موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: المَجازُ في التَّركيبِ خاصَّةً


وهو الواقِعُ في الألفاظِ المُرَكَّبةِ، أي: في إسنادِ الألفاظِ بَعضِها إلى بَعضٍ، لا في نَفسِ مَدلولاتِ الألفاظِ [291] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/534). .
فيُستَعمَلُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الألفاظِ المُفرَدةِ في مَوضوعِه الأصليِّ، لَكِنَّ التَّركيبَ لا يَكونُ مُطابِقًا لِما في الوُجودِ [292] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/321). ، والضَّابِطُ فيه أنَّه مَتى نُسِبَ الشَّيءُ إلى غَيرِ ما هو مَنسوبٌ إليه لذاتِه؛ لوُجودِ مُناسَبةٍ بَينَ الإسنادَينِ، كان ذلك مَجازًا في التَّركيبِ [293] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/341). .
مِثالُه: قَولُ الشَّاعِرِ:
أشابَ الصَّغيرَ وأفنى الكَبيرَ
كَرُّ الغَداةِ ومَرُّ العَشيِّ [294] البَيتُ للصَّلَتانِ العَبْديِّ، والصَّلَتانِ لَقَبٌ غَلَبَ عليه، واسمُه قُثَمُ بنُ خبيةَ. يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/138)، ((شرح ديوان الحماسة)) للتبريزي (2/56). .
فكُلُّ واحِدٍ مِنَ الألفاظِ المُفرَدةِ التي في هذا البَيتِ مُستَعمَلٌ في مَوضوعِه الأصليِّ، لَكِنَّ إسنادَ (أشابَ) و(أفنى) إلى (كَرِّ الغَداةِ) و(مَرِّ العَشيِّ) هو الذي وقَعَ فيه التَّجَوُّزُ؛ لأنَّه غَيرُ مُطابِقٍ لِما عليه الحَقيقةُ؛ لكَونِهما مُستَنِدَينِ إلى اللهِ في نَفسِ الأمرِ؛ فإنَّ الشَّيبَ يَحصُلُ بفِعلِ اللهِ تعالى لا بكَرِّ الغَداةِ؛ إذِ المَشيبُ للنَّاسِ في الحَقيقةِ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى [295] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/322)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/341)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/534). قال القَرافيُّ: (كَرُّ الغَداةِ هو طولُ العُمُرِ، وهو سَبَبٌ عاديٌّ للإشابةِ، والعَرَبُ لَم تَخُصَّ الوضعَ في الأفعالِ بالمُؤَثِّرِ الحَقيقيِّ العَقليِّ، بَل تَقولُ العَرَبُ: قَتَل زيدٌ عَمرًا، وهو باعتِبارِ أنَّه استِعمالُ اللَّفظِ فيما وضِعَ له، وكذلك بَرُدَ الماءُ، وسَقَطَ الحائِطُ، ونَحوُه مِمَّا لا كَسبَ فيه، أو ما فيه كَسبٌ، نَحوُ: صَلَّى، وصامَ، أو هو مُؤَثِّرٌ حَقيقيٌّ، نَحوُ: خَلقَ اللهُ العالَمَ، فالوَضعُ اللُّغَويُّ أعَمُّ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ الثَّلاثةِ، ولا أجِدُ "أشابَهُ طولُ العُمُرِ" إلَّا مِن بابِ نِسبةِ الفِعلِ إلى السَّبَبِ العاديِّ، نَحوُ: أماتَه الجوعُ، وأهرَمَه الهَمُّ، مَعَ أنَّ الفاعِلَ للهَرَمِ هو اللهُ تعالى، فكذلك هاهنا، ونَبَّهَ عليه التِّبْريزيُّ). ((نفائس الأصول)) (2/ 872). .
وهكذا كُلُّ لَفظٍ كان مَوضوعًا في اللُّغةِ ليُسنَدَ إلى لَفظٍ آخَرَ، فأُسنِدَ إلى غَيرِ ذلك اللَّفظِ، فإسنادُه مَجازٌ تَركيبيٌّ، كلَفظِ السُّؤالِ؛ فإنَّه وُضِعَ في اللُّغةِ ليُسنَدَ إلى أولي العَقلِ والعِلمِ، نَحوُ: سَألتُ زَيدًا عن كَذا، ونَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59] ، وقَولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43] ، وقَولِه تعالى: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32] ، وقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا سَألَتَ فاسأَلِ اللَّهَ)) [296]عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كنتُ خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: ((يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن ينفعوك بشَيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ لك، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن يضُرُّوك بشَيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُفُ)). أخرجه الترمذي (2516) واللَّفظُ له، وأحمد (2669). صَحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصَحَّحه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). ، فإذا أُسنِدَ السُّؤالُ إلى غَيرِ ذَوي العِلمِ كان مَجازًا إسناديًّا، كقَولِه سُبحانَه وتعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ؛ لأنَّ السُّؤالَ لَم يوضَعْ ليُسنَدَ إلى القَريةِ، التي هيَ الأبنيةُ والجُدرانُ الجامِدةُ، بَل إلى العُقَلاءِ؛ فلذلك قُدِّرَ فيه الأهلُ، فقيلَ: مَعناه: واسألْ أهلَ القَريةِ [297] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/534). .
ويُسَمَّى هذا النَّوعُ بالمَجازِ المُرَكَّبِ، والجُمَليِّ، والإثباتيِّ، والحُكميِّ، والإسناديِّ، والعَقليِّ؛ لأنَّ مُفرَداتِ هذا النَّوعِ مِنَ المَجازِ كُلُّها مُستَعمَلةٌ في مَوضوعاتِها، وإنَّما التَّجَوُّزُ في إسنادِ بَعضِها إلى بَعضٍ، وذلك حُكميٌّ عَقليٌّ [298] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/340)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/753). .

انظر أيضا: