موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّادِسُ: عَلاقاتُ المَجازِ


عَلاقةُ المَجازِ: هيَ ما يَنتَقِلُ الذِّهنُ بواسِطَتِه عن مَحَلِّ المَجازِ إلى الحَقيقةِ [323] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/506). .
مِثالُ عَلاقةِ المَجازِ: الشَّجاعةُ التي يَنتَقِلُ الذِّهنُ بواسِطَتِها عنِ الرَّجُلِ الشُّجاعِ إذا أطلَقنا عليه لَفظَ (أسَدٍ) إلى السَّبُعِ المُفتَرِسِ؛ إذ لَولا هذه العَلاقةُ، وهيَ صِفةُ الشَّجاعةِ، لَما صَحَّ التَّجَوُّزُ، ولَما انتَقَلَ الذِّهنُ إلى السَّبُعِ المُفتَرِسِ عِندَ إطلاقِ لَفظِ (الأسَدِ) على الرَّجُلِ الشُّجاعِ [324] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/506). .
فلا بُدَّ في المَجازِ مِن وُجودِ عَلاقةٍ بَينَ المَعنى الحَقيقيِّ والمَجازيِّ، ولا يَكفي مُجَرَّدُ الاشتِراكِ في أمرٍ ما، وإلَّا لجاز إطلاقُ كُلِّ لَفظٍ على ما عَداه، وهو باطِلٌ بالِاتِّفاقِ [325] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/347)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/186)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/60) قال الزَّركَشيُّ: (جِنسُ العَلاقةِ شَرطٌ بالإجماعِ). .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (شَرطُ المَجازِ حُصولُ المُناسَبةِ الخاصَّةِ بَينَ المَوضوعِ الأصليِّ والمَعنى المَجازيِّ) [326] ((الإبهاج)) (3/704). .
ولا بُدَّ أن تَكونَ عَلاقةُ المَجازِ ظاهِرةً، يُسرِعُ الفَهمُ إليها عِندَ إطلاقِ لَفظِ المَجازِ [327] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/506). .
أنواعُ عَلاقاتِ المَجازِ [328] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/499)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/347)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/186)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/507)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/67)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/ 430). :
عَلاقاتُ المَجازِ كَثيرةٌ، ومِن أهَمِّ أنواعِها [329] لا يُشتَرَطُ أن يَكونَ للمِثالِ عَلاقةٌ واحِدةٌ، بَلِ المِثالُ الواحِدُ قد تَكونُ فيه أكثَرُ مِن عَلاقةٍ، قال صَفيُّ الدِّينِ الهنديُّ: (لا بُدَّ مِنَ التَّنبيهِ على شَيءٍ، وهو: أنَّا إذا أورَدنا مثالًا بجِهةٍ مِن جِهاتِ التَّجَوُّز لا يُشتَرَطُ فيه أن لا يَكونَ مشتملًا على جِهةٍ أُخرى، بَل يَجوزُ أن يَكونَ فيه جِهَتانِ وثَلاثةٌ، فلا يُفهَمُ مِن قَولِنا: مِثالُ الجِهةِ الفُلانيَّةِ كَذا. الاختِصاصُ بتلك الجِهةِ، بَل شَرطُه أن يَكونَ مشتمِلًا على تلك الجِهةِ، مَعَ قَطعِ النَّظَرِ عن غَيرِها مِنَ الجِهاتِ، فإن كان فيه جِهةٌ أُخرى فإنَّما لَم يُنَبِّهْ عليها؛ لأنَّا نَذكُرُ لها مثالًا آخَرَ). ((نهاية الوصول)) (2/347). :
1- السَّبَبيَّةُ: وهيَ إطلاقُ اسمِ السَّبَبِ على المُسَبَّبِ، أو: إطلاقُ العِلَّةِ على المَعلولِ.
مِثالُه: قَولُ القائِلِ: نَزَلَ السَّحابُ، أي: المَطَرُ؛ فإنَّ السَّحابَ سَبَبٌ للمَطَرِ، ومِثلُ: قَولِهم: سالَ الوادي؛ فإنَّ السَّائِلَ هو الماءُ، والوادي سَبَبٌ قابِلٌ لسَيلِ الماءِ فيه.
2- المسبَّبيَّةُ: وهيَ إطلاقُ اسمِ المُسَبَّبِ على السَّبَبِ، كتَسميَتِهمُ المَرَضَ المُهلِكَ مَوتًا؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى جَعَله في العِبادِ سَبَبًا للمَوتِ، وكقَولِ الرَّجُلِ لامرَأتِه: اعتَدِّي واستَبرِئي رَحِمَك، يُريدُ به الطَّلاقَ؛ لأنَّهما مُسَبَّبانِ عنه، ومِنه: أمطَرَتِ السَّماءُ نَباتًا، فذُكِرَ النَّباتُ، وأُريدَ به الغَيثُ؛ لأنَّ الغَيثَ سَبَبٌ للنَّباتِ.
والتَّجَوُّزُ بلَفظِ السَّبَبِ عنِ المُسَبَّبِ أولى مِنَ العَكسِ؛ لأنَّ السَّبَبَ المُعَيَّنَ يَستَدعي مُسَبَّبًا مُعَيَّنًا، كالزِّنا بَعدَ الإحصانِ؛ فإنَّه يَقتَضي مُسَبَّبًا مُعَيَّنًا، وهو الرَّجمُ، والمُسَبَّبُ المُعَيَّنُ لا يَستَدعي سَبَبًا مُعَيَّنًا، بَل سَبَبًا ما، كإباحةِ الدَّمِ؛ فإنَّها تَقتَضي سَبَبًا غَيرَ مُعَيَّنٍ، وهو إمَّا الكُفرُ بَعدَ الإيمانِ، أوِ الزِّنا بَعدَ الإحصانِ، أو قَتلٌ بغَيرِ حَقٍّ، ولا يَقتَضي واحِدًا مِن هذه الأُمورِ بعَينِه، وما اقتَضى الشَّيءَ المُعَيَّنَ أقوى مِمَّا يَقتَضي المُطلَقَ؛ لأنَّ المُقتَضيَ للمُعَيَّنِ يَقتَضي المُطلَقَ وزيادةً، وهيَ التَّعيينُ، فكان أَولى.
3- المُشابَهةُ: وهيَ تَسميةُ الشَّيءِ باسِم مُشَبَّهِه، أي: اشتِراكُ الحَقيقةِ والمَجازِ في المَعنى المَشهورِ في مَحَلِّ الحَقيقةِ، ويُشتَرَطُ فيها أن تَكونَ أشهَرَ صِفاتِ المَحَلِّ.
وهيَ إمَّا في الصُّورةِ، كإطلاقِ اسمِ الإنسانِ على الصُّورةِ المَنقوشةِ؛ لمُشابَهَتِها في الشَّكلِ.
وإمَّا في المَعنى، كالصِّفةِ، بشَرطِ أن تَكونَ ظاهِرةً، كإطلاقِ لَفظِ (الأسَدِ) على الرَّجُلِ الشُّجاعِ؛ لمُشابَهَتِه في صِفةِ الشَّجاعةِ، وهيَ مَشهورةٌ غَيرُ خَفيَّةٍ. ويُسَمَّى المَجازُ الذي بسَبَبِ المُشابَهةِ: مُستَعارًا أيضًا.
4- التَّضادُّ: وهيَ تَسميةُ الشَّيءِ باسمِ ضِدِّه، وأكثَرُ ما يَقَعُ في المُتَقابِلَينِ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ؛ حَيثُ أُطلِقَ على الجَزاءِ سَيِّئةٌ مَعَ أنَّه عَدلٌ؛ لكَونِه ضِدَّها.
5- الكُلِّيَّةُ: وهيَ إطلاقُ اسمِ الكُلِّ على الجُزءِ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة: 19] أي: أنامِلَهم؛ لأنَّ العادةَ أنَّ الإنسانَ لا يَضَعُ أُصبُعَه في أُذُنِه.
6- الجُزئيَّةُ: وهيَ إطلاقُ الجُزءِ وإرادةُ الكُلِّ، كاستِعمالِ (العَينِ) التي هيَ الجارِحةُ، في الجاسوسِ.
وعَلاقةُ الكُلِّيَّةِ أَولى مِنَ الجُزئيَّةِ؛ لأنَّ الكُلَّ يَستَلزِمُ الجُزءَ.
7- إطلاقُ ما بالقوَّةِ على ما بالفِعلِ: أي: تَسميةُ الشَّيءِ المُستَعِدِّ لأمرٍ باسمِ ذلك الأمرِ، كتَسميةِ النُّطفةِ إنسانًا؛ لأنَّ الإنسانَ فيه بالقوَّةِ، أي: قابِلٌ لصَيرورَتِه إنسانًا.
8- المُجاوَرةُ: وهيَ تَسميةُ الشَّيءِ باسمِ ما يُجاوِرُه، كإطلاقِ لَفظِ (الرَّاويةِ) على القِربةِ التي هيَ ظَرفٌ للماءِ؛ فإنَّ (الرَّاويةَ) في الأصلِ اسمٌ للبَعيرِ الحامِلِ لها، ثُمَّ أُطلِقَ على القِربةِ؛ لتَجاوُرِهما في الأعَمِّ الأغلَبِ.
9- اعتِبارُ ما كان عليه: أي: تَسميةُ الشَّيءِ باعتِبارِ ما كان عليه، وهذا كقَولِك: تَحَرَّكَ السَّاكِنُ، أو سَكَن المُتَحَرِّكُ؛ فإنَّما يَصدُقُ باعتِبارِ الماضي، وإلَّا لَزِمَ الجَمعُ بَينَ الضِّدَّينِ، وهو مُحالٌ.
10- اعتِبارُ ما يَؤولُ إليه: أي: تَسميةُ الشَّيءِ باعتِبارِ ما يَؤولُ إليه؛ إمَّا بالفِعلِ: كإطلاقِ الخَمرِ على العِنَبِ، أو بالقوَّةِ: كإطلاقِ المُسكِرِ على الخَمرِ إن بَقِيَت. وإنَّما يُسَمَّى الشَّيءُ باعتِبارِ ما يَؤولُ إليه إذا كان المَآلُ مَقطوعًا بوُجودِه، كالقيامةِ لا بُدَّ منها، والمَوتِ لا بُدَّ مِن نُزولِه.
والفرقُ بَينَ هذه العَلاقةِ وبَينَ العَلاقةِ السَّابِعةِ: أنَّ المُستَعِدَّ للشَّيءِ قد لا يَؤولُ إليه، بَل هو مُستَعِدٌّ له ولغَيرِه، كما أنَّ العَصيرَ قد لا يَؤولُ إلى الخَمريَّةِ، وإن كان مُستَعِدًّا لها ولغَيرِها.
11- المَجازُ بالنُّقصانِ: كقَولِ اللهِ تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا [الطلاق: 8] ، فالمُرادُ أهلُ القَريةِ [330] قال أبو يَعلى: (فإن قيلَ: هناكَ حَذفٌ في الكَلامِ. قيلَ: إلَّا أنَّ هذه الألفاظَ لَم يوضَعْ لها في صَميمِ اللُّغةِ؛ فإن لَم تُسَمِّها مَجازًا فذلك مُنازَعةٌ في عِبارةٍ، مَعَ تَسليمِ المَعنى المَوجودِ في المَجازِ). ((العدة)) (2/700). .
قال الشَّافِعيُّ: (قال اللهُ تعالى وهو يَحكي قَولَ إخوةِ يوسُفَ لأبيهم: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف: 81-82] فهذه الآيةُ في مَعنى الآياتِ قَبلَها، لا يَختَلِفُ أهلُ العِلمِ باللِّسانِ أنَّهم إنَّما يُخاطِبونَ أباهم بمَسألةِ أهلِ القَريةِ وأهلِ العيرِ؛ لأنَّ القَريةَ والعيرَ لا يُنبِئانِ عن صِدقِهم) [331] ((الرسالة)) (ص: 64). .
12- تَسميةُ الحالِّ باسمِ المَحَلِّ: كقَولِهم: لا فُضَّ فوكَ، أي: أسنانُك، وقَولِه: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ [العلق: 17] ، أي: أهلَ ناديه.
13- تَسميةُ المَحَلِّ باسمِ الحالِّ: كإطلاقِ اللِّسانِ على الكَلامِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ [الروم: 22] .
14- الاستِعارةُ: وهيَ تَسميةُ الشَّيءِ باسمِ غَيرِه، إذا كان مُجاوِرًا له، أو كان فيه سَبَبٌ، كقَولِ اللهِ تعالى: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ [الحج: 40] ، ومَعناه: مَكانُ الصَّلَواتِ؛ لأنَّ الهَدمَ يَختَصُّ المَكانَ دونَ الفِعلِ، فعَبَّرَ عنِ الصَّلَواتِ بالمَساجِدِ؛ لأنَّ الصَّلَواتِ لا يَتَأتَّى هَدمُها، على قَولٍ في التَّفسيرِ.

انظر أيضا: