المَبحَثُ الأوَّلُ: تَقْديمُ الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ على أَدِلَّةِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ
يَعْتمِدُ
الأشاعِرةُ في الاسْتِدْلالِ في العَقيدةِ على الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ، ويَتَوسَّعونَ فيها كَثيرًا، ويَخوضونَ بعُقولِهم في مَعارِكَ كَلاميَّةٍ معَ المُخالِفينَ مِن
المُعْتَزِلةِ والفَلاسِفةِ الَّذين يَجمَعُهم القَوْلُ بالاعْتِمادِ على العُقولِ لمَعْرِفةِ الحَقِّ مِن الباطِلِ، ومعَ ذلك تَخْتلِفُ عُقولُهم اخْتِلافًا عَظيمًا، و
الأشاعِرةُ يَجعَلونَ أَدِلَّةَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ تابِعةً للعَقْلِ، غَيْرَ مُسْتقِلَّةٍ بالاسْتِدْلالِ غالِبًا، وإن كانوا خَيْرًا مِن
المُعْتَزِلةِ في الاسْتِدْلالِ بالقُرْآنِ والسُّنَّةِ؛ ف
الأشاعِرةُ يَسْتدِلُّونَ بالأَدِلَّةِ النَّقْليَّةِ معَ الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ في كُتُبِ الاعْتِقادِ، وفي بعضِ المَسائِلِ يَكْتفونَ بأَدِلَّةِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، مِثلُ إثْباتِ سَمْعِ اللهِ سُبْحانَه، وبَصَرِه،
والإيمانِ باليَوْمِ الآخِرِ، لكنَّ الأصْلَ عنْدَهم أنَّه لا يُكْتَفى في الاسْتِدْلالِ في العَقائِدِ بالأَدِلَّةِ النَّقْليَّةِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ فقط، ولا يَصِحُّ عنْدَهم الاعْتِمادُ عليها دونَ الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ لحُصولِ الدَّوْرِ، بلْ قَرَّرَ بعضُ
الأشاعِرةِ أنَّ اتِّباعَ ظَواهِرِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ مِن أُصولِ الكُفْرِ!
قالَ
الرَّازِيُّ: (الدَّلائِلُ العَقْليَّةُ إذا دَلَّتْ على صِحَّةِ قَوْلِنا، ثُمَّ رَأيْنا أنَّ ظَواهِرَ القُرْآنِ والأخْبارِ تُؤكِّدُ تلك العَقْليَّاتِ، قَوِيَ اليَقينُ وزالَتِ الشُّبُهاتُ)
[628] ((المَطالِب العالية من العلم الإلهي)) (9/ 214). .
وقالَ أيضًا: (اعْلَمْ أنَّ الدَّلائِلَ القَطْعيَّةَ العَقْليَّةَ إذا قامَتْ على ثُبوثِ شيءٍ ثُمَّ وَجَدَنا أَدِلَّةً نَقْليَّةً يُشعِرُ ظاهِرُها بخِلافِ ذلك، فهناك لا يَخْلو الحالُ مِن أحَدِ أمورٍ أرْبَعةٍ: إمَّا أن يُصدِّقَ مُقْتَضى العَقْلِ والنَّقْلِ، فيَلزَمَ تَصْديقُ النَّقيضَينِ، وهو مُحالٌ، وإمَّا أن يُبطِلَ فيَلزَمَ تَكْذيبُ النَّقيضَينِ، وهو مُحالٌ، وإمَّا أن يُصدِّقَ الظَّواهِرَ النَّقْليَّةَ، ويُكذِّبَ الظَّواهِرَ العَقْليَّةَ، وذلك باطِلٌ؛ لأنَّه لا يُمكِنُنا أن نَعرِفَ صِحَّةَ الظَّواهِرِ النَّقْليَّةِ إلَّا إذا عَرَفْنا بالدَّلائِلِ العَقْليَّةِ إثْباتَ الصَّانِعِ وصِفاتِه، وكَيَّفيةَ دَلالةِ المُعجِزةِ على صِدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وظُهورَ المُعجِزاتِ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو جَوَّزْنا القَدْحَ في الدَّلائِلِ العَقْليَّةِ القَطْعيَّةِ صارَ العَقْلُ مُتَّهَمًا غَيْرَ مَقْبولِ القَوْلِ، ولو كانَ كذلك لَخَرَجَ أن يكونَ مَقْبولَ القَوْلِ في هذه الأُصولِ، وإذا لم نُثبِتْ هذه الأُصولَ خَرَجَتِ الدَّلائِلُ النَّقْليَّةُ عن كَوْنِها مُفيدةً، فثَبَتَ أنَّ القَدْحَ لتَصْحيحِ النَّقْلِ يُفْضي إلى القَدْحِ في العَقْلِ والنَّقْلِ معًا، وأنَّه باطِلٌ، ولمَّا بَطَلَتِ الأقْسامُ الأرْبَعةُ لم يَبْقَ إلَّا أن يُقطَعَ بمُقْتَضى الدَّلائِلِ العَقْليَّةِ القاطِعةِ بأنَّ هذه الدَّلائِلَ النَّقْليَّةَ إمَّا أن يُقالَ: إنَّها غَيْرُ صَحيحةٍ، أو يُقالَ: إنَّها صَحيحةٌ إلَّا أنَّ المُرادَ مِنها غَيْرُ ظَواهِرِها، ثَّم إن جَوَّزْنا التَّأويلَ واشْتَغَلْنا على سَبيلِ التَّبرُّعِ بذِكْرِ تلك التَّأويلاتِ على التَّفْصيلِ، وإن لم يَجُزِ التَّأويلُ فَوَّضْنا العِلمَ بِها إلى اللهِ تَعالى، فهذا هو القانونُ الكُلِّيُّ المَرْجوعُ إليه في جَميعِ المُتَشابِهاتِ، وباللهِ التَّوْفيقُ)
[629] ((أساس التقديس في علم الكلام)) (ص: 130). .
وقالَ ابنُ أبي شَريفٍ المَقْدِسيُّ: (كلُّ لَفْظٍ يَرِدُ في الشَّرْعِ ممَّا يُسنَدُ إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ، أو يُطلَقُ اسْمًا أو صِفةً لها وهو مُخالِفٌ للعَقْلِ، ويُسمَّى المُتَشابِهَ- لا يَخْلو إمَّا أن يَتَواتَرَ أو يُنقَلَ آحادًا، والآحادُ إن كانَ نَصًّا لا يَحْتمِلُ التَّأويلَ، قَطَعْنا بافْتِراءِ ناقِلِه أو سَهْوِه أو غَلَطِه، وإن كانَ ظاهِرًا فظاهِرُه غَيْرُ مُرادٍ، وإن كانَ مُتَواتِرًا فلا يُتَصوَّرُ أن يكونَ نَصًّا لا يَحْتمِلُ التَّأويلَ، بلْ لا بُدَّ أن يكونَ ظاهِرًا، وحينَئذٍ نقولُ: الاحْتِمالُ الَّذي يَنْفيه العَقْلُ ليس مُرادًا مِنه، ثُمَّ إن بَقِيَ بَعْدَ انْتِفائِه احْتِمالٌ واحِدٌ تَعيَّنَ أنَّه المُرادُ بحُكْمِ الحالِ)
[630] ((المسامرة في شرح المسايرة في علم الكلام)) (ص: 27). .
وقالَ الإيجيُّ: (الدَّليلُ إمَّا عَقْليٌّ بجَميعِ مُقدِّماتِه قَريبةً كانَتْ أو بَعيدةً، أو نَقْليٌّ بجَميعِها كذلك، أو مُرَكَّبٌ مِنهما، والأوَّلُ هو الدَّليلُ العَقْليُّ المَحْضُ الَّذي لا يَتَوَقَّفُ على السَّمْعِ أصْلًا، والثَّاني وهو الدَّليلُ النَّقْليُّ المَحْضُ لا يُتَصوَّرُ؛ إذ صِدْقُ المُخبِرِ لا بُدَّ مِنه حتَّى يُفيدَ الدَّليلُ النَّقْليُّ العِلمَ بالمَدْلولِ، وأنَّه لا يَثبُتُ إلَّا بالعَقْلِ، وهو أن يَنظُرَ في المُعجِزةِ الدَّالَّةِ على صِدْقِه، ولو أُريدَ إثْباتُه بالنَّقْلِ دارَ أو تَسَلْسَلَ، والثَّالِثُ -يَعْني المُرَكَّبَ مِنهما- هو الَّذي نُسَمِّيه بالنَّقْليِّ لتَوقُّفِه على النَّقْلِ في الجُمْلةِ، فانْحَصَرَ الدَّليلُ في قِسْمَينِ: العَقْليِّ المَحْضِ، والمُرَكَّبِ مِن العَقْليِّ والنَّقْليِّ، هذا هو التَّحْقيقُ، ثُمَّ إنَّه قد يُقسَمُ الدَّليلُ إلى ثَلاثةِ أقْسامٍ، فيُقالُ: مُقدِّماتُه القَريبةُ قد تكونُ عَقْليَّةً مَحْضةً، كقَوْلِنا: العالَمُ مُتَغيِّرٌ، وكلُّ مُتَغيِّرٍ حادِثٌ، وقد تكونُ نَقْليَّةً مَحْضةً، كقَوْلِنا: تارِكُ المَأمورِ به عاصٍ؛ لقَوْلِه تَعالى:
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 93] ، وكلُّ عاصٍ يَسْتحِقُّ العِقابَ؛ لقَوْلِه:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ [الجن: 23] ، وقد يكونُ بعضُها مَأخوذًا مِن العَقْلِ، وبعضُها مِن النَّقْلِ، كقَوْلِنا: هذا تارِكُ المَأمورِ به، وكلُّ تارِكٍ للمَأمورِ به عاصٍ، فلا بَأسَ أن يُسمَّى هذا القِسْمُ الأخيرُ بالمُرَكَّبِ مِن العَقْليِّ والنَّقْليِّ؛ فظَهَرَ صِحَّةُ تَثْليثِ القِسْمةِ كما وَقَعَ في عِبارةِ بعضِهم، والمَطالِبُ الَّتي تُطلَبُ بالدَّلائِلِ ثَلاثةُ أقْسامٍ؛ أحَدُها: ما يُمكِنُ عنْدَ العَقْلِ، أي: ما لا يَمْتنِعُ عَقْلًا إثْباتُه ولا نَفْيُه حتَّى ولو خُلِّيَ العَقْلُ وطَبْعَه، وتُرِكَ معَ ما عنْدَه، لم يُحكَمْ هناك بنَفْيٍ ولا إثْباتٍ، نَحْوُ جُلوسِ غُرابٍ الآنَ على مَنارةِ الإسْكَندَريَّةِ، فهذا المَطْلوبُ لا يُمكِنُ إثْباتُه إلَّا بالنَّقْلِ؛ لأنَّه لمَّا كانَ غائِبًا عن العَقْلِ والحِسِّ مَعًا اسْتَحالَ العِلمُ بوُجودِه إلَّا مِن قَوْلِ الصَّادِقِ، ومِن هذا القَبيلِ تَفاصيلُ أحْوالِ الجَنَّةِ والنَّارِ، والثَّوابِ والعِقابِ؛ فإنَّها إنَّما تُعلَمُ بأخْبارِ الأَنْبِياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.
الثَّاني مِن المَطالِبِ: ما يَتَوقَّفَ عليه النَّقْلُ، مِثلُ وُجودِ الصَّانِعِ، وكَوْنِه عالِمًا قادِرًا مُخْتارًا، ونُبُوَّةِ مُحمَّدٍ، فهذا المَطْلوبُ لا يَثبُتُ إلَّا بالعَقْلِ؛ إذ لو ثَبَتَ بالنَّقْلِ لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِنهما يَتَوقَّفُ حينَئذٍ على الآخَرِ.
الثَّالِثُ مِن المَطالِبِ: ما عَدَاهما، نَحْوُ الحُدوثِ؛ فإنَّ صِحَّةَ النَّقْلِ غَيْرُ مُتَوقِّفةٍ على حُدوثِ العالَمِ؛ إذ يُمكِنُ إثْباتُ الصَّانِعِ دونَه، بأن يُسْتدَلَّ على وُجودِه بإمْكانِ العالَمِ، ثُمَّ يُثبَتَ كَوْنُه عالِمًا ومُرْسِلًا للرُّسُلِ، ثُمَّ يُثبَتَ بإخْبارِ الرُّسُلِ حُدوثُ العالَمِ، ونَحْوُ الوَحْدةِ؛ فإنَّ إرْسالَ الرُّسُلِ لا يَتَوقَّفُ على كَوْنِ الإلهِ واحِدًا، فجازَ أن يُثبَتَ التَّوْحيدُ بالأَدِلَّةِ السَّمْعيَّةِ، فهذا المَطْلوبُ يُمكِنُ إثْباتُه بالعَقْلِ؛ إذ يَمْتنِعُ خِلافُه عَقْلًا بالدَّليلِ العَقْليِّ الدَّالِّ عليه، ويُمكِنُ أيضًا إثْباتُه بالنَّقْلِ؛ لِعَدَمِ تَوقُّفِه عليه كما عَرَفْتَ)
[631] ((المواقف للإيجي مع شرح الجُرْجاني)) (1/ 203 - 205). .
وقالَ الإيجيُّ أيضًا: (تَقْديمُ النَّقْلِ على العَقْلِ بأن يُحكَمَ بثُبوتِ ما يَقْتَضيه الدَّليلُ النَّقْليُّ دونَ ما يَقْتَضيه الدَّليلُ العَقْليُّ إبْطالٌ للأصْلِ بالفَرْعِ؛ فإنَّ النَّقْلَ لا يُمكِنُ إثْباتُه إلَّا بالعَقْلِ؛ لأنَّ الطَّريقَ إلى إثْباتِ الصَّانِعِ ومَعْرِفةِ النَّبُوَّةِ وسائِرِ ما يَتَوقَّفُ صِحَّةُ النَّقْلِ عليه ليس إلَّا العَقْلَ، فهو أصْلٌ للنَّقْلِ الَّذي تَتَوقَّفُ صِحَّتُه عليه، فإذا قُدِّمَ النَّقْلُ عليه، وحُكِمَ بثُبوتِ مُقْتَضاه وَحْدَه، فقدْ أُبطِلَ الأصْلُ بالفَرْعِ)
[632] ((المواقف للإيجي مع شرح الجُرْجاني)) (1/ 207). .
وقالَ أيضًا: (لا يَجوزُ التَّعْويلُ على الظَّواهِرِ معَ قِيامِ الاحْتِمالِ)
[633] ((المواقف للإيجي مع شرح الجُرْجاني)) (3/ 144) باختِصارٍ وتصَرُّفٍ يَسيرٍ. .
وقالَ السَّنوسيُّ: (مِن أُصولِ الكُفْرِ التَّمَسُّكُ في أُصولِ العَقائِدِ بمُجَرَّدِ ظَواهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن غَيْرِ عَرْضِها على البَراهينِ العَقْليَّةِ والقَواطِعِ الشَّرْعيَّةِ؛ للجَهْلِ بأَدِلَّةِ العُقولِ، وعَدَمِ الارْتِباطِ بأساليبِ العَربِ)
[634] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 217) بتصَرُّفٍ يَسيرٍ. .
وقالَ الصَّفاقُسِيُّ: (اعْلَمْ أنَّ الصِّفاتِ تَنْقسِمُ بحَسَبِ الاسْتِدْلالِ عليها إلى ثَلاثةِ أقْسامٍ:
- قِسْمٌ لا يَكْفي فيه إلَّا الدَّليلُ العَقْليُّ: وهو ما تَتَوقَّفُ عليه دَلالةُ المُعجِزةِ، كوُجوبِ الوُجودِ له تَعالى، والقُدْرةِ، والإرادةِ، ممَّا يَتَوقَّفُ عليه الفِعلُ؛ فإنَّ المُعجِزةَ فِعلٌ مِن أفْعالِه تَعالى، ولا تَثبُتُ رِسالةُ الرَّسولِ عُمومًا إلَّا بالمُعجِزةِ، فإذا كانَتِ القُدْرةُ مَثَلًا لا تَثبُتُ إلَّا بقَوْلِ الرَّسولِ الَّذي هو الدَّليلُ الشَّرْعيُّ، ولا يُقبَلُ قَوْلُه إلَّا بظُهورِ المُعجِزةِ الدَّالَّةِ على صِدْقِه وعلى ثُبوتِ رِسالتِه. وظُهورُ المُعجِزةِ مُتَوقِّفٌ على اتِّصافِ المُرسِلِ بالقُدْرةِ مَثَلًا، فقدْ تَوَقَّفَتِ القُدْرةُ على ظُهورِ المُعجِزةِ، وتَوَقَّفَتِ المُعجِزةُ على اتِّصافِ مُظهِرِها بالقُدْرةِ، فحَصَلَ الدَّوْرُ، فلم يَصِحَّ أن يُستَدَّلَ على ذلك بالشَّرْعِ. والحاصِلُ أنَّه لا تَصِحُّ رِسالةُ الرَّسولِ حتَّى يَتَّصِفَ مُرسِلُه بالقُدْرةِ، ولا تَثبُتُ له القُدْرةُ حتَّى تَصِحَّ رِسالةُ الرَّسولِ، وهو دَوْرٌ كما تَقدَّمَ.
- وقِسْمٌ يَكْفي فيه الدَّليلُ الشَّرْعيُّ: وهو ما لا يَتَوقَّفُ عليه دَلالةُ المُعجِزةِ، كسَمْعِه تَعالى، وبَصَرِه
[635] ويُلاحَظُ أنَّ بَعْضَ الأشاعِرةِ اكتفى في إثْباتِ صِفتَيِ السَّمعِ والبَصَرِ بالأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ دونَ ذِكْرِ أَدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، كأبي المعالي الجُوَيني، فقد قال: (يجِبُ وَصْفُ الباري تَعالى بكَونِه سَميعًا بصيرًا، والدَّليلُ عليه: أنَّ الواحِدَ إذا أبصَرَ فإنَّه يجري منه تحديقٌ في جِهةِ المَرْئيِّ، واتِّصالُ أشِعَّةٍ به على مَجْرى العادةِ. وإذا سَمِعَ يقرَعُ الهواءُ صِماخَيه. والإدراكُ الحقيقيُّ يَقَعُ وراءَ الاتِّصالاتِ الَّتي ذكَرْناها، وذلك الإدراكُ له مزيَّةٌ على العِلْمِ بالمغيَّبِ الَّذي لم يُدرَكْ. فالرَّبُّ تَعالى يُدرِكُ المُبصَرَ والمسموعَ على الحقيقةِ الَّتي نُدرِكُه عليها، ويتَعالى عمَّا تتَّصِفُ به الحواسُّ والحَدَقُ والأَصْمِخةُ. كما يَعلَمُ مِن غَيرِ نَظَرٍ واسْتِدْلالٍ، ويَقدِرُ مِن غَيرِ فَرضِ جارِحةٍ وأداةٍ. فمَن وَصَف الإلهَ بما ذكَرْناه من تحقيقِ الإدراكِ فقد وافق في المعنى. ونحن نقطَعُ باستحالةِ اتِّصافِه بالإحساسِ والتَّحْديقِ والإصاخةِ، فإن أنكَرَ مُنكِرٌ كَونَه مُدرِكًا لحقيقةِ الأشياءِ فقد أثبت للمَخلوقِ في الإحاطةِ والدَّرَكِ مَزِيَّةً على الخالِقِ، ولا خَفاءَ ببُطلانِ ذلك، وكيف يَصِحُّ في العَقْلِ أن يَخلُقَ الرَّبُّ للعَبدِ الدَّرَكَ الحقيقيَّ، وهو لا يُدرِكُ حقيقةَ ما خَلَق للعَبدِ إدراكَه؟!) ((العَقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)) (ص: 162). ، وكَلامِه، والإدْراكِ -على القَوْلِ به- والبَعْثِ، وأحْوالِ الآخِرةِ.
- وقِسْمٌ اخْتُلِفَ فيه -وهو الوَحْدانيَّةُ- هل هو كالقِسْمِ الأوَّلِ، فلا يَصِحُّ أن يُعلَمَ إلَّا بالدَّليلِ العَقْليِّ، أو يُسْتدَلَّ عليه بالدَّليلِ السَّمْعيِّ أيضًا كالقِسْمِ الثَّاني؟ فقالَ بعضٌ: يَصِحُّ أن يُسْتدَلَّ عليه بالدَّليلِ الشَّرْعيِّ، وهو رَأيُ إمامِ الحَرَمَينِ والفَخْرِ، وقالَ بعضُ المُحَقِّقينَ: لا يَكْفي فيها الدَّليلُ السَّمْعيُّ، وهو مُخْتارُ السَّنوسيِّ)
[636] ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) (ص: 64). .
فتَبَيَّنَ بِهذا أنَّ الأَدِلَّةَ العَقْليَّةَ مُقدَّمةٌ عنْدَ
الأشاعِرةِ على الأَدِلَّةِ النَّقْليَّةِ، وأنَّهم عنْدَ تَعارُضِهما في الظَّاهِرِ يُقدِّمونَ ما يَتَوَهَّمونَ أنَّه تَقْديمٌ للعَقْلِ على النَّقْلِ، معَ أنَّ العَقْلَ الصَّريحَ لا يُناقِضُ النَّقْلَ الصَّحيحَ، ولا يُمكِنُ أبَدًا أن يَتَعارَضَ العَقْلُ معَ أَدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولكنَّ
الأشاعِرةَ يَظُنُّونَ تَعارُضَ العَقْلِ معَ بعضِ ظَواهِرِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، كنُصوصِ الصِّفاتِ، فيُقدِّمونَ حينَئذٍ العَقْلَ الَّذي يَتَوهَّمونَه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ومِثلُ هذا مُخاطَرةٌ شَديدةٌ في الدِّينِ، تُوقِعَ الإنْسانَ في المَضايِقِ والإشْكالاتِ، وتُؤَدِّي إلى الاعْتِراضِ على الشَّرْعِ
[637] يُنظر: ((مَنهَج أهل السُّنَّة والجماعة ومَنهَج الأشاعِرة في توحيد الله)) لخالد عبد اللطيف (2/560). .
وما أَحسَنَ ما قالَه السِّجْزيُّ في أوَّلِ رِسالتِه إلى أهْلِ زَبيدٍ: (إقامةُ البُرْهانِ على أنَّ الحُجَّةَ القاطِعةَ هي الَّتي يَرِدُ بِها السَّمْعُ لا غَيْرُ، وأنَّ العَقْلَ آلةٌ للتَّمْييزِ فحسْبُ، قالَ اللهُ سُبْحانَه لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110] ، فأمَرَ جَلَّ جَلالُه نَبيَّه عليه السَّلامُ أن يَدْعوَ إلى إثْباتِ الوَحْدانيَّةِ بالوَحْيِ، وقالَ:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأَنْبِياء: 25] ، فبَيَّنَ أنَّ مَن تَقدَّمَ مِن الرُّسُلِ كانوا يَحْتَجُّونَ على الكُفَّارِ في الوَحْدانيَّةِ بالوَحْيِ، ولم يُؤْمَروا إلَّا بِذلك، وقالَ جَلَّ جَلالُه:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] ، وقالَ:
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116] )
[638] ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 131). .
وقالَ
ابنُ تَيْمِيَّةَ: (كلُّ ما يَدُلُّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ فإنَّه مُوافِقٌ لصَريحِ المَعْقولِ. والعَقْلُ الصَّريحُ لا يُخالِفُ النَّقْلَ الصَّحيحَ، ولكنَّ كَثيرًا مِن النَّاسِ يَغلَطونَ إمَّا في هذا، وإمَّا في هذا، فمَن عَرَفَ قَوْلَ الرَّسولِ ومُرادَه به كانَ عارِفًا بالأَدِلَّةِ الشَّرْعيةِ، وليس في المَعْقولِ ما يُخالِفُ المَنْقولَ؛ ولِهذا كانَ أئِمَّةُ السُّنَّةِ على ما قالَه
أَحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: مَعْرِفةُ الحَديثِ والفِقْهِ فيه أَحَبُّ إليَّ مِن حِفْظِه، أي: مَعْرِفتُه بالتَّمْييزِ بَيْنَ صَحيحِه وسَقيمِه. والفِقْهُ فيه مَعْرِفةُ مُرادِ الرَّسولِ، وتَنْزيلُه على المَسائِلِ الأُصوليَّةِ والفُروعيَّةِ أَحَبُّ إليَّ مِن أن يُحفَظَ مِن غَيْرِ مَعْرِفةٍ وفِقْهٍ. وهكذا قالَ
علِيُّ بنُ المَدينيِّ وغَيْرُه مِن العُلَماءِ، فإنَّه مَن احْتَجَّ بلَفْظٍ ليس بثابِتٍ عن الرَّسولِ، أو بلَفْظٍ ثابِتٍ عن الرَّسولِ، وحَمَلَه على ما لم يَدُلَّ عليه، فإنَّما أُتِيَ مِن نَفْسِه. وكذلك العَقْليَّاتُ الصَّريحةُ إذا كانَت مُقدِّماتُها وتَرْتيبُها صَحيحًا لم تكنْ إلَّا حَقًّا، لا تُناقِضُ شَيئًا ممَّا قالَه الرَّسولُ. والقُرْآنُ قد دَلَّ على الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ الَّتي بها يُعرَفُ الصَّانِعُ وتَوْحيدُه وصِفاتُه وصِدْقُ رُسُلِه، وبِها يُعرَفُ إمْكانُ المَعادِ، ففي القُرْآنِ مِن بَيانِ أُصولِ الدِّينِ الَّتي تُعْلَمُ مُقدِّماتُها بالعَقْلِ الصَّريحِ ما لا يوجَدُ مِثلُه في كَلامِ أحَدٍ مِن النَّاسِ، بلْ عامَّةُ ما يأتي به حُذَّاقُ النُّظَّارِ مِن الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ يَأتي القُرْآنُ بخُلاصتِها، وبما هو أَحسَنُ مِنها؛ قالَ تَعالى:
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: 33] ، وقال:
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58] ، وقالَ:
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] ، وأمَّا الحُجَجُ الدَّاحِضةُ الَّتي يَحتَجُّ بِها المَلاحِدةُ، وحُجَجُ
الجَهْميَّةِ مُعَطِّلةِ الصِّفاتِ، وحُجَجُ الدَّهْريَّةِ وأمْثالِها كما يوجَدُ مِثلُ ذلك في كَلامِ المُتَأخِّرينَ الَّذين يُصَنِّفونَ في الكَلامِ المُبتَدَعِ، وأقْوالِ المُتَفَلْسِفةِ، ويَدَّعونَ أنَّها عَقْليَّاتٌ- ففيها مِن الجَهْلِ والتَّناقُضِ والفَسادِ ما لا يُحْصيه إلَّا رَبُّ العِبادِ!)
[639] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 80 - 82). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ: (ما جاءَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا البابِ وغَيْرِه كلُّه حَقٌّ يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، وهو مُوافِقٌ لفِطْرةِ الخَلائِقِ، وما جُعِلَ فيهم مِن العُقولِ الصَّريحةِ، والقُصودِ الصَّحيحةِ، لا يُخالِفُ العَقْلَ الصَّريحَ، ولا القَصْدَ الصَّحيحَ، ولا الفِطْرةَ المُسْتقيمةَ، ولا النَّقْلَ الصَّحيحَ الثَّابِتَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما يَظُنُّ تَعارُضَها مَن صَدَّقَ بباطِلٍ مِن النُّقولِ، أو فَهِمَ مِنه ما لم يَدُلَّ عليه، أو اعْتَقَدَ شَيئًا ظَنَّه مِن العَقْليَّاتِ وهو مِن الجَهْليَّاتِ، أو مِن الكُشوفاتِ وهو مِن الكُسوفاتِ، إن كانَ ذلك مُعارِضًا لمَنْقولٍ صَحيحٍ، وإلَّا عارَضَ بالعَقْلِ الصَّريحِ أو الكَشْفِ الصَّحيحِ ما يَظُنُّه مَنْقولًا عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويكونُ كَذِبًا عليه أو ما يَظُنُّه لَفْظًا دالًّا على شيءٍ ولا يكونُ دالًّا عليه)
[640] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 580). .
وقالَ
ابنُ عُثيمينَ: (الإسْلامُ دينٌ يُطابِقُ العَقْلَ والفِطْرةَ، ويَتَمَشَّى معَهما إلى الغايةِ النَّبيلةِ الَّتي هدى العُقَلاءَ إليها؛ ولِذلك لا يُمكِنُ أن تَجِدَ في الإسْلامِ ما يُناقِضُ العَقْلَ الصَّريحَ، أو الفِطْرةَ المُسْتَقيمةَ)
[641] ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمينَ)) (18/ 571). .