موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في أنَّ الخلقَ منهم الكافرُ والمؤمنُ، وأنَّ الكفَّارَ ليسوا على درجةٍ واحدةٍ


خَلَق اللهُ عَزَّ وجَلَّ الخَلقَ، فمِنهم كافِرٌ ومِنهم مُؤمِنٌ، ولو شاءَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لآمَنَ النَّاسُ كُلُّهم أجمَعونَ: قال جَلَّ ثَناؤُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] ، وقال تقدست أسماؤه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] ، وقال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 99 - 101] ، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام: 35] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107] ، وقال جَلَّ وعلا: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118-119] ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [الشورى: 7-8] ، وقال تبارك اسمه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 93] ، وقال عَزَّ وجَلَّ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] .
وليسَ الكُفَّارُ على دَرَجةٍ واحِدةٍ؛ فمِنهم مُسالمٌ ومُحارِبٌ، ومِنهم ذَوو قَرابةٍ وجِوارٍ، وغَيرُ ذلك، وللتَّعامُلِ مَعَ كُلٍّ أحكامٌ وآدابٌ، ولم يَنهَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن برِّ مَن ليسَ لنا بمُحارِبٍ والإحسانِ إليه، قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 8-9] .
قال الطَّبَريُّ: (وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ من قال: عُنِيَ بذلك: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة: 8] من جميعِ أصنافِ المِلَل ِوالأديانِ: أن تَبَرُّوهم وتَصِلوهم، وتُقْسِطوا إليهم. إنَّ الله عزَّ وجَلَّ عَمَّ بقَولِه: الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ جميعَ من كان ذلك صِفَتَه، فلم يَخصُصْ به بَعضًا دونَ بَعضٍ، ولا معنى لقَولِ من قال: ذلك منسوخٌ؛ لأنَّ بِرَّ المؤمِنِ مِن أهلِ الحَربِ مِمَّن بيْنه وبيْنه قَرابةُ نَسَبٍ، أو مِمَّن لا قرابةَ بينْه وبيْنه ولا نَسَبَ- غيرُ مُحَرَّمٍ، ولا منهيٍّ عنه، إذا لم يكُنْ في ذلك دَلالةٌ له أو لأهل ِالحَربِ على عَورةٍ لأهلِ الإسلامِ، أو تقويةٌ لهم بكُراعٍ أو سِلاحٍ) [2457] ((جامع البيان)) (22/ 574). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ اللَّهَ سُبحانَه لمَّا نَهى في أوَّلِ السُّورةِ عنِ اتخاذِ المُسلِمينَ الكُفَّارَ أولياءَ، وقَطَعَ الموَدَّةَ بَينَهم وبينَهم، تَوَهَّمَ بعضُهم أنَّ بِرَّهُم والإحسانَ إليهم مِن الموُالاةِ والمودَّةِ؛ فبَيَّنَ اللَّهُ سُبحانَه أنَّ ذلك ليس مِن المُوالاةِ المنهيِّ عنها، وأنَّه لم ينْهَ عن ذلك، بل هو مِن الإحسانِ الذي يُحِبُّه ويَرضاه، وكتَبَه على كُلِّ شَيءٍ، وإنَّما المنهيُّ عنه توَلِّي الكُفَّارِ، والإلقاءُ إليهم بالمودَّةِ) [2458] ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 602). ، والكافِرُ الذي لم يُنهَ عن برِّه والإقساطِ إليه مَشروطٌ فيه عَدَمُ القِتالِ في الدِّينِ، وعَدَمُ إخراجِ المُؤمِنينَ مِن ديارِهم، والكافِرُ المَنهيُّ عن ذلك فيه هو المُقاتِلُ في الدِّينِ، المُخرِجُ للمُؤمِنينَ مِن ديارِهم، المُظاهِرُ للعَدوِّ على إخراجِهم [2459] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 236). .
وفيما يَلي ذِكرٌ لبَعضِ الآدابِ التي يَنبَغي للمُسلمِ أن يَتَأدَّبَ بها في مُعامَلتِه مَعَ الكافِرِ غَيرِ المُحارِبِ:

انظر أيضا: