موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في اهتمامِ الشَّرعِ بتقويةِ الرَّوابطِ بينَ المسلمينَ، والتحذيرِ مِن أسباب الفُرقةِ


مَنَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ على المُؤمِنينَ بأنْ ألَّف بينَ قُلوبِهم وجَعَلَهم إخوةً، وحَثَّ على كُلِّ ما يُؤَدِّي إلى التَّوادِّ والائتِلافِ، وحَذَّرَ مِن كُلِّ ما يُؤَدِّي إلى الفُرقةِ والاختِلافِ؛ قال تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62-63] ، وقال عَزَّ وجَلَّ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 10 - 13] .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَحاسَدوا ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا ولا تَدابَروا، ولا يَبِعْ بَعضُكم على بَيعِ بَعضٍ، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المُسلِمُ أخو المُسلِمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه، ولا يَحقِرُه، التَّقوى هاهنا -ويُشيرُ إلى صَدرِه ثلاثَ مرَّاتٍ-، بحَسْبِ امرئٍ من الشَّرِّ أن يَحقِرَ أخاه المُسلِمَ، كُلُّ المُسلِمِ على المُسلِمِ حرامٌ: دَمُه، ومالُه، وعِرْضُه)) [1610] أخرجه مسلم (2564) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. إلى غيرِ ذلك مِن النُّصوصِ التي تَدْعو إلى تحقيقِ هذا المقصدِ وتَعْتني به.
وإذا انعَقَدَتِ الأخوَّةُ والصَّداقةُ فيَنبَغي القيامُ بحُقوقِهما [1611] قال السَّعديُّ في تَفسيرِ قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ [المائِدة: 1] : (هذا أمرٌ مِن اللهِ تعالى لعِبادِه المُؤمِنينَ بما يقتَضيه الإيمانُ بالوفاءِ بالعُقودِ، أي: بإكمالِها، وإتمامِها، وعَدَمِ نَقضِها ونَقصِها. وهذا شامِلٌ للعُقودِ التي بَينَ العَبدِ وبَينَ رَبِّه مِن التِزامِ عُبوديَّتِه، والقيامِ بها أتَمَّ قيامٍ، وعَدَمِ الانتِقاصِ مِن حُقوقِها شَيئًا، والتي بَينَه وبَينَ الرَّسولِ بطاعَتِه واتِّباعِه، والتي بَينَه وبَينَ الوالدَينِ والأقارِبِ ببرِّهم وصِلَتِهم، وعَدَمِ قَطيعَتِهم، والتي بَينَه وبَينَ أصحابِه مِن القيامِ بحُقوقِ الصُّحبةِ في الغِنى والفقرِ، واليُسرِ والعُسرِ، والتي بَينَه وبَينَ الخَلقِ مِن عُقودِ المُعامَلاتِ، كالبَيعِ والإجارةِ، ونَحوِهما، وعُقودِ التَّبَرُّعاتِ، كالهِبةِ ونَحوِها، بَل والقيامِ بحُقوقِ المُسلمينَ التي عَقدَها اللهُ بَينَهم في قَولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ *الحجرات: 10* بالتَّناصُرِ على الحَقِّ، والتَّعاوُنِ عليه، والتَّآلُفِ بَينَ المُسلمينَ وعَدَمِ التَّقاطُعِ. فهذا الأمرُ شامِلٌ لأُصولِ الدِّينِ وفُروعِه؛ فكُلُّها داخِلةٌ في العُقودِ التي أمَرَ اللهُ بالقيامِ بها). ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 218). ، والالتِزامُ بآدابِهما، ومُبايَنةُ ما يَخدِشُهما أو يَفصِمُ عُراهما [1612] قال القُشَيريُّ في تَفسيرِ قَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] : (إيقاعُ الصُّلحِ بينَ المُتَخاصِمينَ مِن أوكَدِ عَزائِمِ الدِّينِ، وإذا كان ذلك واجِبًا فإنَّه يَدُلُّ على عِظَمِ وِزرِ الواشي والنَّمَّامِ، والمصدرِ في إفسادِ ذاتِ البَينِ. فأمَّا شَرطُ الأخوَّةِ: فمِن حَقِّ الأخوَّةِ في الدِّينِ ألَّا تُحوِجَ أخاك إلى الاستِعانةِ بك، أوِ التِماسِ النُّصرةِ عَنك، وألَّا تُقَصِّرَ في تَفقُّدِ أحوالِه بحيثُ يُشكِلُ عليك مَوضِعُ حاجَتِه، فيَحتاجُ إلى مُساءَلتِك. ومِن حَقِّه ألَّا تُلجِئَه إلى الاعتِذارِ لك، بَل تَبسُطُ عُذرَه، فإن أشكَل عليك وَجهُه عُدتَ باللَّائِمةِ على نَفسِك في خَفاءِ عُذرِه عليك، ومِن حَقِّه أن تَتوبَ عَنه إذا أذنَبَ، وتَعودَه إذا مَرِضَ. وإذا أشارَ عليك بشيءٍ فلا تُطالبْه بالدَّليلِ عليه وإبرازِ الحُجَّةِ، كما قالوا: إذا استُنجِدوا لم يَسألوا مَن دَعاهم... لأيَّةِ حَربٍ أم لأيِّ مَكانِ ومِن حَقِّه أن تَحفَظَ عَهدَه القَديمَ، وأن تُراعيَ حَقَّه في أهلِه المُتَّصِلينَ به في المَشهَدِ والمَغيبِ، وفي حالِ الحياةِ وبَعدَ المَماتِ). ((لطائف الإشارات)) (3/ 441). ، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خيرُ الأصحابِ عِندَ اللهِ خَيرُهم لصاحِبِه، وخيرُ الجيرانِ عِندَ اللهِ خَيرُهم لجارِه)) [1613] أخرجه الترمذي (1944)، وأحمد (6566) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (4/239)، وابن حبان في ((صحيحه)) (518)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1640)، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (208)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1944). .
وفيما يلي بيانُ أهمِّ الآدابِ المتعلِّقةِ بالأخوَّةِ والصُّحبةِ:

انظر أيضا: