الفَرْعُ الأوَّلُ: الذَّبحُ والنَّذْرُ
الذَّبحُ أو النَّذْرُ لغَيرِ اللهِ تعالى شِرْكٌ باللهِ تعالى؛ لأنَّهما عبادتانِ يجِبُ صَرْفُهما لله تعالى وَحْدَه، فمن صرَفَهما لغيرِه فقد أشرك، والذين يَنحَرون أو يَنذِرون لغيرِ اللهِ تعالى، سواءٌ كان للأمواتِ، أو للجِنٍّ، أو للمَلائكةِ، أو لغيرِهم، إنَّما يفَعلون ذلك عن اعتقادٍ باطلٍ، فيعتَقِدون أنَّها تجلِبُ النَّفعَ أو تدفَعُ الضُّرَّ، ومنهم من يُقَدِّمُ تلك النَّحائِرَ والنُّذورَ إلى هذه المعبوداتِ مِن أجلِ أن تُقَرِّبَهم عند اللهِ زُلفى.
قال اللهُ تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 3] .
قال
البَغَوي: (
وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، أي: ما ذُبِح للأصنامِ والطَّواغيتِ، وأصلُ الإهلالِ رَفعُ الصَّوتِ؛ لأنَّ المُشْرِكين كانوا إذا ذَبَحوا لآلهتِهم شيئًا يَرفَعون أصواتَهم بذِكْرِها، فجرى ذلك من أمْرِهم حتى قِيلَ لكُلِّ ذابِحٍ، وإنْ لم يجهَرْ بالتسميةِ: مُهِلٌّ)
[1853] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/201). .
وقال ابنُ عَطِيَّةَ في تفسيرِ قَولِه تعالى:
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: (يعني ما ذُبِحَ لغَيرِ اللهِ تعالى، وقُصِدَ به صَنَمٌ أو بشَرٌ مِنَ النَّاسِ، كما كانت العَرَبُ تَفعَلُ، وكذلك النصارى، وعادةُ الذَّابِحِ أن يُسَمِّيَ مَقصودَه ويَصيحَ به، فذلك إهلالُه)
[1854] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/ 150). .
وقال
الرَّازي في تفسيرِ قَولِه تعالى:
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: 173] : (قال العُلَماءُ: لو أنَّ مُسلِمًا ذبح ذبيحةً، وقَصَد بذَبْحِها التقَرُّبَ إلى غيرِ اللهِ، صار مُرتدًّا، وذبيحَتُه ذَبيحةَ مُرتَدٍّ)
[1855] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) (5/ 192). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (قَولُه تعالى:
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: 3] ظاهِرُه أنَّه ما ذُبِحَ لغَيرِ اللهِ، مثِلُ أن يُقالَ: هذا ذبيحةٌ لكذا، وإذا كان هذا هو المقصودَ، فسَواءٌ لُفِظَ به أو لم يُلفَظْ، وتحريمُ هذا أظهَرُ من تحريمِ ما ذبحه للَّحْمِ وقال فيه: باسمِ المسيحِ ونَحْوِه، كما أنَّ ما ذبَحْناه نحن متقَرِّبين به إلى اللهِ سُبحانَه، كان أزكى وأعظمَ ممَّا ذبَحْناه للَّحْمِ وقُلْنا عليه: باسمِ اللهِ، فإنَّ عبادةَ اللهِ سُبحانَه بالصَّلاةِ له والنُّسُكِ له أعظَمُ من الاستعانةِ باسمِه في فواتِحِ الأُمورِ، فكذلك الشِّركُ بالصَّلاةِ لغَيرِه والنُّسُكِ لغَيِره أعظَمُ من الاستعانةِ باسمِه في فواتِحِ الأُمورِ، فإذا حَرُمَ ما قيل فيه: باسمِ المسيحِ أو الزهْرةِ، فلَأَنْ يَحرُمَ ما قيل فيه: لأجْلِ المسيحِ والزهرةِ أو قُصِدَ به ذلك، أَولى، وهذا يُبَيِّنُ لك ضَعْفَ قَولِ من حَرَّم ما ذُبِحَ باسمِ غيرِ اللهِ، ولم يُحَرِّمْ ما ذُبِح لغير الله، كما قاله طائفةٌ من أصحابِنا وغَيرِهم، بل لو قيل بالعَكْسِ لكان أوجَهَ؛ فإنَّ العبادةَ لغيرِ الله أعظَمُ كُفرًا من الاستعانةِ بغيرِ الله، وعلى هذا فلو ذَبَح لغيرِ الله مُتقَرِّبًا به إليه لحَرُم، وإن قال فيه: باسمِ اللهِ، كما قد يفعلُه طائفةٌ من منافِقي هذه الأمَّةِ الذين قد يتقَرَّبون إلى الكواكِبِ بالذَّبحِ والبُخورِ ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتَدِّين لا تُباحُ ذبيحتُهم بحالٍ، لكِنْ يجتَمِعُ في الذَّبيحةِ مانعانِ)
[1856] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 64). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه تعالى:
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال مجاهِدٌ وابنُ جُرَيجٍ: كانت النُّصُبُ حِجارةً حولَ الكَعْبةِ، قال ابنُ جُرَيجٍ: وهي ثلاثمائةٍ وسِتُّون نُصُبًا،... فنهى اللهُ المؤمنين عن هذا الصَّنيعِ، وحَرَّم عليهم أكْلَ هذه الذَّبائحِ التي فُعِلَت عند النُّصُبِ، حتى ولو كان يَذكُرُ عليها اسمَ اللهِ في الذَّبحِ عند النُّصُبِ، فهو من الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ ورَسولُه)
[1857] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 23). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (قَولُه تعالى:
ذَلِكُمْ فِسْقٌ إشارةٌ إلى الاستقسامِ بالأزلامِ، أو إلى جميعِ المحَرَّماتِ المذكورةِ هنا، والفِسقُ: الخروجُ عن الحَدِّ،... وفي هذا وعيدٌ شديدٌ؛ لأنَّ الفِسقَ هو أشدُّ الكُفْرِ، لا ما وقَعَ عليه اصطلاحُ قَومٍ مِن أنَّه منزلةٌ متوسِّطةٌ بين الإيمانِ والكُفْرِ)
[1858] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 13). .
وقال اللهُ تعالى:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] .
قال مُحَمَّدُ بنُ كَعبٍ في قَولِه تعالى:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ: (إنَّ ناسًا كانوا يُصَلُّون لغيرِ اللهِ، ويَنحَرونَ لغيرِ اللهِ، فإذا أعطيناك الكوثَرَ -يا مُحَمَّدُ- فلا تكُنْ صَلاتُك ونَحْرُك إلَّا لي)
[1859] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/695). .
قال
ابنُ جريرٍ: (إنَّا أعطَيناك -يا مُحَمَّدُ- الكوثَرَ، إنعامًا منَّا عليك به، وتَكرمةً مِنَّا لك؛ فأخلِصْ لرَبِّك العِبادةَ، وأفرِدْ له صلاتَك ونُسُكَك، خلافًا لِما يفعَلُه مَن كَفَر به، وعَبَد غَيْرَه، ونَحَر للأوثانِ)
[1860] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/697). .
وقال ابنُ بطَّالٍ: (قَولُه تعالى:
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة: 185] ... كانت الجاهِليَّةُ تَذبَحُ لطواغيتِها ونُصُبِها، فجُعِلَ التكبيرُ استشعارًا للذَّبحِ لله تعالى؛ حتى لا يُذكَرَ في أيَّامِ الذَّبحِ غَيرُه، ومعنى اشتراطِ التسميةِ على الذَّبحِ لئَلَّا يُذكَرَ غَيرُه، ويُعلِنَ بذِكْرِه حتى تُنسى عبادةُ الجاهِليَّةِ)
[1861] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (2/564). .
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ما كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسِرُّ إلَيَّ شيئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ، غيرَ أنَّهُ قدْ حدَّثَني بكَلِمَاتٍ أَرْبَعٍ، قالَ: فَقالَ: ما هُنَّ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قالَ: قالَ:
((لَعَنَ اللَّهُ مَن لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَن آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأرْضِ)) [1862] أخرجه مسلم (1978). .
والذين يَنذِرون أو يَذبَحون لغيرِ اللهِ تعالى، إنَّما يفعَلون ذلك عن اعتقادٍ بأنَّها تجلِبُ النَّفعَ أو تدفَعُ الضُّرَّ.
وقال
الصَّنعاني: (فإن قال: إنما نحَرْتُ لله، وذكَرْتُ اسمَ اللهِ عليه، فقُلْ: إنْ كان النَّحرُ للهِ فلأيِّ شَيءٍ قَرَّبْتَ ما تنحَرُه من بابِ مَشهَدِ من تُفَضِّلُه وتعتَقِدُ فيه؟ هل أردْتَ بذلك تعظيمَه؟ إن قال: نعم، فقُلْ له: هذا النَّحرُ لغيرِ اللهِ، بل أشرَكْتَ مع اللهِ تعالى غيرَه، وإن لم تُرِدْ تعظيمَه، فهل أرَدْتَ توسيخَ بابِ المشهَدِ وتنجيسَ الدَّاخلينَ إليه؟ أنت تعلَمُ يقينًا أنَّك ما أرَدْتَ ذلك أصلًا، ولا أرَدْتَ إلَّا الأوَّلَ، ولا خرَجْتَ من بيتِك إلَّا قَصْدًا له)
[1863] يُنظر: ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 63). .
وقال أيضًا: (فإن قُلْتَ: هذه النُّذورُ والنَّحائِرُ ما حُكمُها؟ قلت: قد عَلِمَ كُلُّ عاقلٍ أنَّ الأموالَ عزيزةٌ عند أهلِها، يَسْعَون في جمعِها، ولو بارتكابِ كُلِّ مَعصيةٍ، ويقطعون الفيافيَ مِن أدنى الأرضِ والأقاصي، فلا يبذُلُ أحدٌ مِن مالِه شيئًا إلَّا معتَقِدًا لجَلْبِ نَفعٍ أكثَرَ منه، أو دَفعِ ضَرَرٍ، فالنَّاذِرُ للقَبرِ ما أخرج مالَه إلَّا لذلك، وهذا اعتقادٌ باطِلٌ، ولو عرف النَّاذِرُ بُطلانَ ما أراده، ما أخرَجَ درهمًا)
[1864] يُنظر: ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 74). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (قَولُه:
((لعن اللهُ من ذَبَح لغيرِ اللهِ)) المرادُ به أن يَذبَحَ لغيرِ اللهِ تعالى؛ كمن ذَبَح للصَّنَمِ، أو الصَّليبِ، أو لموسى أو لعيسى عليهما السَّلامُ، أو للكعبةِ، ونحوِ ذلك، فكُلُّ هذا حرامٌ، ولا تحِلُّ هذه الذَّبيحةُ، سواءٌ كان الذَّابِحُ مُسلِمًا أو كافرًا، وإليه ذهب
الشَّافعيُّ وأصحابُه، فإنْ قَصَد مع ذلك تعظيمَ المذبوحِ له غيرِ اللهِ تعالى والعبادةَ له، كان ذلك كُفرًا، فإن كان الذَّابحُ مُسلِمًا قبل ذلك صار بالذَّبحِ مُرتَدًّا)
[1865] يُنظر: ((نيل الأوطار)) (8/ 158). .
وقال أيضًا: (وكذلك النَّحرُ للأمواتِ عِبادةٌ لهم، والنَّذرُ لهم بجُزءٍ مِن المالِ عبادةٌ لهم، والتعظيمُ عبادةٌ لهم، كما أنَّ النَّحرَ للنُّسُكِ، وإخراجَ صَدَقةِ المالِ، والخُضوعَ والاستكانةَ: عبادةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بلا خِلافٍ، ومن زعم أنَّ ثَمَّ فَرْقًا بين الأمرينِ فلْيُهْدِه إلينا، ومن قال: إنَّه لم يقصِدْ بدُعاءِ الأمواتِ والنَّحرِ لهم والنَّذرِ لهم عبادَتَهم، فقُلْ له: فلأيِّ مُقتضًى صَنَعْتَ هذا الصُّنعَ؟ فإنَّ دُعاءَك للمَيِّتِ عند نُزولِ أمرٍ بك لا يكونُ إلَّا لشيءٍ في قَلْبِك عَبَّرَ عنه لسانُك، فإن كنتَ تَهْذِي بذِكْرِ الأمواتِ عند عَرْضِ الحاجات من دونِ اعتقادٍ منك لهم، فأنت مصابٌ بعَقْلِك، وهكذا إنْ كُنتَ تنحَرُ لله، وتَنذِرُ لله، فلأيِّ معنًى جعَلْتَ ذلك للمَيِّتِ وحَمَلْتَه إلى قبرِه؟! فإنَّ الفُقراءَ على ظَهرِ البَسيطةِ في كُلِّ بُقعةٍ من بقاعِ الأرضِ، وفِعْلُك وأنت عاقِلٌ لا يكونُ إلَّا لمقصَدٍ قد قصَدْتَه، أو أمرٍ قد أرَدْتَه)
[1866] يُنظر: ((الدر النضيد)) (ص: 56). .
وجاء في كتاب (التَّوضيح عن توحيدِ الخَلَّاق)
[1867] اشترك في تأليف هذا الكِتابِ كُلٌّ من: عبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ بن عبدِ الوهَّابِ، وحمدِ بنِ مَعمَر، ومحمَّدِ بن غريبٍ. انظر للتحقيق في هذا التوثيق كتاب: ((دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) لعبد العزيز آل عبد اللطيف (59). كونُ النَّذرِ لغَيرِ الله تعالى من الشِّركِ الاعتقاديِّ، قائلًا: (النَّذرُ لغَيرِ اللهِ، ولأجْلِه عُقِدَت الترجمةُ، كالنَّذرِ لإبراهيمَ الخليلِ، أو مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأمِّيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أو الشَّيخ عبدِ القادِرِ، أو الخَضِرِ، أو لملَكٍ من الملائكةِ أو جِنِّي أو شَجرةٍ، فلا خِلافَ بين من يُعتَدُّ به من عُلَماء المُسلِمين أنَّه من الشِّركِ الاعتقاديِّ؛ لأنَّ الناذِرَ لم يَنذِرْ هذا النَّذرَ الذي لغَيرِ الله إلَّا لاعتقادِه في المنذورِ له أنَّه يَضُرُّ وينفَعُ، ويُعطي ويمنَعُ؛ إمَّا بطَبْعِه، وإمَّا بقُوَّةِ السَّبَبيَّة فيه، ويجلِبُ الخَيرَ والبركةَ ويدفَعُ الشَّرَّ والعُسْرة، والدَّليلُ على اعتقادِ هؤلاء النَّاذرين وشِرْكِهم حَكْيُهم وقَولُهم: إنَّهم قد وقَعوا في شدائِدَ عظيمةٍ، فنَذَروا نذرًا لفلانٍ، وفلانٍ… فانكشَفَت شدائدُهم، واستراحت خواطِرُهم!... وقد قام بنفوسِهم أنَّ هذه النُّذورَ هي السَّبَبُ في حُصولِ مَطلوبِهم، ودَفْعِ مَرهوبِهم، ومن تأمَّل القُرآنَ وسُنَّةَ المبعوثِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونظر أحوالَ السَّلَفِ الصَّالحِ، عَلِمَ أنَّ هذا النَّذرَ نظيرُ ما جعلَتْه المُشْرِكون لآلهتِهم، في قَولِه تعالى:
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام: 136] ، وقَولِه:
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ)
[1868] يُنظر: ((التوضيح عن توحيدِ الخَلَّاق)) (ص: 382). يُنظر: ((فتح المنان تتمة منهاج التأسيس)) لمحمود الألوسي (ص: 233). .
وقال مُباركٌ المِيليُّ: (إنَّ كُلَّ من خالط العامَّةَ يجزِمُ بأنَّ قَصْدَهم بها أي: بذبائِحِ الزردةِ
[1869] هكذا تُسَمَّى الذَّبائِحُ التي ذُبِحت لغَيرِ اللهِ باسمِ "الزَّردة" أو "النُّشرة" في بعضِ جِهاتِ الجزائر، بينما يُسَمُّون ما يَنذِرون لغير الله بالغفارةِ. انظر: ((رسالة الشرك ومظاهره)) لمبارك الميلي (ص: 376، 398)، وفي اليمن كانوا يُسَمُّون تلك الذَّبائِحَ بالجَلبةِ، وأمَّا النُّذورُ فيُطلِقون عليها "التَّلم". يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/ 448)، ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني (ص: 68). التقَرُّبُ من صاحِبِ المزارِ، ويكشِفُ عن ذلك أشياءُ:
أحَدُها: أنَّهم يُضيفونَ الزردةَ إلى صاحِبِ المزارِ، فيقولون: زردةُ سَيِّدي فلان، أو طعامُ سَيِّدي عبد القادِرِ مثلًا.
ثانيها: أنَّهم يَفعلونَها عند قَبْرِه، وفي جوارِه، ولا يَرْضَون لها مكانًا آخَرَ.
ثالثُها: أنَّهم إن نزل المطَرُ إِثْرَها نَسَبوه إلى سِرِّ المذبوحِ له، وقَوِيَ اعتقادُهم فيه، وتعويلُهم عليه.
رابِعُها: أنَّهم إن نُهُوا عن فِعْلِها في المكانِ الخاصِّ، غَضِبوا ورَمَوُا النَّاهِيَ بضَعفِ الدِّينِ أو بالإلحادِ، وقد يجاوِزون الجَهْرَ بالسُّوءِ مِن القَولِ إلى مَدِّ الأيدي بالإذايةِ.
خامِسُها: أنَّهم لو تَرَكوها فأصيبوا بمصيبةٍ نُكِسوا على رُؤوسِهم، وقالوا: إنَّ وَلِيَّهم غَضِبَ عليهم؛ لتقصيرِهم في جانِبِه)
[1870] يُنظر: ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص: 380). .
وينبغي عَدَمُ الخَلْطِ بين ما يُذبَحُ لغيرِ اللهِ تعالى تقرُّبًا أو تعظيمًا، فهذا من بابِ العِباداتِ والقُرُباتِ، وبين ما يُذبَحُ عادةً بقَصْدِ الأكلِ أو إكرامِ ضَيفٍ ونَحوِهما.
قال الرَّافعيُّ: (اعلَمْ أنَّ الذَّبحَ للمعبودِ وباسمِه نازِلٌ مَنزِلةَ السُّجودِ له، وكُلُّ واحدٍ منهما نوعٌ من أنواعِ التعظيمِ والعبادةِ المخصوصةِ باللهِ تعالى، الذي هو المستَحِقُّ للعبادةِ؛ فمن ذبح لغيرِه من حيوانٍ، أو جمادٍ كالصَّنَمِ، على وَجهِ التعظيمِ والعبادةِ- لم تحِلَّ ذبيحتُه، وكان ما يأتي به كُفرًا، كمن سجد لغَيرِه سَجدةَ عبادةٍ، وكذا لو ذَبَح له ولغيرِه على هذا الوَجْهِ)
[1871] يُنظر: ((العزيز شرح الوجيز)) (12/84). .
وقال
النَّووي: (ذَكَر الشَّيخُ إبراهيمُ المروزيُّ من أصحابِنا أنَّ ما يُذبَحُ عند استقبالِ السُّلطانِ تقَرُّبًا إليه، أفتى أهلُ بخارى بتحريمِه؛ لأنَّه ممَّا أُهِلَّ به لغيرِ الله تعالى، قال الرافعي: هذا إنما يَذبَحونَه استبشارًا بقُدومِه، كذَبحِ العقيقةِ لوِلادةِ المولودِ، ومِثلُ هذا لا يوجِبُ التحريمَ. واللهُ أعلَمُ)
[1872] يُنظر: ((شرح مسلم)) (13/141). ويُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (3/205). .
قال مبارك الميلي مُعَلِّقًا: (نقله عن الرَّافعي غيرَ مخالفٍ لفتوى أهلِ بخارى إلَّا بالقَصْدِ، فهو خِلافٌ في حالٍ، فمن قَصَد التقَرُّبَ إلى الأميرِ، صَدَقَت عليه الفتوى، ومن قَصَد مجرَّدَ السُّرورِ أُفتِيَ له بقولِ الرَّافعي)
[1873] يُنظر: ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص: 373). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ الله بن مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ: (إن كانوا يَذبَحونَه استبشارًا كما ذكر الرافعيُّ، فلا يدخُلُ في ذلك، وإن كانوا يَذبَحونَه تقربًا إليه فهو داخِلٌ في الحديثِ يعني حديثَ
((لَعَن اللهُ من ذَبَح لغيرِ اللهِ)) [1874] أخرجه مسلم (1978) مطولاً من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. [1875] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 155). وقد أشار الشاطبي إلى هذا التفريق. يُنظر: ((الموافقات)) (2/345 - 349). .
كما يجِبُ التفريقُ بين النَّذرِ الشِّركيِّ المُخرِجِ مِن الملَّةِ، وبين نَذرِ المعصيةِ فيما دونَ ذلك.
جاء في كتابِ (التَّوضيح عن توحيدِ الخَلَّاق): (النَّذرُ غيرُ الجائِزِ قِسمانِ:
أحَدُهما: نَذْرُ فِعلِ مَعصيةٍ، كشُربِ خَمرٍ، وقَتلِ معصومٍ،... فيَحرُمُ الوفاءُ به؛ لقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من نذر أن يَعصِيَ اللهَ فلا يَعْصِه)) [1876] أخرجه البخاري (6696) باختلاف يسير من حديث عائشة رضي الله عنها. ، ولأنَّ معصيةَ اللهِ تبارك وتعالى لا تباحُ في حالٍ مِن الأحوالِ...
الثَّاني: النَّذرُ لغَيرِ اللهِ تعالى... كالنَّذرِ لإبراهيمَ الخَليلِ، أو مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأمِّيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أو الشَّيخِ عبد القادِرِ، أو الخَضِرِ، أو لملَكٍ من الملائكةِ أو جِنِّيٍّ أو شجرةٍ، فلا خلافَ بين من يُعتَدُّ به من عُلَماء المُسلِمين أنَّه من الشِّركِ الاعتقاديِّ)
[1877] يُنظر: ((التوضيح عن توحيدِ الخَلَّاق)) لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وآخَرِين (ص: 282). .
وكَتَب
مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ جوابًا في الرَّدِّ على ابنِ سُحَيمٍ حين زعم أنَّ النَّذرَ لغيرِ اللهِ حرامٌ وليس بشِرْكٍ، فقال:
(فدليلُك قَولُهم: إنَّ النَّذرَ لغيرِ اللهِ حرامٌ بالإجماعِ، فاستدلَلْتَ بقَولِهم: حرامٌ، على أنَّه ليس بشِركٍ، فإن كان هذا قَدْرَ عَقْلِك، فكيف تدَّعي المعرفةَ؟! يا وَيْلَكَ! ما تصنَعُ بقَولِ اللهِ تعالى:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] ، فهذا يدُلُّ على أنَّ الشِّركَ حرامٌ ليس بكُفرٍ؟! يا هذا الجاهِلُ الجَهلَ المركَّبَ، ما تصنَعُ بقَولِ اللهِ تعالى:
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف: 33] إلى قَولِه:
وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [الأعراف: 33] ؟! هل يدُلُّ هذا التحريمُ على أنَّه لا يَكفُرُ صاحِبُه؟ يا وَيْلَكَ! في أيِّ كتابٍ وَجَدْتَه إذا قيل لك: هذا حرامٌ، إنَّه ليس بكُفرٍ؟ فقَولُك: إنَّ ظاهِرَ كلامِهم أنَّه ليس بكُفرٍ- كَذِبٌ وافتراءٌ على أهل العِلمِ، بل يُقالُ: ذُكِرَ أنَّه حرامٌ، وأمَّا كَونُه كُفرًا فيحتاجُ إلى دليلٍ آخَرَ، والدَّليلُ عليه أنَّه صَرَّح في (الإقناع) أنَّ النَّذرَ عِبادةٌ، ومعلومٌ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ معناها: لا يُعبَدُ إلَّا اللهُ، فإذا كان النَّذرُ عِبادةٌ، وجعَلْتَها لغيرِه، كيف لا يكونُ شِرْكًا؟!)
[1878] يُنظر: ((الرسائل الشخصية)) (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء السادس) (ص: 231). .
وأورد
مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ قاعدةً مُهِمَّةً أثناء جوابِه على من ادَّعى أنَّ الذَّبحَ للجِنِّ منهيٌّ عنه، فهو معصيةٌ وليس رِدَّةً، فقال: (قَولُه: الذَّبحُ للجِنِّ مَنهيٌّ عنه، فاعرِفْ قاعدةً أهملها أهلُ زمانِك، وهي أنَّ لفظَ «التحريمِ» و«الكراهةِ» وقولَه: «لا ينبغي» ألفاظٌ عامَّةٌ تُستعمَلُ في المكَفِّرات والمحَرَّماتِ التي هي دونَ الكُفْرِ، وفي كراهةِ التنزيهِ التي هي دونَ الحَرامِ، مِثلُ استعمالِها في المكَفِّراتِ قَولُه: لا إله إلَّا الذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له
[1879] قال ابنُ القَيِّم: "إنما تجيءُ "لا ينبغي" في كلامِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، للذي هو في غايةِ الامتناعِ شَرعًا". يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 179). ويُنظر: ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص: 21). ، وقَولُه:
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 92] ، ولفظُ التحريمِ مِثلُ قَولِه تعالى:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام: 151] ، وكلامُ العُلَماء لا ينحَصِرُ في قَولِهم: (يَحرُمُ كذا) لِما صَرَّحوا في مواضِعَ أُخَرَ أنَّه كُفرٌ، وقَولُهم: (يُكْرَهُ) كقَولِه تعالى:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] إلى قَولِه:
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38] ، وأمَّا كلامُ
الإمامِ أحمدَ في قَولِه: «أكرَهُ كذا» فهو عند أصحابِه على التحريمِ.
إذا فَهِمْتَ هذا فهُمْ صَرَّحوا أنَّ الذَّبحَ للجِنِّ رِدَّةٌ تُخرِجُ
[1880] أي: تُخرِجُ من المِلَّةِ. ، وقالوا: الذَّبيحةُ حَرامٌ ولو سُمِّيَ عليها، قالوا: لأنَّها يجتَمِعُ فيها مانعان:
الأوَّلُ: أنَّها مما أهِلَّ به لغيرِ الله.
و
الثَّاني: أنَّها ذبيحةُ مُرتَدٍّ، والمرتَدُّ لا تحِلُّ ذبيحتُه، وإن ذبَحَها للأكلِ وسَمَّى عليها)
[1881] يُنظر: ((فتاوى ومسائل)) (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الرابع) (ص: 66). ويُنظر: ((منهاج التأسيس)) لعبد اللطيف آل الشيخ (ص: 239، 245). .