موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: مُراقَبةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ


يَجِبُ على العَبدِ أن يُراقِبَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، المُطَّلِعَ على الضَّمائِرِ، العالِمَ بالسَّرائِرِ، الرَّقيبَ على أعمالِ العِبادِ، القائِمَ على كُلِّ نَفسٍ بما كَسَبَت [100] حَقيقةُ المُراقَبةِ: هيَ مُلاحَظةُ الرَّقيبِ وانصِرافُ الهَمِّ إليه، ويُعنى بها حالةٌ للقَلبِ يُثمِرُها نَوعٌ مِنَ المَعرِفةِ، وتُثمِرُ تلك الحالةُ أعمالًا في الجَوارِحِ وفي القَلبِ. أمَّا الحالةُ فهيَ مُراعاةُ القَلبِ للرَّقيبِ ومُلاحَظَتُه إيَّاه، وأمَّا المَعرِفةُ فهيَ العِلمُ بأنَّ اللَّهَ مُطَّلعٌ على الضَّمائِرِ، عالمٌ بالسَّرائِرِ، رَقيبٌ على أعمالِ العِبادِ، قائِمٌ على كُلِّ نَفسٍ بما كَسَبَت، وأنَّ سِرَّ القَلبِ في حَقِّه مَكشوفٌ، كما أنَّ ظاهرَ البَشَرةِ للخَلقِ مَكشوفٌ. يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 398)، ((موعظة المؤمنين)) للقاسمي (ص: 308). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] .
2- قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 54] .
3- قال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد: 33] .
أي: أفاللهُ القائِمُ على شُؤونِ جَميعِ عِبادِه -ومِن ذلك أرزاقُهم- العالمُ بهم وبأحوالِهم، الرَّقيبُ على ما يَكسِبونَه مِن أعمالٍ، الحافِظُ لها، والمُجازي عليها خَيرًا وشَرًّا؛ كَمَن ليسَ بهذه الصِّفةِ مِنَ الأصنامِ التي لا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ، ولا تَنفَعُ ولا تَضُرُّ؟! كَلَّا، ليسَ الأمرُ كذلك [101] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (12/ 174). .
4- قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7] .
ففي هذه الآياتِ وُجوبُ مُراقَبةِ العَبدِ رَبَّه؛ فإنَّ العَبدَ إذا علمَ أنَّ اللَّهَ عالمٌ بكُلِّ شَيءٍ: قَولِه وفِعلِه وفِكرِه- أوجَبَ له ذلك مُراقَبةَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وألَّا يَفقِدَه حَيثُ أمَرَه، ولا يَراه حَيثُ نَهاه [102] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 323). .
5- قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] .
يُستَفادُ مِن قَولِه تعالى: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وُجوبُ مُراقَبةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وألَّا نُحَدِّثَ أنفُسَنا بما يُغضِبُه وبما يَكرَهُ؛ فعَلينا أن يَكونَ حَديثُ نُفوسِنا كُلُّه بما يُرضيه؛ لأنَّه يَعلَمُ ذلك، أفلا يَليقُ بنا أن نَستَحيَ مِن رَبِّنا عَزَّ وجَلَّ أن تُوَسوِسَ نُفوسُنا بما لا يَرضاه؟! لكِنَّ الوَساوِسَ التي تَطرَأُ على القَلبِ، ولا يَميلُ الإنسانُ إليها بَل يُحارِبُها، ويُحاوِلُ البُعدَ عنها بقَدرِ إمكانِه: لا تَضُرُّه شَيئًا، بَل هيَ دَليلٌ على إيمانِه؛ لأنَّ الشَّيطانَ إنَّما يَأتي إلى القَلبِ، فيُلقي عليه الوَساوِسَ إذا كان قَلبًا سَليمًا [103] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 89، 363). .
وقَولُه تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هذا مِمَّا يَدعو الإنسانَ إلى مُراقَبةِ خالقِه، المُطَّلعِ على ضَميرِه وباطِنِه، القَريبِ مِنه في جَميعِ أحوالِه؛ فيَستَحي مِنه أن يَراه حَيثُ نَهاه، أو يَفقِدَه حَيثُ أمَرَه [104] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 805). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيثُما كُنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحَسَنةَ تَمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ)) [105] أخرجه الترمذي (1987)، وأحمد (21354). صَحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (179) وقال: على شرط الشيخين، وابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/349)، وحَسَّنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (131)، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2655)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21354) .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَومًا بارِزًا للنَّاسِ إذ أتاه رَجُلٌ يَمشي، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإيمانُ؟ قال: الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه ولقائِه، وتُؤمِنَ بالبَعثِ الآخِرِ. قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإسلامُ؟ قال: الإسلامُ أن تَعبُدَ اللَّهَ ولا تُشرِكَ به شَيئًا، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتيَ الزَّكاةَ المَفروضةَ، وتَصومَ رَمَضانَ. قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإحسانُ؟ قال: الإحسانُ أن تَعبُدَ اللَّهَ كَأنَّك تَراه، فإن لم تَكُنْ تَراه فإنَّه يَراك)) [106] أخرجه البخاري (4777) واللفظ له، ومسلم (9). .
فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أن تَعبُدَ اللَّهَ كَأنَّك تَراه، فإن لم تَكُنْ تَراه فإنَّه يَراك)) أرادَ بذلك استِحضارَ عَظَمةِ اللهِ ومُراقَبَتِه في حالِ العِبادةِ [107] ((مختصر منهاج القاصدين)) لأبي العباس ابن قدامة (ص: 372). .
فائدةٌ:
للمُراقِبِ في أعمالِه نَظَرانِ: نَظَرٌ قَبلَ العَمَلِ، ونَظَرٌ في العَمَلِ؛ أمَّا قَبلَ العَمَلِ فليَنظُرْ هَمَّه وحَرَكَتَه أهي للهِ خاصَّةً أو لهَوى النَّفسِ ومُتابَعةِ الشَّيطانِ، فيَتَوقَّفُ فيه ويَتَثَبَّتُ حتَّى يَنكَشِفَ له ذلك بنورِ الحَقِّ، فإن كان للهِ تعالى أمضاه، وإن كان لغَيرِ اللهِ استَحيا مِنَ اللهِ وانكَفَّ، عنه ثُمَّ لامَ نَفسَه على رَغبَتِه فيه وهَمِّه به ومَيلِه إليه، وعَرَّفها سوءَ فِعلِها وأنَّها عَدوَّةُ نَفسِها.
وأمَّا النَّظَرُ الثَّاني للمُراقَبةِ عِندَ الشُّروعِ في العَمَلِ، فذلك بتَفقُّدِ كَيفيَّةِ العَمَلِ ليَقضيَ حَقَّ اللهِ فيه، ويُحسِنَ النِّيَّةَ في إتمامِه، ويَتَعاطاه على أكمَلِ ما يُمكِنُه.
وهذا مُلازِمٌ له في جَميعِ أحوالِه؛ لأنَّه لا يَخلو إمَّا أن يَكونَ في طاعةٍ أو في مَعصيةٍ أو في مُباحٍ؛ فمُراقَبَتُه في الطَّاعاتِ بالإخلاصِ والإكمالِ ومُراعاةِ الأدَبِ، وحِراسَتِها عنِ الآفاتِ، وإن كان في مَعصيةٍ فمُراقَبَتُه بالتَّوبةِ والنَّدَمِ والإقلاعِ والحَياءِ والاشتِغالِ بالتَّفكيرِ، وإن كان في مُباحٍ فمُراقَبَتُه بمُراعاةِ الأدَبِ، ثُمَّ بشُهودِ المُنعِمِ في النِّعمةِ وبالشُّكرِ عليها. ولا يَخلو العَبدُ في جُملةِ أحوالِه عن بَليَّةٍ لا بُدَّ له مِنَ الصَّبرِ عليها، ونِعمةٍ لا بُدَّ له مِنَ الشُّكرِ عليها، وكُلُّ ذلك مِنَ المُراقَبةِ، بَل لا يَنفَكُّ العَبدُ في كُلِّ حالٍ مِن فَرضِ اللهِ تعالى عليه: إمَّا فِعلٌ يَلزَمُه مُباشَرَتُه، أو مَحظورٌ يَلزَمُه تَركُه، أو نَدبٌ حَثَّ عليه ليُسارِعَ به إلى مَغفِرةِ اللهِ تعالى ويُسابقَ به عِبادَ اللهِ، أو مُباحٌ فيه صَلاحُ جِسمِه وقَلبِه، وفيه عَونٌ له على طاعَتِه، ولكُلِّ واحِدٍ مِن ذلك حُدودٌ لا بُدَّ مِن مُراعاتِها بدَوامِ المُراقَبةِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] [108] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 398)، ((موعظة المؤمنين)) للقاسمي (ص: 308). .

انظر أيضا: