المَبحَثُ الثَّاني: شِرْكُ التَّشريعِ والحُكمُ بغيرِ ما أنزل اللهُ
التشريعُ والتحليلُ والتحريمُ: مِن خصائِصِ اللهِ تعالى، فهو حَقٌّ خالِصٌ لله وَحْدَه لا شريكَ له؛ فالحلالُ ما أحَلَّه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والحرامُ ما حَرَّمه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والدِّينُ ما شَرَعه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فمن شرع من دونِ اللهِ، أو ألزم النَّاسَ بغيرِ شَرْعِ اللهِ، فقد نازع اللهَ فيما اختَصَّ به سُبحانَه وتعالى، وتعدَّى على حَقٍّ مِن حقوقِه، ورفَضَ شريعةَ اللهِ؛ فهذا العَمَلُ شِرْكٌ بالله تعالى، وصاحِبُه مُشْرِكٌ ضالٌّ ضلالًا بعيدًا.
قال اللهُ تعالى حكايةً عن قولِ يوسفَ عليه السَّلام لصاحبيْه في السِّجنِ:
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 40] .
قال
البَغَوي: (
إِنِ الْحُكْمُ ما القَضاءُ والأمرُ والنَّهيُ
إِلَّا لِلَّهِ)
[2037] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 493). .
وقال
ابنُ كثير: (أخبَرَهم أنَّ الحُكمَ والتصَرُّفَ والمشيئةَ والمُلْكَ: كُلُّه للهِ، وقد أمر عبادَه قاطبةً ألَّا يَعبُدوا إلَّا إيَّاه، ثم قال: ذلك الدِّينُ القَيِّمُ، أي: هذا الذي أدعوكم إليه من توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العَمَلِ له، هو الدِّينُ المستقيمُ الذي أمر اللهُ به، وأنزل به الحُجَّةَ والبُرهانَ الذي يحبُّه ويَرْضاه،
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أي: فلهذا كان أكثَرُهم مُشْرِكين
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] )
[2038] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 390). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (دَلَّ القُرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ على أنَّه لا حُكمَ لغيرِ اللهِ، وأنَّ اتِّباعَ تشريعِ غَيرِه كُفرٌ به)
[2039] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 48). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (يُفهَمُ مِن هذه الآياتِ، كقَولِه:
وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا أنَّ مُتَّبِعي أحكامِ المُشَرِّعين غيرَ ما شرعه اللهُ؛ أنَّهم مُشْرِكون بالله، وهذا المفهومُ جاء مُبَيَّنًا في آياتٍ أُخَرَ، كقَولِه فيمن اتَّبَع تشريعَ
الشَّيطانِ في إباحةِ الميتةِ بدعوى أنَّها ذبيحةُ اللهِ:
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] ، فصَرَّح بأنَّهم مُشْرِكون بطاعتِهم، وهذا الإشراكُ في الطَّاعةِ، واتِّباعُ التشريعِ المخالِفِ لِما شرَعه اللهُ تعالى: هو المرادُ بعبادةِ
الشَّيطانِ في قَولِه تعالى:
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60، 61]، وقَولِه تعالى عن نبيِّه إبراهيمَ:
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم: 44]، وقَولِه تعالى:
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء: 117] ، أي: ما يَعبُدون إلَّا شيطانًا، أي: وذلك باتِّباعِ تشريعِه، ولذا سَمَّى اللهُ تعالى الذين يُطاعُون فيما زَيَّنوا من المعاصي شُرَكاءَ، في قَولِه تعالى:
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ الآية)
[2040] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/ 259). .
وقال اللهُ تعالى:
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] .
قال
السَّعديُّ: (يخبِرُ تعالى أنَّ المُشْرِكين اتَّخَذوا شُرَكاءَ يُوالونَهم ويَشترِكون هم وإيَّاهم في الكُفْرِ وأعمالِه، من شياطينِ الإنسِ، الدُّعاةِ إلى الكُفْرِ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنَ الشِّركِ والبِدَعِ، وتحريمِ ما أحَلَّ اللهُ، وتحليلِ ما حَرَّم اللهُ، ونحو ذلك مِمَّا اقتضَتْه أهواؤُهم، مع أنَّ الدِّين لا يكونُ إلَّا ما شرَعَه اللهُ تعالى؛ لِيَدينَ به العبادُ ويتقَرَّبوا به إليه، فالأصلُ الحَجْرُ على كُلِّ أحدٍ أن يَشرَعَ شيئًا ما جاء عن اللهِ وعن رَسولِه، فكيف بهؤلاء الفَسَقةِ المُشتركين هم وآباؤهم على الكُفْرِ؟)
[2041] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 757). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ الحُكمَ بغيرِ ما أنزل اللهُ يتناوَلُ الكُفْرينِ؛ الأصغَرَ والأكبَرَ، بحسَبِ حالِ الحاكِمِ؛ فإنَّه إن اعتقد وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ في هذه الواقعةِ، وعَدَل عنه عصيانًا، مع اعترافِه بأنَّه مُستحِقٌّ للعقوبةِ؛ فهذا كُفرٌ أصغَرُ، وإن اعتقد أنَّه غيرُ واجبٍ، وأنَّه مُخيَّرٌ فيه، مع تيقُّنِه أنَّه حُكمُ اللهِ؛ فهذا كُفرٌ أكبَرُ، وإن جَهِلَه وأخطأَه فهذا مخطئٌ له حُكمُ المخطِئين)
[2042] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/346). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (هنا أمرٌ يجِبُ أن يُتفطَّن له، وهو أنَّ الحُكمَ بغيرِ ما أنزل اللهُ قد يكون كُفرًا ينقُل عن الملَّةِ، وقد يكونُ مَعصيةً كبيرةً أو صغيرةً، ويكون كُفرًا إمَّا مجازيًّا، وإمَّا كُفرًا أصغَرَ، على القولينِ المذكورينِ، وذلك بحسَبِ حالِ الحاكمِ؛ فإنَّه إن اعتقد أنَّ الحُكمَ بما أنزل اللهُ غيرُ واجبٍ، وأنَّه مخيَّرٌ فيه، أو استهان به، مع تيقُّنِه أنَّه حُكمُ اللهِ؛ فهذا كُفرٌ أكبرُ، وإن اعتقد وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ، وعَلِمَه في هذه الواقعةِ، وعَدَل عنه، مع اعترافِه بأنَّه مُستحِقٌّ للعقوبةِ؛ فهذا عاصٍ، ويُسَمَّى كافرًا كُفرًا مجازيًّا أو كُفرًا أصغَرَ، وإن جَهِل حُكمَ اللهِ فيها، مع بَذْلِ جُهدِه واستفراغِ وُسعِه في معرفةِ الحُكمِ، وأخطَأَه؛ فهذا مخطئٌ، له أجرٌ على اجتهادِه، وخطؤُه مغفورٌ)
[2043] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 446). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (ليس لأحدٍ أن يَحكُمَ بين أحَدٍ مِن خَلْقِ اللهِ؛ لا بين المُسلِمين ولا الكُفَّارِ، ولا الفِتيانِ ولا رُماةِ البندُقِ، ولا الجيشِ، ولا الفُقراءِ، ولا غيرِ ذلك؛ إلَّا بحُكمِ اللهِ ورَسولِه، ومن ابتغى غيرَ ذلك تناوَلَه قَولُه تعالى:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] ، وقَولُه تعالى:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] ؛ فيَجِبُ على المُسلِمين أن يحكِّموا اللهَ ورَسولَه في كُلِّ ما شجر بينهم)
[2044] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/407). .
وقال أيضًا: (وَلِيُّ الأمرِ إن عرف ما جاء به الكِتابُ والسُّنَّة حكَمَ بين النَّاسِ به، وإن لم يَعرِفْه وأمكَنَه أن يعلَمَ ما يقولُ هذا وما يقولُ هذا، حتى يَعرِفَ الحَقَّ؛ حَكَم به، وإن لم يمكِنْه لا هذا ولا هذا، ترك المُسلِمين على ما هم عليه، كُلٌّ يَعبُدُ اللهَ على حَسَبِ اجتهادِه، وليس له أن يُلزِمَ أحدًا بقَبولِ قَولِ غيرِه، وإن كان حاكِمًا، وإذا خرج ولاةُ الأمورِ عن هذا فقد حَكَموا بغيرِ ما أنزل الله، ووقع بأسُهم بينهم؛... وهذا من أعظَمِ أسبابِ تغييرِ الدُّوَلِ، كما قد جرى مِثلُ هذا مرَّةً بعدَ مَرَّةٍ في زمانِنا وغيرِ زماننا.
ومن أراد اللهُ سعادتَه جَعَله يعتبِرُ بما أصاب غيرَه، فيَسلُكُ مَسْلَكَ من أيَّده اللهُ ونَصَره، ويجتَنِبُ مَسلَكَ من خذَلَه اللهُ وأهانه؛ فإنَّ اللهَ يقولُ في كِتابِه:
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40-41] .
فقد وَعَد اللهُ بنصرِ من يَنصُرُه، ونَصْرُه هو نَصْرُ كِتابه ودينِه ورَسولِه، لا نَصْرُ من يحكُمُ بغيرِ ما أنزل اللهُ، ويتكَلَّمُ بما لا يعلَمُ؛ فإنَّ الحاكِمَ إذا كان ديِّنًا لكِنَّه حَكَم بغيرِ عِلمٍ، كان من أهلِ النَّارِ، وإن كان عالِمًا لكِنَّه حَكَم بخلافِ الحَقِّ الذي يعلَمُه، كان من أهلِ النَّارِ، وإذا حَكَم بلا عَدلٍ ولا علمٍ، كان أَولى أن يكونَ من أهلِ النَّارِ.
وهذا إذا حَكَم في قضيَّةٍ مُعَيَّنةٍ لشَخصٍ، وأمَّا إذا حكم حُكمًا عامًّا في دين المُسلِمين، فجعل الحقَّ باطلًا والباطِلَ حقًّا، والسُّنَّةَ بِدْعةً والبِدْعةَ سُنَّةً، والمعروفَ مُنكَرًا والمنكَرَ معروفًا، ونهى عمَّا أمر اللهُ به ورَسولُه؛ فهذا لونٌ آخَرُ، يحكُمُ فيه رَبُّ العالَمين، وإلهُ المُرسَلين، مـالِكُ يومِ الدِّينِ، الذي
لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون [القصص:70] ،
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28] )
[2045] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/387). .
أقوالُ العُلَماءِ في التشريعِ العامِّ:1- قال
الماوَرديُّ في ذِكرِ أوَّلِ ما يلزَمُ الحاكِمَ المُسلِمَ مِن الأمورِ العامَّةِ: (حِفظُ الدِّينِ على أُصولِه المستَقِرَّةِ، وما أجمع عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، فإنْ نَجَم مبتَدِعٌ أو زاغ ذو شُبهةٍ عنه، أوضَحَ له الحُجَّةَ، وبَيَّنَ له الصَّوابَ، وأخَذَه بما يَلزَمُه من الحقوقِ والحدودِ؛ ليكونَ الدِّينُ محروسًا من خَلَلٍ، والأمَّةُ ممنوعةً من زَلَلٍ)
[2046] يُنظر: ((الأحكام السلطانية)) (1/40). .
2- قال
ابنُ حزمٍ: (لا خِلافَ بين اثنينِ مِن المُسلِمينَ ... أنَّ من حَكَم بحُكمِ الإنجيلِ مِمَّا لم يأتِ بالنَّصِّ عليه وَحيٌ في شريعةِ الإسلامِ، فإنَّه كافِرٌ مُشْرِكٌ خارجٌ عن الإسلامِ)
[2047] يُنظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) (5/173). .
3- قال
ابنُ تَيميَّةَ: (نُسَخُ هذه التَّوراة مُبَدَّلةٌ لا يجوزُ العَمَلُ بما فيها، ومن عَمِلَ اليومَ بشرائعِها المبدَّلةِ والمنسوخةِ، فهو كافِرٌ)
[2048] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/200). .
4- قال
ابنُ القَيِّمِ: (قالوا: وقد جاء القرآنُ وصحَّ الإجماعُ بأنَّ دينَ الإسلامِ نَسَخَ كُلَّ دينٍ كان قَبْلَه، وأنَّ من التزم ما جاءت به التَّوراةُ والإنجيلُ ولم يتَّبِعِ القُرآنَ، فإنَّه كافِرٌ، وقد أبطل اللهُ كلَّ شريعةٍ كانت في التَّوراةِ والإنجيلِ وسائِرِ المِلَلِ، وافتَرَض على
الجِنِّ والإنسِ شرائِعَ الإسلامِ؛ فلا حَرامَ إلَّا ما حَرَّمه الإسلامُ، ولا فَرْضَ إلَّا ما أوجبه الإسلامُ)
[2049] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 533). .
5- قال
ابنُ كثيرٍ: (مَن تَرَك الشَّرعَ المحكَمَ المنزَّلَ على مُحَمَّدٍ خاتمِ الأنبياءِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتحاكَمَ إلى غيرِه من الشَّرائعِ المنسوخةِ؛ كَفَر، فكيف بمن تحاكَمَ إلى اليَاسقِ
[2050] (الياسق) ويقال: (الياسا): هي قوانينُ جنكيز خان التَّتاري الذي ألزم النَّاسَ بالتحاكُمِ إليها. يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/ 160). وقدَّمَها عليه؟! مَن فَعَل ذلك كَفَر بإجماعِ المُسلِمين؛ قال اللهُ تعالى:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] ، وقال تعالى:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] )
[2051] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (17/ 163). .
وقال أيضًا: (يُنكِرُ تعالى على من خرج عن حُكمِ اللهِ المحكَمِ المُشتَمِلِ على كُلِّ خيرٍ، النَّاهي عن كُلِّ شرٍّ، وعَدَل إلى ما سواه من الآراءِ والأهواءِ والاصطلاحاتِ التي وضعها الرِّجالُ بلا مُستنَدٍ من شريعةِ اللهِ، كما كان أهلُ الجاهليَّةِ يحكُمونَ به من الضَّلالاتِ والجَهالاتِ، مِمَّا يَضعونَها بآرائِهم وأهوائِهم، وكما يحكُمُ به التَّتارُ من السِّياساتِ المَلَكيَّةِ المأخوذةِ عن مَلِكِهم جَنْكزخان، الذي وضع لهم الياسقَ، وهو عبارةٌ عن كِتابٍ مجموعٍ مِن أحكامٍ قد اقتبسها عن شرائِعَ شَتَّى؛ من اليهوديَّةِ، والنصرانيَّةِ، والملَّةِ الإسلاميَّة، وفيها كثيرٌ من الأحكامِ أخذها من مجَرَّدِ نظَرِه وهواه، فصارت في بَنِيه شَرعًا مُتَّبَعًا، يُقَدِّمونَها على الحُكمِ بكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومن فَعَل ذلك منهم فهو كافرٌ يجِبُ قِتالُه حتى يرجِعَ إلى حُكمِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يُحكَّمُ سِواه في قليلٍ ولا كثيرٍ)
[2052] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/131). .
وقد وَصَف اللهُ الحاكِمينَ بغيرِ ما أنزل اللهُ بثلاثةِ أوصافٍ:فقال تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .
وقال سُبحانَه:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] .
وقال عَزَّ وجَلَّ:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] .
واختلف أهلُ العِلْمِ في ذلك:
فقيل: إنَّ هذه الأوصافَ لموصوفٍ واحدٍ؛ لأنَّ الكافِرَ ظالِمٌ؛ لقَولِه تعالى:
وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] ، وفاسِقٌ؛ لقَولِه تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة:20] ، أي: كَفَروا.
وقيل: إنَّها لموصوفَينِ مُتعدِّدينِ، وإنَّها على حَسَبِ الحُكمِ.
فيكونُ كافِرًا في ثلاثةِ أحوالٍ:1- إذا اعتقد جوازَ الحُكمِ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ، بدليلِ قَولِه تعالى:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [المائدة: 50] ، فكُلُّ ما خالف حُكمَ اللهِ، فهو من حُكمِ الجاهِليَّةِ، بدَليلِ الإجماعِ القَطعيِّ على أنَّه لا يجوزُ الحُكمُ بغيرِ ما أنزل اللهُ، فالمُحِلُّ للحُكمِ بغيرِ ما أنزل اللهُ مخالِفٌ لإجماعِ المُسلِمين القَطعيِّ، وهذا كافِرٌ مُرتَدٌّ، وذلك كمن اعتقد حِلَّ الزِّنا أو الخَمرِ، أو تحريمَ الخُبزِ أو اللَّبَنِ.
2- إذا اعتقد أنَّ حُكمَ غيرِ اللهِ مِثلُ حُكمِ اللهِ.
3- إذا اعَتَقد أنَّ حُكمَ غيرِ اللهِ أحسَنُ من حُكمِ اللهِ، بدليل قَولِه تعالى:
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائده: 50]، فتضَمَّنَت الآيةُ أنَّ حُكمَ اللهِ أحسَنُ الأحكامِ.
قال اللهُ مُقَرِّرًا ذلك:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] ، فإذا كان اللهُ أحسَنَ الحاكِمين أحكامًا، وهو أحكَمُ الحاكِمين؛ فمن ادَّعى أنَّ حُكْمَ غيرِ اللهِ مِثلُ حُكمِ اللهِ أو أحسَنُ، فهو كافِرٌ؛ لأنه مُكذِّبٌ للقُرآنِ.
