موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: الإخلاصُ


يَجِبُ على قارِئِ القُرآنِ الكَريمِ أن يَكونَ مُخلِصًا عِندَ تِلاوةِ القُرآنِ مُريدًا وَجهَ اللهِ بقِراءَتِه [1613] قال أبو بَكرٍ الآجُرِّيُّ: (يَنبَغي لمَن رَزَقه اللهُ حُسنَ الصَّوتِ بالقُرآنِ أن يَعلَمَ أنَّ اللَّهَ قد خَصَّه بخَيرٍ عَظيمٍ، فليَعرِفْ قَدرَ ما خَصَّه اللهُ به، وليَقرَأْ للهِ لا للمَخلوقينَ، وليَحذَرْ مِنَ المَيلِ إلى أن يُستَمَعَ مِنه ليَحظى به عِندَ السَّامِعينَ رَغبةً في الدُّنيا والمَيلِ إلى حُسنِ الثَّناءِ والجاهِ عِندَ أبناءِ الدُّنيا، والصَّلاةِ بالمُلوكِ دونَ الصَّلاةِ بعَوامِّ النَّاسِ، فمَن مالَت نَفسُه إلى ما نَهَيتُه عنه خِفْتُه أن يَكونَ حُسنُ صَوتِه فِتنةً عليه، وإنَّما يَنفَعُه حُسنُ صَوتِه إذا خَشيَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ في السِّرِّ والعَلانيةِ، وكان مُرادُه أن يُستَمَعَ مِنه القُرآنُ ليَنتَبهَ أهلُ الغَفلةِ عن غَفلَتِهم، فيَرغَبوا فيما رَغَّبَهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، ويَنتَهوا عَمَّا نَهاهم، فمَن كانت هذه صِفتَه انتَفعَ بحُسنِ صَوتِه، وانتَفعَ به النَّاسُ). ((أخلاق أهل القرآن)) (ص: 161). وقال الحَليميُّ: (قِراءةُ القُرآنِ عِبادةٌ، والمُباهاةُ بها مُراءاةٌ، والرِّياءُ فيها كالرِّياءِ في غَيرِها مِنَ العِباداتِ). ((المنهاج في شعب الإيمان)) (2/ 257). وقال النَّوويُّ: (أوَّلُ ما يَنبَغي للمُقرِئِ والقارِئِ أن يَقصِدا بذلك رِضا اللهِ تعالى... ويَنبَغي ألَّا يَقصِدَ به تَوصُّلًا إلى غَرَضٍ مِن أغراضِ الدُّنيا مِن مالٍ أو رياسةٍ أو وَجاهةٍ أوِ ارتِفاعٍ على أقرانِه أو ثَناءٍ عِندَ النَّاسِ أو صَرفِ وُجوهِ النَّاسِ إليه أو نَحوِ ذلك، ولا يَشوبُ المُقرِئُ إقراءَه بطَمَعٍ في رِفقٍ يَحصُلُ له مِن بَعضِ مَن يَقرَأُ عليه، سَواءٌ كان الرِّفقُ مالًا أو خِدمةً وإن قَلَّ، ولَو كان على صورةِ الهَديَّةِ التي لَولا قِراءَتُه عليه لَما أهداها إليه؛ قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] ، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ الآية [الإسراء: 18] ). ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 31-34). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] .
2- قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 2-3] .
3- قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر: 11 - 14] .
4- قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] .
قال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ في قَولِه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: (أخلَصُه وأصوَبُه؛ فإنَّ العَمَلَ إذا كان خالصًا ولَم يَكُنْ صَوابًا لَم يُقبَلْ، وإذا كان صَوابًا ولَم يَكُنْ خالصًا لَم يُقبَلْ، حَتَّى يَكونَ خالصًا صَوابًا، والخالِصُ إذا كان للهِ، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّةِ) [1614] يُنظر: ((الإخلاص والنية)) لابن أبي الدنيا (22)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (8/ 95). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الأعمالُ بالنِّيَّةِ، ولكُلِّ امرِئٍ ما نَوى، فمَن كانت هِجرتُه إلى اللهِ ورَسولِه فهِجرتُه إلى اللهِ ورَسولِه، ومَن كانت هِجرتُه لدُنيا يُصيبُها، أوِ امرَأةٍ يَتَزَوَّجُها، فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه)) [1615] أخرجه البخاري (54) واللفظ له، ومسلم (1907). .
2- عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أرأيتَ رَجُلًا غزا يلتَمِسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما له؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شيءَ له، فأعادها ثلاثَ مرَّاتٍ، يقولُ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له، ثم قال: إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ من العَمَلِ إلَّا ما كان له خالِصًا، وابتُغِيَ به وَجهُه)) [1616] أخرجه من طرقٍ: النسائي (3140) واللفظ له، والطبراني (8/165) (7628). حسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (8)، وجوَّد إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/40)، وابنُ رجب في ((جامع العلوم والحِكَم)) (1/81)، وابنُ حجر في ((فتح الباري)) (6/35)، والصَّنعانيُّ في ((سبل السلام)) (4/68)، وحسَّنه العِراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (5/112). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قال اللهُ تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّرَكاءِ عنِ الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيه مَعي غَيري تَرَكتُه وشِركَه)) [1617] أخرجه مسلم (2985). .
4- عن سُلَيمانَ بنِ يَسارٍ، قال: تَفَرَّق النَّاسُ عن أبي هُرَيرةَ، فقال له ناتِلُ أهلِ الشَّامِ: أيُّها الشَّيخُ، حَدِّثْنا حَديثًا سَمِعتَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: نَعَم، سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى يَومَ القيامةِ عليه: رَجُلٌ استُشهِدَ، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فيك حَتَّى استُشهِدْتُ، فقال: كذَبْتَ، ولَكِنَّك قاتَلتَ لأن يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وَجهِه، حَتَّى ألقيَ في النَّارِ. ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وعَلَّمَه، وقَرَأ القُرآنَ، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تَعَلَّمتُ العِلمَ وعَلَّمْتُه، وقَرَأتُ فيك القُرآنَ، قال: كذَبتَ، ولَكِنَّك تَعَلَّمتَ العِلمَ ليُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأتَ القُرآنَ ليُقالَ: هو قارِئٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وَجهِه، حَتَّى ألقِيَ في النَّارِ. ورَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كُلِّه، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: ما تَرَكتُ من سَبيلٍ تُحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقْتُ فيها لَك، قال: كذَبتَ، ولَكِنَّك فعَلْتَ ليُقالَ: هو جَوادٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أمِرَ به فسُحِبَ على وَجهِه، ثُمَّ ألقِيَ في النَّارِ)) [1618] أخرجه مسلم (1905). .

انظر أيضا: