فوائدُ
جملةٌ مِن آدابِ الطَّبيبِ معَ المريضِ1- قال ابنُ الحاجِّ: (يَتَعيَّنُ على الطَّبيبِ إن كان لا يَعرِفُ المَرَضَ أو عَرَفه ولم يكُنْ عالِمًا بدَوائِه: أن لا يَكتُبَ أوراقًا بأشرِبةٍ وغيرِها؛ لأنَّ ذلك إضاعةُ مالٍ.
وقد وقَعَ لي مَعَ بَعضِ الأطِبَّاءِ أنَّه كان يَتَرَدَّدُ إليَّ في مَرَضٍ كان بي ويَصِفُ أشرِبةٍ وأدويةٍ يُنفَقُ فيها نَفقةٌ جيِّدةٌ، فطال الأمرُ عليَّ فقَطَعتُه وعَوَّضتُ مَوضِعَ تلك النَّفقةِ خُبزًا أتصَدَّقُ به بنيَّةِ امتِثالِ السُّنَّةِ في دَفعِ ذلك المَرَضِ، فما كان إلَّا قَليلٌ وفَرَّج اللَّهُ عَنِّي وحَصَلتِ العافيةُ. فلمَّا أن خَرَجتُ لقيتُ الطَّبيبَ فسَألتُه عَمَّا كان يَكتُبُه مَنِ الأشرِبةِ والأدويةِ، وأيُّ مَنفعةٍ كانت فيها لذلك المَرَضِ؟ فقال: واللهِ ما فيها شيءٌ إلَّا أنَّه يَقبَحُ بالطَّبيبِ أن يَخرُجَ مِن عِندِ المَريضِ، ولا يَصفَ له شيئًا؛ لئَلَّا يوحِشَه بذلك!
وهذا مِن بابِ إضاعةِ المالِ، وذلك لا يَجوزُ، سيَّما إن كان المَريضُ فقيرًا فمَنعٌ على مَنعٍ. وهذا إن كان ما وصَفه لا يَقَعُ بسَبَبِه ضَرَرٌ للمَريضِ، فإن كان كذلك فيُمنَعُ، ولِما فيه مِن إضاعةِ المالِ كما تَقَدَّمَ)
[2263] ((المدخل)) (4/ 136). .
2- قال ابنُ الحاجِّ: (يَنبَغي للطَّبيبِ أن يَنظُرَ في حالِ المَريضِ؛ فإن كان مَليًّا أعطاه مِنَ الأدويةِ ما يَليقُ بحالِه، وإن كثُرَتِ النَّفقةُ فيها، وإن كان فقيرًا أعطاه مِنَ الأدويةِ ما تَصِلُ قُدرَتُه إليه مِن غيرِ كُلفةٍ ولا مَشَقَّةٍ، وهذا النَّوعُ مَوجودٌ كثيرٌ.
ويَنبَغي للطَّبيبِ أن يَكونَ النَّاسُ عِندَه على أصنافٍ، ولا يَجعَلَهم صِنفًا واحِدًا؛ فصِنفٌ يَأخُذُ مِنهم، وصِنفٌ لا يَأخُذُ مِنهم، وصِنفٌ إذا وَصَف لهم شيئًا أعطى لهم ما يُنفِقونَه فيه.
فالأوَّلُ: إذا باشَرَ مَن له سَعةٌ في دُنياه.
والثَّاني: مُباشَرةُ العُلماءِ والصُّلَحاءِ المَستورينَ في حالِ دُنياهم، فيَنبَغي له أن يَتَبَرَّكَ بالمُبادَرةِ إلى طِبِّهم وقَضاءِ حَوائِجِهم مِن غيرِ أن يَأخُذَ مِنهم شيئًا، فإن بَذَلوا له شيئًا رَدَّه إلَّا أن يَكونَ مُحتاجًا فلا بَأسَ بأخذِه إذَنْ.
والصِّنفُ الثَّالثُ: مُباشَرةُ الفُقَراءِ الذينَ لا يَقدِرونَ على كِفايَتِهم في حالِ الصِّحَّةِ، فهؤلاء يُعطيهم ثَمَنَ ما يَصِفُه لهم إن كانت له جِدَةٌ. وقد رَأيتُ بَعضَ الأطِبَّاءِ فيه هذه الخِصالُ الحَميدةُ أو بَعضُها)
[2264] ((المدخل)) (4/ 135، 137). .
واجباتُ الطَّبيبِ نَحوَ المُجتَمَعِ والمِهنةِ والمَرضى:جاءَ في لائِحةِ آدابِ المِهنةِ
[2265] الصَّادِرةِ بقَرارِ وزيرِ الصِّحَّةِ والسُّكَّانِ، رَقم: (238) لسنة 2003م بتاريخ 5 سِبتَمبر 2003 م، بَعدَ العَرضِ والموافَقةِ مِنَ الجَمعيَّةِ العُموميَّةِ المُنعَقِدةِ في 21/3/2003م، ومُؤتَمَرِ النِّقاباتِ الفرعيَّةِ لأطِبَّاءِ مِصرَ في الفترةِ مِن 4 - 6/7/2003. في ذِكرِ بَعضِ واجِباتِ الطَّبيبِ:
(
أوَّلًا: واجِباتُ الطَّبيبِ نَحوَ المُجتَمَعِ:- يَلتَزِمُ الطَّبيبُ في مَوقِعِ عَمَلِه الوظيفيِّ أوِ الخاصِّ بأن يَكونَ عَمَلُه خالصًا لمَرضاةِ اللهِ وخِدمةِ المُجتَمَعِ الذي يَعيشُ فيه بكُلِّ إمكانيَّاتِه وطاقاتِه في ظُروفِ السِّلمِ والحَربِ، وفي جَميعِ الأحوالِ.
- على الطَّبيبِ أن يَكونَ قُدوةً حَسَنةً في المُجتَمَعِ بالالتِزامِ بالمَبادِئِ والمُثُلِ العُليا، أمينًا على حُقوقِ المواطِنينَ في الحُصولِ على الرِّعايةِ الصِّحِّيَّةِ الواجِبةِ، مُنَزَّهًا عَنِ الاستِغلالِ بجَميعِ صُوَرِه لمَرضاه أو زُمَلائِه أو تَلاميذِه.
- على الطَّبيبِ أن يُسهمَ في دِراسةِ سُبُلِ حَلِّ المُشكِلاتِ الصِّحِّيَّةِ للمُجتَمَعِ...
- على الطَّبيبِ أن يُبَلِّغَ السُّلُطاتِ الصِّحِّيَّةَ المُختَصَّةَ عِندَ الاشتِباه في مَرَضٍ وبائيٍّ؛ حتَّى تَتَّخِذَ الإجراءاتِ الوِقائيَّةَ لحِمايةِ المُجتَمَعِ.
ثانيًا: واجِباتُ الطَّبيبِ نَحوَ المِهنةِ:- على الطَّبيبِ أن يُراعيَ الأمانةَ والدِّقَّةَ في جَميعِ تَصَرُّفاتِه، وأن يَلتَزِمَ السُّلوكَ القَويمَ، وأن يُحافِظَ على كرامَتِه وكرامةِ المِهنةِ مِمَّا يَشينُها، وَفقًا لِما ورَدَ في قَسَمِ الأطِبَّاءِ وفي لائِحةِ آدابِ المِهنةِ.
- لا يَجوزُ للطَّبيبِ أن يُحَرِّرَ تَقريرًا طِبِّيًّا أو يُدليَ بشَهادةٍ بَعيدًا عن تَخَصُّصِه أو مُخالِفةٍ للواقِعِ الذي توصَّل إليه مِن خِلالِ فَحصِه الشَّخصيِّ للمَريضِ.
- لا يَجوزُ للطَّبيبِ تَطبيقُ طَريقةٍ جَديدةٍ للتَّشخيصِ أوِ العِلاجِ إذا لم يكُنْ قَدِ اكتَمَل اختِبارُها بالأسلوبِ العِلميِّ والأخلاقيِّ السَّليمِ، ونُشِرَت في المجَلَّاتِ الطِّبِّيَّةِ المُعتَمَدةِ، وثَبَتَت صَلاحيَّتُها، وتَمَّ التَّرخيصُ بها مِنَ الجِهاتِ الصِّحِّيَّةِ المُختَصَّةِ
[2266] يُنظر: ((أخلاق الطبيب)) لأبي بكر الرازي (ص: 77). . كما لا يَجوزُ له أيضًا أن يَنسُبَ لنَفسِه دونَ وَجهِ حَقٍّ أيَّ كشفٍ عِلميٍّ، أو يَدَّعيَ انفِرادَه به.
- لا يَجوزُ للطَّبيبِ أن يَستَغِلَّ وظيفتَه بقَصدِ تَحقيقِ مَنفعةٍ شَخصيَّةٍ، أوِ الحُصولِ على كَسبٍ مادِّيٍّ مِنَ المَريضِ، كما لا يَجوزُ له أن يَتَقاضى مِنَ المَريضِ أجرًا عن عَمَلٍ يَدخُلُ في اختِصاصِ وَظيفتِه الأصليَّةِ التي يُؤجَرُ عليها.
- على الطَّبيبِ أن يَغتَنِمَ كُلَّ مُناسَبةٍ للقيامِ بالتَّثقيفِ الصِّحِّيِّ لمَريضِه، وتَعريفِه بأنماطِ الحياةِ الصِّحِّيَّةِ، وأن يَحرِصَ على التَّعَلُّمِ والتَّدريبِ الطِّبِّيِّ بشَكلٍ دائِمٍ ومُستَمِرٍّ، وأن يُحافِظَ على كفاءَتِه العِلميَّةِ والمَهاريَّةِ المُؤَهِّلةِ لمُمارَسةِ المِهنةِ...
ثالثًا: واجِباتُ الطَّبيبِ نَحوَ المَرضى:- على الطَّبيبِ أن يَبذُلَ كُلَّ ما فى وُسعِه لعِلاجِ مَرضاه، وأن يَعمَلَ على تَخفيفِ آلامِهم، وأن يُحسِنَ مُعامَلتَهم، وأن يُساوىَ بينَهم في الرِّعايةِ دونَ تَمييزٍ.
- على الطَّبيبِ أن يوفِّرَ لمَريضِه المَعلوماتِ المُتَعَلِّقةَ بحالتِه المَرَضيَّةِ بطَريقةٍ مُبَسَّطةٍ ومَفهومةٍ.
ويَجوزُ للطَّبيبِ لأسبابٍ إنسانيَّةٍ عَدَمُ إطْلاعِ المَريضِ على عَواقِبِ المَرَضِ الخَطيرةِ، وفي هذه الحالةِ عليه أن يُنهيَ إلى أهلِ المَريضِ بطَريقةٍ إنسانيَّةٍ لائِقةٍ خُطورةَ المَرَضِ وعَواقِبَه الخَطيرةَ، إلَّا إذا أبدى المَريضُ رَغبَتَه في عَدَمِ إطْلاعِ أحَدٍ على حالتِه، أو حَدَّدَ أشخاصًا مُعيَّنينَ لإطلاعِهم عليها، ولم تَكُن هناك خُطورةٌ على مَن حَولَه.
- على الطَّبيبِ أن يَلتَزِمَ بحُدودِ مَهاراتِه المِهنيَّةِ، وأن يَستَعينَ بخِبرةِ مَن هم أكفَأُ مِنه مِنَ الأطِبَّاءِ في مُناظَرةِ وعِلاجِ مَريضِه عِندَ اللُّزومِ.
- على الطَّبيبِ أن يُراعيَ ما يَلي:
أ - عَدَمُ المُغالاةِ في تَقديرِ أتعابِه، وأن يُقَدِّرَ حالةَ المَريضِ الماليَّةَ والاجتِماعيَّةَ.
ب - أن يَلتَزِمَ بالأدويةِ الضَّروريَّةِ مَعَ مُراعاةِ أن تَكونَ الأولويَّةُ للدَّواءِ الوطَنيِّ والأقَلِّ سِعرًا، بشَرطِ الفاعِليَّةِ والأمَّانِ.
جـ - أن يَقتَصِرَ على طَلَبِ التَّحاليلِ المَعمَليَّةِ أو وسائِلِ التَّشخيصِ الضَّروريَّةِ.
- على الطَّبيبِ أن يُنَبِّهَ المَريضَ ومُرافِقيه إلى اتِّخاذِ أسبابِ الوِقايةِ، ويُرشِدَهم إليها ويُحَذِّرَهم مِمَّا يُمكِنُ أن يَتَرَتَّبَ على عَدَمِ مُراعاتِها، ويَجوزَ له طَلبُ تَوقيعِهم على إقرارٍ كِتابيٍّ مِنهم بمَعرِفتِهم بذلك، في بَعضِ الحالاتِ التي تَستَدعي ذلك.
- لا يَجوزُ للطَّبيبِ إفشاءُ أسرارِ مَريضِه التي اطَّلعَ عليها بحُكمِ مِهنَتِه، إلَّا إذا كان ذلك بناءً على قَرارٍ قَضائيٍّ أو في حالةِ إمكانِ وُقوعِ ضَرَرٍ جَسيمٍ ومُتيَقَّنٍ يُصيبُ الغيرَ، أو في الحالاتِ الأخرى التي يُحَدِّدُها القانونُ.
- لا يَجوزُ للطَّبيبِ استِغلالُ صِلتِه بالمَريضِ وعائِلتِه لأغراضٍ تَتَنافى مَعَ كرامةِ المِهنةِ.
- على الطَّبيبِ المُكلَّفِ بالرِّعايةِ الطِّبِّيَّةِ للمُقيَّدةِ حُرِّيَّتُهم أن يوفِّرَ لهم رِعايةً صِحِّيَّةً مِن نَفسِ النَّوعيَّةِ والمُستَوى المُتاحَينِ لغيرِ المُقيَّدةِ حُرِّيَّتُهم. ويُحظَرُ عليه القيامُ بطَريقةٍ إيجابيَّةٍ أو سَلبيَّةٍ بأيَّةِ أفعالٍ تُشَكِّلُ مُشارَكةً في عَمَليَّاتِ التَّعذيبِ وغيرِها مِن ضُروبِ المُعامَلةِ القاسيةِ أوِ اللَّاإنسانيَّةِ، أوِ التَّواطُؤُ أوِ التَّحريضُ على هذه الأفعالِ، وكذلك يُحظَرُ عليه استِخدامُ مَعلوماتِه ومَهاراتِه المِهنيَّةِ للمُساعَدةِ في استِجوابِ المُقيَّدةِ حُرِّيَّتُهم على نَحوٍ يَضُرُّ بالصِّحَّةِ أوِ الحالةِ البَدَنيَّةِ أوِ العَقليَّةِ لهم، أوِ المُشارَكةُ في أيِّ إجراءٍ لتَقييدِ حَرَكةِ المُقيَّدِ حُرِّيَّتُهم إلَّا إذا تَقَرَّرَ ذلك وَفقًا لمَعاييرَ طِبِّيَّةٍ مَحضةٍ لحِمايةِ الصِّحَّةِ البَدَنيَّةِ أوِ العَقليَّةِ للمُقيَّدةِ حُرِّيَّتُهم.
- يُحظَرُ على الطَّبيبِ إهدارُ الحياةِ بدَعوى الشَّفقةِ أوِ الرَّحمةِ).
- أيضًا (على الطَّبيبِ إن حَيَّرَه أمرٌ أو داخَلَه شَكٌّ أن يَستَشيرَ إخوانَه، وإن دَعَتِ الحاجةُ أحال المَريضَ إلى المُختَصِّ، فهذا مِن حَقِّ المَريضِ، ثُمَّ إنَّه حَقُّ اللهِ تعالى؛ لقَولِه:
فاسألوا أهل الذِّكرِ إن كُنتُم لا تَعلمونَ)
[2267] ((نفح الطيب في آداب وأحكام الطبيب)) (ص: 44). .
صِفةُ الطَّبيبِ المُسلِمِ1- يَنبَغي أن يَكونَ الطَّبيبُ المُسلِمُ مِن بينِ المُؤمِنينَ باللهِ، القائِمينَ بحَقِّه، العارِفينَ لقَدرِه، العامِلينَ بأوامِرِه، المُنتَهينَ عن نَواهيه، المُراقِبينَ له في السِّرِّ والعَلَنِ، وبالجُملةِ يَكونُ مِن أهلِ هذه الآيةِ:
الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة: 112] .
2- يَنبَغي أن يَكونَ مِن أهلِ الحِكمةِ والمَوعِظةِ الحَسَنةِ، مُبَشِّرًا لا مُنَفِّرًا، باسِمًا لا عابسًا، حَليمًا لا غَضوبًا، مُحِبًّا لا كارِهًا، لا تَغلبُه ضَغينةٌ، ولا تُفارِقُه سَماحةٌ، يعدُّ نَفسَه مِن وسائِلِ رَحمةِ اللهِ.
3- ويَنبَغي أن يَكونَ رَزينًا لا يَطيشُ ولو لحَقٍّ، عَفَّ اللِّسانِ ولو في فُكاهةٍ، غَضيضَ الحَديثِ، خَفيضَ الصَّوتِ غيرَ مُنكَرِه، سوِّيَ الهِندامِ غيرَ أشعَثِه ولا أغبَرِه، يوحي بالثِّقةِ، ويَبعَثُ على الاحتِرامِ، مُهَذَّبًا مَعَ الغَنيِّ والفقيرِ، وقورًا مَعَ الكبيرِ والصَّغيرِ، مُتَواضِعًا، ذاكِرًا نِعمةَ اللهِ عليه، شاكِرًا له، مُلتَمِسًا تَوفيقَه، وألَّا يَطولَه شيءٌ مِنَ الزَّهوِ أوِ الكِبرِ أوِ التَّفاخُرِ.
4- ويَنبَغي أن يَعلمَ أنَّ الحياةَ مِنَ اللهِ، لا يُعطيها إلَّا هو ولا يَسلُبُها إلَّا هو، وأنَّ المَوتَ خاتِمةُ حياةٍ دُنيا، وبدايةُ حياةٍ أخرى، وأنَّ المَوتَ حَقٌّ، وأنَّه نِهايةُ كُلِّ حيٍّ إلَّا اللَّهَ؛
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ، وأنَّ الطَّبيبَ في مِهنَتِه مِن جُندِ الحياةِ فقَط، الذَّائِدينَ عَنها، العامِلينَ على استِبقائِها صَحيحةً سَويَّةً صافيةً مِن أكدارِ المَرَضِ ما وسِعَه الجُهدُ
[2268] روى البيهقي في ((مناقب الشافعي)) (2/ 295، 296) عَنِ المُزنيِّ، قال: دَخَلتُ على الشَّافِعيِّ في بَعضِ عِلَلِه، قُلتُ له: كيف أصبَحتَ؟ فقال: أصبَحتُ بينَ أمرٍ ونَهيٍ، أصبَحتُ آكُلُ رِزقي وأنتَظِرُ أجلي! فقُلتُ: ألَا أُدخِلُ عليك طَبيبًا؟ فقال: افعَلْ. فأدخَلتُ عليه طَبيبًا نَصرانيًّا، فجَسَّ يَدَه، فأحَسَّ الشَّافِعيُّ بالعِلَّةِ في يَدِ الطَّبيبِ، فجَعَل الشَّافِعيُّ يَقولُ: جاءَ الطَّبيبُ يَجُسُّني فجَسَستُه فإذا الطَّبيبُ لِما به مِن حالي وغَدًا يُعالجُني بطولِ سِقامِه ومِنَ العَجائِبِ أعمَشُ كحَّالي قال المُزنيُّ: فما مَضَتِ الأيَّامُ واللَّيالي حتَّى ماتَ المُتَطَبِّبُ! فقيل للشَّافِعيِّ: قَد ماتَ المُتَطَبِّبُ! فجَعَل يَقولُ: إنَّ الطَّبيبَ بطبِّه ودَوائِه لا يَستَطيعُ دِفاعَ مَقدورِ القَضَا ما للطَّبيبِ يَموتُ بالدَّاءِ الذي قَد كان يُبرئُ مِثلَه فيما مَضى هَلَك المُداوي والمُداوى والذي جَلبَ الدَّواءَ وباعَه ومَنِ اشتَرى .
5- ويَنبَغي أن يَكونَ قُدوةً في رِعايةِ صِحَّتِه، والقيامِ بحَقِّ بَدَنِه، فلا يَأمُرُ النَّاسَ بما لا يَأتَمِرُ به، ولا يَنهى عَمًّا لا يَنتَهي عَنه، ولا يَتَنَكَّرُ لمُعطَياتِ عِلمِه الطِّبِّيِّ؛ لأنَّ فاقِدَ الشَّيءِ لا يُعطيه، قال تعالى:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البَقَرة: 44] .
6- والطَّبيبُ الصَّادِقُ إن قال أو كتَبَ أو شَهِدَ... حَريصٌ ألَّا تَدفعَه نَوازِعُ القُربى أوِ المَودَّةِ أوِ الرَّغَبِ أوِ الرَّهَبِ إلى أن يُدليَ بشَهادةٍ أو تَقريرٍ أو بحَديثٍ يَعلَمُ أنَّه مُغايِرٌ للحَقيقةِ، بَل يُقَدِّرُ حَقَّ الشَّهادةِ في الإسلامِ، ويَعمَلُ بهَديِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ قال:
((ألَّا أُنَبِّئُكُم بأكبَرِ الكبائِرِ؟ ثَلاثًا، قالوا: بَلى يا رَسولَ اللهِ، قال: الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ، وجَلسَ وكان مُتَّكِئًا فقال: ألَّا وقَولُ الزُّورِ، فما زال يُكرِّرُها حتَّى قالوا: ليتَه سَكتَ!)) [2269] أخرجه البخاري (2654) واللفظ له، ومسلم (87) من حَديثِ أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
7- ويَنبَغي أن يَتَوفَّرَ له حَدٌّ أدنى مِنَ الدِّرايةِ بعُلومِ الفِقهِ وأحكامِ العِباداتِ؛ لأنَّ النَّاسَ سَوف يَستَفتونَه في أمورِهمُ الصِّحِّيَّةِ ذاتِ الصِّلةِ بالعِباداتِ؛ كأمثالِ ما يَعرِضُ مِن أمراضٍ أو أعراضٍ لدى الرِّجالِ والنِّساءِ، وأثَرِها على صِحَّةِ عِباداتِهم؛ مِن صَلاةٍ وصَومٍ، وحَجٍّ وعُمرةٍ، أوِ التَّحَكُّمِ في الحَملِ، وغيرِ ذلك.
8- وأن يَكونَ بَصيرًا بالرُّخَصِ والمُباحاتِ والأعذارِ، حتَّى يَستَمِرَّ المَرضى على اتِّصالٍ دائِمٍ بالعِباداتِ، ولا يَتَعَوَّدوا تَركَها.
9- إذا كانتِ الضَّروراتُ تُبيحُ المَحظوراتِ فإنَّ على الطَّبيبِ المُسلمِ أن يَجتَهدَ ما وَسِعَه الجُهدُ حتَّى لا يُعالجَ النَّاسَ بما حَرَّمَه اللهُ عليهم، ما كان إلى ذلك سَبيلًا، سَواءٌ أكان ذلك عن طَريقِ الدَّواءِ أوِ الجِراحةِ أوِ السُّلوكِ العامِّ أوِ النُّصحِ أوِ الإرشادِ.
10- عليه أن يَصِلَ نَفسَه برَكبِ العِلمِ، فيواكِبَ تَقَدُّمَه، ويُعِدَّ ما استَطاعَ مِن قوَّةٍ عِلميَّةٍ في دَفعِه للمَرَضِ؛ لأنَّ صِحَّةَ النَّاسِ تَتَأثَّرُ باجتِهادِه أو تَقاعُسِه، وعِلمِه أو جَهلِه، فمَسؤوليَّتُه عن غيرِه تَجعَلُ وقتَه ليس خالصًا له يُنفِقُه كيف يَشاءُ، وكما أنَّ في المالِ حَقًّا مَعلومًا للسَّائِلِ والمَحرومِ، ففي الوقتِ كذلك حَقٌّ للمَريضِ، وعلى الطَّبيبِ أن يُقَدِّمَ لمَرضاه كُلَّ جَديدٍ نافِعٍ ناجِعٍ حتَّى يُؤَدِّيَ الأمانةَ التي في عُنُقِه على خيرِ وَجهٍ.
11- إنَّ الطَّبيبَ المُسلمَ يُدرِكُ أنَّ الاستِزادةَ مِنَ العِلمِ بجانِبِ قيمَتِها التَّطبيقيَّةِ هي في ذاتِها عِبادةٌ وقُربةٌ إلى اللهِ تعالى، وذلك امتِثالًا لهَديِ القُرآنِ في قَولِه تعالى:
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114] ، وقَولِه تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ، وقَولِه تعالى:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] ؛ فيَجِبُ عليه في كُلِّ الأوقاتِ أن يَعمَلَ على تَحسينِ مُستَواه في فنِّ الطِّبِّ وعُلومِه، واستِمرارِ التَّعليمِ الطِّبِّيِّ وتَحسينِه، يَجِبُ أن يَشغَل جُزءًا مِن بَرنامَجِ الطَّبيبِ اليَوميِّ؛ إذ إنَّ ذلك يُعطي الطَّبيبَ الإحساسَ الصَّادِقَ بأنَّه يَفعَلُ ما في وُسعِه مِن أجل المَريضِ، كما أنَّ ذلك يُعَدُّ بمَثابةِ الاجتِهادِ في العِبادةِ والتَّقَرُّبِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
12- حَذارِ ثُمَّ حَذارِ للطَّبيبِ المُسلمِ أن يَستَغِلَّ مَنصِبَه وما له مِنِ امتيازاتٍ؛ مِن أجلِ مَنافِعَ شَخصيَّةٍ أو هَوًى عارِضٍ؛ لأنَّ ذلك يَجلبُ عليه حِقدَ النَّاسِ، كما أنَّ ذلك يَجلبُ عليه دُعاءَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اللهُمَّ مَن وليَ مِن أمرِ أمَّتي شيئًا فشَقَّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومَن وليَ مِن أمرِ أمَّتي شيئًا فرَفَقَ بهم فارفُقْ به)) [2270] أخرجه مسلم (1828) من حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، و
((مَن ضارَّ أضَرَّ اللَّهُ به، ومَن شاقَّ شاقَّ اللَّهُ عليه)) [2271] أخرجه أبو داود (3635) واللفظ له، والترمذي (1940)، وابن ماجه (2342) من حديث أبي صرمة رضي الله عنه. حَسَّنه ابنُ تيميَّة في ((بيان الدليل)) (608)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3635). ، و
((لا يَحتَكِرُ إلَّا خاطِئٌ)) [2272] أخرجه مسلم (1605) مِن حَديثِ مَعمَرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
13- عليه أن يَبتَعِدَ عَنِ الشُّبُهاتِ، فلا يُشارِكَ في أيِّ نَشاطٍ لا يَتَّفِقُ مَعَ شَرَفِ المِهنةِ، وشَرَفُ المِهنةِ هنا هو الذي تُحَدِّدُه قَواعِدُ الشَّريعةِ الغَرَّاءِ، والمَبادِئُ العامَّةُ للأخلاقِ، كما يَدعو إليها الإسلامُ الحَنيفُ. وفي الحَديثِ الشَّريفِ:
((فمَنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه)) [2273] أخرجه البخاري (52) واللفظ له، ومسلم (1599) من حَديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
14- أن يَكونَ الصَّالِحُ العامُّ نُصبَ عَينَيه حتَّى ولو كان هذا يَتَعارَضُ مَعَ مَصلحَتِه الشَّخصيَّةِ؛ فعلى سَبيلِ المِثالِ: يَجِبُ أن يَسعى الأطِبَّاءُ لمَنعِ الأمراضِ، وإن نَتَجَ عن هذا قِلَّةُ مَرضاهم، وهذا في الحَقيقةِ نَوعٌ مِن أنواعِ فِعلِ الخيرِ، وإنكارِ الذَّاتِ، قال تعالى:
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268] .
15- أن تَكونَ رَغبَتُه في إبراءِ المَرَضِ أكثَرَ مَن رَغبَتِه فيما يلتَمِسُه مِن أجرٍ، ورَغبَتُه في عِلاجِ الفُقَراءِ أكثَرَ مِن رَغَبتِه في عِلاجِ الأغنياءِ.
16- إغاثَتُه للمَلهوفِ ليلًا ونَهارًا يَدخُلُ في بابِ تَفريجِ كُربةِ المُسلِمِ، وبذلك يَنالُ ثَوابَ:
((مَن نَفَّسَ عن مُؤمِنٍ كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ اللهُ عَنه كُربةً مِن كُرَبِ يَومِ القيامةِ)) [2274] أخرجه مسلم (2699) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ،
((مَن كان في حاجةِ أخيه كان اللَّهُ في حاجَتِه، ومَن فرَّجَ عن مُسلِمٍ كُربةً فرَّجَ اللهُ عَنه بها كُربةً مِن كُرَبِ يَومِ القيامةِ)) [2275] أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) واللفظ له، من حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
17- الإخلاصُ: إنَّ مسؤوليَّةَ الطَّبيبِ مسؤوليَّةٌ جَسيمةٌ؛ لأنَّه يَتَعامَلُ في كُلِّ الأوقاتِ مَعَ أرواحِ النَّاسِ وحياتِهمُ التي تُعتَبرُ بالطَّبعِ شيئًا مُقَدَّسًا، ويَجِبُ على الطَّبيبِ أن يَكونَ مَوضِعَ الثِّقةِ التي وضَعَها فيه المَرضى؛ قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] .
18- عليك أخي الطَّبيبَ أن تَبدَأَ الكَشفَ باسمِ اللهِ؛ فإنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا يَبدَأُ باسمِ اللهِ فهو أبتَرُ.
19- حُسنُ الخُلُقِ: لا بُدَّ للطَّبيبِ دائِمًا أن يَكونَ كريمًا، شَفوقًا لطيفًا، طيِّبَ القَلبِ في مُعامَلتِه للمَرضى، ويَنبَغي له دائِمًا أن يَتَصَرَّفَ بحِكمةٍ ودِقَّةٍ تِجاهَ مَرضاه، وعليه أن يَكونَ شَفوقًا مُشارِكًا لهم في إحساسِهم، مُعَبِّرًا عن مُشارَكتِه لهم إذا ما استَدعَت هذا بَعضُ الظُّروفِ الخاصَّةِ؛ إذ إنَّ هذا مِن شَأنِه أن يَخلُقَ جَوًّا مِنَ الثِّقةِ والرَّاحةِ، ويُؤَدِّي هذا إلى التَّوصُّلِ لمُمارَسةِ العِلاجِ الصَّحيحِ.
20- إنَّ الإسلامَ يَدعو إلى الكرَمِ والشَّفقةِ والرَّحمةِ بينَ المُسلمينَ في كُلِّ الأوقاتِ.21- على الطَّبيبِ أن يَتبِّعَ أسلوبًا مُناسِبًا أثناءَ فَحصِ الجِنسِ الآخَرِ؛ فإنَّ ذلك اختِبارٌ للقِيَمِ الخُلُقيَّةِ ومَدى صَلابَتِها وتَأصُّلِها فيه، وهناك تَعليماتٌ أساسيَّةٌ في القُرآنِ الكريمِ يَنبَغي استِحضارُها دائِمًا، وعَدَمُ نِسيانِها أوِ التَّغافُلِ عَنها؛ مِنها:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور: 30] . وإن كانتِ الآيةُ عامَّةً، والضَّروراتُ تُبيحُ المَحظوراتِ، فإنَّه يَنبَغي أن نُشيرَ إلى أنَّ الضَّرورةَ يَجِبُ أن تَكونَ بقَدرِها، فإن زادَت على قَدرِها فتَذكَّرْ أخي الطَّبيبَ يَومَ يُقالُ:
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 24] .
فيَجِبُ عليك أن تَكونَ سَليمَ القَلبِ، عَفيفَ النَّظَرِ، صادِقَ اللَّهجةِ، لا يَخطُرُ ببالِك شيءٌ مِن أمورِ النِّساءِ التي تُسقِطُ المُروءةَ وتُذهِبُ الحياءَ)
[2276] يُنظر: ((نفح الطيب في آداب وأحكام الطبيب)) (ص: 8-9، 29-34). .