المَبحثُ الأوَّلُ: هل الإسلامُ هو الإيمانُ؟
إنَّ لكُلِّ واحدٍ منهما معنًى يختَصُّ به، فيكونُ الإسلامُ هو الأعمالُ الظَّاهِرةُ كالشَّهادتين والصَّلاةِ، ويكونُ الإيمانُ هو الأعمالُ الباطنةُ من الاعتقاداتِ؛ كالتوكُّلِ والخَوفِ والمحبَّةِ، والرَّغبةِ والرَّهبةِ.
ومن الأدِلَّةِ على ذلك:1- قَولُ الله تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب: 35] .
قال السَّمرقنديُّ: (
إِنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ يعني: المُسلِمين من الرِّجالِ، والمُسلِماتِ من النِّساءِ.
وَالْمُؤمِنِينَ يعني: المصَدِّقين الموَحِّدين من الرِّجالِ
وَالْمُؤْمِنَاتِ يعني: المصَدِّقاتِ الموحِّداتِ من النِّساءِ)
[581] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/ 61). .
وقال ابنُ عَطِيَّةَ: (بدأ تعالى بذِكرِ الإسلامِ الذي يعُمُّ الإيمانَ وعَمَلَ الجوارحِ، ثمَّ ذكر الإيمانَ تخصيصًا وتنبيهًا على أنَّه عُظمُ الإسلامِ ودِعامتُه)
[582] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/ 385). .
وقال
البيضاوي: (
إِنَّ الْمُسْلِميِنَ وَالْمُسْلِمَاتِ الدَّاخلين في السِّلْمِ المنقادين لحُكمِ اللهِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ المصَدِّقين بما يجِبُ أن يُصَدَّقَ به)
[583] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/ 232). .
وقال
الشَّوكاني: (قَولُه:
إِنَّ الْمُسْلِمينَ بدأ سُبحانَه بذِكرِ الإسلامِ الذي هو مجَرَّدُ الدُّخولِ في الدِّينِ، والانقيادِ له مع العَمَلِ، كما ثبت في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا سأله
جبريلُ عن الإسلامِ قال:
((هو أن تشهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وتقيمَ الصَّلاةَ، وتؤتيَ الزكاةَ، وتحُجَّ البيتَ، وتصومَ رمضانَ )) [584] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) مطولاً باختلاف يسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ... ثمَّ ذكر:
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وهم مَن يؤمِنُ باللهِ وملائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، والقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه)
[585] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/ 61). .
2- قَولُ الله سُبحانَه:
قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى منكِرًا على الأعرابِ الذين أوَّلَ ما دخلوا في الإسلامِ ادَّعَوا لأنْفُسِهم مقامَ الإيمانِ، ولم يتمكَّنِ الإيمانُ في قُلوبِهم بَعْدُ:
قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، وقد استُفيدَ من هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّ الإيمانَ أخَصُّ من الإسلامِ، كما هو مذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، ويدُلُّ عليه حديثُ
جِبريلَ عليه السَّلَامُ حين سأل عن الإسلامِ، ثمَّ عن الإيمانِ، ثمَّ عن الإحسانِ، فترَقَّى من الأعَمِّ إلى الأخَصِّ، ثمَّ للأخَصِّ منه... فدَلَّ هذا على أنَّ هؤلاء الأعرابَ المذكورينَ في هذه الآيةِ لَيسُوا بمنافقين، وإنَّما هم مُسلِمون لم يستحكِمِ الإيمانُ في قُلوبِهم، فادَّعَوا لأنْفُسِهم مقامًا أعلى ممَّا وَصَلوا إليه، فأدَّبوا في ذلك، وهذا معنى قَولِ
ابنِ عَبَّاسٍ و
إبراهيمَ النخَّعيِّ، وقتادةَ، واختاره
ابنُ جريرٍ)
[586] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/389). .
3- عن سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطى رَهطًا وسَعدٌ جالِسٌ، فترك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلًا هو أعجَبُهم إليَّ، فقُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما لك عن فُلانٍ؟ فواللهِ إني لأراه مُؤمِنًا. فقال:
((أوْ مُسلِمًا)). فسَكَتُّ قليلًا، ثَّم غَلَبَني ما أعلَمُ منه فعُدْتُ لِمقالتي فقُلْتُ: ما لكَ عن فُلانٍ؟ فواللهِ إنِّي لأراه مُؤمِنًا، فقال:
((أوْ مُسلِمًا)). ثمَّ غَلَبني ما أعلَمُ منه، فعُدتُ لِمقالتي، وعاد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ قال:
((يا سَعْدُ، إنِّي لأُعطي الرَّجُلَ وغَيرُه أحَبُّ إليَّ منه؛ خَشْيةَ أن يَكُبَّه اللهُ في النَّارِ )) [587] أخرجه البخاري (27) واللفظ له، ومسلم (150). .
قال
الخطَّابيُّ: (ظاهِرُ هذا الكلامِ يُوجِبُ الفَرْقَ بين الإيمانِ والإسلامِ، وهذه المسألةُ ممَّا قد أكثر النَّاسُ الكلامَ فيها، وصَنَّفوا لها صُحُفًا طويلةً، والمقدارُ الذي لا بُدَّ مِن ذِكْرِه هاهنا على وجهِ الإيجازِ والاختِصارِ: أنَّ الإيمانَ والإسلامَ قد يجتمعان في مواضِعَ، فيقالُ للمُسلِمِ: مُؤمِنٌ، وللمُؤمِن: مُسلِمٌ، ويفترقانِ في مواضِعَ، فلا يقالُ لكُلِّ مُسلِمٍ: مُؤمِنٌ، ويقالُ لكُلِّ مُؤمِنٍ: مُسلِمٌ، فالموضِعُ الذي يتَّفِقان فيه هو أن يستويَ الظَّاهِرُ والباطِنُ، والموضِعُ الذي لا يتفَّقانِ فيه ألَّا يَسْتَويا، ويقال له عند ذلك: مُسلِمٌ، يعني أنَّه مُسلِمٌ)
[588] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (1/160). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (والذي اختاره
الخطَّابيُّ هو قَولُ مَن فَرَّق بينهما، كأبي جَعفرٍ، وحمَّادِ بنِ زيدٍ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهديٍّ، وهو قَولُ
أحمَدَ بْنِ حَنبَلٍ وغيرِه، ولا عَلِمتُ أحدًا من المتقَدِّمين خالف هؤلاء، فجعل نَفْسَ الإسلام نَفْسَ الإيمانِ؛ ولهذا كان عامَّةُ أهلِ السُّنَّةِ على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره
الخطَّابيُّ)
[589] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 282). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (فقد فَرَّق النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين المُسلِم والمُؤمِن، فدَلَّ على أنَّ الإيمانَ أخَصُّ من الإسلامِ،... ودَلَّ ذلك على أنَّ ذاك الرَّجُلَ كان مُسلِمًا ليس منافِقًا؛ لأنَّه تركه من العطاءِ ووكَلَه إلى ما هو فيه من الإسلامِ)
[590] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/389). .
4- حديثُ
جبريلَ عليه السَّلَامُ المشهورُ، وفيه ذِكرُ الإسلامِ بالأركانِ الخمسةِ، والإيمانِ بالأُصولِ السِّتَّةِ
[591] ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر)). قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: ((الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)). قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت المرأة ربتها، فذاك من أشراطها، وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام [لقمان: 34] )). ثم انصرف الرجل فقال: ((ردوا علي)). فأخذوا ليردوا فلم يروا شيئا. فقال: ((هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم)) أخرجه البخاري (4777) واللفظ له، ومسلم (10) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فقد اجتمعا في نصٍّ واحدٍ، وقد أجاب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكُلٍّ بمعنًى غيِر الآخَرِ؛ فدَلَّ على افتراقِهما.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (التحقيقُ ابتداءً هو ما بَيَّنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا سُئِل عن الإسلامِ والإيمانِ، ففَسَّر الإسلامَ بالأعمالِ الظَّاهرةِ، والإيمانَ بالإيمانِ بالأُصولِ الخَمسةِ، فليس لنا إذا جمَعْنا بين الإسلامِ والإيمانِ أن نجيبَ بغيرِ ما أجاب به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّا إذا أُفردَ اسمُ الإيمانِ فإنَّه يتضَمَّنُ الإسلامَ، وإذا أُفرِدَ الإسلامُ فقد يكونُ مع الإسلامِ مُؤمِنًا بلا نزاعٍ، وهذا هو الواجِبُ)
[592] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 204). .
وقال
ابنُ رجب: (إذا أُفرِدَ كُلٌّ من الإسلامِ والإيمانِ بالذِّكرِ، فلا فَرْقَ بينهما حينَئذٍ، وإن قُرِنَ بين الاسمينِ كان بينهما فَرقٌ.
والتحقيقُ في الفَرقِ بينهما: أنَّ الإيمانَ هو تصديقُ القَلبِ وإقرارُه ومعرفتُه، والإسلامَ: هو استسلامُ العبدِ للهِ، وخُضوعُه وانقيادُه له، وذلك يكونُ بالعَمَلِ، وهو الدِّينُ، كما سَمَّى اللهُ في كتابِه الإسلامَ دينًا، وفي حديثِ
جبريلَ سَمَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ دينًا، وهذا أيضًا ممَّا يدُلُّ على أنَّ أحَدَ الاسمين إذا أُفرِدَ دَخَل فيه الآخَرُ، وإنَّما يُفَرَّقُ بينهما حيث قُرِن أحدُ الاسمين بالآخَرِ، فيكونُ حينَئذٍ المرادُ بالإيمانِ: جِنسَ تصديقِ القَلبِ، وبالإسلامِ: جِنسَ العَمَلِ. وفي مُسنَدِ
الإمامِ أحمدَ عن
أنسٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الإسلامُ علانية، والإيمانُ في القَلبِ))؛ وهذا لأنَّ الأعمالَ تَظهَرُ علانيةً، والتصديقَ في القَلبِ لا يظهَرُ. وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ في دُعائِه إذا صَلَّى على الميِّتِ:
((اللَّهُمَّ من أحييتَه مِنَّا فأحْيِه على الإسلامِ، ومن توفَّيتَه مِنَّا فتوَفَّه على الإيمانِ))؛ لأنَّ العَمَلَ بالجوارحِ إنَّما يتمَكَّنُ منه في الحياةِ، فأمَّا عند الموتِ فلا يبقى غيرُ التصديقِ بالقَلبِ. ومن هنا قال المحَقِّقون من العُلَماءِ: كُلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، فإنَّ من حَقَّق الإيمانَ ورَسَخ في قَلْبِه، قام بأعمالِ الإسلامِ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ألَا وإنَّ في الجسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَح الجسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فَسَد الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهي القَلبُ ))، فلا يتحَقَّقُ القَلبُ بالإيمانِ إلَّا وتنبَعِثُ الجوارحُ في أعمالِ الإسلامِ، وليس كُلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفًا، فلا يتحقَّقُ القَلبُ به تحقُّقًا تامًّا مع عَمَلِ جوارحِه بأعمالِ الإسلامِ، فيكونُ مُسلِمًا، وليس بمُؤمِنٍ الإيمانَ التَّامَّ، كما قال تعالى:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، ولم يكونوا منافِقين بالكُلِّيَّةِ على أصَحِّ التفسيرينِ، وهو قَولُ
ابنِ عَبَّاسٍ وغيرِه)
[593] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/107-109). .
ومن أمثِلةِ ذِكرِ الإسلامِ مُفرَدًا:1- قَولُ اللهِ تعالى:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] .
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] .
3- قَوُل اللهِ عزَّ وجَلَّ:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] .
ومن أمثِلةِ ذِكرِ الإيمانِ مُفرَدًا:1- قَولُ اللهِ تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] .
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد: 7] .
3- حَديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ -أو بِضعٌ وسِتُّونَ- شُعْبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِنَ الإيمانِ )) [594] أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) واللَّفظُ له. .
وقال محمَّدُ بنُ عَلِيٍّ بن الحُسَيْن: (هذا الإسلامُ، ودوَّر دائرةً في وَسَطِها دائرةٌ أخرى، وهذا الإيمانُ التي في وسَطِها مقصورٌ في الإسلامِ، قال: فقَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مُؤمِنٌ، ولا يَسرِقُ حين يَسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يشرَبُ الخَمرَ حين يشرَبُها وهو مُؤمِنٌ )) [595] أخرجه مطولاً البخاري (6810)، ومسلم (75) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. يخرُجُ من الإيمانِ إلى الإسلامِ، ولا يخرُجُ من الإسلامِ، فإذا تاب تاب اللهُ عليه، قال: رجَعَ إلى الإيمانِ)
[596]يُنظر: ((السنة)) (1/352). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ وهو يرُدُّ على
محمَّدِ بنِ نَصرٍ المروزيِّ -وهو ممَّن يقولُ بعَدَمِ التفريقِ بينهما-: (هو لم يَنقُلْ عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ والتابعين لهم بإحسانٍ ولا أئمَّةِ الإسلامِ المشهورين أنَّه قال: مُسَمَّى الإسلامِ هو مُسَمَّى الإيمانِ، كما نَصَر، بل ولا عرَفْتُ أنا أحدًا قال ذلك من السَّلَفِ)
[597] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 287). .
وقال
السعديُّ: (اعلَمْ أنَّ الإيمانَ الذي هو تصديقُ القَلبِ التَّامُّ بهذه الأصولِ، وإقرارُه المتضَمِّنُ لأعمالِ القُلوبِ والجوارحِ، وهو بهذا الاعتبارِ يدخُلُ فيه الإسلامُ، وتدخُلُ فيه الأعمالُ الصَّالحةُ كُلُّها، فهي من الإيمانِ، وأثَرٌ من آثارِه، فحيث أُطلق الإيمانُ دخل فيه ما ذُكِر، وكذلك الإسلامُ؛ إذا أُطلق دخل فيه الإيمانُ، فإذا قُرِن بينهما كان الإيمانُ اسمًا لِما في القَلبِ من الإقرارِ والتصديقِ، والإسلامُ اسمًا للأعمال الظَّاهرةِ)
[598] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 67). .
وقال
ابنُ باز: (الإيمانُ هو الإسلامُ، والإسلامُ هو الإيمانُ عند الإطلاقِ؛ لأنَّ الإيمانَ تصديقُ القُلوبِ، وكُلُّ ما يتعَلَّقُ بالإسلامِ من قَولٍ وعَمَلٍ، والإسلامُ كذلك هو: الانقيادُ لله، والخضوعُ له بتوحيدِه، والإخلاصُ له، وطاعةُ أوامِرِه وتَرْكُ نواهيه، فإذا أُطلق أحَدُهما شمل الآخَرَ، كما قال عزَّ وجَلَّ:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ يعني: والإيمانُ داخِلٌ في ذلك، أمَّا إذا جُمعا فإنَّ الإسلامَ هو الأعمالُ الظَّاهرةُ، والإيمانَ هو الأعمالُ الباطنةُ، إذا جُمع بينهما كما في حديثِ
جبريلَ لَمَّا سأل النَّبيَّ عن الإسلامِ والإيمانِ، فسَّر له النَّبيُّ الإسلامَ بأمورٍ ظاهرةٍ، كالشَّهادتين والصَّلاةِ والزكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ، وفَسَّر له الإيمانَ بأمورٍ باطنةٍ، فقال:
((أن تؤمِنَ باللهِ وملائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، وبالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه )) [599] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (10) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، هذا هو الفَرقُ بينهما عند الاجتماعِ، يكونُ الإسلامُ بالأعمالِ الظَّاهرةِ، والإيمانُ بالأعمالِ الباطنةِ، وإنَّ الكُفرَ بأحَدِهما يدخُلُ فيه الآخَرُ، وهكذا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شُعبةً، وأفضَلُها قَولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ )) [600] أخرجه البخاري (9) مختصرًا باختلاف يسير، ومسلم (35) واللَّفظُ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، فالإيمانُ بضعٌ وسبعون شُعبةً، يدخُلُ فيه الإسلامُ؛ ولهذا ذَكَر أفضلَ خِصالِه: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وهي أصلُ الإسلامِ، فدَلَّ ذلك على أنَّ الإيمانَ إذا أُطلِق دخَلَ فيه الإسلامُ، وهكذا إذا أُطلِق الإسلامُ دخل فيه الإيمانُ عند أهلِ السُّنَّةِ)
[601] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/197). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الحاصِلُ أنَّ الإسلامَ عند الإطلاقِ يَشمَلُ الدِّينَ كُلَّه، ويدخُلُ فيه الإيمانُ، وأنَّه إذا قُرِن مع الإيمانِ فُسِّر الإسلامُ بالأعمالِ الظَّاهرةِ من أقوالِ اللِّسانِ وعَمَلِ الجوارحِ، وفُسِّر الإيمانُ بالأعمالِ الباطِنةِ مِن اعتقاداتِ القُلوبِ وأعمالِها)
[602] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (1/49). .
ولا يجِبُ إذا أُثبِت أو نُفِيَ الاسمُ الواحِدُ في حُكمٍ أن يكونَ كذلك في سائِرِ الأحكامِ، وكذلك كُلُّ ما له مبتدأٌ وكَمالٌ، فإنَّه يُنفى تارةً باعتبارِ انتِفاءِ كَمالِه، ويُثبَت تارةً باعتبارِ ثُبوتِ مَبدَئه
[603] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/421). .
قال
المروزيُّ: (إنَّ اسمَ المُؤمِن قد يُطلَقُ على وجهين: اسمٌ بالخروجِ مِن مِلَلِ الكُفرِ، والدُّخولِ في الإسلامِ، وبه تجِبُ الفرائِضُ التي أوجبها اللهُ على المُؤمِنين ويجري عليه الأحكامُ والحدودُ التي جعلها اللهُ بين المُؤمِنين، واسمٌ يَلزَمُ بكمالِ الإيمانِ، وهو اسمُ ثَناءٍ وتزكيةٍ يجِبُ به دخولُ الجنَّةِ والفَوزُ مِنَ النَّارِ)
[604] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/567). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (الإيمانُ له مَبدَأٌ وكَمالٌ، وظاهِرٌ وباطِنٌ، فإذا عُلِّقت به الأحكامُ الدُّنيويَّةُ من الحُقوقِ والحُدودِ كحَقنِ الدَّمِ والمالِ والمواريثِ والعُقوباتِ الدُّنيويَّةِ، عُلِّقَت بظاهِرِه لا يمكِنُ غيرُ ذلك؛ إذ تعليقُ ذلك بالباطِنِ متعَذِّرٌ، وإن قُدِّر أحيانًا فهو متعَسِّرٌ عِلمًا وقُدرةً؛ فلا يُعلَمُ ذلك عِلمًا يَثبُت به في الظَّاهِرِ ولا يمكِنُ عقوبةُ من يُعلَمُ ذلك منه في الباطِنِ... وأمَّا مَبدَؤُه فيتعَلَّقُ به خِطابُ الأمرِ والنَّهيِ، فإذا قال اللهُ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] ونحو ذلك، فهو أمرٌ في الظَّاهِرِ لكُلِّ من أظهَرَه، وهو خِطابٌ في الباطِنِ لكُلِّ من عرف من نَفْسِه أنَّه مُصَدِّقٌ للرَّسولِ، وإن كان عاصيًا، وإن كان لم يَقُمْ بالواجِباتِ الباطنةِ والظَّاهرةِ... وأمَّا كمالُه فيتعَلَّقُ به خطابُ الوَعدِ بالجنَّةِ، والنُّصرةِ والسَّلَامةِ من النَّارِ؛ فإنَّ هذا الوَعدَ إنَّما هو لِمَن فعل المأمورَ وتَرَك المحظورَ، ومن فعل بعضًا وتَرَك بعضًا فيثابُ على ما فعَلَه، ويعاقَبُ على ما تَرَكه، فلا يدخُلُ هذا في اسمِ المُؤمِنِ المستَحِقِّ للحَمدِ والثَّناءِ دونَ الذَّمِّ والعِقابِ ومن نفى عنه الرَّسولُ الإيمانَ فنَفيُ الإيمانِ في هذا الحُكمِ
[605] أي: حُكمِ الآخِرةِ. ؛ لأنَّه ذُكِر ذلك على سبيلِ الوعيدِ، والوعيدُ إنَّما يكونُ بنَفيِ ما يقتضي الثوابَ ويدفَعُ العِقابَ؛ ولهذا ما في الكِتابِ والسُّنَّةِ من نفي الإيمانِ عن أصحابِ الذُّنوبِ، فإنَّما هو في خِطابِ الوعيدِ والذَّمِّ، لا في خِطابِ الأمرِ والنَّهيِ، ولا في أحكامِ الدُّنيا)
[606] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/421-424). .