المَطْلَبُ الأوَّلُ: من مقتضى بَشَريَّة الأنبياءِ والرُّسُلِ: أنَّهم يأكُلون ويَشرَبون وينامون ويتزوَّجون ويُولَدُ لهم ويُصيبُهم ما يُصيبُ البشَرَ مِن أعراضٍ
فالرُّسُلُ والأنبياءُ يحتاجون لما يحتاجُ إليه البَشَرُ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ.
قال اللهُ تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [الأنبياء: 7-8] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى رادًّا على من أنكر بَعْثةَ الرُّسُلِ مِنَ البَشَرِ:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أي: جميعُ الرُّسُلِ الذين تقدَّموا كانوا رِجالًا مِنَ البَشَرِ، لم يَكُنْ فيهم أحدٌ من المَلائكةِ، كما قال في الآيةِ الأُخرى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109] ، وقال تعالى:
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9] ، وقال تعالى حكايةً عمَّن تقدَّم من الأُمَمِ أنَّهم أنكروا ذلك فقالوا:
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن:6] ؛ ولهذا قال تعالى:
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أي: اسألوا أهلَ العِلْمِ مِنَ الأُمَمِ كاليهودِ والنَّصارى وسائِرِ الطَّوائفِ: هل كان الرُّسُلُ الذين أتَوهم بشرًا أو مَلائِكةً؟ إنما كانوا بَشَرًا، وذلك من تمامِ نِعَمِ اللهِ على خَلْقِه؛ إذ بعث فيهم رُسُلًا منهم يتمكَّنون من تناوُلِ البلاغِ منهم والأخذِ عنهم.
وقَولُه:
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ أي: بل قد كانوا أجسادًا يأكلون الطَّعامَ، كما قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] ، أي: قد كانوا بَشَرًا مِنَ البشَرِ، يأكلون ويشربون مِثْلَ النَّاسِ، ويَدخُلونَ الأسواقَ للتكَسُّبِ والتِّجارةِ، وليس ذلك بضارٍّ لهم ولا ناقصٍ منهم شيئًا، كما توهمه المُشرِكون في قَولِهم:
مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان: 7، 8].
وقَولُه:
وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ أي: في الدُّنيا، بل كانوا يعيشون ثُمَّ يموتون،
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكِ الْخُلْدَ [الأنبياء: 34]، وخاصَّتُهم أنَّهم يوحى إليهم من اللهِ عَزَّ وجَلَّ، تنزِلُ عليهم المَلائِكةُ عن اللهِ بما يحكُمُ في خَلْقِه مِمَّا يَأمُرُ به وينهى عنه)
[764] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 333). .
وقد وُلِدوا كما وُلِدَ البَشَرُ.
قال
ابنُ حزم: (جميعُ النَّبِيِّينَ وعيسى ومُحَمَّدٌ عليهم السَّلامُ عَبيدُ اللِه تعالى مخلوقون، ناسٌ كسائِرِ النَّاسِ، مولودون من ذَكَرٍ وأنثى إلَّا آدَمَ وعيسى؛ فإنَّ آدَمَ خلقه اللهُ تعالى من ترابٍ بيَدِه لا من ذَكَرٍ ولا من أنثى، وعيسى خُلِق في بَطنِ أمِّه من غيرِ ذَكَرٍ.
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ إنَّهم قالوا:
إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)
[765] يُنظر: ((المحلى)) (1/10). .
وهم يتزوَّجون ويُولَدُ لهم.
قال اللهُ تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد: 38] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا يا مُحَمَّدُ
رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ إلى أمَمٍ قد خلت من قَبْلِ أمَّتِك، فجعَلْناهم بشَرًا مِثْلَك، لهم أزواجٌ، يَنكِحُون، وذُرِّيَّةٌ أنسلوهم، ولم نجعَلْهم مَلائِكةً لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يَنكِحون؛ فنجعَلَ الرَّسولَ إلى قَومِك من المَلائكةِ مِثْلَهم، ولكِنْ أرسَلْنا إليهم بشَرًا مِثْلَهم، كما أرسَلْنا إلى من قَبْلَهم من سائر الأمَم بشَرًا مِثْلَهم)
[766] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/ 558). .
ويُصيبُهم ما يُصيبُ البَشَرَ مِن أعراضٍ؛ فهم ينامون، ويَمرَضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البَشَرِ مِنَ المَوتِ.
قال اللهُ تعالى حكايةً عن قَولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ:
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء: 79-81] .
وقال اللهُ لمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ مُبَيِّنًا أنَّ هذه سُنَّتُه في الرُّسُلِ كُلِّهم:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل أَفإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يعني تعالى ذِكْرُه بذلك: وما مُحَمَّدٌ إلَّا رسولٌ كبَعْضِ رُسُلِ اللهِ، الذين أرسلَهم إلى خَلْقِه، داعيًا إلى اللهِ وإلى طاعتِه، الذين حين انقَضَت آجالِهم ماتوا وقبضَهم اللهُ إليه، يقولُ جَلَّ ثناؤه: فمُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنما هو فيما اللهُ به صانِعٌ مِن قَبْضِه إليه عند انقضاءِ مُدَّةِ أجَلِه كسائِرِ مُدَّةِ رُسُلِه إلى خَلْقِه الذين مضوا قَبْلَه وماتوا عند انقضاءِ مُدَّةِ آجالِهم)
[767] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/ 96). .
كما يَقَعُ منهم الغَضَبُ.عن
أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اليَتِيمَةَ، فَقالَ: آنْتِ هيهْ؟ لقَدْ كَبِرْتِ، لا كَبِرَ سِنُّكِ! فَرَجَعَتِ اليَتِيمَةُ إلى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: ما لَكِ يا بُنَيَّةُ؟ قالتِ الجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أَنْ لا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالآنَ لا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا! أَوْ قالَتْ قَرْنِي. فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا، حتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما لَكِ يا أُمَّ سُلَيْمٍ؟! فَقالَتْ: يا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ علَى يَتِيمَتي؟ قالَ: وَما ذَاكِ يا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ قالَتْ: زَعَمَتْ أنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا. قالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قالَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ، أَما تَعْلَمِينَ أنَّ شَرْطِي علَى رَبِّي، أَنِّي اشْتَرَطْتُ علَى رَبِّي فَقُلتُ: إنَّما أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأيُّما أَحَدٍ دَعَوْتُ عليه مِن أُمَّتِي بدَعْوَةٍ ليسَ لَهَا بأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا له طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بهَا منه يَومَ القِيَامَةِ؟! )) [768] رواه مسلم (2603). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((اللَّهُمَّ إنِّي أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فإنَّما أنا بَشَرٌ، فأيُّ المُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ؛ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فاجْعَلْها له صَلاةً وزَكاةً، وقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بها إلَيْكَ يَومَ القِيامَةِ)) [769] رواه مسلم (2601). .
قال المظهري: (
((فإنما أنا بشَرٌ))، يعني: أنا بشَرٌ يَصدُرُ مني ما يصدُرُ مِنَ البشَرِ مِن الشَّتمِ والضَّربِ وغيرِ ذلك مِمَّا يصدُرُ مِن الإنسانِ عندَ الغَضَبِ)
[770] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (3/ 118). .
ووقع منه النِّسيانُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.عن
ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أنْسَى كما تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي )) [771] أخرجه مطولاً البخاري (401) واللفظ له، ومسلم (572) .
قال
علي القاري: (
((إنما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم)) أي: في جميع الأمورِ البَشَريَّة إلَّا أنَّه يوحى إليَّ)
[772] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (2/ 800). .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (الأنبياءُ يجوزُ عليهم المرَضُ والجُوعُ والنِّسيانُ ونَحوُ ذلك بالإجماعِ، ولا يقالُ: هذا تنقُّصٌ لهم، وكذلك يجوزُ عليهم عند عامَّةِ أهلِ السُّنَّةِ أن يُصابوا بالسِّحْرِ)
[773] يُنظر: ((الرد على البكري)) (1/306). .
وقال ابنُ قاسمٍ: (جائزٌ عَقلًا وشَرعًا في حَقِّ كُلِّ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ النَّومُ... ومِثلُ النَّومِ: الجلوسُ والمشيُ، والبُكاءُ والضَّحِكُ، وما هو من خواصِّ البَشَريَّة المباحةِ، والنِّكاحُ، والتسَرِّي، ونحوُ ذلك، مِثلُ الأكلِ والشُّربِ)
[774] يُنظر: ((حاشية الدرة المضية)) (ص: 112). .