موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: التَّسليمُ للهِ عَزَّ وجَلَّ


يَجِبُ على العَبدِ أن يُسَلِّمَ للهِ تعالى دونَ مُنازَعةٍ أوِ اعتِراضٍ [74] قال ابنُ بَطَّالٍ: (يَجِبُ التَّسليمُ للهِ في دينِه، ولرَسولِه في سُنَّتِه وبَيانِه لكِتابِ رَبِّه، واتِّهامُ العُقولِ إذا قَصرَت عن إدراكِ وَجهِ الحِكمةِ في شَيءٍ مِن ذلك؛ فإنَّ ذلك مِحنةٌ مِنَ اللهِ لعِبادِه، واختِبارٌ لهم ليُتِمَّ البَلوى عليهم، ولمُخالفةِ هذا ضَلَّ أهلُ البدَعِ حينَ حَكَّموا عُقولهم ورَدُّوا إليها ما جَهِلوه مِن مَعاني القَدَرِ وشِبهِه، وهذا خَطَأٌ مِنهم؛ لأنَّ عُقولَ العِبادِ لها نِهايةٌ، وعِلمُ اللَّهِ لا نِهايةَ له، قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] ). ((شرح صحيح البخاري)) (1/ 200). وقال ابنُ القَيِّمِ: (اعلَمْ أنَّ التَّسليمَ هو الخَلاصُ مِن شُبهةٍ تُعارِضُ الخَبَرَ، أو شَهوةٍ تُعارِضُ الأمرَ، أو إرادةٍ تُعارِضُ الإخلاصَ، أوِ اعتِراضٍ يُعارِضُ القَدَرَ والشَّرعَ. وصاحِبُ هذا التَّخَلُّصِ هو صاحِبُ القَلبِ السَّليمِ الذي لا يَنجو يَومَ القيامةِ إلَّا مَن أتى اللَّهَ به؛ فإنَّ التَّسليمَ ضِدُّ المُنازَعةِ. والمُنازَعةُ إمَّا بشُبهةٍ فاسِدةٍ تُعارِضُ الإيمانَ بالخَبَرِ عَمَّا وصَف اللَّهُ به نَفسَه مِن صِفاتِه وأفعالِه، وما أخبَرَ به عنِ اليَومِ الآخِرِ، وغَيرِ ذلك، فالتَّسليمُ له تَركُ مُنازَعَتِه بشُبُهاتِ المُتَكَلِّمينَ الباطِلةِ. وإمَّا بشَهوةٍ تُعارِضُ أمرَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فالتَّسليمُ للأمرِ بالتَّخَلُّصِ مِنها. أو إرادةٍ تُعارِضُ مُرادَ اللَّهِ مِن عَبدِه، فتُعارِضُه إرادةٌ تَتَعَلَّقُ بمُرادِ العَبدِ مِنَ الرَّبِّ، فالتَّسليمُ بالتَّخَلُّصِ مِنها. أوِ اعتِراضٍ يُعارِضُ حِكمَتَه في خَلقِه وأمرِه، بأن يَظُنَّ أنَّ مُقتَضى الحِكمةِ خِلافُ ما شُرِعَ، وخِلافُ ما قَضى وقَدَّر. فالتَّسليمُ: التَّخَلُّصُ مِن هذه المُنازَعاتِ كُلِّها. وبهذا يَتَبَيَّنُ أنَّه مِن أجَلِّ مَقاماتِ الإيمانِ، وأعلى طُرُقِ الخاصَّةِ، وأنَّ التَّسليمَ هو مَحضُ الصِّدِّيقيَّةِ، التي هيَ بَعدَ دَرَجةِ النُّبوَّةِ، وأنَّ أكمَلَ النَّاسِ تَسليمًا أكمَلُهم صِدِّيقيَّةً). ((مدارج السالكين)) (2/ 146، 147). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [لقمان: 22] .
أي: ومَن يُعَبِّدْ وَجهَه مُتَذَلِّلًا بالعُبودةِ، مُقِرًّا له بالأُلوهةِ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي: وهو مُطيعٌ للهِ في أمرِه ونَهيِه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أي: فقد تَمسَّك بالطَّرَفِ الأوثَقِ الذي لا يَخافُ انقِطاعَه مَن تَمسَّك به، وهذا مَثَلٌ، إنَّما يَعني بذلك أنَّه قد تَمَسَّكَ مِن رِضا اللهِ بإسلامِه وَجْهَه إليه، وهو مُحسِنٌ- ما لا يَخافُ مَعَه عَذابَ اللَّهِ يَومَ القيامةِ [75] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (18/ 569). .
2- قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء: 125] .
أي: ومَن أحسَنُ دينًا -أيُّها النَّاسُ- وأصوَبُ طَريقًا وأهدى سَبيلًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي: مِمَّنِ استَسلمَ وَجهُه للَّهِ، فانقادَ له بالطَّاعةِ، مُصَدِّقًا نَبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما جاءَ به مِن عِندِ رَبِّه، وَهُوَ مُحْسِنٌ يَعني: وهو عامِلٌ بما أمَرَه به رَبُّه، مُحَرِّمٌ حَرامَه، ومُحَلِّلٌ حَلالَه، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ أي: واتَّبَعَ الدِّينَ الذي كان عليه إبراهيمُ خَليلُ الرَّحمنِ، وأمَرَ به بَنيه مِن بَعدِه وأوصاهم به، حَنِيفًا يَعني: مُستَقيمًا على مِنهاجِه وسَبيلِه [76] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (7/ 528). .
3- قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أتَيتَ مَضجَعَك فتَوضَّأْ وُضوءَك للصَّلاةِ، ثُمَّ اضطَجِعْ على شِقِّك الأيمَنِ، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أسلَمتُ وَجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجَأتُ ظَهري إليك؛ رَغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلجَأَ ولا مَنجا مِنك إلَّا إليك، اللَّهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الذي أنزَلتَ، وبنَبيِّك الذي أرسَلتَ، فإن مُتَّ مِن لَيلَتِك فأنتَ على الفِطرةِ، واجعَلْهنَّ آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ به. قال: فرَدَّدتُها على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا بَلَغتُ: اللَّهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الذي أنزَلتَ، قُلتُ: ورَسولِك، قال: لا، ونَبيِّك الذي أرسَلتَ)) [77] أخرجه البخاري (247) واللفظ له، ومسلم (2710). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (مَعنى "أسلَمتُ": سَلَّمتُ واستَسلَمتُ، أي: سَلَّمتُها لك؛ إذ لا قُدرةَ لي على تَدبيرِها، ولا على جَلبِ ما يَنفَعُها، ولا على دَفعِ ما يَضُرُّها، بَل أمرُها إليك مُسلَّمٌ، تَفعَلُ فيها ما تُريدُ، واستَسلَمتُ لِما تَفعَلُ فيها، فلا اعتِراضَ على ما تَفعَلُ ولا مُعارَضةَ.
وقَولُه: "وفوَّضتُ أمري إليك" أي: تَوكَّلتُ عليك في أمري كُلِّه لتَكفيَني هَمَّه، وتَتَولَّى إصلاحَه.
وقَولُه: "وألجَأتُ ظَهري إليك" أي: أسنَدتُه إليك لتُقَوِّيَه وتُعينَه على ما يَنفعُني؛ لأنَّ مَنِ استَنَدَ إلى شَيءٍ تَقوَّى به واستَعانَ) [78] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (7/ 38). .
وقال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اللَّهُمَّ إنِّي أسلَمتُ وَجهي إليك" [79] أخرجه مسلم (2710). ، وفي الرِّوايةِ الأُخرى: "أسلَمتُ نَفسي إليك" [80] أخرجها البخاري (6311)، ومسلم (2710). ، أي: استَسلَمتُ وجَعَلتُ نَفسي مُنقادةً لك، طائِعةً لحُكمِك. قال العُلَماءُ: الوَجهُ والنَّفسُ هنا بمَعنى الذَّاتِ كُلِّها، يُقالُ: سَلَّمَ وأسلمَ واستَسلمَ: بمَعنًى. ومَعنى: "ألجَأتُ ظَهري إليك" أي: تَوكَّلتُ عليك واعتَمَدتُك في أمرى كُلِّه، كما يَعتَمِدُ الإنسانُ بظَهرِه إلى ما يُسنِدُه) [81] ((شرح مسلم)) (17/ 33). .
2- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ: ((اللَّهُمَّ لك أسلمَتُ، وبك آمَنتُ، وعليك تَوكَّلتُ، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصَمتُ، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بعِزَّتِك، لا إلهَ إلَّا أنتَ، أن تُضِلَّني، أنتَ الحَيُّ الذي لا يَموتُ، والجِنُّ والإنسُ يَموتونَ)) [82] أخرجه مسلم (2717). .
مَعنى: ((أسلَمتُ)): استَسلَمتُ وانقَدتُ لأمرِك ونَهيِك [83] يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (6/ 55) و (17/ 39). .

انظر أيضا: