنْ حاجةٌ، ولا بَأسَ بالأكلِ بالمِلعَقةِ.
ويُكرَهُ القِرانُ في التَّمرِ ونَحوِه مِمَّا جَرَتِ العادةُ بتَناوُلِه إفرادًا، وفِعلُ ما يُستَقذَرُ مِن بُصاقٍ ومُخاطٍ وغَيرِه، وأن يَنفُضَ يَدَه في القَصعةِ، وأن يُقدِّمَ إليها رَأسَه عِندَ وَضعِ اللُّقمةِ في فيه، وأن يَغمِسَ اللُّقمةَ الدَّسِمةَ في الخَلِّ أوِ الخَلَّ في الدَّسَمِ، فقد يَكرَهُه غَيرُه، ولا بَأسَ بوَضعِ الخَلِّ والبُقولِ على المائِدةِ غَيرَ الثُّومِ والبَصَلِ وما له رائِحةٌ كَريهةٌ، ويَكونُ ما يَدفعُ به الغُصَّةَ. ويَنبَغي أن يُحَوِّلَ وَجهَه عِندَ السُّعالِ والعُطاسِ عنِ الطَّعامِ، ويُبعِدَه عنه أو يَجعَلَ على فيه شَيئًا لئَلَّا يَخرُجَ مِنه بُصاقٌ فيَقَعَ في الطَّعامِ، وإن خَرَجَ مِن فيه شَيءٌ ليَرميَ به صَرَف وجهَه عنِ الطَّعامِ وأخَذَه بيَسارِه، ويُكرَهُ رَدُّه إلى القَصعةِ، وأن يَغمِسَ بَقيَّةَ اللُّقمةِ التي أكَل مِنها في المَرَقةِ، وكَذا هَندَسةُ اللُّقمةِ، وهو أن يَقضِمَ بأسنانِه بَعضَ أطرافِها ثُمَّ يَضَعَها في الأُدمِ، وأن يَأكُلَ مُتَّكِئًا أو مُضطَجِعًا أو مُنبَطِحًا -وفي "الغُنيةِ" وغَيرِها- أو على الطَّريقِ [1625] يُنظر: ((الغنية لطالبي طريق الحق)) للجيلاني (1/ 50). ، وأن يَعيبَ الطَّعامَ وأن يَحتَقِرَه، بَل إن اشتَهاه أكَله، وإلَّا تَرَكَه، ولا بَأسَ بمَدحِه) [1626] ((الإقناع)) (3/ 232). .
5- قال القاسِميُّ -تَبَعًا للغَزاليِّ- في بَيانِ ما لا بُدَّ للآكِلِ مِن مُراعاتِه: (هو ثَلاثةُ أقسامٍ:
القِسمُ الأوَّلُ: في الآدابِ المُتَقدِّمةِ على الأكلِ، وهيَ خَمسةٌ:
الأوَّلُ: أن يَكونَ الطَّعامُ بَعدَ كَونِه حَلالًا في نَفسِه طَيِّبًا في جِهةِ مَكسَبِه، موافِقًا للسُّنَّةِ والورَعِ، لم يُكتَسَبْ بسَبَبٍ مَكروهٍ في الشَّرعِ، ولا بحُكمِ هَوًى ومُداهَنةٍ في دينٍ، وقد أمَرَ اللَّهُ تعالى بأكلِ الطَّيِّبِ وهو الحَلالُ، وقَدَّم النَّهيَ عنِ الأكلِ بالباطِلِ على القَتلِ؛ تَفخيمًا لأمرِ الحَرامِ، وتَعظيمًا لبَرَكةِ الحَلالِ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء: 29] إلى قَولِه: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ؛ فالأصلُ في الطَّعامِ كَونُه طَيِّبًا، وهو في الفرائِضِ وأُصولِ الدِّينِ.
الثَّاني: غَسلُ اليَدِ؛ لأنَّها لا تَخلو عن لوثٍ في تَعاطي الأعمالِ، فغَسلُها أقرَبُ إلى النَّظافةِ والنَّزاهةِ.
الثَّالثُ: أن يَنويَ بأكلِه أن يَتَقَوَّى به على طاعةِ اللهِ تعالى ليَكونَ مُطيعًا بالأكلِ، ومِن ضَرورةِ هذه النِّيَّةِ ألَّا يَمُدَّ اليَدَ إلى الطَّعامِ إلَّا وهو جائِعٌ، فيَكونُ الجوعُ أحَدَ ما لا بُدَّ مِن تَقديمِه على الأكلِ، ثُمَّ يَنبَغي أن يَرفعَ اليَدَ قَبلَ الشِّبَعِ، ومَن فَعَل ذلك استَغنى عنِ الطَّبيبِ.
الرَّابعُ: أن يَرضى بالمَوجودِ مِنَ الرِّزقِ والحاضِرِ مِنَ الطَّعامِ.
الخامِسُ: أن يَجتَهدَ في تَكثيرِ الأيدي على الطَّعامِ ولو مِن أهلِه ووَلَدِه؛ فإنَّ خَيرَ الطَّعامِ ما كَثُرَت عليه الأيدي، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَأكُلُ وَحدَه.
القِسمُ الثَّاني: في آدابِه حالةَ الأكلِ
وهو أن يَبدَأَ بـ "باسمِ اللهِ" في أوَّلِه، وبـ "الحَمدُ للهِ" في آخِرِه، ويَجهَرَ به ليُذَكِّرَ غَيرَه، ويَأكُلَ باليُمنى، ويُصَغِّرَ اللُّقمةَ ويُجَوِّدَ مَضغَها، وما لم يَبتَلِعْها لا يَمُدُّ اليَدَ إلى الأُخرى؛ فإنَّ ذلك عَجَلةٌ في الأكلِ، وألَّا يُذَمَّ مَأكولًا؛ كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَعيبُ مَأكولًا؛ كان إذا أعجَبَه أكَله، وإلَّا تَرَكَه [1627] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ما عابَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا قَطُّ؛ إنِ اشتَهاه أكَله، وإلَّا تَرَكَه)). أخرجه البخاري (3563) واللَّفظُ له، ومسلم (2064). .
وأن يَأكُلَ مِمَّا يَليه إلَّا الفاكِهةَ؛ فله أن يُجيلَ يَدَه فيها، ولا يَضَعَ على الخُبزِ قَصعةً ولا غَيرَها إلَّا ما يُؤكَلُ به، ولا يَمسَحَ يَدَه بالخُبزِ، ولا يَنفُخَ في الطَّعامِ الحارِّ، بَل يَصبرُ إلى أن يَسهُلَ أكلُه، ولا يَجمَعَ بَينَ التَّمرِ والنَّوى في طَبَقٍ، ولا يَجمَعَ في كَفِّه، بَل يَضَعُ النَّواةَ مِن فيه على ظَهرِ كَفِّه ثُمَّ يُلقيها، وكَذا كُلُّ ما له عَجَمٌ وثُفْلٌ، وألَّا يَترُكَ ما استَرذَله مِنَ الطَّعامِ ويَطرَحَه في القَصعةِ، بَل يَترُكُه مَعَ الثُّفلِ حتَّى لا يَلتَبِسَ على غَيرِه فيَأكُلَه، وألَّا يُكثِرَ الشُّربَ في أثناءِ الطَّعامِ إلَّا إذا غَصَّ بلُقمةٍ أو صَدَقَ عَطَشُه...
القِسمُ الثَّالثُ: ما يُستَحَبُّ بَعدَ الطَّعامِ
وهو أن يُمسِكَ قَبلَ الشِّبَعِ، ثُمَّ يَغسِلَ يَدَه ويَتَخَلَّلَ، ويَرميَ المُخرَجَ بالخِلالِ، وأن يَشكُرَ اللَّهَ تعالى بقَلبِه على ما أطعَمَه، فيَرى الطَّعامَ نِعمةً مِنه؛ قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة: 172] .
فإن أكَل طَعامَ الغَيرِ فليَدْعُ له، وإن أفطَرَ عِندَ قَومٍ فليَقُلْ: «أفطَرَ عِندَكُمُ الصَّائِمونَ، وأكَل طَعامَكُمُ الأبرارُ، وصَلَّت عليكُمُ المَلائِكةُ» [1628] أخرجه أبو داود (3854) واللَّفظُ له، وأحمد (12406) من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (8/29)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3854)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((الأذكار)) (247)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/16)، وابن حجر في ((التخليص الحبير)) (3/1232). . وليُكثِرِ الاستِغفارَ والحُزنَ على ما أكَل مِن شُبهةٍ) [1629] ((موعظة المؤمنين)) (ص: 92، 93). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 3). .
المؤمنُ يأكلُ في مِعًى واحدٍ
عن نافِعٍ، قال: كان ابنُ عُمَرَ لا يَأكُلُ حتَّى يُؤتى بمِسكينٍ يَأكُلُ مَعَه، فأدخَلتُ رَجُلًا يَأكُلُ مَعَه، فأكَل كَثيرًا، فقال: يا نافِعُ، لا تُدخِلْ هذا علَيَّ، سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((المُؤمِنُ يَأكُلُ في مِعًى [1630] المِعى: مُفرَدُ الأمعاءِ، وهيَ المَصارينُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 537). واحِدٍ، والكافِرُ يَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ)) [1631] أخرجه البخاري (5393) واللَّفظُ له، ومسلم (2060). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَجُلًا كان يَأكُلُ أكلًا كَثيرًا فأسلَمَ، فكان يَأكُلُ أكلًا قَليلًا، فذُكِر ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ المُؤمِنَ يَأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرَ يَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ)) [1632] أخرجه البخاري (5397). .
وفي رِوايةٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضافه ضَيفٌ وهو كافِرٌ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشاةٍ فحُلِبَت، فشَرِبَ حِلابَها، ثُمَّ أُخرى فشَرِبَه، ثُمَّ أُخرى فشَرِبَه، حتَّى شِرَب حِلابَ سَبعِ شياهٍ، ثُمَّ إنَّه أصبَحَ فأسلَمَ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشاةٍ، فشَرِبَ حِلابَها، ثُمَّ أمَرَ بأُخرى، فلم يَستَتِمَّها! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المُؤمِنُ يَشرَبُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ يَشرَبُ في سَبعةِ أمعاءٍ)) [1633] أخرجها مسلم (2063). .
قال الخَطَّابيُّ: (مَعنى هذا الكَلامِ: أنَّ المُؤمِنَ المَمدوحَ بإيمانِه المُستَحِقَّ لشَرائِطِ كَمالِه يُقِلُّ الطُّعْمَ ويَكتَفي باليَسيرِ مِنه، ويُؤثِرُ على نَفسِه لِما يَرجو مِن ثَوابِه، وأنَّ الكافِرَ يَستَكثِرُ مِنه ويَستَأثِرُ به، لا يَدَّخِرُ للآخِرةِ ولا يَنظُرُ للعاقِبةِ، وبذلك وُصِفوا في قَولِه تعالى: وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامَ [محمد: 12] ، وقَولِه: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر: 19] ، وليسَ وجهُ الحَديثِ أنَّ مَن كان كَثيرَ الأكلِ لا يُشبِعُه القَليلُ مِنَ الطَّعامِ كان ناقِصَ الإيمانِ؛ فقد ذُكِرَ عن غَيرِ واحِدٍ مِن أفاضِلِ السَّلَفِ وصالحي الخَلَفِ أنَّهم كانوا يَستَوفونَ الطَّعامَ ويَنالونَ مِنه النَّيلَ الصَّالِحَ، فلم يَكُنْ ذلك وَصمةً في دينِهم ولا نَقصًا في إيمانِهم.
وقد قيل: إنَّ مَعناه أنَّ في المُؤمِنِ البَرَكةَ تُضاعَفُ له، فيُشبِعُه القَليلُ، وفي الكافِرِ عَدَمُ البَرَكةِ فلا يُشبعُه إلَّا الكَثيرُ. وقد رُويَ أنَّ ذلك إنَّما قيل في رَجُلٍ بعَينِه) [1634] ((أعلام الحديث)) (3/ 2045، 2046). ويُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (2/ 306)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/ 348)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 419)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 538). .
الأكلُ على شِبَعٍ وأضرارُ البِطنةِ
كان يُقالُ: (المَعِدةُ بَيتُ الدَّاءِ)، وقالوا: (أصلُ كُلِّ داءٍ البَرَدةُ)، والبَرَدةُ هيَ التُّخَمةُ. قال ابنُ خَلدونَ: (مَعنى البَرَدةِ إدخالُ الطَّعامِ على الطَّعامِ في المَعِدةِ قَبلَ أن يَتِمَّ هَضمُ الأوَّلِ) [1635] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 521). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (ذُكِرَ عِندَ بَعضِ العَرَبِ اللَّحمُ، فقال: إنَّه ليَقتُلُ السِّباعَ. يُريدُ إدخالَ بَعضِه على بَعضٍ قَبلَ تَمامِ الهَضمِ، واللَّهُ أعلمُ) [1636] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (2/ 72). .
وعنِ الحَسَنِ أنَّ لُقمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال لابنِه: (يا بُنَيَّ، لا تَأكُلْ شِبَعًا على شِبَعٍ؛ فإنَّك إن تُلقِه للكَلبِ خَيرٌ مِن أن تَأكُلَه) [1637] أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (4548). .
وفي رِوايةٍ: (يا بُنَيَّ، لا تَأكُلْ شِبَعًا على شِبَعٍ، فإنَّه رُبَّ أكلةٍ قد أورَثَت صاحِبَها داءً) [1638] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الجوع)) (310). .
وقال الزَّرْنوجيُّ: (مِنَ الوَرَعِ الكامِلِ أن يَتَحَرَّزَ عنِ الشِّبَعِ وكَثرةِ النَّومِ وكَثرةِ الكَلامِ فيما لا يَنفعُ، وأن يَتَحَرَّزَ عن أكلِ طَعامِ السُّوقِ إن أمكَنَ؛ لأنَّ طَعامَ السُّوقِ أقرَبُ إلى النَّجاسةِ والخَباثةِ، وأبعَدُ عن ذِكرِ اللهِ، وأقرَبُ إلى الغَفلةِ، ولأنَّ أبصارَ الفُقَراءِ تَقَعُ عليه ولا يَقدِرونَ على الشِّراءِ مِنه، فيَتَأذَّونَ بذلك فتَذهَبُ بَرَكَتُه) [1639] ((تعليم المتعلم طريق التعلم)) (ص: 126، 127). .
وقال أيضًا: (طَريقُ تَقليلِ الأكلِ: التَّأمُّلُ في مَنافِعِ قِلَّةِ الأكلِ، وهيَ: الصِّحَّةُ والعِفَّةُ والإيثارُ. وقيل فيه شِعرٌ:
فعارٌ ثُمَّ عارٌ ثُمَّ عارٌ
شَقاءُ المَرءِ مِن أجلِ الطَّعامِ
وتَأمَّلْ في مَضارِّ كَثرةِ الأكلِ، وهيَ: الأمراضُ وكَلالةُ الطَّبعِ، وقيل: البِطنةُ تُذهِبُ الفِطنةَ) [1640] ((تعليم المتعلم طريق التعلم)) (ص: 97). .
وقال ابنُ رَجَبٍ في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مَلأ آدَميٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنٍ، بحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالةَ فثُلُثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِه)) [1641] أخرجه الترمذي (2380) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) من حديثِ المِقدامِ بن مَعديكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). : (هذا الحَديثُ أصلٌ جامِعٌ لأُصولِ الطِّبِّ كُلِّها. وقد روِيَ أنَّ ابنَ ماسَوَيهِ الطَّبيبَ لمَّا قَرَأ هذا الحَديثَ في كِتابِ أبي خيثمةَ، قال: لوِ استَعمَل النَّاسُ هذه الكَلِماتِ سَلِموا مِنَ الأمراضِ والأسقامِ، ولتَعَطَّلتِ المارَستاناتِ [1642] المارستان: المَصحَّةُ أو المُسْتشفَى. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (2/ 863). ودَكاكينِ الصَّيادِلةِ.
وإنَّما قال هذا؛ لأنَّ أصلَ كُلِّ داءٍ التُّخَمُ، كَما قال بَعضُهم: أصلُ كُلِّ داءٍ البَرَدةُ، ورُويَ مَرفوعًا، ولا يَصِحُّ رَفعُه.
وقال الحارِثُ بنُ كَلَدةَ طَبيبُ العَرَبِ: الحِمْيةُ رَأسُ الدَّواءِ، والبِطنةُ رَأسُ الدَّاءِ، ورَفعَه بَعضُهم، ولا يَصِحُّ أيضًا.
وقال الحارِثُ أيضًا: الذي قَتَل البَرِيَّةَ وأهلَكَ السِّباعَ في البَرِّيَّةِ إدخالُ الطَّعامِ على الطَّعامِ قَبلَ الانهضامِ.
وقال غَيرُه: لو قيل لأهلِ القُبورِ: ما كان سَبَبَ آجالِكُم؟ قالوا: التُّخَمُ. فهذا بَعضُ مَنافِعِ تَقليلِ الغِذاءِ، وتَركِ التَّمَلِّي مِنَ الطَّعامِ بالنِّسبةِ إلى صَلاحِ البَدَنِ وصِحَّتِه. وأمَّا مَنافِعُه بالنِّسبةِ إلى القَلبِ وصَلاحِه، فإنَّ قِلَّةَ الغِذاءِ توجِبُ رِقَّةَ القَلبِ، وقوَّةَ الفهمِ، وانكِسارَ النَّفسِ، وضَعفَ الهَوى والغَضَبِ، وكَثرةُ الغِذاءِ توجِبُ ضِدَّ ذلك. قال الحَسَنُ: يابنَ آدَمَ، كُلْ في ثُلُثِ بَطنِك، واشرَبْ في ثُلُثِه، ودَعْ ثُلُثَ بَطنِك يَتَنَفَّسُ لتَتَفكَّرَ...
عن مُحَمَّدِ بنِ واسعٍ، قال: مَن قَلَّ طُعمُه فَهِم وأفهَمَ، وصَفا ورَقَّ، وإنَّ كَثرةَ الطَّعامِ ليُثقِلُ صاحِبَه عن كَثيرٍ مِمَّا يُريدُ.
وعن أبي عُبَيدةَ الخَوَّاصِ، قال: حَتفُك في شِبَعِك، وحَظُّك في جوعِك، وإذا أنتَ شَبِعتَ ثَقُلتَ فنِمتَ، استَمكَنَ مِنك العَدوُّ فجَثَمَ عليك، وإذا أنتَ تَجَوَّعتَ كُنتَ للعَدوِّ بمَرصَدٍ.
وعن عَمرِو بنِ قَيسٍ، قال: إيَّاكُم والبِطنةَ؛ فإنَّها تُقسِّي القَلبَ.
وعن سَلَمةَ بنِ سَعيدٍ، قال: إن كان الرَّجُلُ ليُعَيَّرُ بالبِطنةِ كَما يُعَيَّرُ بالذَّنبِ يَعمَلُه. وعن بَعضِ العُلماءِ، قال: إذا كُنتَ بَطينًا فاعدُدْ نَفسَك زَمِنًا حتَّى تَخمُصَ.
وعن ابنِ الأعرابيِّ، قال: كانتِ العَرَبُ تَقولُ: ما باتَ رَجُلٌ بَطينًا فتَمَّ عَزمُه.
وعن أبي سُليمانَ الدَّارانيِّ، قال: إذا أرَدتَ حاجةً مِن حَوائِجِ الدُّنيا والآخِرةِ فلا تَأكُلْ حتَّى تَقضيَها؛ فإنَّ الأكلَ يُغَيِّرُ العَقلَ.
وعن مالِكِ بنِ دينارٍ، قال: ما يَنبَغي للمُؤمِنِ أن يَكونَ بَطنُه أكبَرَ هَمِّه، وأن تَكونَ شَهوتُه هيَ الغالِبةَ عليه...
وكان يُقالُ: مَن مَلَك بَطنَه مَلكَ الأعمالَ الصَّالحةَ كُلَّها، وكان يُقالُ: لا تَسكُنُ الحِكمةُ مَعِدةً مَلأى.
وعن عَبدِ العَزيزِ بنِ أبي روادٍ، قال: كان يُقالُ: قِلَّةُ الطُّعمِ عَونٌ على التَّسَرُّعِ إلى الخَيراتِ.
وعن قُثَمٍ العابِدِ، قال: كان يُقالُ: ما قَلَّ طُعمُ امرِئٍ قَطُّ إلَّا رَقَّ قَلبُه، ونَدِيَت عَيناه.
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَرزوقٍ، قال: لم نَرَ للأشَرِ مِثلَ دَوامِ الجوعِ، فقال له أبو عَبدِ الرَّحمنِ العُمَريُّ الزَّاهِدُ: وما دَوامُه عِندَك؟ قال: دَوامُه ألَّا تَشبعَ أبَدًا. قال: وكَيف يَقدِرُ مَن كان في الدُّنيا على هذا؟ قال: ما أيسَرَ ذلك يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ على أهلِ وِلايَتِه ومَن وفَّقَه لطاعَتِه! لا يَأكُلُ إلَّا دونَ الشِّبَعِ هو دَوامُ الجوعِ.
ويُشبِهُ هذا قَولَ الحَسَنِ لمَّا عَرَضَ الطَّعامَ على بَعضِ أصحابِه، فقال له: أكَلتُ حتَّى لا أستَطيعَ أن آكُلَ، فقال الحَسَنُ: سُبحانَ اللَّهِ! ويَأكُلُ المُسلِمُ حتَّى لا يَستَطيعَ أن يَأكُلَ؟!
وعن أبي عِمرانَ الجَونيِّ، قال: كان يُقالُ: مَن أحَبَّ أن يُنَوَّرَ قَلبُه فليُقِلَّ طُعمَه.
وعن عُثمانَ بنِ زائِدةَ، قال: كَتَبَ إليَّ سُفيانُ الثَّوريُّ: إن أرَدتَ أن يَصِحَّ جِسمُك ويَقِلَّ نَومُك، فأقِلَّ مِنَ الأكلِ...
وقد نَدَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى التَّقَلُّلِ مِنَ الأكلِ في حَديثِ المِقدامِ، وقال: «حَسْبُ ابنِ آدَمَ لُقَيماتٌ يُقِمنَ صُلبَه» [1643] أخرجه الترمذي (2380)، وابن ماجه (3349)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6769) واللفظ له. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). .
وفي "الصَّحيحينِ" عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «المُؤمِنُ يَأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ يَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ» [1644] أخرجه البخاري (5393) واللَّفظُ له، ومسلم (2060) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما. وأخرجه مسلم (2061) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهم. ، والمُرادُ أنَّ المُؤمِنَ يَأكُلُ بأدَبِ الشَّرعِ، فيَأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ يَأكُلُ بمُقتَضى الشَّهوةِ والشَّرَهِ والنَّهَمِ، فيَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ.
ونَدَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ التَّقَلُّلِ مِنَ الأكلِ والاكتِفاءِ ببَعضِ الطَّعامِ إلى الإيثارِ بالباقي مِنه، فقال: «طَعامُ الواحِدِ يَكفي الاثنَينِ، وطَعامُ الاثنَينِ يَكفي الثَّلاثةَ، وطَعامُ الثَّلاثةِ يَكفي الأربَعةَ» [1645] أخرجه البخاري (5392)، ومسلم (2058) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((طَعامُ الاثنَينِ كافي الثَّلاثةِ، وطَعامُ الثَّلاثةِ كافي الأربَعةِ)). وأخرجه مسلم (2059) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظِ: ((طَعامُ الواحِدِ يَكفي الاثنَينِ، وطَعامُ الاثنَينِ يَكفي الأربَعةَ، وطَعامُ الأربَعةِ يَكفي الثَّمانيةَ)). .
وقال بَعضُ السَّلَفِ: كان شَبابٌ يَتَعَبَّدونَ في بَني إسرائيلَ، فإذا كان عِندَ فِطرِهم قامَ عليهم قائِمٌ، فقال: لا تَأكُلوا كَثيرًا؛ فتَشرَبوا كَثيرًا، فتَناموا كَثيرًا، فتَخسَروا كَثيرًا.
وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه يجوعونَ كَثيرًا، ويتَقَلَّلونَ مِن أكلِ الشَّهَواتِ [1646] عن أبي هرَيرةَ، قال: ((خَرَجَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ أو لَيلةٍ، فإذا هو بأبي بَكرٍ وعُمرَ، فقال: ما أخرَجَكما من بُيوتِكما هذه السَّاعةَ؟ قالا: الجوعُ، يا رَسولَ الله! قال: وأنا، والذي نَفسي بيدِه لأخرَجَني الذي أخرَجَكما! قُوموا، فقاموا مَعَه، فأتى رَجُلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بَيتِه، فلَمَّا رَأتْه المَرأةُ قالت: مَرحَبًا وأهلًا! فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أينَ فُلانٌ؟ قالت: ذَهَبَ يَستَعذِبُ لَنا من الماءِ، إذ جاءَ الأنصاريُّ فنَظَرَ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبَيه، ثُمَّ قال: الحَمدُ للهِ، ما أحَدٌ اليَومَ أكرَمَ أضيافًا مِنِّي! قال: فانطَلَقَ فجاءَهم بعِذقٍ فيه بُسْرٌ وتَمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كُلوا من هذه، وأخذَ المُديةَ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إيَّاكَ والحَلُوبَ، فذَبَحَ لهم، فأكَلوا من الشَّاةِ، ومن ذلك العِذْقِ، وشَرِبوا، فلَمَّا أنْ شَبِعوا ورَوُوا قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَكرٍ وعُمرَ: والذي نَفسي بيدِه، لتُسألُنَّ عن هذا النَّعيمِ يَومَ القيامةِ، أخرَجَكم من بُيوتِكمِ الجوعُ، ثُمَّ لَم تَرجِعوا حَتَّى أصابَكم هذا النَّعيمُ)). أخرجه مسلم (2038). ، وإن كان ذلك لعَدَمِ وُجودِ الطَّعامِ، إلَّا أنَّ اللَّهَ لا يَختارُ لرَسولِه إلَّا أكمَلَ الأحوالِ وأفضَلَها؛ ولهذا كان ابنُ عُمَرَ يَتَشَبَّهُ بهم في ذلك مَعَ قُدرَتِه على الطَّعامِ، وكذلك كان أبوه مِن قَبلِه) [1647] ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 468-475). .
وضعُ النَّوَى خارجَ التَّمرِ وكيفيَّةُ إلقائِه
عن عبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((نَزَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أبي، قال: فقَرَّبنا إليه طَعامًا ووَطْبةً [1648] قال ابنُ الأثيرِ: (الوَطْبةُ: الحَيسُ، يَجمَعُ بَينَ التَّمرِ والأقِطِ والسَّمنِ). ((النهاية)) (5/ 203). وقال النَّوويُّ: (الوَطْبةُ: قِربةٌ لطيفةٌ يَكونُ فيها اللَّبَنُ). ((الأذكار)) (ص: 238). ويُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (13/ 225). ، فأكَل مِنها، ثُمَّ أُتيَ بتَمرٍ، فكان يَأكُلُه ويُلقي النَّوى بَينَ إصبَعَيه، ويَجمَعُ السَّبَّابةَ والوُسطى، ثُمَّ أُتيَ بشَرابٍ فشَرِبَه، ثُمَّ ناوَله الذي عن يَمينِه.
قال: فقال أبي، وأخَذَ بلِجامِ دابَّتِه: ادعُ اللهَ لنا، فقال: اللَّهُمَّ بارِكْ لهم فيما رَزَقتَهم، واغفِرْ لهم وارحَمْهم)) [1649] أخرجه مسلم (2042). .
قال عِياضٌ: (قَولُه: «ثُمَّ أُتيَ بتَمرٍ، فكان يَأكُلُه ويُلقي النَّوى بَينَ إصبَعَيه، ويَجمَعُ بَينَ السَّبَّابةِ والوُسطى»: دَليلٌ على قِلَّةِ ما كان يَأكُلُه عليه السَّلامُ؛ لأنَّ ما يَجتَمِعُ بَينَ السَّبَّابةِ والوُسطى إنَّما يَكونُ مِن تَمرٍ قَليلٍ. وفيه: أنَّه لم يُلقِه في التَّمرِ لنَهيِه عن ذلك؛ لِما فيه مِن إفسادٍ للطَّعامِ، وخَلطِه بغَيرِه مِمَّا يُطرَحُ فيه، وهذه سُنَّةٌ. وفيه: أنَّه لم يُلقِ النَّوى مِن حَولِه وفي المَنزِلِ فيُزيلَ نَظافتَه، وهذا مِنَ الأدَبِ والمُروءةِ.
وذَهَبَ ابنُ المُنذِرِ أنَّ مَعناه: أنَّه كان يَجمَعُه على ظَهرِ إصبَعَيه، فيَرمي به) [1650] ((إكمال المعلم)) (6/ 524، 525). .
الوُضوءُ مِن أكلِ لَحمِ الإبِلِ:
اختَلَف العُلماءُ في أكلِ لَحمِ الجَزورِ (الإبِلِ) [1651] وكذلك اختَلفوا في أجزاءِ الإبِلِ مِن غَيرِ اللَّحمِ، كالشَّحمِ والكَبدِ والطِّحالِ، هَل تَنقُضُ الوُضوءَ أم لا؟ على قَولَينِ. وأمَّا شُربُ لبَنِ الإبِلِ ومَرَقِ لحمِها فلا يَنتَقِضُ به الوُضوءُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ، وبه قال أكثَرُ العُلماءِ. يُنظر بَيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في: ((الموسوعة الفِقهيَّة بموقِعِ الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ)) https://dorar.net/feqhia هَل يَنقُضُ الوُضوءَ أو لا؟ على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الأكلَ مِن لَحمِ الجَزورِ لا يَنقُضُ الوُضوءَ [1652] وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ على الصَّحيحِ، وقَولٌ للحَنابلةِ، وبه قالت طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/76)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/438)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/32)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/160)، ((المجموع)) للنووي (2/57). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن سَعيدِ بنِ الحارِثِ عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه سَألَه عنِ الوُضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، فقال: لا، قد كُنَّا زَمانَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نَجِدُ مِثلَ ذلك مِنَ الطَّعامِ إلَّا قَليلًا، فإذا نَحنُ وجَدناه لَم يَكُن لَنا مَناديلُ إلَّا أكُفُّنا وسَواعِدُنا وأقدامُنا، ثُمَّ نُصَلِّي ولا نَتَوضَّأُ)) [1653] أخرجه البخاري (5457). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الأكلَ مِن لَحمِ الجَزورِ يَنقُضُ الوُضوءَ
[1654] وهو مَذهَبُ الحَنابلةِ، وبه قالت طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ، واختارَه ابنُ المُنذِرِ، وابنُ حَزمٍ، والنَّوَويُّ، وابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/130)، ((المجموع)) للنووي (2/57)، ((الأوسط)) لابن المنذر (1/247)، ((المحلى)) لابن حزم (1/225)، ((المجموع)) للنووي (2/57)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (29/80)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/196). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عَن جابِرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَجُلًا سَألَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أأتَوضَّأُ من لُحومِ الغَنَمِ؟ قال:
((إنْ شِئْتَ فتوَضَّأْ، وإنْ شِئْتَ فلا توَضَّأْ، قال: أتَوَضَّأُ من لُحومِ الإبِلِ؟ قال: نَعَم، فتَوَضَّأْ من لُحومِ الإبلِ، قال: أصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ؟ قال: نَعَم، قال: أصَلِّي في مَبارِكِ الإبِلِ؟ قال: لا)) [1655] أخرجه مسلم (360). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقَرَّ الصَّحابيَّ على الوُضوءِ مِن لحمِ الإبِلِ، بَينَما عَلَّقَ الوُضوءَ بالمَشيئةِ في لحمِ الغَنَمِ، فدَلَّ هذا على أنَّ لحمَ الإبِلِ لا مَشيئةَ فيه ولا اختيارَ، وأنَّ الوُضوءَ مِنه واجِبٌ
[1656] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/303). .
2- عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((سُئِل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الوُضوءِ مِن لُحومِ الإبِلِ، فقال: توضَّؤوا مِنها)) [1657] أخرجه أبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494). صحَّحه إسحاق بن راهويه والإمام أحمد كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد بن عبد الهادي (1/308)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/152)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1128). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّه أمَرَ بالوُضوءِ مِن لحمِ الإبِلِ، والأصلُ في الأمرِ الوُجوبُ
[1658] التَمَسَ بَعضُ العُلماءِ حِكمةً، فقال: إنَّ لَحمَ الإبِلِ شَديدُ التَّأثيرِ على الأعصابِ فيُهَيِّجُها؛ ولهذا كان الطِّبُّ الحَديثُ يَنهى الإنسانَ العَصَبيَّ عنِ الإكثارِ مِن لحمِ الإبِلِ، والوُضوءُ يُسَكِّنُ الأعصابَ ويُبرِدُها... وسَواءٌ كانت هذه هيَ الحِكمةَ أم لا، فإنَّ الحِكمةَ هيَ أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لكِن إن عَلِمنا الحِكمةَ فهذا فَضلٌ مِنَ اللهِ وزيادةُ عِلمٍ، وإن لم نَعلَمْ فعَلينا التَّسليمُ والانقيادُ. ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/303، 307). .
اعتِزالُ مَن أكَلَ البَصَلَ والثُّومَ والكُرَّاثَ للمَساجِدِاختَلف أهلُ العِلمِ في حُكمِ حُضورِ المَسجِدِ لمَن أكَل بَصَلًا أو ثُومًا ونَحوَهما، على قَولينِ:
القول الأوَّل: يُكرَه حضورُ المسجدِ لِمَن أكَل ثُومًا أو بصلًا
[1659] ويُلحَقُ بهما كلُّ مَا له رائحةٌ كريهةٌ، كالدُّخانِ وغَيرِه. قال الطَّحطاويُّ: (قُلتُ: فيُفهَمُ مِنه حُكمُ النَّباتِ الذي شاعَ في زَمانِنا المُسَمَّى بالتتن؛ فتَنَبَّهْ، وقد كَرِهَه الشَّيخُ العِماديُّ إلحاقًا له بالثُّومِ والبَصَلِ بالأَولى، فتَدَبَّرْ) ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 441)، ويُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (1/661)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/497). ، أو نحو ذلك
[1660] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (1/661)، ((التاج والإكليل)) للمواق (2/183)، ((المجموع)) للنووي (4/206)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/497). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّة:عن جابرٍ رضي الله عنه، قال:
((نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أكْل البصل والكرَّاث، فغلبَتْنا الحاجةُ، فأكَلْنا منها، فقال: مَن أكَلَ من هذه الشجرةِ الْمُنْتِنةِ، فلا يقربنَّ مسجِدَنا؛ فإنَّ الملائكةَ تَأذَّى ممَّا يَتأذَّى منه الإِنْسُ)) [1661] رواه مسلم (564). .
القول الثَّاني: يحرمُ حضورُ المسجدِ لِمَن أكَل ثُومًا أو بصلًا
[1662] وهو قَولٌ للمالكيَّةِ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ، وهو مَذهَبُ الظَّاهريَّةِ، واختارَه ابنُ جَريرٍ، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي)) (2/92)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/92)، ((المحلى)) لابن حزم (2/367)، ((فتح الباري)) لابن رجب (5/290)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (4/318، 319). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أكْل البصل والكرَّاثِ، فغلبَتْنا الحاجةُ، فأكَلْنا منها، فقال: مَن أكَلَ من هذه الشَّجَرةِ المُنْتِنةِ، فلا يقربنَّ مسجِدَنا؛ فإنَّ الملائكةَ تَأذَّى ممَّا يَتأذَّى منه الإِنْسُ)) [1663] رواه مسلم (564). .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهَى عن قُرب المسجدِ لمن أكَل بَصَلًا أو كرَّاثًا، والنَّهيُ للتحريمِ
[1664] ((التمهيد)) لابن عبد البر (6/415). .
2- عن معدان بن أبي طلحَةَ، أنَّ عمَرَ بنَ الخطَّاب خطَب النَّاسَ يومَ الجمعةِ -فذكر كلامًا كثيرًا- وفيه:
((إنَّكم -أيُّها النَّاسُ- تأكلونَ شجرتينِ لا أُرَاهُما إلَّا خبيثتينِ: هذا البَصَلَ والثُّومَ، ولقد رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا وجَد رِيحَهُما مِن الرَّجُلِ في المسجدِ أمَر به فأُخْرِجَ إلى البقيعِ)) [1665] أخرجه مسلم (567). .
أما التعليل: فلأنَّ صلاة الجماعة واجبةٌ على الأعيانِ، ولا تتمُّ إلَّا بتركِ أكلِ الثُّومِ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ
[1666] ((نيل الأوطار)) للشوكاني (2/180). ، فكلُّ ما منع من إتيانِ الفرضِ والقيامِ به فحرامٌ عملُه والتشاغلُ به، كما أنَّه حرامٌ على الإنسان فعلُ كلِّ ما يمنعُه مِن شهودِ الجمعةِ
[1667] ((التمهيد)) لابن عبد البر (6/415). .