موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: صيغةُ النَّهيِ وما تُفيدُه


للنَّهيِ صيغةٌ تَدُلُّ عليه في اللُّغةِ، وهيَ: لا تَفعَلْ [1087] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/425)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 24)، ((الإحكام)) للآمدي (2/187)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 80). .
وتوجَدُ أساليبُ يُعرَفُ منها تَحريمُ الفِعلِ، وفيما يَلي بَيانُ أهَمِّ هذه الأساليبِ [1088] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 271)، ((المطلق والمقيد)) للصاعدي (ص: 101). :
1- لَعنُ اللهِ أو رَسولِه للفاعِلِ، مِثلُ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَعنَ اللهُ اليَهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ)) [1089] أخرجه البخاري (1390)، ومسلم (529) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، فهذا دَليلٌ على النَّهيِ عنِ اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ.
وقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَعَنَ اللهُ النَّامِصةَ والمُتَنَمِّصةَ)) [1090] أخرجه البخاري (4886)، ومسلم (2125) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ مُسلِمٍ: عن عبدِ اللهِ، قال: لَعنَ اللهُ الواشِماتِ والمُستَوشِماتِ، والنَّامِصاتِ والمُتَنَمِّصاتِ، والمُتَفلِّجاتِ للحُسنِ المُغَيِّراتِ خَلقَ اللهِ، قال: فبَلَغَ ذلك امرَأةً مِن بَني أسَدٍ يُقالُ لها: أُمُّ يَعقوبَ، وكانت تَقرَأُ القُرآنَ، فأتَته فقالت: ما حَديثٌ بَلَغَني عنكَ أنَّكَ لَعنتَ الواشِماتِ والمُستَوشِماتِ، والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفلِّجاتِ للحُسنِ المُغَيِّراتِ خَلقَ اللهِ؟! فقال عَبدُ اللهِ: وما لي لا ألعنُ مَن لَعنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. .
2- مادَّةُ النَّهيِ في سياقِ الإثباتِ وما اشتُقَّ منها: مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] ؛ ففي هذه الآيةِ طَلَبُ كَفٍّ عن ثَلاثةِ أفعالٍ هيَ: الفحشاءُ، والمُنكَرُ، والبَغيُ، بصيغةِ فِعلِ المُضارِعِ المُشتَقِّ مِن مادَّةِ النَّهيِ، وهو قَولُ اللهِ تعالى: وَيَنْهَى.
3- الجُملةُ الخَبَريَّةُ المُثبَتةُ التي استُعمِلَت فيها مادَّةُ التَّحريمِ، كقَولِ اللهِ تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ [النساء: 23] الآية، ففيها طَلَبُ الكَفِّ عن نِكاحِ الأُمَّهاتِ وما ذُكِرَ مَعَهنَّ مِنَ المُحَرَّماتِ بجُملةٍ خَبَريَّةٍ مُثَبتةٍ، مُشتَقَّةٍ مِن مادَّةِ التَّحريمِ، وهيَ قَولُه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الآية.
4- صيغةُ الإخبارِ بنَفيِ الحِلِّ: مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى في شَأنِ المَنعِ مِن أخذِ شَيءٍ مِمَّا أعطاه الزَّوجُ لزَوجَتِه: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229] ، ففي هذه الآيةِ إخبارٌ مِنَ اللهِ سُبحانَه وتعالى بنَفيِ الحِلِّ عن أخذِ شَيءٍ مِمَّا أعطاه الزَّوجُ لزَوجَتِه، وفي ذلك تَأكيدٌ لطَلَبِ الكَفِّ عنِ الفِعلِ.
5- صيغةُ فِعلِ الأمرِ الدَّالِّ على تَركِ الفِعلِ: كقَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] ، فاللهُ سُبحانَه وتعالى طَلَب في هذه الآيةِ الكَفَّ عن فِعلِ البَيعِ بَعدَ النِّداءِ للجُمُعةِ بصيغةِ فِعلِ الأمرِ الدَّالِّ على طَلَبِ التَّركِ والكَفِّ عنِ الفِعلِ، وهو قَولُه تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ أيِ: اترُكوا الاشتِغالَ بتَحصيلِه وقتَ نِداءِ الجُمُعةِ.
6- توعُّدُ الفاعِلِ بالعِقابِ: كقَولِ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68] .
ما تُفيدُه صيغةُ النَّهيِ:
الرَّاجِحُ أنَّ صيغةَ النَّهيِ حَقيقةٌ في التَّحريمِ إذا تَجَرَّدَت عنِ القَرائِنِ. نَصَّ عليه الشَّافِعيُّ [1091] قال: (ما نَهى عنه رَسولُ اللهِ فهو التَّحريمُ، حتَّى تَأتيَ دَلالةٌ عنه على أنَّه أرادَ به غَيرَ التَّحريمِ). ((الرسالة)) (ص: 217). وقال أيضًا: (أصلُ النَّهيِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنَّ كُلَّ ما نَهى عنه فهو مُحَرَّمٌ، حتَّى تَأتيَ عنه دَلالةٌ تَدُلُّ على أنَّه إنَّما نَهى عنه لمَعنًى غَيرِ التَّحريمِ؛ إمَّا أرادَ به نَهيًا عن بَعضِ الأُمورِ دونَ بَعضٍ، وإمَّا أرادَ به النَّهيَ للتَّنزيهِ عنِ المَنهيِّ، والأدَبِ والِاختيارِ). ((الأم) (7/305). ، وهو مَذهَبُ الفُقَهاءِ [1092] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/384). ، والقائِلونَ به همُ المَذكورونَ في دَلالةِ الأمرِ المُطلَقِ على الوُجوبِ، كما سَبَقَ.
قال أبو يَعلى: (الكَلامُ في هذا كالكَلامِ في الأمرِ سَواءً) [1093] ((العدة)) (2/426). .
وقال الرَّازيُّ: (وفيه المَذاهِبُ التي ذَكَرناها في أنَّ الأمرَ للوُجوبِ) [1094] ((المحصول)) (2/281). .
الأدِلَّةُ:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] .
وكذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا نَهَيتُكُم عن شَيءٍ فانتَهوا)) [1095] أخرجه ابن ماجه (2)، وأحمد (10429) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (10429). والحديث أخرجه البخاري (7288) بلفظ: ((فإذا نَهَيتُكُم عن شَيءٍ فاجتَنِبوه)). وأخرجه مسلم (1337) بلفظ: ((وإذا نَهَيتُكُم عن شَيءٍ فدَعوه)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا أمرٌ بالِانتِهاءِ عنِ المَنهيِّ عنه، فيَكونُ الانتِهاءُ عنِ المَنهيِّ واجِبًا؛ لأنَّه قد تَقدَّمَ أنَّ الأمرَ للوُجوبِ [1096] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/281)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (4/1660)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1151)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 178). .
2- إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فإنَّهم كانوا يَرجِعونَ إلى ظَواهرِ النَّواهي في تَركِ الشَّيءِ، ومِن ذلك قَولُ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه: (كُنَّا نُخابِرُ ولا نَرى بذلك بَأسًا، حتَّى زَعَم رافِعُ بنُ خَديجٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنها، فتَرَكناها مِن أجلِ قَولِه [1097] أخرجه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (5944) واللفظ له. وأخرجه مسلم (1547) باختِلافٍ يَسيرٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ يَقولُ: كُنَّا لا نَرى بالخِبرِ بَأسًا حتَّى كان عامُ أوَّلَ، فزَعَمَ رافِعٌ أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنه. وفي رِوايةٍ: فتَرَكناه مِن أجلِه. [1098] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/118)، ((الموافقات)) للشاطبي (4/75)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/110)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/448). .
وقيلَ: إنَّ صيغةَ النَّهيِ حَقيقةٌ في الكَراهةِ التَّنزيهيَّةِ، مَجازٌ فيما عَداها. وهو وجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، وبه قال بَعضُ الأُصوليِّينَ [1099] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/362)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 81)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/443). .
وقيلَ: تُستَعمَلُ صيغةُ النَّهيِ في القَدرِ المُشتَرَكِ بَينَ التَّحريمِ والكَراهةِ، وهو طَلَبُ تَركِ الفِعلِ، فتَكونُ مُشتَرَكًا مَعنَويًّا [1100] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/443)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/369)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/375). .
وقيلَ غَيرُ ذلك [1101] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/443)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/369). ويُنظر أيضًا: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 99)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/362)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/83). .

انظر أيضا: