بعد أن استقَرَّت الأوضاع في مكَّةَ، ارتحل الأمير سعود إلى جُدَّة لفتحِها، فعسكر بجيشِه في الرغامة بالقربِ من سور جدة، فكتب إلى أهلها يدعوهم إلى التَّسليم, وكان الشريف غالب قد تحصَّن وراء سور جدة واستعد للقتالِ، فدامت المناوشات بينهما أسبوعًا، فلما رأى سعود حصانةَ جُدَّة رحل منها ورتب جندًا في قصرٍ مِن قصور مكَّةَ، ثمَّ رجع إلى الدرعية.
على الرغم من معاهدة 1210ه بين الجزائر والولايات المتحدة، فإن السفنَ العثمانية التابعة لإيالة (ولاية) طرابلس بدأت في التعَرُّضِ للسفن الأمريكية التي تدخُلُ البحر المتوسط، وترتَّب على ذلك أن أرسَلَت الولايات المتحدة أسطولًا حربيًّا إلى ميناء طرابلس، هاجمت سفينتا حرب أمريكيتان تملك 35 مدفعًا السفُنَ الموجودةَ في ميناء طرابلس في ليبيا، إلَّا أن إحدى السفينتين (فلادليفيا) التي كانت تعدُّ أكبر سفينة في العالم في ذلك الوقتِ جنحت في المياه الضَّحلةِ في ميناء طرابلس، وتم أسرُ طاقَمِها المكون من 300 بحَّار، وطالب حاكِمُ طرابلس قرة مانلي يوسف باشا الولاياتِ المتحدة بدفع ثلاثة ملايين دولار تقَدَّم لهم كتعويضاتٍ قبلَ إطلاق سراح السفينة وطاقمِها، وطالب في نفس الوقت محمد حمودة باشا والي تونس الولاياتِ المتحدة بعشرة آلاف دولار سنويًّا. وظلت الولايات المتحدة تدفَعُ هذه الضريبة حمايةً لسفنها حتى سنة 1227هـ حيث سدَّد القنصل الأمريكي في الجزائر 62 ألف دولار ذهبًا، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسَدَّد فيها الضريبة السنوية.
هو الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، ولِدَ 1132هـ/1720م ونشأ في الدرعيَّة، ونهل من علومِها الشرعية، ودرس على عُلَماء عصره، وأبرزهم الشيخُ محمد بن عبد الوهاب في العُيَينة، وبعد قدومه الدرعية عام 1157هـ شارك في كثير من المعارك والحروبِ في حياة أبيه, وبعد وفاةِ والده تولَّى الحكمَ سنة 1179هـ, وأكمل بناءَ الدولة ونشر الدعوةَ الإصلاحية التي بدأ بها والده الإمام محمد بمؤازرة الإمامِ محمد بن عبد الوهابِ وتوجيهِه، يقول ابن بشر: "وما يجيءُ إلى الدرعية من دقيقِ الأشياء وجليلِها تُدفَعُ إليه- أي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بيده ويضعُها حيث يشاء. ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيرُه من ذلك شيئًا إلا عن أمرِه، بيَدِه الحَلُّ والعقدُ، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيشٌ ولا يصدُرُ رأيٌ مِن محمد وابنِه عبد العزيز إلَّا عن قوله ورأيه. فلما فتح اللهُ الرياض واتسَعَت ناحية الإسلام وأمِنَت السبُلُ وانقاد كل صعبٍ من بادٍ وحاضر، جعل الشيخ الأمرَ بيد عبد العزيز وفوَّض أمور المسلمين وبيتَ المال إليه. وانسلخ منها ولَزِم العبادةَ وتعليم العِلمِ، ولكن ما يقطَعُ عبد العزيز أمرًا دونه ولا ينفِّذُه إلا بإذنه" وفي عهدِه امتَدَّ نفوذ الدولة إلى الرياض وجميع بلدان الخرج، ووادي الدواسر في الجنوب، وفي الشمال امتد إلى القصيم ودومة الجندل بالجوف، ووادي سرحان وتيماء وخيبر والعراق, وفي الشرق تمكَّن الإمام عبد العزيز من السيطرةِ على الأحساءِ وإنهاء حكم بني خالد