المَطْلَبُ السَّادِسُ: الكمالُ في تحقيقِ العُبُوديَّةِ
وهو نوعٌ آخَرُ مِنَ الكَمالِ وفَّق اللهُ رُسُلَه وأنبياءَه عليهم السَّلامُ لتحصيلِه، وقد حازوا السَّبقَ في هذا الشَّأنِ، فكلَّما كان الإنسانُ أكثَرَ تحقيقًا للعُبُوديَّةِ للهِ تعالى، كان أكثَرَ رقيًّا في سلَّمِ الكَمالِ الإنسانيِّ، وكُلَّما ابتعد عن تحقيقِ العُبُوديَّةِ لله، هبط وانحدر
[831] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 83). .
وقد أخبر اللهُ تعالى عن نبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أشرَفِ المقاماتِ بصفةِ العُبُوديَّةِ؛ فوصفه بها في مقامِ الوَحيِ، فقال:
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم: 10] .
وووصفه بالعُبُوديَّةِ في مقامِ إنزالِ الكِتابِ، فقال:
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفَرْقان: 1] .
وفي مقامِ الدَّعوةِ:
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] .
وفي مقامِ الإسراءِ:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء: 1] .
عن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ)) [832] رواه البخاري (7367)، ومسلم (1216) مُطَوَّلًا. .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أن رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((وَاللَّهِ، إنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بما أَتَّقِي )) [833] رواه مسلم (1110). .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (إنَّ العبادةَ للهِ هي الغايةُ المحبوبةُ له والمَرضِيَّةُ له التي خلَق الخَلْقَ لها، كما قال تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وبها أرسل جميعَ الرُّسُلِ، كما قال نوحٌ لِقَومِه:
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِهِ وكذلك قال هودٌ وصالحٌ وشُعَيبٌ وغَيرُهم لقَومِهم... وجعل ذلك لازمًا لرسولِه إلى الموتِ، كما قال:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وبذلك وصف مَلائِكتَه وأنبياءَه، فقال تعالى:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء: 19] ... ونعت صَفوةَ خَلْقِه بالعُبُوديَّةِ له، فقال تعالى:
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا وقال:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الآيات... وقال تعالى عن المسيحِ الذي ادُّعِيَت فيه الإلهيَّةُ والبُنُوَّةُ:
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف: 59] ؛ ولهذا قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديثِ الصَّحيحِ:
((لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النَّصارى عيسى بنَ مريمَ، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدُ اللهِ ورَسولُه )) [834] أخرجه البخاري (3445) باختلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. وقد نعته اللهُ بالعُبُوديَّةِ في أكمَلِ أحوالِه، فقال في الإسراءِ:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقال في الإيحاءِ:
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِه مَا أَوْحَى، وقال في الدَّعوةِ:
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا، وقال في التحَدِّي:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)
[835] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/150-152). .
المَطْلَبُ السَّابعُ: الذُّكورةُ
اختار الله تعالى جميعَ أنبيائِه ورُسُلِه مِنَ الرِّجالِ دون النِّساءِ.
قال اللهُ تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7] .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (قد ذكر القاضي أبو بكر و
القاضي أبو يَعلى وأبو المعالي وغيرُهم الإجماعَ على أنَّه ليس في النِّساءِ نَبِيَّةٌ. والقُرآنُ والسُّنَّةُ دَلَّا على ذلك كما في قَولِه:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وقَولِه:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة: 75] ذكر أنَّ غايةَ ما انتهت إليه أمُّه: الصِّدِّيقيَّةُ)
[836] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/396). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه تعالى:
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي: مُؤمِنةٌ به مُصَدِّقةٌ له. وهذا أعلى مقاماتِها؛ فدَلَّ على أنها ليست بنَبِيَّةٍ، كما زعمه
ابنُ حزمٍ وغَيرُه ممن ذهب إلى نُبُوَّةِ سارةَ أمِّ إسحاقَ، ونبوَّةِ أمِّ موسى، ونبوَّةِ أمِّ عيسى؛ استدلالًا منهم بخِطابِ المَلائِكةِ لسارةَ ومريمَ، وبقَولِه:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] ، قالوا: وهذا معنى النُّبُوَّةِ. والذي عليه الجُمهورُ: أنَّ اللهَ لم يبعث نَبِيًّا إلَّا من الرِّجالِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وقد حكى الشَّيخُ
أبو الحسن الأشعريُّ رحمه الله الإجماعَ على ذلك)
[837] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/158). .
واختيارُ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السَّلامُ من الرِّجالِ دونَ النِّساءِ لحِكَمٍ؛ منها
[838] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 84). :
1- أنَّ الرِّسالةَ تقتضي الاشتهارَ بالدَّعوةِ، ومخاطبةَ الرِّجالِ والنِّساءِ، ومقابلةَ النَّاسِ في السرِّ والعلانيَةِ، والتنقُّلَ في الأرضِ، ومواجَهةَ المكَذِّبين ومحاجَجتَهم ومخاصَمَتَهم، وإعدادَ الجُيوشِ وقيادَتَها، والاصطِلاءَ بنارِها، وكُلُّ هذا يناسِبُ الرِّجالَ دون النِّساءِ.
2- الرِّسالةُ تقتضي قَوامةَ الرَّسولِ على من يتابعُه، فهو في أتباعِه الآمِرُ النَّاهي، وهو فيهم الحاكِمُ والقاضي، ولو كانت الموكَّلةُ بذلك امرأةً لَمْ يتمَّ ذلك لها على الوجهِ الأكمَلِ، ولاستنكف أقوامٌ مِنَ الاتِّباعِ والطَّاعةِ.
3- المرأةُ يطرَأُ عليها ما يعَطِّلُها عن كثيرٍ مِنَ الوظائِفِ والمهِمَّاتِ؛
كالحَيضِ، والحَملِ، والولادةِ، والنِّفاسِ، وتصاحِبُ ذلك اضطراباتٌ نفسيَّةٌ وآلامٌ وأوجاعٌ، عدا ما يتطَلَّبُه الوليدُ من عنايةٍ، وكلُّ ذلك مانِعٌ من القيامِ بمهامِّ الرِّسالةِ.