أ- من القُرآنِ الكريمِ
1- قال تعالى:
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء: 37] .
هذه الآيةُ تُبَيِّنُ أنَّ الإنسانَ بطبيعتِه عَجولٌ، فيستعجِلُ كثيرًا من الأشياءِ وإن كانت مُضِرَّةً
[1507] يُنظَر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (11/ 288). ، فلمَّا كانت طبيعتُه العَجَلةَ صار كأنَّه ناشئٌ منها، كأنَّها عُنصُرُ وُجودِه
[1508] يُنظَر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (2/142). . وهو وإن كان قد جُبِل على العَجَلِ، لكِنْ في استطاعتِه أن يُلزِمَ نفسَه بالتَّأنِّي، كما أنَّه جُبِل على حُبِّ الشَّهَواتِ مع أنَّه في استطاعتِه أن يُلزِمَ نفسَه بالكَفِّ عنها
[1509] يُنظَر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/152). .
2- وقال تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ، استعجَل الكُفَّارُ العذابَ تهَوُّرًا منهم واستهزاءً، وتهكُّمًا وإنكارًا أن يقعَ؛ لأنَّهم طلَبوا ذلك تَكرارًا ومرارًا ولم يَنزِلْ، فكأنَّهم استبعدوه
[1510] يُنظَر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (17/291). ، فرَدَّ اللَّهُ عليهم ردًّا عامًّا، وحذَّرَهم من هذا التَّسَرُّعِ في طَلَبِ الاستعجالِ بالعذابِ، فقال لهم:
وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، فهم متهَوِّرون في استعجالِ العذابِ، ولكِنَّ اللَّهَ سُبحانَه حليمٌ لا يُعَجِّلُه لهم؛ ولذلك أعقبه بإنذارِ الكُفَّارِ بأنَّ عذابَ الآخرةِ لا يُفلِتون منه، وهو أشَدُّ العذابِ؛ فقَولُه:
وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بالوعيدِ، وهذا اليومُ هو يومُ القيامةِ؛ فلذلك فإنَّه سُبحانَه لا يَعجَلُ بعقوبةِ من أراد العذابَ حتَّى يبلُغَ غايةَ مُدَّتِه وإن استبطأ نزولَ العذابِ؛ فإنَّ اللَّهَ يُمهِلُ المُدَدَ الطَّويلةَ ولا يُهمِلُ، حتَّى إذا أخذ الظَّالمين بعذابِه لم يُفلِتْهم
[1511] يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (16/598، 599)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/439)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (17/291). .
3- وقد تهَوَّر أبو جَهلٍ واستعجَلَ بالعذابِ وتسَرَّع في طلَبِ ذلك دونَ رَويَّةٍ، فقال دونَ تفكيرٍ في العواقِبِ:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فنزلت:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الأنفال:33 - 34] [1512] أخرجه البخاري (4648)، ومسلم (2796) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. وقيل: هي من قَولِ النَّضرِ بنِ الحارِثِ، ويحتَمِلُ أن يكونا قالاه. يُنظَر: ((الوسيط)) للواحدي (2/457)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/545). . وأبو جَهلٍ هنا يمثِّلُ الكُفَّارَ الذين (استعجلوا العذابَ فأعلمهم اللَّهُ أنَّه لا يفوتُه شيءٌ، وقد نَزَل بهم في الدُّنيا يومَ بدرٍ)
[1513] يُنظَر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (12/ 77). . وقد استعجلوا بالعذابِ زيادةً في تحقيقِ يَقينِهم بأنَّ هذا العذابَ المحلوفَ عليه في هذا الدُّعاءِ لن يَنزِلَ بهم من عِندِ اللَّهِ، وهو ما جعَلَهم يتهَوَّرون، فعَرَّضوا أنفُسَهم لخطَرٍ عظيمٍ، على تقديرِ أن يكونَ القرآنُ حَقًّا، ومنَزَّلًا من عِندِ اللَّهِ
[1514] يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (16/598، 599)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/439)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (17/291). ، ومِثلُ ذلك ما أخبَرَ به اللَّهُ سُبحانَه في قولِه:
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 204-207] ؛ فالكُفَّارُ يَستعجِلون أن تحُلَّ بهم العقوبةُ، ولكِنَّ اللَّهَ سُبحانَه يحلُمُ عليهم.
وقال تعالى:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: 171 - 177] ، وقال أيضًا:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53 -54] . هذه الآياتُ الكريماتُ تدُلُّ على أنَّ الرُّسُلَ وأتباعَهم منصورون دائمًا على الأعداءِ بالحُجَّةِ والبيانِ، ومَن أمَر منهم بالجهادِ منصورٌ أيضًا بالسَّيفِ والسِّنانِ، وفي هذا تهديدٌ لأعداءِ الرُّسُلِ، وأنَّهم مخذولون؛ لأنَّه إذا كُتِب النَّصرُ للرَّسولِ فسيكونُ الخِذلانُ لأعدائِهم، فيكونُ استعجالُ هؤلاء الكَفَرةِ بمجيءِ العذابِ تهَوُّرًا وعَجَلةً في طلَبِ هَلاكِهم المحَقَّقِ في الدُّنيا بالقَتلِ والحَربِ، وفي الآخرةِ بالعذابِ المحَقَّقِ في نارِ جهنَّمَ
[1515] يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (19/660)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (15/140)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/45)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (23/197). .
ومن ذلك استِعجالُ قومِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالعذابِ؛ قال تعالى:
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود: 32] .
ومنه استعجالُ ثمودَ قومِ صالحٍ عليه السَّلامُ وتسَرُّعُهم في طلَبِ الإتيانِ بالعذابِ؛ قال تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل: 45 - 47] .
4-
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] . فهذه الآيةُ توضِّحُ أنَّ الإنسانَ مركوزٌ في طَبعِه العَجَلةُ، فيَعجَلُ بسُؤالِ الشَّرِّ كما يَعجَلُ بسؤالِ الخيرِ، فيدعو على نفسِه بالشَّرِّ إذا أصابته مصيبةٌ من فقرٍ أو مَرَضٍ أو غيرِ ذلك؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ بفِطرتِه عَجولٌ:
وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا؛ يُؤثِرُ العاجِلَ وإن قَلَّ على الآجِلِ وإن عَظُمَ وجَلَّ، ويفعَلُ الشَّيءَ قبلَ وَقتِه اللَّائقِ؛ ولذلك ذُمَّت العَجَلةُ التي هي من مُقتَضياتِ الشَّهوةِ؛ ولذلك فعلى الإنسانِ أن يغالِبَ نفسَه وطبعَه، ويتَّصِفَ بالأناةِ، فلو استُجيبَ له في دعائِه بالشَّرِّ كما يستجابُ له في الخيرِ، لهلَك
[1516] يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (14/512)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/225)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/23(. ومِن أجْلِ ذلك ورد في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يحِبُّ الأناةَ؛ فعن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأشَجِّ عبدِ القيسِ: (إنَّ فيك خصلَتينِ يحِبُّهما اللَّهُ: الحِلمَ والأناةَ)
[1517] أخرجه مسلم (17). .
5- قال تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 16 - 19] ؛ فقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعجَّلُ في تلقِّي القرآنِ من جِبريلَ؛ خوفًا من نسيانِه، فنهاه المولى سُبحانَه عن ذلك، وطمْأَنه بحِفظِه إيَّاه، فقال تعالى:
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 17] قال: جَمْعَه لك في صَدْرِك وتَقْرَأَه:
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18] قال: فاستَمِعْ له وأنصِتْ،
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 19] ، ثمَّ إنَّ علينا أن تقرَأَه. فكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعَبُ من التَّنزيلِ ومِن شِدَّةِ تلقِّيه الوَحيَ؛ ولخشيتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَضيعَ القُرآنُ ويتفَلَّتَ قبل أن يَضبِطَه كان يتعجَّلُ ويتسَرَّعُ فيُحَرِّكُ شفَتَيه في أثناءِ نُزولِ الوَحيِ بالقرآنِ ليَحفَظَه؛ مخافةَ أن يذهَبَ عنه جبريلُ عليه السَّلامُ دونَ أن يحفَظَ ما نُزِّل عليه، فتكَفَّل اللَّهُ سُبحانَه وتعالى بأن يُثَبِّتَ القرآنَ في صدرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتلو منه ما شاء بعدَ انقضاءِ الوَحيِ، فكان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ ذلك إذا أتاه جبريلُ بالوَحيِ استمَع دونَ أن يتعَجَّلَ في تلقِّيه؛ استجابةً لأمرِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، فإذا انطَلَق جبريلُ عليه السَّلامُ منصَرِفًا قرأ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القرآنَ كما قرأه جبريلُ عليه السَّلامُ
[1518] يُنظَر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (19/ 106(. . فالآيةُ فيها النَّهيُ عن حُبِّ العَجَلةِ؛ لأنَّ العَجَلةَ إذا كانت مذمومةً فيما هو أهَمُّ الأمورِ، وأصلُ الدِّينِ، فكيف بها في غيرِه
[1519] يُنظَر: ((تفسير البيضاوي)) (5/266). ؟!