فيها, والبريمي التي كانت خاضعة لحكم قطر لسنوات طويلة، وامتد نفوذُ الدولة وانتشرت الدعوةُ إلى البحرين وعمان عن طريق ولاءِ قبائل المنطقة ودفْعِها الزكاةَ لدولة الدرعية, وفي الغربِ امتَدَّ نفوذ الدولة إلى شرقي الحجاز, في الجنوب الغربي وصل نفوذ الدولة إلى بيشة والليث وجازان, وقد تحقَّق فيها الأمن والإيمان حتى أَمِنت البلدان والسبل. يقول ابن بشر: "كانت الأقطارُ والرعية في زمنه مطمئنةً في عيشةٍ هنيئة، وهو حقيق بأن يلقَّب مهديَّ زمانه؛ لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أيَّ وقت شاء شتاء أو صيفًا، يمنًا أو شامًا، شرقًا وغربًا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك، لا يخشى أحدًا إلا الله فلا يخشى سارقًا ولا مكابرًا. وكانت جميعُ بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسَيِّبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك، ليس لها راعٍ ولا مراعٍ، بل إذا عَطِشت وردت على البلدانِ ثمَّ تصدُرُ إلى مفالها حتى ينقضيَ الربيع أو يحتاجون لها أهلها". وكانت دولتُهم تُعرَف بدولةِ آل مقرن في الدرعية إلى نهايةِ عهد الإمام عبد العزيز، وفي عهد ابنه سعود الكبير، نُسِبَت الدولة إلى اسم العائلة فعُرِفَت بالدولة السعودية. اغتال الإمامَ عبد العزيز شيعةُ العراق انتقامًا لِما أصابهم في غزوةِ كربلاء قبل عامين, يقول ابن بشر: "قُتِل الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسجدِ الطريف المعروف في الدرعية وهو ساجِدٌ في أثناء صلاة العصر؛ مضى عليه رجلٌ قيل إنَّه كردي من أهل العمادية بلد الأكراد المعروفةِ عند الموصل اسمُه عثمان، أقبل من موطنه لهذا القصدِ مُحتَسِبًا حتى وصل الدرعية في صورة درويش وادَّعى أنه مهاجر, وأظهر النسُكَ بالطاعة، وتعلمَ شيئًا من القرآن فأكرمه عبد العزيز وأعطاه وكساه... وكان قصدُه غيرَ ذلك، فوثب عليه في الصف الثالث والناسُ في السجودِ فطعنه في أبهرِه، رحمه الله، أو في خاصرته أسفلَ البطن بخنجرٍ كان قد أخفاه وأعده لذلك، وقد تأهب للموت فاضطرب المسجِدُ وماج بعضُه في بعض ولم يكن يدرون ما الأمر... وكان لَمَّا طُعن عبد العزيز أهوى إلى أخيه عبد الله وهو في جانبِه وبَرَك عليه ليطعنَه، فنهض عليه وتصارعا وجرح عبد الله جرحًا شديدًا، ثم إنَّ عبد الله صرعه وضربه بالسَّيفِ، وتكاثر عليه الناس فقتلوه، وقد تبين لهم وجه الأمرِ، ثمَّ حُمل الإمام إلى قصرِه وقد غاب ذهنُه وقرُبَ نزعُه لأنَّ الطعنة قد هوت إلى جوفِه، فلم يلبث أن توفِّيَ بعدما صعدوا به القصر رحمه الله تعالى وعفا عنه، واشتد الأمرُ بالمسلمين وبُهِتوا" وذلك في أواخر شهر رجب لهذا العام, كان الأميرُ سعود حين قُتِل والده في نخل له في الدرعية، فلما بلغه الخبر أقبل مسرعًا، واجتمع الناس عنده فقام فيهم ووعظهم موعظةً بليغة وعزَّاهم, فقام الناسُ فبايعوه خاصتُهم وعامتهم، وعزَّوه في أبيه، ثم كتب إلى أهل النواحي نصيحةً يَعِظُهم ويخبرهم بالأمر ويعزِّيهم ويأمرُهم بالمبايعة، وكل أهل بلد وناحية يبايعون أميرَهم لسعود، فبايعه أهلُ النواحي والبلدان ورؤساء قبائل العربان، ولم يختلف منهم اثنان.
هو سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيد إمامُ مسقط وهو مؤسِّسُ دولة البوسعيدية في عمان، ولد في عمان, وكان قد عَمِل على توحيد البلاد وتقويتها، ثم الاهتمام بالخارج لتوسيعِ نفوذ دولته، وقد اصطدم بقوات دولة الدرعية في البحرين عندما غزاها وانتزعها من آلِ خليفة. قتله رجلٌ من القواسم أهل رأس الخيمة أتباع دعوةِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب. كان سلطان أحمد ركب البحرَ وصادفه القواسم في عُرض البحر وقد نزل من مركبه المنيع المشهور إلى سفينة صغيرة، فاعترضهم وهو فيها فحَصَلت مناوشةُ رميٍ، فرماه أحدُهم ببندقية فقتَلَه وهم لا يعلمون أنَّه إمام مسقط حتى سَمِعوا خادمه يدعوه باسمِه بعد قتله, وتولَّى حكم مسقط بعده أخوه بدر بن أحمد.
سار عبد الوهاب بن عامر المعروف بكُنيتِه أبو نقطة أمير ألمع وعسير وتهامة قاصدًا جُدَّةَ محاربًا لها بأمر الإمام سعود الذي أمر على من في جهة عبد الوهاب من أهل الخبت والحجاز أن ينفروا معه إلى جدة, فسار عبد الوهاب بهم وهم ستة آلاف مقاتل, ونزل السعديةَ الماء المعروف قرب سيف البحر، فلما تحقق الشريف حالَهم أراد أن يباغِتَهم في مكانهم قبل أن يأتيَ إليه أبو نقطة بجيشِه، فجهَّز العساكر الكثيرة قيل إنها عشرة آلاف رجل، وسار من مكةَ بتلك العساكر والجنود، وقصد عبد الوهاب على مائِه، فمرَّ بطريقه برجال مرابطين من عسيرٍ وغيرهم، وهم أربعون رجلًا فقتلهم، ثم سار إلى عبد الوهاب فالتقى الجمعان، واقتتل الفريقان, فحمل عبد الوهاب وقومُه على الشريف وجنوده فولَّوا الأدبار، فتَبِعَهم أهل عسير من ساقتِهم يقتلون ويغنمون ويأخذون من سلاح المُدبِرين ولباسِهم وما معهم، وكثيرُها يُرمى به في الأرض، وترك الشريفُ ثِقلَه ومدافِعَه وزهبته وسلاحه، واستولى عبد الوهاب ومن معه عليها، وقيل: إن البنادق التي جمعت 2500 بندق، والقتلى أكثر من ستمائة قتيل، أكثرهم من الترك والأمداد التي عنده من الدولة العثمانية، وجمع عمالُ سعود خُمس الغنائم وقيَّضوها, ورجع الشريف غالب إلى مكة وعبد الوهاب إلى وطنه بعد هذا النصرِ والغنيمة.
سار الإمامُ سعود بجيوشه الكثيرة من جميع نواحي نجد والجنوب وعمان والأحساء وغير ذلك من البادي والحاضر، قاصدًا الشمال, وكان قد حدَث من عربان الظفير حوادِثُ من تضييع بعض فرائض الدين وإيواء المُحدَثين وإضافتهم، وأتاهم غزوٌ من بوادي الشمال، فأغاروا على بوادي المسلمين واجتازوا بالظفير فأضافوهم، وذكروا للإمام سعود أن أناسًا منهم يغزون مع أعداء المسلمين على بواديهم، وكان قبل ذلك قد حدَث بين الظفير ومطير بعضُ القتال، فقُتِل من مطير رجلٌ من رؤسائهم الدوشان. وقُتِل من الظفير مصلط بن الشايوش بن عفنان. فأرسل إليهم سعودٌ وهو في الدرعية فأصلح بينهم وكف بعضَهم عن بعض وتوعَّدَ من اعتدى منهم على الآخر, فلما سار سعود في هذه الغزوة اجتاز بوادي الظفير وهم في الدهناء على جهة لينة الماء المعروف, فأمرهم أن ينفِروا معهم غزاة، فنفر منهم شرذمةٌ رئيسُهم الشايوش بن عفنان، فاستغل سعود غزوهم، فانتهر الشايوش وغَضِب عليه فقال: إنهم عَصَوني وهم يريدون المسير لقتال مطير، فحَرف سعود الجيوش إلى الظفيري وشَنَّ عليهم الغارات وأمر فيهم بالقَتلِ والنهب، ثم بعد ذلك أعتق غالِبَهم من القتل, وأخذ جميعَ أموالهم ولم ينجُ منهم إلا الشريد من أقاصيهم، وتفرقوا فمنهم من هرب إلى المنتفق، والبعض إلى جزيرة العراق، والبعض الآخر إلى نجد, ثم رحل سعود إلى الزلفي وقسَّم الغنائمَ، وكان عند ظفير إبل وأغنام كثيرة لأهل سدير فأمرهم سعود أن يتعرفوا أموالَهم، وكل من عرف ماله أتى بشاهدين أو شاهد ويمينه ويأخذونه.
تحسَّنت العلاقة الفرنسية العثمانية، فعزل السلطان أميري الأفلاق والبغدان من منصبيهما وكانا مؤيَّدَين من قبل روسيا، فثارت ثائرة روسيا وأرسلت جيوشَها لاحتلال الإقليمين دون إعلانِ حرب، وتضامنت إنكلترا مع روسيا وأرسلت قطعات بحرية إلى مضيق الدردنيل، وطلبت من الخليفة أن يقومَ حلف بين إنكلترا والدولة العثمانية، وأن تسلِّم الدولةُ الأسطول وقلاع مضيق الدردنيل إلى إنكلترا، وأن تتنازل عن إقليمي الأفلاق والبغدان لروسيا، وأن تعلن الحرب على فرنسا، فرفضت الدولةُ العثمانية ذلك، فاجتازت القطعات الحربية مضيقَ الدردنيل بسهولةٍ وساد الأهالي الخوفُ، ورأى الخليفةُ أن يقبل طلبات إنكلترا غيرَ أن مندوب فرنسا عرَضَ عليه مساعدة فرنسا واستقدمَ الأسطول الفرنسي مقابِلَ عدم التنازل لإنكلترا، فوافق الخليفة وبدأ بتحصين العاصمةِ ومضيق الدردنيل بدعم الفرنسيين له، واضطرت القطعات البحرية الإنجليزية للخروجِ مِن الدردنيل خوفًا من الحصار في بحر مرمرة.
قبل مبايعة الشريف غالب بايع أهلُ المدينة الإمام سعود على دين الله ورسوله والسمع والطاعة، وهُدِّمت جميعُ القباب التي على القبور والمشاهد, وذلك أنَّ آل مضيان ورؤساء حرب ومن تبِعَهم من عُربانهم كانوا قد أحبُّوا الدعوة وأتباعها، فوفدوا على الإمام عبد العزيز في عهدِه وبايعوه, وأرسل معهم عثمان بن عبد المحسن أبا حسين يعلِّمُهم فرائض الدين ويقرِّرُ لهم التوحيد، فاجتمعوا على حرب المدينة ونزلوا عواليَها ثم أمرهم الإمام عبد العزيز ببناء قصرٍ فيها فبَنَوه وأحكموه واستوطنوه، وتَبِعَهم أهل قبا ومن حولهم وضيَّقوا على أهل المدينة وقطَعوا عنهم السوابل وأقاموا على ذلك سنين، وأرسل إليهم سعود وهم في موضِعِهم ذلك الشيخ العالم قرناس بن عبد الرحمن صاحب بلد الرس في القصيم, فأقام عندهم قاضيًا ومعلِّمًا كل سنة يأتي إليهم في موضِعِهم ذلك، فلما طال الحصار على أهل المدينة وقعت مكاتبات هذا العام بينهم وبين الإمام سعود وبايعوه هذه السنة.
بايع صالح بن يحيى العلقي رئيسُ الحُدَيدة وبيتُ الفقيه الإمامَ سعودًا على دين الله والسمع والطاعة، وحَسُنت عقيدته, فسيَّرَ إمامُ صنعاء عسكرًا حاصروا بندر الحديدة وأخذوه وأسروا ابن صالح، وكان والده استعمله أميرًا على الحُدَيدة, فجمع صالح جنوده وقومه وقبائل عديدة حاضرة وبادية نحو 3000 مقاتل، فنازل أهل زبيد وأخذوه عنوة، وغنموا منه من الأموال والمتاع الشيءَ الكثير، ولم يمتنع عليه إلا القلعةُ الأمامية وما تحميه، ثم خرج صالحٌ عن زبيد وعَزَل الأخماس وبَعَث بها إلى الدرعية، وقسَّم الباقيَ على جيشِه.
أمر الإمامُ سعود عبد الوهاب أبا نقطة ورعاياه من عسير وألمع وفهاد بن شكبان ورعاياه من بيشة وعبيدة وأهل سنحان ووادعة وقراها وأهل وادي الدواسر ومن تبعهم أن يقصِدوا نجران لقتالِ أهله, فسار هؤلاء في جمع بلغت عدته حوالي 30 ألفًا، ونازلوا أهلَ بدر مدَّةً وجرى بينهم وقائع وقتلى بين الفريقين، أكثَرُ القتلى من قوم عبد الوهاب, وأمر عبد الوهاب من معه أن يبنوا قصرًا مقابِلَ قصر بدر يصير ثغرًا لهم، ويضَيِّق على أهل بدر ونجران، فتَمَّ بناؤه وحَصَّنوه وجعلوا فيه مرابِطة، ووضعوا لهم جميعَ ما يحتاجون إليه ثمَّ رجعوا إلى أوطانهم.
أمر الإمام سعود عبدَ الوهاب أبا نقطة وجميعَ رعاياه من تهامة وسالم بن شكبان ورعاياه من أهل بيشة ونواحيها وعثمان المضايفي بجميع أهل الحجاز بالمسير إلى مكة، فينزلون ويضيقون على أهلِها، وأمرهم بانتظار الحاج الشاميِّ وأن يمنعوه إذا كان محاربًا، فسارت تلك الجموع إلى مكة فاشتدَّ الأمر على الشريف غالب، وبلغ منه الجَهدُ، وطلب منهم الصلحَ ومواجهة الإمام سعود ومبايعته على دين الله ورسوله والسَّمعِ والطاعة فصالحوه وأمهلوه، ومشت السوابِلُ والقوافل إلى مكة، ودخلها عبد الوهاب والمضايفي ومن معهم وحجُّوا واعتمروا، واجتمع عبد الوهاب مع الشريف غالب وفاوضه الحديثَ وتهادَوا فأجاز الشريف غالب عبد الوهاب بجوائِزَ سَنية، وأعرضوا عن الحاجِّ الشامي, وانصرف عبد الوهاب ومن معه من الأمراء والأتباع إلى أوطانهم, وأرسل الشريف إلى الإمام سعود أهلَ نجايب وطلب إتمام الصلحِ والمبايعة فأجابه إليها، وأَمِنَت السبُلُ ومَشَت السابلةُ إلى مكة من جميع النواحي، ورخصت الأسعار في الحرمين وغيرِها.
اشتدَّ الغلاء والقحط على الناس في نجد وما يليها، وسقط كثير من أهل اليمن ومات أكثر إبلِهم وأغنامهم، وفي آخر هذا العام بلغ البُرُّ ثلاثة أصوع بريال, وبلغ التمر سبع وزنات بريال، وبِيعَ في ناحية الوشم والقصيم خمس وزنات بريال, وأمَّا في مكة فالأمر فيها أعظَمُ بسبب الحرب والحصار بعد نقض الشريف غالب الصلحَ مع الإمام سعود، فسُدَّت كُلُّ الطرق عن مكة من جهة اليمن والحجاز وتهامة ونجد؛ لأن أهل هذه البلدان كلُّهم رعايا لدولة الإمام سعود في الدرعية, وأمَّا في نجد فاشتدَّ الجوع فيها على الناس واستمَرَّ الغلاء والجوع في نجدٍ نحو ست سنوات. لكِنَّ الله جعل لهم في الأمن عوضًا عن الجوع والغلاء، فالرجل يسافر إلى أقصى البلاد من اليمن وعمان والشام والعراق وغيرها لا يخشى أحدًا إلا الله, وقد صارت الدرعية لهم رداءً كالبصرة والأحساء، فمن أتاها بنفسه وعياله وسَّعَ الله عليه دنياه.
ولد محمد علي في مدينة قَوَلة الساحلية في جنوب مقدونيا عام 1769م، وهو تركي عثماني لا يمتُّ للألبانيين ولا لصقالبة مقدونية ولا يونانها بسببٍ ولا نسب، لكنَّه حين قدم مصر جاء مع الفرقة الألبانية التي أرسلها السلطانُ العثماني إلى مصر؛ ممَّا أشكَلَ أمره على البعض، فحسِبَ أنَّ له أصلًا ألبانيًّا! وكان محمد علي قد اختاره المصريون ليكون واليًا على مصر، فبعد جلاء الفرنسيين عن مصرَ استطاع محمد علي أن يسيطرَ على الوضع، وأن يحوز رضا العلماء والتجَّار والأعيان، حتى نادَوا به واليًا على مصر، وبعثوا برسالة للسلطان العثماني يطالبونه بتعيين محمد علي واليًا علي مصر، فاستجاب لرغبتهم، فتمَّ إعلانه واليًا على مصر في 17 مايو 1805م, كما كان لثورة عمر مكرم الشعبية أثرٌ في إبعاد خورشيد باشا عن حكم مصر وتهيئتها لمحمد علي الذي استقرَّ على أريكة الحكم في مصر هذا العام، وظل يحكمُها نحو 43 سنة، فقضى على المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة، وكانوا مراكِزَ القوى ومصدرَ القلاقل السياسية، ممَّا جعل البلد في فوضى. وقضى على الإنجليز في معركة رشيد، وأصبحت مصر تتسم بالاستقرار السياسي لأوَّلِ مرة تحت ظلالِ الخلافة العثمانية. وبدأ محمد علي بتكوين أولِ جيشٍ نظامي في مصر الحديثة. وكان بدايةً للعسكرية المصرية في العصر الحديثِ، تمكَّن محمد علي أن يبنيَ في مصر دولةً عصرية على النسَقِ الأوروبي، واستعان في مشروعاتِه الاقتصادية والعلمية بخُبراء أوروبيين، ومنهم بصفةٍ خاصة السان سيمونيون الفرنسيون، الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في الثلاثينات من القرن التاسع عشر.
بعد أن حَقَّق الإمامُ سعود طلَبَ الشريف غالب في الصلحِ والمبايعة، وقع من الشريفِ ما يَريبُ منها: أنَّه أبقى في مكة عسكرًا من الترك والمغاربة وغيرهم من الحاجِّ، وذلك أنَّ باشا الحاج عبد الله العظم هو الذي رتَّبَهم بأمر من الدولة العثمانية, ومنها أنَّه حصن جُدَّة وأحاطها بالخندق ومنعَ الغرباء والسفار من جهةِ دولة الإمام سعود عن دخول جدَّة، واستوطنها الشريف أغلبَ أيامِه، وبقيت تلك العساكر عنده إلى وقتِ الحجِّ القابل, واختار الإمامُ الإعراضَ عنه إلى وقتِ الحَجِّ.
خرج الإمامُ سعود للحَجَّة الثالثة في ذي القعدةِ، وكان قد سيَّرَ قبل خروجِه للحج في نهاية رمضان عبد الوهاب أبا نقطة برعاياه من عسير وألمع وفهاد بن سالم بن شكبان بأهل بيشة ونواحيها، وعثمان المضايفي بأهل الطائف, وأهل اليمن وأهل تهامة والحجاز وحجيلان بن حمد بشوكة أهل القصيم, ومحمد بن عبد المحسن بأهل الجبل ومن تبعه من أهل شمر وشوكة أهل الوشم, وواعدهم الإمامُ سعود المدينةَ النبوية واجتمع معهم مسعود بن مضيان وأتباعه من حرب، فاجتمع الجميع ونزلوا قرب المدينة, وكان الإمامُ سعود لَمَّا خرج من الدرعية أرسل إلى الأمراء المذكورين بمنع الحاجِّ من جهة الشام واستنبول ونواحيهما, فلما أقبل على المدينة الحاجُّ الشامي ومن تبعه وأميره عبد الله باشا العظم، أرسل إليه الأمراء أنْ لا يقدم إليهم ويرجع إلى أوطانه, وذلك أنَّ الإمام سعود خاف من غالب شريف مكة أن يحدث عليه حوادث عند دخول حاجِّ الشام وأتباعهم مكة, فرجع عبد الله العظم ومن تبعه من المدينة إلى أوطانهم, وكادت أن تقع اصطداماتٌ بين الجنود السعوديين وجنود عبد الله باشا العظم الذي لم يكُنْ في موقف عسكري يسمَحُ له بمقابلة السعوديين، وعلى إثرِ ذلك عزل السلطانُ سليم الثالث عبدَ الله باشا العظم عن منصبِه بناءً على تقاعسه عن مواجهةِ القوات السعودية ورجوعِه بالحُجَّاج, ثم رحل الأمراء وأتباعُهم من المدينة إلى مكة، فاجتمعوا بالإمام سعود فاعتَمَروا وحجُّوا على أحسَنِ حال، وبذل سعود في مكَّةَ العطاء والصدقات، وركب إليه الشريف غالب وبايعه، وأخرج سعودٌ الأتراك, وكسا الكعبةَ.
في بداية حكم محمد علي لمصر دخل في مفاوضاتٍ مع الإنجليز استمرَّت أربعة أشهر أكَّدَ فيها جديَّتَه ورغبته المخلصة في الارتباطِ بهم، بل وطلب وضع نفسِه تحت حمايتهم، وهذا ما يؤكِّدُه تقرير القائد الإنجليزي فريزر قائد الحملة البريطانية على الإسكندرية، والذي تولى التفاوضَ مع محمد علي، الأمر الذي أدى- بعد اقتناعهم به- إلى تخلِّيهم عن أصدقائهم من المماليك. وقد تضمَّن التقرير الذي أعده فريزر ثم أرسلَه الى الجنرال مور في 16 أكتوبر من هذا العام أهمَّ جوانب هذه المفاوضات، وقد جاء فيه: "أرجو أن تسمحوا لي بأن أبسُطَ لكم ليكون... موضِعَ نظركم فحوى محادثة جرت بين باشا مصر والميجر جنرال شريروك والكابتن فيلوز أثناء قيامهما بمهمتهما لدى سمُوِّه. ولديَّ ما يجعلني أعتقد أن هذه المحادثة، ومن اتصالات خاصة كثيرة أخرى كانت لي معه، بأنه جادٌّ وصادقٌ فيما يقترحه. لقد أبدى محمد علي باشا والي مصر رغبته في أن يضع نفسه تحت الحماية البريطانية، ووعدناه بإبلاغ مقترحاتِه إلى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية؛ كي يقوم هؤلاء بإبلاغها إلى الحكومة الإنجليزية للنظر فيها. ويتعهد محمد علي من جانبه بمنع الفرنسيين والأتراك أو أي جيش تابع لدولة أخرى من الدخولِ إلى الإسكندرية من طريقِ البحر وبعد الاحتفاظ بالإسكندرية كصديقٍ وحليف لبريطانيا العظمى، ولكنَّه لا مناص له من الانتظار أن تعاونَه إنجلترا بقواتها البحرية إذا وقع هجوم عليه من جهة البحر؛ لأنَّه لا يملك سفنًا حربية. ويوافق محمد علي باشا في الوقت نفسِه على تزويد كلِّ السفن البريطانية التي تقِفُ على بُعد من الاسكندرية بما قد تحتاج إليه من ماء النيل عند إعطائِها إشارةً يصير الاتفاق عليها"