موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: الوفاءُ وأداءُ الأمانةِ والعَدلُ وتَركُ الغَدرِ والخيانةِ والظُّلمِ


يَجِبُ على المُسلمِ أن يَفيَ بما عاهَدَ عليه، ويُؤَدِّيَ الأمانةَ إلى مَنِ ائتَمَنَه عليها مُسلِمًا كان أو كافِرًا، ويَتَعامَلَ بالعَدلِ مَعَ المُسلِمينَ وغَيرِهم، ولا يَحمِلَه تَغايُرُ الدِّينِ على الغَدرِ والخيانةِ والظُّلمِ والاعتِداءِ والتَّنَقُّصِ..
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- من الكتابِ
1-قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] .
قال الطَّبَريُّ: (يقولُ: وأوفوا بالعَقدِ الذي تُعاقِدون النَّاسَ في الصُّلحِ بَينَ أهلِ الحَربِ والإسلامِ، وفيما بَينَكم أيضًا، والبُيوعِ والأشرِيةِ والإجاراتِ، وغيرِ ذلك من العُقودِ) [2483] ((جامع البيان)) (14/ 590، 591). .
2-قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4] .
3-قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال: 58] .
4- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] .
5-قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152] .
6-قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8] .
7-قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء: 135] .
8-قال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42] .
9-قال تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة: 2] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن حُذَيفةَ بنِ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (ما منَعَني أن أشهَدَ بَدرًا إلَّا أني خرَجتُ أنا وأبي حُسَيلٌ [2484] حسيلٌ: هو والدُ حذيفةَ، واليمان لقبٌ له. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 144). ، قال: فأخَذَنا كُفَّارُ قُرَيشٍ، قالوا: إنَّكم تريدون محمَّدًا؟ فقُلْنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلَّا المدينةَ، فأخذوا منا عَهدَ اللهِ وميثاقَه لننصَرِفَنَّ إلى المدينةِ، ولا نقاتِلُ معه، فأتينا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْناه الخبرَ، فقال: انصَرِفا، نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم!)). [2485] أخرجه مسلم (1787).
2-عن سُلَيمِ بنِ عامِرٍ رَجُلٍ مِن حِميَرٍ، قال: (كان بَينَ مُعاويةَ وبَينَ الرُّومِ عَهدٌ، وكان يسيرُ نَحوَ بلادِهم، حتَّى إذا انقَضى العَهدُ غَزاهم، فجاءَ رَجُلٌ على فرَسٍ أو بِرذَونٍ [2486] على فرَسٍ: أي: فرَسٍ عَرَبيٍّ. أو بِرذَونٍ: أي: أو فرَسٍ تُركيٍّ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (4/ 423). وهو يَقولُ: اللهُ أكبَرُ، اللَّه أكبَرُ، وفاءٌ لا غَدرٌ [2487] وفاءٌ لا غَدرٌ: يَعني: ليَكُنْ مِنكُم وفاءٌ بالعَهدِ لا غَدرٌ، أو: الواجِبُ عَليكُم وفاءٌ لا غَدرٌ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (4/ 423). ، فنَظَروا فإذا عَمرُو بنُ عَبَسةَ، فأرسَل إليه مُعاويةُ فسَأله، فقال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: مَن كان بَينَه وبَينَ قَومٍ عَهدٌ فلا يشُدَّ عُقدةً ولا يحُلَّها حتَّى ينقَضي أمَدُها [2488] الأمَدُ: الغايةُ. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 317). أو يَنبِذَ إليهم على سَواءٍ [2489] يَنبِذَ إليهم على سَواءٍ: أي: يُعلِمَهم أنَّه يُريدُ أن يَغزوَهم، وأنَّ الصُّلحَ الذي كان قدِ ارتَفعَ، فيَكونُ الفريقانِ في عِلمِ ذلك على السَّواءِ. قيل: يُشبِهُ أن يَكونَ إنَّما كَرِهَ عَمرُو بنُ عَبَسةَ ذلك مِن أجلِ أنَّه إذا هادَنَهم إلى مُدَّةٍ وهو مُقيمٌ في وطَنِه، فقد صارَت مُدَّةُ مَسيرِه بَعدَ انقِضاءِ المُدَّةِ كالمَشروطِ مَعَ المُدَّةِ المَضروبةِ في أن لا يَغزوَهم فيها، فإذا صارَ إليهم في أيَّامِ الهُدنةِ كان إيقاعُه قَبلَ الوقتِ الذي يَتَوقَّعونَه، فعَدَّ ذلك عَمرٌو غَدرًا. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 317، 318)، ((شرح السنة)) للبغوي (11/ 166، 167). ، فرَجَعَ مُعاويةُ) [2490] أخرجه أبو داود (2759) واللفظ له، والترمذي (1580)، وأحمد (17025). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (4871)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (120)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2759)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2759)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ، وذَكَرَ ثُبوتَه ابنُ القَيِّمِ في ((زاد المعاد)) (3/113). .
3-عن هِشامٍ، عن أبيه، قال: مَرَّ هِشامُ بنُ حَكيمِ بنِ حِزامٍ على أُناسٍ مِنَ الأنباطِ [2491] الأنباطُ: هم نَصارى الشَّامِ الذين عَمَروها، وأهلُ سَوادِ العِراقِ، وقيل: جِيلٌ وجِنسٌ مِنَ النَّاسِ، ويحتملُ أنَّ تَسميَتهم بذلك لاستِنباطِهمُ المياهَ واستِخراجِها: واسمُ الماءُ: النَّبَطُ، وقيل: بَل سُمِّيَ بذلك مِن أجلِهم واسمِهم؛ لفِعلِهم ذلك وعِمارَتِهمُ الأرضَ. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لعياض (2/ 3). بالشَّامِ قَد أُقيموا في الشَّمسِ! فقال: ما شَأنُهم؟! قالوا: حُبِسوا في الجِزيةِ! فقال هشامٌ: أشهَدُ لسَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الذينَ يُعَذِّبونَ النَّاسَ في الدُّنيا)) [2492] أخرجه مسلم (2613). .
4- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيما رَوى عنِ اللهِ تَبارَكَ وتعالى أنَّه قال: ((يا عِبادي، إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسي، وجَعَلتُه بَينَكُم مُحَرَّمًا، فلا تَظالَموا)) [2493] أخرجه مسلم (2577). .
5-عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَثَ مُعاذًا إلى اليَمَنِ، فقال: اتَّقِ دَعوةَ المَظلومِ؛ فإنَّها ليسَ بَينَها وبَينَ اللهِ حِجابٌ)) [2494] أخرجه البخاري (2448) واللفظ له، ومسلم (19). .
وفي حَديثِ ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اتَّقوا دَعَواتِ المَظلومِ؛ فإنَّها تَصعَدُ إلى السَّماءِ كَأنَّها شَرارٌ)) [2495] أخرجه الحاكم (81) واللفظ له، والديلمي في ((الفردوس)) (307). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (118). .
6-عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَن قَتَل مُعاهدًا لم يَرَحْ رائِحةَ الجَنَّةِ، وإنَّ ريحَها توجَدُ مِن مَسيرةِ أربَعينَ عامًا)) [2496] أخرجه البخاري (3166). .
7-عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ألا مَن قَتَلَ نَفسًا مُعاهَدةً له ذِمَّةُ اللهِ وذِمَّةُ رَسولِه، فقد أخفَرَ بذِمَّةِ اللهِ، فلا يَرَحُ رائِحةَ الجَنَّةِ، وإنَّ ريحَها ليوجَدُ من مَسيرةِ سَبعينَ خَريفًا)). [2497] أخرجه الترمذي (1403) واللَّفظُ له، وابن ماجه (2687). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (1403)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ.
8- عن أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن قَتَل نَفسًا مُعاهَدةً بغَيرِ حِلِّها، حَرَّمَ اللَّهُ عليه الجَنَّةَ أن يَشَمَّ ريحَها)). [2498] أخرجه النسائي (4748)، وأحمد (20397). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (4748)، وصَحَّحَ إسناده شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (20397).
وفي رِوايةٍ: ((مَن قَتَل نَفسًا مُعاهَدةً بغَيرِ حَقِّها لم يَرَحْ رائِحةَ الجَنَّةِ، وإنَّ ريحَ الجَنَّةِ ليوجَدُ مِن مَسيرةِ مِائةِ عامٍ)). [2499] أخرجها أحمد (20515)، وابن حبان (7382). صَحَّحها ابنُ حِبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3008)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (20515).
9- قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألا مَن ظَلَم مُعاهدًا أوِ انتَقَصَه، أو كَلَّفه فوقَ طاقَتِه، أو أخَذَ مِنه شَيئًا بغَيرِ طِيبِ نَفسٍ، فأنا حَجيجُه [2500] الحَجيجُ: فَعيلٌ مِنَ المُحاجَّةِ، وهيَ المُغالَبةُ وإظهارُ الحُجَّةِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 652). يَومَ القيامةِ)). [2501] أخرجه أبو داود (3052) واللفظ له، وابن زنجويه في ((الأموال)) (621)، والبيهقي (18765). حَسَّنه ابنُ حَجَرٍ في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/184)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3006)، وجَوَّد إسنادَه السَّخاويُّ في ((الأجوبة المرضية)) (2/436)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/342).
قال القاريُّ: ("ألَا" للتَّنبيهِ "مَن ظَلمَ مُعاهدًا" بكَسرِ الهاءِ، أي: ذِمِّيًّا، أو مُستَأمنًا "أوِ انتَقَصَه" أي: نَقَصَ حَقَّه "أو كَلَّفه" أي: في أداءِ الجِزيةِ، أوِ الخَراجِ "فوقَ طاقَتِه" بأن أخَذ مِمَّن لا يَجِبُ عليه الجِزيةُ، أو أخَذَ مِمَّن يَجِبُ عليه أكثَرَ مِمَّا يُطيقُ، أو فوقَ نِصفِ العُشرِ مِن مالِ تِجارَتِه إن كان ذِمِّيًّا، وفوقَ عُشرِ مالِ تِجارَتِه إن كان حَربيًّا مُستَأمنًا "أو أخَذَ مِنه شَيئًا بغَيرِ طِيبِ نَفسٍ" تَعميمٌ بَعدَ تَخصيصٍ، أو تَقييدٌ وتَأكيدٌ "فأنا حَجيجُه" أي: خَصمُه ومحاجُّه ومُغالِبُه بإظهارِ الحُجَجِ عليه "يَومَ القيامةِ"، والحُجَّةُ الدَّليلُ والبُرهانُ) [2502] ((مرقاة المفاتيح)) (6/ 2625). .
10-عن عَمرِو بنِ الحَمِقِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((أيُّما رَجُلٍ أمَّن رَجُلًا على دَمِه ثُمَّ قَتَله، فأنا مِنَ القاتِلِ بَريءٌ، وإن كان المَقتول ُكافِرًا)). [2503] أخرجه البزار (2308)، وابن حبان (5982)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6640). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3007)، وحَسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5982)، وقال العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (2/215): إسنادُه صالحٌ.
وفي رِوايةٍ: ((مَن أمَّنَ رَجُلًا على دَمِه فقَتَله، فإنَّه يَحمِلُ لواءَ غَدرٍ يَومَ القيامةِ)). [2504] أخرجها ابن ماجه (2688) واللَّفظُ له، وأحمد (21946). صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2688)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1005)، وصَحَّحَ إسنادها شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (21946).
وفي رِوايةٍ أُخرى: ((إذا اطمَأنَّ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ ثُمَّ قَتَله بَعدَما اطمَأنَّ إليه نُصِب له يَومَ القيامةِ لواءُ غَدرٍ)). [2505] أخرجها النسائي في ((السنن الكبرى)) (8688)، والحاكم (8251) واللَّفظُ له. صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (357)، وصَحَّحَ إسنادَها الحاكِمُ.
ج- مِنَ الآثارِ
1-أوصى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه لمَّا طُعِنَ، فكان مِن وصيَّتِه: (أوصي الخَليفةَ مِن بَعدي بالمُهاجِرينَ الأوَّلينَ خَيرًا، أن يَعرِفَ لهم حَقَّهم، وأن يحفَظَ لهم حُرمَتَهم، وأوصيه بالأنصارِ خَيرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ أن يُقبَلَ مِن مُحسنِهم، ويُعفى عن مُسيئِهم، وأوصيه بذِمَّةِ اللهِ، وذِمَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يوفَى لهم بعَهدِهم، وأن يُقاتَلَ مِن ورائِهم، وأن لا يُكَلَّفوا فوقَ طاقَتِهم) [2506] أخرجه البخاري (1392). .
2-لمَّا أُسِر خُبَيبُ بنُ عَديٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وأجمَعوا على قَتلِه (استَعارَ مِن بَعضِ بَناتِ الحارِث موسًى يَستَحِدُّ بها فأعارَته، فدَرَجَ بُنَيٌّ لها وهيَ غافِلةٌ حتَّى أتاه، فوجَدَته مُجلِسَه على فَخِذِه والموسى بيَدِه، قالت: ففَزِعتُ فَزعةً عَرَفها خُبَيبٌ، فقال: أتَخشَينَ أن أقتُلَه؟ ما كُنتُ لأفعَلَ ذلك، قالت: واللهِ ما رَأيتُ أسيرًا قَطُّ خَيرًا مِن خُبَيبٍ، واللَّهِ لقد وجَدتُه يَومًا يَأكُلُ قِطفًا مِن عِنَبٍ في يَدِه، وإنَّه لموثَقٌ بالحَديدِ، وما بمَكَّةَ مِن ثَمَرةٍ! وكانت تَقولُ: إنَّه لرِزقٌ رَزَقه اللَّهُ خُبَيبًا). [2507] أخرجه البخاري (3989) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
فوائِدُ:
1-قال ميمونُ بنُ مِهرانَ: (ثَلاثةُ أشياءَ الكافِرُ والمُسلِمُ فيهنَّ سَواءٌ: مَن عاهَدتَه ثِق له بعَهدِك، مُسلِمًا كان أو كافِرًا؛ فإنَّما العَهدُ للَّهِ. ومَن كانت بينَك وبينَه قَرابةٌ فصِلْه، مُسلِمًا كان أو كافِرًا. ومَنِ ائتَمَنَك على أمانةٍ فأدِّها، مُسلِمًا كان أو كافِرًا) [2508] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 135). .
2-كتب عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ إلى عَدِيِّ بنِ أرطأةَ: (وانظُرْ مَن قِبَلَك من أهلِ الذِّمَّةِ قد كَبِرَت سِنُّه، وضَعُفَت قُوَّتُه، وولَّت عنه المكاسِبُ ... ثمَّ أجْرِ عليه من بيتِ المالِ ما يُصلِحُه) [2509] ((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 56)، ((الأموال)) لابن زنجويه (1/ 169). .
3-قال ابنُ تيميَّةَ: (وقد عرَف النَّصارى كُلُّهم أنِّي لمَّا خاطَبْتُ التَّتارَ في إطلاقِ الأسرى وأطلقَهم غازان وقطلو شاه، وخاطَبْتُ مولاي فيهم فسَمَح بإطلاقِ المُسلِمين. قال لي: لكِنَّ معنا نصارى أخَذْناهم من القُدسِ، فهؤلاء لا يُطلَقون. فقُلتُ له: بل جميعُ مَن معك مِن اليهودِ والنَّصارى الَّذين هم أهلُ ذِمَّتِنا؛ فإنَّا نفتَكُّهم ولا نَدَعُ أسيرًا لا مِن أهلِ المِلَّةِ ولا من أهلِ الذِّمَّةِ. وأطلَقْنا مِن النَّصارى مَن شاء اللهُ. فهذا عمَلُنا وإحسانُنا، والجزاءُ على اللهِ) [2510] ((مجموع الفتاوى)) (28/ 617، 618). .
4- (إذا كانتِ الأخلاقُ في الإسلامِ تَقومُ على مَبدَأِ التَّحَلِّي بالفضائِلِ، والتَّخَلِّي عنِ الرَّذائِلِ، وعلى أساسِ الالتِزامِ للمَنهَجِ الرَّبَّانيِّ في التَّربيةِ النَّفسيَّةِ والخُلُقيَّةِ؛ فجَديرٌ بالمُسلمِ أن يَتَخَلَّى عن كُلِّ الرَّذائِلِ التي نَهَتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ عنها، وأن يَتَحَلَّى بكُلِّ الفضائِلِ التي أمَرَتِ الشَّريعةُ بها، وأن يَلتَزِمَ المَبادِئَ الخُلُقيَّةَ التي دَعا إليها القُرآنُ العَظيمُ، وحَضَّ عليها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبهذا يَكونُ المُسلِمُ قُدوةً صالحةً للنَّاسِ، فيَتَأثَّرونَ به، ويَأخُذونَ عنه، ويَمشي وكَأنَّه شامةٌ في المُجتَمَعِ.
ولا شَكَّ أنَّ التَّربيةَ بالقُدوةِ، والدَّعوةَ إلى اللهِ بالحالِ قَبلَ المَقالِ: مِن أكبَرِ العَوامِلِ في إصلاحِ الأفرادِ وهدايةِ الأُمَمِ، بَل مِن أعظَمِ الأُسُسِ في انتِشارِ الإسلامِ في ديارِ الشَّرقِ والغَربِ.
والتَّاريخُ يُسَطِّرُ بملءِ الافتِخارِ والإعجابِ أنَّ الإسلامَ وصَل إلى جَنوبِ الهِندِ وسيلانَ وجُزُرِ لكديف ومالاديف في المُحيطِ الهنديِّ، وإلى التيبت، وإلى سَواحِلِ الصِّينِ، وإلى الفِلِيبين، وجُزُرِ أندونسيا، وشِبهِ جَزيرةِ الملايو، ووصَلَ إلى أواسِطِ إفريقيا في السِّنغالِ، ونَيجيريا، والصُّومالِ، وتنزانيا، ومَدغَشقَرَ، وزَنجِبارَ، وغَيرِها مِنَ البلادِ...
وصَل الإسلامُ إلى كُلِّ هذه الأُمَمِ بواسِطةِ تُجَّارٍ مُؤمِنينَ أعطَوا الصُّورةَ الصَّادِقةَ عنِ الإسلامِ في سُلوكِهم وأمانَتِهم ووفائِهم وصِدقِهم، ثُمَّ أعقَبَ ذلك الكَلِمةَ الطَّيِّبةَ، والمَوعِظةَ الحَسَنةَ، والدَّعوةَ اللَّطيفةَ؛ فدَخل النَّاسُ في دينِ اللهِ أفواجًا، وآمَنوا بالدِّينِ الجَديدِ عنِ اقتِناعٍ وإيمانٍ ورَغبةٍ.
ولولا أن يَتَمَيَّزَ هؤلاء التُّجَّارُ الدُّعاةُ بأخلاقِهم، ويَشتَهِروا بَينَ أولئِكَ الأقوامِ بصِدقِهم وأمانَتِهم، ويُعرَفوا لدى الغُرَباءِ بلُطفِهم وحُسنِ مُعامَلتِهم؛ لَمَا اعتَنَقوا هذا الإسلامَ، ولَمَا دَخَلوا في عَدلِه ورَحمَتِه!
ونَخلُصُ مِمَّا تقَدَّم: أنَّ التَّمَيُّزَ الخُلُقيَّ المُتَمَثِّلَ بالقُدوةِ الصَّالحةِ هو مِن أكبَرِ العَوامِلِ في التَّأثيرِ على القُلوبِ والنُّفوسِ، ومِن أعظَمِ الوسائِلِ في نَشرِ الإسلامِ في الأصقاعِ المَعمورةِ، وفي هدايةِ البَشَريَّةِ إلى سُبُلِ الإيمانِ، وطُرُقِ الخَيرِ.
فما أجدَرَكُم أن تَتَمَيَّزوا على غَيرِكُم بالأخلاقِ الفاضِلةِ، والسُّمعةِ الحَسَنةِ، والمُعامَلةِ الطَّيِّبةِ، والصِّفاتِ الإسلاميَّةِ النَّبيلةِ؛ لتكونوا في العالَمينَ أقمارَ هدايةٍ، وشُموسَ إصلاحٍ، ودُعاةَ خَيرٍ وحَقٍّ) [2511] ((حتى يعلم الشباب)) لعلوان (ص: 118). .

انظر أيضا: