موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في منزلةِ القرآنِ، وفضلِ تلاوتِه وبعضِ ثمراتِها


القُرآنُ الكَريمَ هو كَلامُ اللَّهِ الذي لا يَأتيه الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيه ولا مِن خَلفِه، مَن قال به صَدَقَ، ومَن حَكَمَ به عَدَلَ،
وهو كتابٌ مباركٌ ونورٌ وهدًى ورحمةٌ وشفاءٌ: قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [الأنعام: 92] ، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] ، وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ [الأنبياء: 50] ، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
وقال سُبحانَه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 174-175] ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .
وقال عزَّ وجَلَّ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ، هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 203 - 206] ، فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ [الأنعام: 157] ، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51] .
وقال جَلَّ ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57-58] ، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .
وقد أثْنَى الله تعالى على الذينَ يَتْلونَه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ وكان مُطَرِّفٌ يقولُ في هذه الآيةِ: (هذه آيةُ القُرَّاءِ) [1600] أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (35119)، وابن جرير في ((تفسيره)) (19/366). . ففي الآيةِ ما يَشملُ ثوابَ قرَّاءِ القُرآنِ؛ فإنَّهم يَصدُقُ عليهم أنَّهم مِن الَّذين يَتلونَ كِتابَ اللهِ ويُقيمونَ الصَّلاةَ [1601] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (22/308). .
ولتِلاوةِ القُرآنِ الكَريمِ ثَمَراتٌ عَظيمةٌ؛ مِنها:
- زيادةُ الإيمانِ: قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] .
- نَيلُ الطُّمَأنينةِ ونُزولُ السَّكينةِ وغِشيانُ الرَّحمةِ: قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] . وقراءةُ القرآنِ أفضَلُ الأذكارِ.
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... وما اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيوتِ اللهِ يَتلونَ كِتابَ اللهِ ويَتَدارَسونَه بَينَهم، إلَّا نَزَلت عليهمُ السَّكينةُ، وغَشيَتهمُ الرَّحمةُ، وحَفَّتهمُ المَلائِكةُ)) [1602] أخرجه مسلم (2699). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ أُسَيدَ بنَ حُضَيرٍ بَينَما هو ليلةً يَقرَأُ في مِربَدِه [1603] المِربَدُ: مَوقِفُ الإبِلِ، والمُرادُ: مَوضِعُه الذي كان فيه. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 505). ، إذ جالت [1604] جالت: اضطَرَبَت. ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (2/ 438). فرَسُه، فقَرَأ، ثُمَّ جالت أُخرى، فقَرَأ، ثُمَّ جالت أيضًا، قال أُسَيدٌ: فخَشِيتُ أن تَطَأَ يَحيى، فقُمتُ إليها، فإذا مِثلُ الظُّلَّةِ [1605] الظُّلَّةُ: هيَ الغاشيةُ، وقيل: السَّحابةُ. ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (2/ 354). فَوقَ رَأسي فيها أمثالُ السُّرُجِ، عَرَجَت [1606] العُروجُ: الصُّعودُ إلى فَوقٍ. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 506). في الجَوِّ حتَّى ما أراها، قال: فغَدَوتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بَينَما أنا البارِحةَ مِن جَوفِ اللَّيلِ أقرَأُ في مِربَدي إذ جالت فرَسي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اقرَأِ ابنَ حُضَيرٍ، قال: فقَرَأتُ، ثُمَّ جالت أيضًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اقرَأِ ابنَ حُضَيرٍ، قال: فقَرَأتُ، ثُمَّ جالت أيضًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اقرَأِ ابنَ حُضَيرٍ، قال: فانصَرَفتُ، وكان يَحيى قَريبًا مِنها، خَشيتُ أن تَطَأَه، فرَأيتُ مِثلَ الظُّلَّةِ فيها أمثالُ السُّرُجِ، عَرَجَت في الجَوِّ حتَّى ما أراها، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تلك المَلائِكةُ كانت تَستَمِعُ لك، ولو قَرَأتَ لأصبَحَت يَراها النَّاسُ ما تَستَتِرُ مِنهم)) [1607] أخرجه مسلم (796). .
وعنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَجُلٌ يَقرَأُ سورةَ الكَهفِ وعِندَه فرَسٌ مَربوطٌ بشَطَنَينِ [1608] الشَّطَنُ: الحَبَلُ، يُريدُ كَأنَّه رَبَطَه بحَبلينِ. ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 1943). ، فتَغَشَّته سَحابةٌ فجَعَلت تَدورُ وتَدنو، وجَعَل فرَسُه يَنفِرُ مِنها، فلمَّا أصبَحَ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكَرَ ذلك له، فقال: تلك السَّكينةُ تَنَزَّلت للقُرآنِ)) [1609] أخرجه البخاري (4839)، ومسلم (795) واللفظ له. .
- نَيلُ شَفاعةِ القُرآنِ يَومَ القيامةِ، وإدراكُ الدَّرَجاتِ العُلا: فعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ: اقرَأْ وارَتقِ، ورَتِّلْ كَما كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنزِلَك عِندَ آخِرِ آيةٍ تَقرَؤُها)) [1610] أخرجه أبو داود (1464) واللفظ له، والترمذي (2914)، وأحمد (6799) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (766)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1464)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (798)، وقال الترمذي والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1464): حَسَنٌ صحيحٌ. .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ يَومَ القيامةِ إذا دَخَل الجَنَّةَ: اقرَأْ واصعَدْ، فيَقرَأُ ويَصعَدُ بكُلِّ آيةٍ دَرَجةً، حتَّى يَقرَأَ آخِرَ شَيءٍ مَعَه)) [1611] أخرجه ابن ماجه (3780)، وأحمد (11360) واللَّفظُ له. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3780)، وصَحَّحه لغَيرِه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (11360). .
هذا، وإنَّ تِلاوةَ القرآنِ تَتناوَلُ تِلاوةَ لَفْظِه ومعناه، وتِلاوةُ لفظِه وسيلةٌ وطريقٌ، والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقيَّةُ، وهي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبرِه، وائْتِمارًا بأمرِه، وانتِهاءً عن نَهْيِه، وائْتِمامًا به، حيثُ ما قادَك انقدْتَ معه، فتلاوةُ المعنَى أشرفُ مِن مجرَّدِ تلاوةِ اللَّفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآنِ الَّذين لهم الثَّناءُ في الدُّنيا والآخرةِ؛ فإنَّهم أهلُ مُتابَعةٍ وتلاوةٍ حقًّا [1612] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/42). .
فحَريٌّ بالمُسلمِ أن يَحرِصَ على تِلاوةِ القُرآنِ لفظًا ومَعنًى؛ حتَّى يَكونَ مِن أهلِ القُرآنِ الذينَ هم أهلُ اللهِ وخاصَّتُه.
هذا، ولتِلاوةِ القُرآنِ الكَريمِ آدابٌ يَنبَغي على المُسلمِ أن يُراعيَها، ونَذكُرُ فيما يَلي أهَمَّ هذه الآدابِ:

انظر أيضا: