المَبحَثُ الثَّاني: مواضِعُ الاختلافِ بين الكُتُبِ المُنَزَّلةِ
تختَلِفُ الكُتُبُ المُنَزَّلةُ فيما بينها في تفاصيلِ بعضِ الشَّرائعِ، فمثَلًا شريعةُ عيسى تخالِفُ شريعةَ موسى عليهما السَّلامُ في أمورٍ، وشريعةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تخالِفُ شريعةَ موسى وعيسى عليهما السَّلامُ في أمورٍ
[128] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 250)، ((رسائل في العقيدة)) للحمد (ص: 290). .
قال اللهُ تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] .
قال قتادةُ: (يقولُ: سَبيلًا وسُنَّةً. والسُّنَنُ مختَلِفةٌ؛ للتَّوراةِ شريعةٌ، وللإنجيلِ شَريعةٌ، وللقُرْآنِ شَريعةٌ، يحِلُّ اللهُ فيها ما يشاءُ ويُحَرِّمُ ما يشاءُ بلاءً، ليعلَمَ من يطيعُه ممَّن يَعصيه، ولكِنَّ الدِّينَ الواحِدَ الذي لا يُقبَلُ غَيرُه التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرُّسُلُ)
[129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/494)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (4/ 1152). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ )) [130] أخرجه مطولاً البخاري (3443) واللَّفظُ له، ومسلم (2365). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (وفي لَفظٍ آخَرَ: «أولادُ عَلَّاتٍ»
[131] أخرجه البخاري (3442)، ومسلم (2365) مُطَوَّلًا. . وفي الصِّحاحِ: بنو العَلَّاتِ: هم أولادُ الرَّجُلِ مِن نِسوةٍ شَتَّى... و«قَولُه: ودينُهم واحِدٌ» أي: في توحيدِهم، وأصولِ أديانِهم، وطاعتِهم للهِ تعالى، واتِّباعِهم لشرائِعِه، والقيامِ بالحَقِّ، كما قال تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشعراء: 13] الآية، ولم يُرِدْ فُروعَ الشَّرائعِ، فإنهم مختَلِفون فيها، كما قال تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 84] )
[132] يُنظر: ((المفهم)) (6/176). .
وقال
علي القاري: (المعنى: أنَّ حاصِلَ أمرِ النُّبُوَّةِ، والغايةَ القُصوى من البَعثةِ التي بُعِثوا جميعًا لأجْلِها دعوةُ الخَلقِ إلى معرفةِ الحَقِّ، وإرشادُهم إلى ما به ينتَظِمُ مَعاشُهم، ويَحسُنُ مَعادُهم، فهم متَّفِقون في هذا الأصلِ، وإن اختلفوا في تفاريعِ الشَّرعِ التي هي كالوصلةِ المُؤَدِّيةِ، والأوعِيَةِ الحافِظةِ له؛ فعَبَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم عَمَّا هو الأصلُ المشتَرَكُ بين جميعِ الأنبياءِ بالأبِ، ونسَبَهم إليه، وعَبَّر عمَّا يختلفون فيه من الأحكامِ والشَّرائعِ المتفاوِتةِ بالصُّورةِ المتقارِبةِ في الفَرْضِ -يعني: بحسَبِ الأزمِنَةِ والمصالحِ المتعَلِّقةِ بالأشخاصِ المختَلِفةِ طَبْعًا- بالأُمَّهاتِ)
[133] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (9/ 3657). .
ولا يعني ذلك أنَّ الشَّرائعَ مُختَلِفةٌ اختلافًا كُليًّا، بل هي متَّفِقةٌ في المسائِلِ الأساسيَّةِ، وإنما يقعُ الاختلافُ في تفاصيلِها؛ فعَدَدُ الصَّلَواتِ وأركانُها وشُروطُها، ومقاديرُ الزكاةِ، ومواضِعُ النُّسُكِ، ونحوُ ذلك؛ قد يختَلِفُ من شريعةٍ إلى أُخرى، وقد يُحِلُّ اللهُ أمرًا في شريعةٍ لحِكْمةٍ، ويحَرِّمُه في شريعةٍ أُخرى لحِكْمةٍ يَعلَمُها اللهُ عَزَّ وجَلَّ
[134] يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (15/ 120)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/ 150) (35/ 364). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الذي أنزله اللهُ هو دينٌ واحِدٌ اتَّفَقت عليه الكُتُبُ والرُّسُلُ وهم متَّفِقون في أصولِ الدِّينِ وقواعِدِ الشَّريعةِ وإن تنوَّعوا في الشِّرْعةِ والمنهاجِ بين ناسِخٍ ومَنسوخٍ، فهو شبيهٌ بتنوُّعِ حالِ الكِتابِ الواحِدِ؛ فإنَّ المُسلِمينَ كانوا أوَّلًا مأمورين بالصَّلاةِ لبيتِ المقْدِسِ، ثمَّ أُمِروا أن يُصَلُّوا إلى المسجدِ الحرامِ، وفي كِلا الأمرَينِ إنما اتَّبَعوا ما أنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ.
وكذلك موسى عليه السَّلامُ كان مأمورًا بالسَّبتِ مُحرَّمًا عليه ما حَرَّمه اللهُ في التوراةِ، وهو متَّبِعٌ ما أنزله اللهُ عَزَّ وجَلَّ، والمسيحُ أحَلَّ بَعضَ ما حَرَّمه اللهُ في التوراةِ، وهو مُتَّبِعٌ ما أنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ؛ فليس في أمرِ اللهِ لأهلِ التوراةِ والإنجيلِ أن يحكُموا بما أنزل اللهُ أمرٌ بما نُسِخَ، كما أنَّه ليس في أمْرِ أهلِ القُرْآنِ أن يَحكُموا بما أنزل اللهُ أمرٌ بما نُسِخَ)
[135] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) (2/ 438). .
وقال
ابنُ رجبٍ: (إنَّ جميعَ الرُّسُلِ كان دينُهم الإسلامَ؛ ولهذا ثبت في «الصَّحيحِ» عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إنَّا -مَعاشِرَ الأنبياءِ- دينُنا واحِدٌ)) [136] أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365) بنحوه من حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ البخاري: (( ..والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد)) ؛ فإنَّهم كُلَّهم مُتَّفِقون على أصولِ التوحيدِ وتوابِعِه، وإنما تختَلِفُ شرائعُهم في الأحكامِ العَمَليَّةِ التي يُسَمِّيها كثيرٌ من النَّاسِ الفروعَ، وتنَوُّعُ الشَّرائعِ في ذلك كتنَوُّعِ الشَّريعةِ الواحِدةِ التي فيها ناسِخٌ ومنسوخٌ، كما كانت القِبلةُ في أوَّلِ الإسلامِ إلى صَخرةِ بيتِ المقْدِسِ، ثمَّ صارت إلى الكعبةِ. والدِّينُ واحِدٌ، ثمَّ خَتَم اللهُ الشَّرائِعَ والمِلَلَ بالشَّريعةِ العامَّةِ الكامِلةِ؛ الحنيفيَّةِ المُحَمَّديَّةِ المحتَوِيَةِ على جميعِ محاسِنِ الشَّرائعِ، المتضَمِّنةِ لجميعِ مصالحِ العِبادِ في المعاشِ والمعادِ)
[137] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/ 557). .
ومن الأمثِلَةِ على ذلك:1- أنَّ اللهَ تعالى أحَلَّ لآدَمَ عليه السَّلامُ تزويجَ بناتِه من بَنِيه، ثمَّ حَرَّم اللهُ هذا بَعْدَ ذلك
[138] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/76)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/215). .
قال اللهُ تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] .
قال
ابنُ كثير: (كان من خَبَرِهما فيما ذكره غيرُ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، أنَّ اللهَ تعالى قد شَرَع لآدَمَ، عليه السَّلامُ، أن يُزَوِّجَ بناتِه من بنيه لضَرورةِ الحالِ، ولكِنْ قالوا: كان يُولَدُ له في كُلِّ بَطنٍ ذَكَرٌ وأنثى، فكان يُزَوِّجُ أنثى هذا البطَنِ لذَكَرِ البَطَنِ الآخَرِ، وكانت أختُ هابيلَ دَميمةً، وأختُ قابيلَ وَضِيئةً، فأراد أن يستأثِرَ بها على أخيه، فأبى آدَمُ ذلك إلَّا أن يُقَرِّبَا قُرْبانًا، فمن تُقُبِّلَ منه فهي له، فقَرَّبا فتُقُبِّل من هابيلَ ولم يُتَقَبَّلْ من قابيلَ؛ فكان من أمرِهما ما قَصَّ اللهُ في كِتابِه... وقال
ابنُ أبي حاتمٍ: حدَّثَنا الحسَنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنا حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، أخبرني ابنُ خُثَيمٍ قال: أقبَلتُ مع سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، فحَدَّثني عن
ابنِ عَبَّاسٍ قال: نُهِيَ أن تَنكِحَ المرأةُ أخاها توأَمَها، وأُمِرَ أن يَنكِحَها غَيرُه من إخوتِها، وكان يُولَدُ له في كُلِّ بَطنٍ رجُلٌ وامرأةٌ، فبينما هم كذلك وُلِدَ له امرأةٌ وضيئةٌ، ووُلِدَ له أُخرى قبيحةٌ دميمةٌ، فقال أخو الدَّميمةِ: أنكِحْني أُخْتَك وأُنكِحُك أُختي. قال: لا، أنا أحَقُّ بأُختي، فقَرَّبا قُربانًا، فتُقُبِّلَ مِن صاحِبِ الكَبْشِ، ولم يُتقَبَّلْ من صاحِبِ الزَّرعِ، فقَتَله. إسنادٌ جيِّدٌ)
[139] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 82). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (لا رَيبَ أنَّ الشَّيءَ يكونُ مَصلحةً في وَقتٍ دونَ وَقتٍ، وفي شريعةٍ دونَ أُخرى، كما كان تزويجُ الأخِ بالأُختِ مصلحةً في شريعةِ آدَمَ عليه السَّلامُ، ثم صار مَفسدةً في سائِرِ الشَّرائعِ)
[140] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/ 1102). .
2- كان كُلُّ الطَّعامِ حلالًا ليعقوبَ عليه السَّلامُ، فحَرَّم على نَفْسِه أشياءَ.
قال اللهُ تعالى:
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران: 63] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يعني بذلك جَلَّ ثناؤه أنَّه لم يكُنْ حَرَّم على بني إسرائيلَ وهم وَلَدُ يَعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ خَليلِ الرَّحمنِ شَيئًا من الأطعمةِ مِن قَبلِ أن تُنَزَّلَ التوراةُ، بل كان ذلك كُلُّه لهم حلالًا، إلَّا ما كان يعقوبُ حَرَّمه على نَفْسِه، فإنَّ وَلَدَه حَرَّموه استنانًا بأبيهم يعقوبَ من غيرِ تحريمِ اللهِ ذلك عليهم في وَحيٍ ولا تنزيلٍ ولا على لسانِ رَسولٍ له إليهم من قَبْلِ نُزولِ التوراةِ)
[141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 577). .
وقال
السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى:
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران: 93] سببُ نُزولِ الآيةِ: أنَّ اليهودَ قالوا لرَسولِ اللهِ: إنَّك تَزعُمُ أنَّك على مِلَّةِ إبراهيمَ، وكان لا يأكُلُ لُحومَ الإبِلِ وألبانَها، وأنت تأكُلُها، فلَسْتَ على مِلَّةِ إبراهيمَ؛ فنزلت الآيةُ
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران: 93] ، يعني: ليس الأمرُ على ما قالوا من حُرمةِ لُحومِ الإبِلِ وألبانِها على إبراهيمَ، بل كان الكُلُّ حلالًا له ولبني إسرائيلَ، وإنما حرَّمها يعقوبُ على نَفْسِه قبل نزولِ التوراةِ، يعني: أنَّ حُرْمَتَها ليست في التوراةِ، ولا في شَرعِ إبراهيمَ، وإنما هو شيءٌ حَرَّمه إسرائيلُ على نَفْسِه،...
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 93] طالبهم بالإتيانِ بالتوراةِ حُجَّةً على ما ادَّعَوا، فلم يأتوا بها؛ إذ لم يكُنْ تحريمُها في التوراةِ، فعَجَزوا عن الإتيانِ بالتوراةِ، وكان ذلك كالمُعجِزةِ للرَّسولِ عليهم)
[142])) يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 340). .
3- حرَّم اللهُ على اليهودِ أُمورًا ثم جاء عيسى عليه السَّلامُ فأحَلَّ لهم بعضَ ما حُرِّم عليهم.
قال اللهُ تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يعني بذلك جَلَّ ثناؤه: فحَرَّمْنا على اليهودِ -الذين نقَضوا ميثاقَهم الذي واثَقوا ربَّهم، وكفروا بآياتِ اللهِ، وقتَلوا أنبياءَهم، وقالوا البُهتانَ على مريمَ، وفعلوا ما وصفَهم اللهُ في كِتابِه- طَيِّباتٍ مِنَ المآكِلِ وغَيرِها كانت لهم حلالًا؛ عقوبةً لهم بظُلمِهم الذي أخبر اللهُ عنهم في كِتابِه)
[143])) يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 676). .
وقال
السَّعديُّ: (أخبر تعالى أنَّه حَرَّم على أهلِ الكِتابِ كثيرًا من الطيِّباتِ التي كانت حلالًا عليهم، وهذا تحريمُ عُقوبةٍ بسَبَبِ ظُلمِهم واعتدائِهم، وصَدِّهم النَّاسَ عن سبيلِ اللهِ، ومَنْعِهم إيَّاهم من الهدى، وبأخْذِهم
الرِّبا وقد نُهُوا عنه، فمَنَعوا المحتاجين ممَّن يبايعونه عن العَدْلِ، فعاقبَهم اللهُ من جِنسِ فِعْلِهم، فمنعهم من كثيرٍ مِن الطَّيِّباتِ التي كانوا بصَدَدِ حِلِّها؛ لكَونِها طيِّبةً، وأمَّا التحريمُ الذي على هذه الأمَّةِ فإنَّه تحريمُ تنزيهٍ لهم عن الخبائثِ التي تضُرُّهم في دينِهم ودُنياهم)
[144])) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 214). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (لم يُبَيِّنْ هنا ما هذه الطَّيِّباتُ التي حرَّمها عليهم بسَبَبِ ظُلمِهم، ولكِنَّه بَيَّنها في سورة «الأنعام» بقَولِه:
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام: 146] )
[145])) يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 321). .
وقال اللهُ سُبحانَه حكايةً عن عيسى عليه السَّلامُ:
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] .
عن الرَّبيعِ قال: (كان الذي جاء به عيسى ألْيَنَ من الذي جاء به موسى... في أشياءَ حَرَّمها عليهم، وشَدَّدها عليهم؛ فجاءهم عيسى بالتخفيفِ منه في الإنجيلِ)
[146])) يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 432)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/ 657). .
وقال
السَّعديُّ: (أخبر عيسى عليه السَّلامُ أنَّ شريعةَ الإنجيلِ شريعةٌ فيها سُهولةٌ ويُسرٌ، فقال
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] )
[147])) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 132). .
ثم جاءت الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ الخاتِمةُ لِتَكونَ القاعِدةُ العامَّةُ: إحلالَ الطَّيِّباتِ وتحريمَ الخبائِثِ.قال اللهُ تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] .
قال
البيضاويُّ: (
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِمَّا حُرِّم عليهم كالشُّحومِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ كالدَّمِ ولَحمِ الخِنزيرِ، أو ك
الرِّبا والرِّشوةِ.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ويخَفِّفُ عنهم ما كُلِّفوا به من التكاليفِ الشَّاقَّةِ؛ كتَعيينِ القِصاصِ في العَمْدِ والخَطَأِ، وقَطْعِ الأعضاءِ الخاطئةِ، وقَرْضِ مَوضِعِ النجاسةِ. وأصلُ الإصرِ: الثِّقْلُ الذي يأصِرُ صاحِبَه، أي: يحبِسُه من الحِراكِ لِثِقلِه)
[148] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/ 37). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ أي: يحِلُّ لهم ما كانوا حَرَّموه على أنفُسِهم من البَحائِرِ، والسَّوائِبِ، والوصائِلِ، والحامِ، ونحوِ ذلك، ممَّا كانوا ضَيَّقوا به على أنفُسِهم، ويحَرِّمُ عليهم الخبائِثَ.
قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ: كلَحمِ الخِنزيرِ و
الرِّبا، وما كانوا يستحِلُّونه من المحَرَّماتِ من المآكِلِ التي حَرَّمها اللهُ تعالى. وقال بعضُ العُلَماءِ: كُلُّ ما أحَلَّ اللهُ تعالى، فهو طَيِّبٌ نافعٌ في البَدَنِ والدِّينِ، وكُلُّ ما حَرَّمه، فهو خبيثٌ ضارٌّ في البَدَنِ والدِّينِ... وقَولُه:
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ أي: إنَّه جاء بالتيسيرِ والسَّماحةِ، كما ورد الحديثُ من طُرُقٍ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((بُعِثْتُ بالحَنيفيَّةِ السَّمْحةِ)) [149] رُوِيَ الحديثُ بلفظ: ((إنِّي أُرسِلتُ بحَنيفيَّةٍ سَمْحةٍ)) من حَديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. أخرجه أحمد (24855)، والسراج في ((حديثه)) (2148)، والديلمي كما في ((كنز العمال)) للمتقي الهندي (15/214). صَحَّحه بشواهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (1/175)، وصَحَّح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/348)، وحَسَّنه ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/43)، والسخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (136)، والألباني في الشواهد في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/1023). . وقال لأميرَيْهِ مُعاذٍ وأبي موسى الأشعريِّ لَمَّا بعَثَهما إلى اليَمَنِ:
((بَشِّرا ولا تُنَفِّرَا، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وتَطاوَعا ولا تختَلِفا )) [150] أخرجه البخاري (3038)، ومسلم (1733) باختلاف يسير من حَديثِ أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عنه. . وقال صاحِبُه أبو بَرْزةَ الأسلميُّ: إني صَحِبتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشَهِدتُ تيسيرَه
[151] أخرجه البخاري (1211) مُطَوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ. . وقد كانت الأُمَمُ الذين كانوا قَبْلَنا في شرائعِهم ضِيقٌ عليهم؛ فوسَّع اللهُ على هذه الأمَّةِ أُمورَها، وسَهَّلها لهم)
[152] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 488). .
وقد ذكَرَ بعضُ العُلَماءِ أمثلةً أُخرى. قال
ابنُ القَيِّمِ: (وكذلك إباحةُ العَمَلِ يومَ السَّبتِ؛ كان مَصلحةً في شَريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ ومَن قَبْلَه، مَفسَدةً في شريعةِ موسى عليه السَّلامُ. وأمثالُ ذلك كثيرةٌ)
[153])) يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/ 1102). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (كان التسَرِّي على الزوجةِ مُباحًا في شريعةِ إبراهيمَ، وقد فعله الخليلُ إبراهيمُ في هاجَرَ لَمَّا تسَرَّى بها على سارةَ، وقد حُرِّم مِثلُ هذا في التوراةِ عليهم. وكذلك كان الجَمعُ بين الأختينِ شائعًا وقد فعله يعقوبُ عليه السَّلامُ، جمع بين الأُختينِ، ثمَّ حُرِّم ذلك عليهم في التوراةِ. وهذا كُلُّه منصوصٌ عليه في التوراةِ عِندَهم)
[154] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 76). .