المَطْلَبُ الثَّاني والأربعون: الآثارُ الإيمانيَّةُ لاسْمِ اللهِ: الحَسيبِ
فاللهُ سُبحانَه وتعالى هو الكافي لعبادِه، الذي لا غِنى لهم عنه أبدًا، بل لا يُتَصَوَّرُ لهم وجودٌ بدونِه، فهو خالِقُهم وبارِئُهم ورازِقُهم، وكافيهم في الدُّنيا والآخِرةِ.
قال
الغزالي: (هو الكافي، وهو الذي من كان له كان حَسْبَه، والله سُبحانَه وتعالى حَسيبُ كُلِّ أحدٍ وكافيه، وهذا وَصفٌ لا تُتصَوَّرُ حقيقتُه لغيرِه؛ فإنَّ الكفايةَ إنما يحتاجُ إليها المكفيُّ لوُجودِه ولدوامِ وُجودِه ولكمالِ وُجودِه.
وليس في الوُجودِ شَيءٌ هو وَحْدَه كافٍ لشَيءٍ إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ؛ فإنَّه وَحْدَه كافٍ لكُلِّ شَيءٍ، لا لبعضِ الأشياءِ، أي: هو وَحْدَه كافٍ ليَحصُلَ به وجودُ الأشياءِ، ويدومَ به وجودُها، ويَكمُلَ به وجودُها.
ولا تظُنَّنَّ أنَّك إذا احتَجْتَ إلى طعامٍ وشرابٍ وأرضٍ وسماءٍ وشمسٍ وغيرِ ذلك، فقد احتَجْتَ إلى غيرِه ولم يكُنْ هو حَسْبَك؛ فإنَّه هو الذي كفاك بخَلْقِ الطَّعامِ والشَّرابِ والأرضِ والسَّماءِ، فهو حَسْبُك.
ولا تَظُنَّنَّ أنَّ الطِّفلَ الذي يحتاجُ إلى أمِّ تُرضِعُه وتتعَهَّدُه، فليس اللهُ حَسِيبَه وكافِيَه، بل اللهُ عَزَّ وجَلَّ حسيبُه وكافيه؛ إذ خَلَق أمَّه، وخلق اللَّبَنَ في ثَدْيِها، وخلق له الهدايةَ إلى التقامِه، وخلق الشَّفَقةَ والمودَّةَ في قلبِ الأمِّ حتى مكَّنَتْه من الالتقامِ، ودعَتْه إليه وحمَلَتْه عليه!
فالكفايةُ إنما حصَلَت بهذه الأسبابِ، واللهُ وَحْدَه هو المتفَرِّدُ بخَلْقِها لأجْلِه، ولو قيل لك: إنَّ الأمَّ وَحْدَها كافيةٌ للطِّفلِ وهي حَسْبُه، لصَدَّقْتَ به، ولم تَقُلْ: إنَّها لا تكفيه؛ لأنَّه يحتاجُ إلى اللَّبَنِ، فمن أين تكفيه الأُمُّ إذا لم يكن لَبَنٌ؟ ولكِنَّك تقولُ: نعم، يحتاجُ إلى اللَّبَنِ، ولكِنَّ اللَّبَنَ أيضًا من الأمِّ، فليس محتاجًا إلى غيرِ الأمِّ، فاعلَمْ أنَّ اللبنَ ليس من الأمِّ، بل هو والأمُّ من الله سُبحانَه وتعالى، ومن فَضلِه وجُودِه.
فهو وَحْدَه حَسْبُ كُلِّ أحدٍ، وليس في الوجودِ شيءٌ وَحْدَه هو حَسْبُ شَيءٍ سِواه، بل الأشياءُ يتعَلَّقُ بعضُها ببَعضٍ، وكُلُّها تتعَلَّقُ بقدرةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى)
[3618] يُنظر: ((المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى)) (ص: 113). .
فاللهُ وَحْدَه حَسْبُ كُلِّ أحدٍ، لا يشاركُه في ذلك أحدٌ، كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (أي: اللهُ وَحْدَه كافيك، وكافي أتباعِك، فلا تحتاجون معه إلى أحدٍ... «الحَسْبُ» و«الكفايةُ» لله وَحْدَه، كالتوكُّلِ والتقوى والعبادةِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62] . ففَرَّق بين الحَسْبِ والتأييدِ، فجعل الحَسْبَ له وَحْدَه، وجَعَل التأييدَ له بنَصْرِه وبعبادِه، وأثنى اللهُ سُبحانَه على أهلِ التوحيدِ والتوكُّلِ من عبادِه؛ حيث أفردوه بالحَسْبِ، فقال تعالى:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] .
ولم يقولوا: حَسْبُنا اللهُ ورَسولُه، فإذا كان هذا قولَهم، ومَدَح الرَّبُّ تعالى لهم بذلك، فكيف يقولُ لرَسولِه: اللهُ وأتباعُك حَسْبُك؟! وأتباعُه قد أفردوا الرَّبَّ تعالى بالحَسْبِ، ولم يَشرَكوا بينه وبين رسولِه فيه، فكيف يَشرَكُ بينهم وبينه في حَسْبِ رَسولِه؟! هذا من أمحَلِ المحالِ وأبطَلِ الباطلِ!
ونظيرُ هذا قَولُه تعالى
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59] . فتأمَّلْ كيف جعل الإيتاءَ للهِ ولرَسولِه، كما قال تعالى:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 59]. وجعل الحَسْبَ له وَحْدَه، فلم يقُلْ: وقالوا: حَسْبُنا اللهُ ورَسولُه، بل جعَله خالِصَ حَقِّه، كما قال تعالى:
إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59] ولم يقُلْ: وإلى رَسولِه، بل جَعَل الرَّغبةَ إليه وَحْدَه، كما قال تعالى:
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الانشراح: 7-8]. فالرَّغبةُ، والتوكُّلُ، والإنابةُ، والحَسْبُ: للهِ وَحْدَه، كما أنَّ العبادةَ والتقوى والسُّجودَ لله وَحْدَه، والنَّذرُ والحَلِفُ لا يكونُ إلَّا للهِ سُبحانَه وتعالى.
ونظيرُ هذا قَولُه تعالى:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] فالحَسْبُ: هو الكافي، فأخبر سُبحانَه وتعالى أنَّه وَحْدَه كافٍ عَبْدَه)
[3619] يُنظر: ((زاد المعاد)) (1/ 37-39). .
وبقَدْرِ ما يلتزِمُ العَبدُ بطاعةِ اللهِ ورَسولِه، تكونُ الوَلايةُ والكِفايةُ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (المقصودُ أنَّ بحَسَبِ متابعةِ الرَّسولِ تكونُ العِزَّةُ والكفايةُ والنُّصرةُ، كما أنَّ بحَسَبِ متابعتِه تكونُ الهدايةُ والفَلاحُ والنَّجاةُ؛ فاللهُ سُبحانَه عَلَّق سعادةَ الدَّارينِ بمتابعتهِ، وجَعَل شقاوةَ الدَّارينِ في مخالفتِه، فلأتباعِه الهدى والأمنُ، والفلاحُ والعِزَّةُ، والكفايةُ والنُّصرةُ، والولايةُ والتأييدُ، وطِيبُ العَيشِ في الدُّنيا والآخِرةِ، ولمخالِفيه الذِّلَّةُ والصَّغارُ، والخَوفُ والضَّلالُ، والخِذلانُ والشَّقاءُ في الدُّنيا والآخِرة)ِ
[3620] يُنظر: ((زاد المعاد)) (1/ 39). .
والله سُبحانَه وتعالى (الحاسِبُ) الذي أحصى كُلَّ شَيءٍ، لا يفوته مثقالُ ذَرَّةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ.
قال تبارك وتعالى:
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم: 93-94] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ: 29] .
فأعمالُ الإنسانِ كُلُّها محسوبةٌ مُحْصاةٌ، لا يَضيعُ منها شيءٌ، ولا يُزادُ عليها شيءٌ، فيُجزى بها يومَ القيامةِ ولا يُظلَمُ شيئًا.
قال اللهُ تعالى:
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .
قال الأقليشي: (أربابُ القُلوبِ، المحِسُّونَ بأوجاعِ الذُّنوبِ، العالِمون يقينًا بمحاسبةِ عَلَّامِ الغُيوبِ، وإحصاءِ حِسابِه جميعَ العيوبِ- أقاموا في الدُّنيا موازينَ القِسْطِ على أنفُسِهم، وأحصَوا عليها بالحِسابِ المحَرَّرِ كُلَّ ما برز عنها، وصَدَر، ثمَّ حاسَبوها)
[3621] يُنظر: ((الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)) للقرطبي (1/209). .