المَبحَثُ الرَّابِعُ: مصادِرُ التَّأليفِ المُعجَميُّ العَرَبيُّ
1- القُرآنُ الكريمُ والقراءاتُ القُرآنيَّةُ:(مَنَح القُرآنُ الكريمُ اللُّغةَ العَربيَّةَ قُوَّةً ورُقِيًّا ما كانت لتَصِلَ إليه لولاه؛ فقد وهبَها اللهُ به من المعاني الفيَّاضةِ، والألفاظِ المتطَوِّرةِ، والتراكيبِ الجديدةِ، والأساليبِ العاليةِ الرَّفيعةِ، فأصبحَت بذلك محَطَّ جميعِ الأنظارِ، والاقتباسُ منها مناطَ العِزِّ والفَخارِ، وغَدَت اللُّغةُ العربيَّةُ تتألَّقُ وتتباهي على غيرِها من اللُّغاتِ بما حازت عليه من محاسِنِ الجمالِ وأنواعِ الكمالِ)
[314] يُنظَر: ((دراسة تاريخية عن أثر القرآن الكريم في اللغة العربية)) أوريل بحر الدين (ص 14). ، وفي هذا يقولُ العلَّامةُ الرَّافعيُّ رحمه اللهُ: (نزل القرآنُ الكريمُ بهذه اللُّغةِ قليلُه وكثيرُه معًا، فكان أشبَهَ شَيءٍ بالنُّورِ في جملةِ نَسَقِه؛ إذ النُّورُ جُملةٌ واحدةٌ، وإنَّما يتجَزَّأُ باعتبارٍ لا يخرِجُه من طبيعتِه، وهو في كُلِّ جزءٍ من أجزائِه جملةٌ لا يُعارَضُ بشيءٍ إلا إذا خُلِقت سماءٌ غيرُ السَّماءِ، وبُدِّلت الأرضُ غيرَ الأرضِ، وإنَّما كان ذلك لأنَّه صفَّى اللُّغةَ من أكدارِها، وأجراها في ظاهِرِه على بواطِنِ أسرارِها، فجاء بها في ماءِ الجَمالِ أملأَ من السَّحابِ، وفي طَراءةِ الخَلقِ أجملَ من الشَّبابِ، ثمَّ هو بما تناوَل بها من المعاني الدَّقيقةِ التي أبرَزَها في جلالِ الإعجازِ، وصَوَّرَها بالحقيقةِ وأنطَقَها بالمجازِ، وما ركَّبها به من المطاوَعةِ في تقلُّبِ الأساليبِ، وتحويلِ التركيبِ إلى التراكيبِ- قد أظهَرَها مَظهرًا لا يُقضى العَجَبُ منه؛ لأنَّه جَلَّاها على التاريخِ كُلِّه لا على جيلِ العَرَبِ بخاصَّتِه...)
[315] يُنظَر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (2/ 74). .
فألفاظُ القُرآنِ الكَريمِ هي لُبُّ كَلامِ العَربِ وزُبدتُه، وعليها اعتِمادُ الفُقهاءِ والحُكَماءِ، والفُرقانُ العَزيزُ الَّذي نزَل بلِسانٍ عربيٍّ مُبينٍ في أعلى دَرَجاتِ الفَصاحةِ، فكانت أمَّةُ العَربِ في أمَسِّ الحاجةِ إليه؛ إذِ استَشهَدوا به في كَثيرٍ مِنَ المَواطِنِ، وقبِلوا كلَّ ما جاء فيه، وحَقيقةُ الكِتابِ أنَّه (ما نُقِلَ إلينا بين دَفَّتَيِ المُصحَفِ بالأحرُفِ السَّبعةِ المَشهورةِ نَقلًا مُتَوتِرًا).
والقِراءاتُ القُرآنيَّةُ هي الوُجوهُ المُختلِفةُ الَّتي سمَح النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقِراءةِ نَصِّ المُصحَفِ بها قَصدًا للتَّيسيرِ، والَّتي جاءت وَفقًا لِلَهجةٍ مِنَ اللَّهَجاتِ العَربيَّةِ؛ يقولُ
ابنُ الجَزَريِّ: (قد تَتبَّعتُ صَحيحَ القِراءةِ وشاذَّها وضَعيفَها ومُنكَرَها، فإذا هي يَرجِعُ اختِلافُها إلى سَبعةِ أوجُهٍ، لا يَخرُجُ عنها؛ وذلك:
إمَّا في الحَرَكاتِ بلا تَغيُّرٍ في المَعنى والصُّوَرةِ، نَحوُ:
بِالبُخلِ [النساء: 37] ؛ بأربَعةٍ، ويُحسَبُ بوَجهَين.
أو مُتَغيِّرٍ في المَعنى فقط، نَحوُ:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة: 37] .
وإمَّا في الحُروفِ بتَغيُّرِ المَعنى لا الصُّوَرةِ، نَحوُ:
تَبلُو [يونس: 30] 30، و
تَتلُو [البقرة: 102] .
أو عَكسِ ذلك، نَحوُ:
الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] و (السِّراط).
أو بتَغيُّرِهما، نَحوُ:
وَامضُوا [الحجر: 65] . (واسعَوا).
وإمَّا في التَّقديمِ والتَّأخيرِ، نَحوُ:
فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ [التوبة: 111] .
أو في الزِّيادةِ والنُّقصانِ، نَحوُ:
وَصَّى [البقرة: 132] و (أوصى).
فهذه سَبعةٌ لا يَخرُجُ الاختِلافُ عنها)
[316] ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (1/ 26)، ويُنظَر: ((الإتقان في علوم القرآن)) لجلال الدين السيوطي (ص: 106). .
2- الحَديثُ النَّبَويُّ:(يُعدُّ الحديثُ النَّبَويُّ الشَّريفُ مَصدرًا ثريًّا، ومجالًا حيويًّا مُنعِشًا للُّغةِ العربيَّةِ في أبعادِها المختَلِفةِ؛ فقد جاء بلِسانِ سَيِّدِنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو أفصحُ العَرَبِ قاطِبةً، وأقوَمُهم عبارةً، وأقدَرُهم على صناعةِ البيانِ، بعثه اللهُ عزَّ وجَلَّ في أمَّة تعتزُّ بلُغتِها، وتُعجَبُ بسِحرِ بيانِها، لكِنَّها عَجِبت لفصاحتِه، وعَجَزت أمامَ بلاغتِه، خاصَّةً أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انفرد بألفاظٍ وتراكيبَ لم يسبِقْه إليها أحدٌ ولم تُسمَعْ من غيرِه من قَبلُ، كما كانت عندَه القُدرةُ على مخاطَبةِ القبائِلِ العربيَّةِ على اختلافِ لَهَجاتِها مُستَخدِمًا مع كلِّ قبيلةٍ حَرْفَها ولهجَتَها، فأتاح لنا بذلك أن نتعرَّفَ إلى لهجاتٍ عربيَّةٍ ما كُنَّا لِنَعرِفَها لولا حديثُه بها، وقد نَقَلت لنا مُصَنَّفاتُ غَريبِ الحديثِ كلَّ ذلك، واعتَنَت بشرحِه وبيانِه؛ إمَّا بما شرَحَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفسُه، أو شرَحَه أصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم، ثمَّ تناقَلَه عنهم اللُّغَويُّون فيما بَعدُ، وفصَّلوا في بيانِه.
ومِن ثمَّ اعتُبِرَت أحاديثُه مصدرًا هامًّا اشتغل عليه العُلَماءُ والمُختَصُّون من اللُّغَويِّين عَبْرَ العُصورِ؛ ممَّا أسهم في إثراءِ اللُّغةِ العربيَّةِ، ودَفْعِ عَجَلةِ تطَوُّرِها ونمائِها، ونشاطِ حركةِ البحثِ العِلميِّ فيها، وكَشْفِ قدرتِها على التجَذُّرِ والانتشارِ، والانسجامِ والتفاعُلِ؛ بسبَبِ ما تمتَلِكُه من ثروةٍ أسهَم الحديثُ النَّبَويُّ الشَّريفُ في التَّمكينِ لها من خلالِ الجديدِ الذي أضافه على مستوى المعاني والألفاظِ، والتراكيبِ والأساليبِ والرُّؤيةِ)
[317] ((أثر الحديث النبوي الشريف في اللغة العربية وتطورها)) فاطمة الزهراء عواطي، مجلة البحوث العلمية والدراسات الإسلامية (ص: 73). .
والحديثُ هو المَصدَرُ الثَّاني بعد القُرآنِ، ويُعَدُّ استِعمالُه مَصدَرًا في تَأليفِ المُعجَمِ، فهو مُندرِجٌ لذلك في اللُّغةِ الَّتي يَتكلَّمُها النَّاسُ، والغايةُ الأساسيَّةُ مِنِ استِعمالِ الحَديثِ هي الاستِشهادُ، والمَشهورُ بين المُتأخِّرين أنَّ القُدامى لم يَستَشهِدوا بالحَديثِ، فبنَوا عليه أنَّهم يَرفضون الاستِشهادَ به، فلا يَستَنِدون إليه في إثباتِ ألفاظِ اللُّغةِ، أو وَضعِ قَواعِدِها، ثمَّ حاوَلوا تَعليلَ ذلك
[318] يُنظَر: ((البحث اللغوي عند العرب، مع دراسة لقضية التأثير والتأثر)) لأحمد مختار عمر (ص: 35). ، وقد أشارَ إلى ذلك أحمَدُ الإسكندَريُّ بقولِه: (مضَت ثَمانِيةُ قُرونٍ والعُلَماءُ مِن أوَّلِ أبي الأسوَدِ الدُّؤَليِّ إلى
ابنِ مالِكٍ لا يَحتجُّون بلَفظِ الحَديثِ في اللُّغةِ إلَّا الأحاديثَ المُتَواتِرةَ)
[319] ((البحث اللغوي عند العرب، مع دراسة لقضية التأثير والتأثر)) لأحمد مختار عمر (ص: 35). .
وقد أجمَل أحمَدُ مُختارٍ أسبابًا كَثيرةً تَحمِلُ الشَّكَّ في صِحَّةِ ما نُسِب إلى الأقدَمين مِن رَفضِهم الاستِشهادَ بالحَديثِ؛ ومِن ذلك:
أنَّ الأحادِيثَ أصَحُّ سَنَدًا مِن كَثيرٍ ممَّا يُنقَلُ مِن أشعارِ العَربِ.
أنَّ مِنَ المُحدِّثين مَن ذهَب إلى أنَّه لا تَجوزُ الرِّوايةُ بالمَعنى إلَّا لمَن أحاطَ بجَميعِ دَقائقِ اللُّغة
[320] يُنظَر: ((البحث اللغوي عند العرب، مع دراسة لقضية التأثير والتأثر)) لأحمد مختار عمر (ص: 35). .
وقد حاوَلَ المُتأخِّرون أن يُعلِّلوا هذا الرَّفضَ المَزعومَ، وانتَهَوا إلى أنَّه يَرجِعُ لسَببَين:
الأوَّلُ: أنَّ الرُّواةَ جوَّزوا النَّقلَ بالمَعنى.
الثَّاني: أنَّه وقَع اللَّحنُ كَثيرًا فيما رُوِي مِنَ الحَديثِ؛ لأنَّ كَثيرًا مِنَ الرُّواةِ كانوا غيرَ عَربٍ بالطَّبعِ
[321] يُنظَر: ((البحث اللغوي عند العرب، مع دراسة لقضية التأثير والتأثر)) لأحمد مختار عمر (ص: 39). .
(فلا شَكَّ أنَّ تأثيرَ الحديثِ النَّبَويِّ الشَّريفِ على اللُّغةِ العربيَّةِ تأثيرٌ كبيرٌ ومتنَوِّعٌ بتنوُّعِ مجالاتِ اللُّغةِ؛ فقد أسهم بشكلٍ كبيرٍ في بناءِ المعجَمِ اللُّغَويِّ وإثرائِه بألفاظٍ ومعانٍ، وتراكيبَ ولهَجاتٍ، وما كُتُبُ غريبِ الحديثِ إلَّا دليلٌ على ذلك. كما أنَّ اختلافَ عُلَماءِ اللُّغةِ في الاحتجاجِ بالحديثِ النَّبَويِّ في الجانِبِ الوظيفيِّ للُّغةِ أثرى البحثَ اللُّغَويَّ بالنِّقاشِ والطَّرحِ العِلميِّ للآراءِ المختَلِفةِ، وهذا كُلُّه في صالحِ دَفعِ عَجَلةِ البحثِ العِلميِّ اللُّغَويِّ وتطَوُّرِه)
[322] ((أثر الحديث النبوي الشريف في اللغة العربية وتطورها)) فاطمة الزهراء عواطي (ص: 71). .
3- المأثورُ من كلامِ العَرَبِ:ويَشمَلُ شِعرَ العَرَبِ وأمثالَهم وحِكَمَهم وأقوالَهم السَّائِرةَ.