ويكونُ ظالِمًا: إذا اعتقد أنَّ الحُكمَ بما أنزل اللهُ أحسَنُ الأحكامِ، وأنَّه أنفَعُ للعبادِ والبلادِ، وأنَّه الواجِبُ تطبيقُه، ولكِنْ حَمَله البُغضُ والحِقدُ للمحكومِ عليه حتى حَكَم بغير ما أنزل اللهُ، فهو ظالمٌ.
ويكونُ فاسقًا: إذا كان حُكْمُه بغيرِ ما أنزل اللهُ لهوًى في نَفْسِه، مع اعتقادِه أنَّ حُكْمَ اللهِ هو الحَقُّ، لكِنْ حَكَم بغيرِه لهوًى في نفسِه، أي: مَحبَّةً لِما حَكَم به، لا كراهيةً لحُكمِ اللهِ، ولا ليَضُرَّ أحدًا به، مِثلُ: أن يحكُمَ لشخصٍ؛ برِشوةٍ رُشِيَ إيَّاها، أو لكونِه قريبًا أو صديقًا، أو يطلُبَ من ورائِه حاجةً، وما أشبَهَ ذلك، مع اعتقادِه بأنَّ حُكْمَ اللهِ هو الأمثَلُ والواجِبُ اتِّباعُه، فهذا فاسِقٌ، وإن كان أيضًا ظالِمًا، لكِنْ وَصْفُ الفِسقِ في حَقِّه أَولى من وَصْفِ الظُّلمِ.
وقال
البَغَوي: (
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ قال قتادةُ والضَّحَّاكُ: نَزَلت هذه الآياتُ الثَّلاثُ في اليهودِ دونَ مَن أساء من هذه الأُمَّة. رُوِيَ عن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنه في قَولِه:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ والظَّالِمون والفاسِقونَ؛ كُلُّها في الكافرين، وقيل: هي على النَّاسِ كُلِّهم، وقال
ابنُ عبَّاسٍ وطاوسٌ: ليس بكُفرٍ يَنقُل عن الملَّةِ، بل إذا فعله فهو به كافِرٌ، وليس كمن كَفَر باللهِ واليومِ الآخِرِ، قال عَطاءٌ: هو كُفرٌ دونَ كُفرٍ، وظُلمٌ دونَ ظُلمٍ، وفِسقٌ دونَ فِسقٍ، وقال عِكْرمةُ معناه: ومن لم يحكُمْ بما أنزل الله جاحِدًا به، فقد كَفَر، ومن أقَرَّ به ولم يحكُمْ به، فهو ظالمٌ فاسِقٌ. وسُئِل عبدُ العزيز بن يحيى الكنانيُّ عن هذه الآياتِ، فقال: إنَّها تقعُ على جميعِ ما أنزل اللهُ لا على بَعْضِه، وكُلُّ من لم يحكُمْ بجميعِ ما أنزل اللهُ فهو كافِرٌ ظالمٌ فاسِقٌ، فأمَّا من حَكَم بما أنزل اللهُ من التَّوحيدِ وتَرْكِ الشِّركِ، ثمَّ لم يحكُمْ ببَعضِ ما أنزل اللهُ من الشَّرائِعِ لم يستوجِبْ حُكمَ هذه الآياتِ. وقال العُلَماءُ: هذا إذا رَدَّ نصَّ حُكْمِ اللهِ عِيانًا عَمْدًا، فأمَّا من خَفِيَ عليه أو أخطأ في تأويلٍ، فلا)
[2053] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 55). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ الحُكمَ بغيرِ ما أنزل اللهُ يتناوَلُ الكُفْرينِ؛ الأصغَرَ والأكبَرَ، بحسَبِ حالِ الحاكِمِ؛ فإنَّه إن اعتقد وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ في هذه الواقعةِ، وعَدَل عنه عصيانًا، مع اعترافِه بأنَّه مُستحِقٌّ للعقوبةِ؛ فهذا كُفرٌ أصغَرُ، وإن اعتقد أنَّه غيرُ واجبٍ، وأنَّه مُخيَّرٌ فيه، مع تيقُّنِه أنَّه حُكمُ اللهِ؛ فهذا كُفرٌ أكبَرُ، وإن جَهِلَه وأخطأَه فهذا مخطئٌ له حُكمُ المخطِئين)
[2054] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/346). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (هنا أمرٌ يجِبُ أن يُتفطَّن له، وهو أنَّ الحُكمَ بغيرِ ما أنزل اللهُ قد يكون كُفرًا ينقُل عن الملَّةِ، وقد يكونُ مَعصيةً كبيرةً أو صغيرةً، ويكون كُفرًا إمَّا مجازيًّا، وإمَّا كُفرًا أصغَرَ، على القولينِ المذكورينِ، وذلك بحسَبِ حالِ الحاكمِ؛ فإنَّه إن اعتقد أنَّ الحُكمَ بما أنزل اللهُ غيرُ واجبٍ، وأنَّه مخيَّرٌ فيه، أو استهان به، مع تيقُّنِه أنَّه حُكمُ اللهِ؛ فهذا كُفرٌ أكبرُ، وإن اعتقد وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ، وعَلِمَه في هذه الواقعةِ، وعَدَل عنه، مع اعترافِه بأنَّه مُستحِقٌّ للعقوبةِ؛ فهذا عاصٍ، ويُسَمَّى كافرًا كُفرًا مجازيًّا أو كُفرًا أصغَرَ، وإن جَهِل حُكمَ اللهِ فيها، مع بَذْلِ جُهدِه واستفراغِ وُسعِه في معرفةِ الحُكمِ، وأخطَأَه؛ فهذا مخطئٌ، له أجرٌ على اجتهادِه، وخطؤُه مغفورٌ)
[2055] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 446). .
وقال
السَّعديُّ: (الحُكْمُ بغيرِ ما أنزل اللهُ مِن أعمالِ أهلِ الكُفْرِ، وقد يكونُ كُفرًا يَنقُلُ عن الملَّةِ، وذلك إذا اعتَقَد حِلَّه وجوازَه، وقد يكونُ كبيرةً مِن كبائِرِ الذُّنوبِ ومن أعمالِ الكُفْرِ، قد استحَقَّ مَن فَعَلَه العذابَ الشَّديدَ)
[2056] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 233). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (الظَّاهِرُ المتبادِرُ مِن سياقِ الآياتِ أنَّ آيةَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ نازلةٌ في المُسلِمينَ؛ لأنَّه تعالى قال قَبْلَها مخاطِبًا لمُسلِمي هذه الأُمَّةِ:
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة: 44] ، ثم قال:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] ، فالخِطابُ للمُسلِمين كما هو ظاهِرٌ متبادِرٌ من سياقِ الآيةِ، وعليه فالكُفْرُ إمَّا كُفرٌ دونَ كُفرٍ، وإمَّا أن يكونَ فَعَل ذلك مُستَحِلًّا له، أو قاصِدًا به جَحْدَ أحكامِ اللهِ ورَدَّها مع العِلْمِ بها.
أمَّا من حَكَم بغيرِ حُكمِ اللهِ، وهو عالمٌ أنَّه مرتكِبُ ذنبًا، فاعِلٌ قبيحًا، وإنَّما حمله على ذلك الهوى، فهو من سائِرِ عُصاة المُسلِمين، وسياقُ القرآنِ ظاهِرٌ أيضًا في أنَّ آيةَ:
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون في اليهودِ؛ لأنَّه قال قبلها:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] . فالخِطابُ لهم؛ لوُضوحِ دَلالةِ السِّياقِ عليه، كما أنَّه ظاهِرٌ أيضًا في أنَّ آيةَ:
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فِي النَّصَارَى؛ لأنَّه قال قَبْلَها:
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47] ، واعلَمْ أنَّ تحريرَ المقامِ في هذا البَحثِ: أنَّ الكُفْرَ والظُّلمَ والفِسْقَ، كُلُّ واحدٍ منها ربما أُطلِقَ في الشَّرعِ مرادًا به المعصيةُ تارةً، والكُفْرُ المخرِجُ مِن الملَّةِ أخرى، ومَن لم يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ؛ مُعارضةً للرُّسُلِ، وإبطالًا لأحكامِ اللهِ، فظُلْمُه وفِسْقُه وكُفْرُه، كُلُّها كُفرٌ مخرجٌ عن الملَّةِ، ومن لم يحكُمْ بما أنزل اللهُ، معتَقِدًا أنَّه مرتكِبٌ حَرامًا، فاعِلٌ قبيحًا؛ فكُفْرُه وظُلمُه وفِسقُه غيرُ مخرجٍ عن الملَّةِ، وقد عرَفْتَ أنَّ ظاهِرَ القُرآنِ يدُلُّ على أنَّ الأُولى في المُسلِمين، والثَّانيةَ في اليهودِ، والثَّالثةَ في النَّصارى، والعِبرةُ بعُمومِ الألفاظِ لا بخُصوصِ الأسبابِ)
[2057] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 407). .
فمن وضع قوانينَ تشريعيَّةً مع عِلْمِه بحُكمِ اللهِ، وبمخالفةِ هذه القوانينِ لحُكمِ اللهِ، فقد بَدَّل الشريعةَ بهذه القوانينِ، ومن سَنَّ قوانينَ تخالِفُ الشريعةَ، وادَّعى أنَّها من المصالحِ المُرسَلةِ، فهو كاذِبٌ في دعواه؛ لأنَّ المصالَح المرسَلةَ والمقيَّدةَ إنِ اعتبَرَها الشَّرعُ ودَلَّ عليها، فهي من الشَّرعِ، وما نفاه فليس بمصلحةٍ، وما سكَتَ عنه فهو عَفْوٌ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (الحُكْمُ بالعَدلِ واجِبٌ مُطلَقًا، في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، على كُلِّ أحدٍ ولكُلِّ أحدٍ، والحُكْمُ بما أنزل اللهُ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو عَدْلٌ خاصٌّ، وهو أكمَلُ أنواعِ العَدْلِ وأحسَنُها، والحُكْمُ به واجِبٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكُلِّ من اتَّبَعه، ومن لم يلتَزِمْ حُكمَ اللهِ ورَسولِه فهو كافِرٌ)
[2058] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (5/131). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (الإنسانُ متى حَلَّل الحرامَ المجمَعَ عليه، أو حَرَّم الحلالَ المجمَعَ عليه، أو بَدَّل الشَّرعَ المجمَعَ عليه؛ كان كافِرًا مُرتدًّا باتِّفاقِ الفُقَهاءِ)
[2059] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/267). .
وقال
أحمد شاكر: (إنَّ الأمرَ في هذه القوانينِ الوَضعيَّةِ واضِحٌ وُضوحَ الشَّمسِ، هي كُفرٌ بَواحٌ، لا خفاءَ فيه ولا مُداورةَ، ولا عُذرَ لأحدٍ ممن ينتَسِبُ للإسلامِ كائنًا من كان في العَمَلِ بها، أو الخضوعِ لها أو إقرارِها، فلْيَحْذَرِ امرؤٌ لنَفْسِه، وكُلُّ امرئٍ حَسِيبُ نَفْسِه، ألَا فلْيَصدَعِ العُلَماءُ بالحَقِّ غيرَ هيَّابين، وليبلِّغوا ما أُمِروا بتبليغِه غيرَ مُتوانين ولا مقَصِّرين، سيقولُ عني عبيدُ هذا الياسق العصريِّ وناصِروه: إنِّي جامدٌ، وإنِّي رجعيٌّ، وما إلى ذلك من الأقاويلِ، ألا فلْيَقولوا ما شاؤوا، فما عبَأْتُ يومًا ما بما يُقالُ عني، ولكِنِّي قلتُ ما يجِبُ أن أقولَ)
[2060] يُنظر: ((عمدة التفسير)) (1/697). .
وقال مُحَمَّد حامد الفقي: (مَن اتَّخَذ من كلامِ الفِرِنجةِ قوانينَ يتحاكَمُ إليها في الدِّماءِ والفُروجِ والأموالِ، ويقَدِّمُها على ما عَلِمَ وتبيَّن له من كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو بلا شَكٍّ كافِرٌ مُرتَدٌّ، إذا أصَرَّ عليها، ولم يرجِعْ إلى الحُكْمِ بما أنزل اللهُ، ولا ينفَعُه أيُّ اسمٍ تَسَمَّى به، ولا أيُّ عَمَلٍ من ظواهِرِ أعمالِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ ونَحْوِها)
[2061] يُنظر: التعليق على ((فتح المجيد)) (2/242). .
وقال
مُحَمَّد بن إبراهيم آل الشَّيخ: (إنَّ من الكُفْرِ الأكبرِ المستبينِ: تنزيلَ القانونِ اللَّعينِ مَنزلةَ ما نزل به الرُّوحُ الأمينُ على قَلبِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليكونَ مِن المنذِرينَ بلِسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ؛ لقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] ، وقد نفى اللهُ سُبحانَه وتعالى الإيمانَ عمَّن لم يُحكِّموا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما شجر بينهم نفيًا مؤكَّدًا، بتَكرارِ أداةِ النَّفيِ وبالقَسَمِ، قال تعالى:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] )
[2062] يُنظر: (رسالة تحكيم القوانين) ضمن ((فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ)) (12/284). .
وقال أيضًا: (لو قال من حكَّم القانونَ: أنا أعتَقِدُ أنَّه باطِلٌ، فهذا لا أَثَرَ له، بل هو عَزْلٌ للشَّرعِ، كما لو قال أحدٌ: أنا أعبُدُ الأوثانَ، وأعَتِقُد أنَّها باطِلٌ!)
2063.
وقال
مُحَمَّد الأمين الشِّنقيطي: (بهذه النُّصوصِ السَّماويَّةِ التي ذكَرْنا، يظهَرُ غايةَ الظُّهورِ أنَّ الذين يتَّبِعون القوانينَ الوَضعيَّةَ التي شرعها
الشَّيطانُ على ألسِنَةِ أوليائِه مخالِفةً لِما شرَعَه اللهُ جَلَّ وعلا على ألسِنَةِ رُسُلِه صلَّى اللهُ عليهم وسلَّم؛ أنَّه لا يَشُكُّ في كُفرِهم وشِرْكِهم إلَّا من طَمَس اللهُ بصيرتَه، وأعماه عن نورِ الوَحْيِ مِثْلَهم)
[2064] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/259). .
وقال
ابنُ عثيمين: (الذين يُحَكِّمون القوانينَ الآن، ويتركون وراءهم كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ليسوا بمؤمنين؛ لقَولِ الله تعالى:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] ، ولِقَولِه:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] ، وهؤلاء المحَكِّمون للقوانينِ لا يُحكِّمونها في قضيَّةٍ مُعَيَّنةٍ خالفوا فيها الكِتابَ والسُّنَّة؛ لهوًى أو لظلمٍ، ولكنَّهم استبدلوا الدِّين بهذا القانونِ، وجعلوا هذا القانونَ يحُلُّ محَلَّ شريعةِ اللهِ، وهذا كُفرٌ؛ حتى لو صَلَّوا وصاموا وتصَدَّقوا وحَجُّوا، ... فلا تستغرِبْ إذا قُلْنا: إنَّ من استبدل شريعةَ اللهِ بغَيرِها من القوانينِ، فإنَّه يَكفُرُ ولو صام وصلَّى؛ لأنَّ الكُفْرَ ببَعضِ الكِتابِ كُفرٌ بالكِتابِ كُلِّه، فالشَّرعُ لا يتبعَّضُ، إمَّا تؤمِنُ به جميعًا، وإمَّا أن تَكفُرَ به جميعًا، وإذا آمَنْتَ ببعضٍ وكَفَرْتَ ببَعضٍ، فأنت كافرٌ بالجميعِ؛ لأنَّ حالَك تقولُ: إنَّك لا تؤمِنُ إلَّا بما لا يخالِفُ هواك، وأمَّا ما خالف هواك فلا تؤمِنُ به، هذا هو الكُفْرُ. فأنت بذلك اتَّبَعْتَ الهوى، واتخَذْتَ هواك إلهًا من دونِ اللهِ.
فالحاصِلُ أنَّ المسألةَ خطيرةٌ جِدًّا، مِن أخطَرِ ما يكونُ بالنسبةِ لحُكَّامِ المُسلِمين اليومَ؛ فإنَّهم قد وضعوا قوانينَ تخالِفُ الشَّريعةَ، وهم يَعرِفون الشَّريعةَ، ولكِنْ وَضَعوها -والعياذُ بالله- تبَعًا لأعداءِ اللهِ مِن الكَفَرةِ الذين سَنُّوا هذه القوانينَ، ومشى النَّاسُ عليها، ... ولا يَرجِعون إلى كِتابِ اللهِ ولا إلى سُنَّةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأين الإسلامُ؟ وأين الإيمانُ؟ وأين التصديقُ برسالةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنَّه رسولٌ إلى النَّاسِ كافَّةً؟ وأين التصديقُ بعُمومِ رسالتِه وأنَّها عامَّةٌ في كُلِّ شَيءٍ؟ كثيرٌ من الجَهَلةِ يظُنُّون أنَّ الشَّريعةَ خاصَّةٌ بالعبادةِ التي بينك وبين اللهِ عَزَّ وجَلَّ فقط، أو في الأحوالِ الشَّخصيَّةِ مِن نكاحٍ وميراثٍ وشِبْهِه، ولكِنَّهم أخطَؤوا في هذا الظَّنِّ، فالشَّريعةُ عامَّةٌ في كُلِّ شَيءٍ)
2065.