4- الشِّعرُ:لَقِي الشِّعرُ اهتِمامًا كَبيرًا مِنَ اللُّغويِّين، واعتَبروه الدِّعامَّةَ الأُولى لهم، حتَّى تَخَصَّصت كَلِمةُ الشَّاهِدِ فيما بعدُ، وأصبَحت مَقصورةً على الشِّعرِ فقط؛ ولذلك نَجدُ كُتبَ الشَّواهِدِ لا تَحوي غيرَ الشِّعرِ، ولا تَهتمُّ بما عداه، وقد كان اللُّغويُّون يَستشهِدون بالشِّعرِ المَجهولِ قائِلُه، إن صدَر عن ثِقةٍ يُعتمَد عليه؛ ولِذا اعتَبروا الأبياتَ الَّتي ورَدت في كِتابِ
سِيبَوَيهِ أصَحَّ الشَّواهِدِ، فاعتَمد عليها خَلَفٌ بعد سَلَفٍ، معَ أنَّ فيها أبياتًا عَديدةً جُهِل قائِلُها ...، وحَديثُنا عنِ الشَّاهِدِ الشِّعري يَجُرُّنا إلى الحَديثِ عن قَضيَّةِ الضَّرورةِ الشِّعريَّةِ، أو ما يُسمَّى بضَرورةِ الشِّعرِ، حينَما يُحاوِلُ اللُّغويُّ أوِ النَّحويُّ أن يَستبعِدَ البيتَ مِن مَجالِ الاستِشهادِ، ولقد اختَلف النُّحاةُ في ذلك إلى فَريقَين: فَريقٌ يَرى -وهو جُمهورُهم- أنَّ الضَّرورةَ هي ما وقَع في الشِّعرِ ممَّا لم يَقع في النَّثرِ، سَواءٌ أكان للشَّاعرِ عنه مَندوحَةٌ أم لا، ومَذهَبُ
ابنِ مالِكٍ -وهُو الصَّحيحُ عن
سِيبَوَيهِ- أنَّها ما ليس للشَّاعرِ مَندوحَةٌ عنه
[323] يُنظَر: ((البحث اللغوي عند العرب، مع دراسة لقضية التأثير والتأثر)) لأحمد مختار عمر (ص: 43 – 44). ، وقد اعتَمدَ الخَليلُ في كِتابِه (العَين) على شِعرٍ كَثيرٍ، اعتَمد فيه على شُعراءَ منهم الجاهِليُّ ومنهم الإسلاميُّ.
5- الشَّواهِدُ النَّثْريَّةُ:تَشتمِلُ الشَّواهِدُ النَّثريَّةُ على نَوعَين مِنَ المادَّةِ:
أحدُهما: ما جاء في شَكلِ خُطبةٍ أو وَصيَّةٍ أو مَثَلٍ أو حِكمةٍ أو نادِرةٍ، وهذا يُعَدُّ مِن آدابِ العَربِ المُهِمَّةِ، ويَأخُذُ في الاستِشهادِ به مَكانةَ الشِّعر وشُروطَه.
وثانيهما: ما نُقِل عن بعضِ الأعرابِ ومَن يُستَشهَدُ بكَلامِهم في حَديثِهم العادِيِّ، دون أن يَتحقَّقَ له مِنَ التَّأنُّقِ والذُّيوعِ مِثلُ ما تَحقَّق للأوَّلِ، وقد وضَع اللُّغويُّون الزَّمانَ، فقد حدَّدوا نِهايةَ المُدَّةِ الَّتي يُستشهَدُ بها بآخِرِ القَرنِ الثَّاني الهِجريِّ بالنِّسبةِ لعَربِ الأمصارِ، وآخِرِ القَرنِ الرَّابِعِ بالنِّسبةِ لعَربِ البادِيةِ، وأمَّا المَكانُ فقد ربَطوه بفِكرةِ البَداوةِ والحَضارةِ، فكلَّما كانتِ القَبيلةُ بَدويَّةً أو أقرَبَ إلى الحَياةِ البَدويَّةِ، كانت لُغتُها أفصَحَ، والثِّقةُ فيها أكثَرَ، وكلَّما كانت مُتَحضِّرةً أو أقرَبَ إلى حَياةِ الحَضارةِ، كانت لُغتُها مَحلَّ شكٍّ، ومَثارَ شُبهَةٍ؛ ولذلك تَجنَّبوا الأخذَ عنها، وفِكرتُهم أنَّ الانعِزالَ في كَبِدِ الصَّحراءِ وعَدَمَ الاتِّصالِ بالأجناسِ الأجنبيَّةِ يَحفَظُ لِلُّغةِ نَقاوَتَها، ويَصونُها عن أيِّ مُؤَثِّرٍ خارِجيٍّ، وأنَّ الاختِلاطَ يُفسِدُ اللُّغةَ ويَنحرِفُ بالألسِنةِ
[324] يُنظَر: ((البحث اللغوي عند العرب، مع دراسة لقضية التأثير والتأثر)) لأحمد مختار عمر (ص: 50 – 51). .