المَطلبُ الثَّاني: دَعاوى مَشايِخِ الخَتميَّةِ وادِّعاءُ أتباعِهم فيهم
يَدَّعي مَشايِخُ الخَتميَّةِ أنَّهمُ استِمرارٌ لمَدَدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبناءً على ذلك فإنَّهم أعطَوا لأنفُسِهم منَ الصِّفاتِ ما أعطَوه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأسبَغوا على أنفُسِهم منَ القُدُراتِ ما أسبَغوه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فادَّعوا أنَّهمُ المَدخَلُ للحَضَراتِ الإلهيَّةِ، وأنَّ مَقامَهم بَرزَخٌ بَينَ النُّبوَّةِ والوِلايةِ، وادَّعَوا التَّصَرُّفَ في الكَونِ وزَعَموا أنَّهم يُغيثونَ مَن يَلتَجِئُ إليهم ويَحتَمي بحِماهم، فيُزيلونَ الكَربَ ويَرفعونَ الهَمَّ، وأنَّهمُ الوسيلةُ للسَّعادةِ في الدُّنيا والنَّجاةِ منَ العَذابِ يَومَ الدِّينِ؛ ومن ثَمَّ يَدعونَ النَّاسَ إلى اتِّباعِهم، ويَدعونَ مَن تَبعَهم إلى أن يَعتَقِدَ فيهم تلك المُعتَقَداتِ الباطِلةَ.
فالميرغنيُّ يَصِفُ نَفسَه وآلَه في إحدى قَصائِدِه بأنَّهم مَفاتيحُ الحَضرةِ الإلهيَّةِ، وأنَّهم يُعطونَ مَن يُخلِصُ إليهم، ويَسُدُّونَ البابَ أمامَ مَن لا يَعتَقِدُ فيهم، ولن يَنالَ شَيئًا مهما اجتَهَدَ في نَيلِه من غَيرِهم، فقال:
نَحنُ المَفاتيحُ للحَضَراتِ أجمَعِها
ونَحنُ بابُ الإلهِ الواحِدِ الصَّمَدِ
ونَحنُ بَرزَخٌ بَينَ النُّبوَّةِ والوِلايةِ
العُظمى أي وبابِه الحَمدِ
فمَن يُريدُ لماذا نَحنُ قُلْناه
يَأتي (إلينا) بإخلاصٍ بلا بَدَدِ
نُعطيه مأمولَه ونُوَلِّه فَوقًا
وذا بفَضلِ مُرقِينا العلى سَنَدي
ومَن يقافي (يُجافي) نَسُدُّ البابَ دونَه
لا يَجِدْ دُخولًا ولو قد قامَ بالجُهدِ
فقُمْ مُريدَ الغِنى وديم فينا فنى
تَلقى عُلومًا تَفوقُ الحَصرَ والعَدَد
وقُلْ إلهي بخَتمِ الأولياءِ أفِضْ
مُحَمَّدٌ عَبدُكُم عُثمانُ للمَدَدِ
وقُلْ به يا رَسولَ اللهِ أدرِكْني
بما أرُجيه من نَيلِ كَذا سَعْدِ
تَجِدْ مُناك وكَم من طالبٍ أمنًا
له النَّبيُّ يَومَ أسبوعِ ذا وُلدِ
أبقاه رَبِّي وأحياه وحَقَّقَه
باسمِه عَبدِه وهَدْيِه مَدَدي
[1266] ((ديوان مجمع الغرائب المفرقات)) (ص: 60). وأورَدَ الميرغَنيُّ رِوايةً عن شَيخِه أحمَدَ بنِ إدريسَ يَقولُ فيها: إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَه أنَّ مُحَمَّدَ بنَ عُثمانَ الميرغَنيَّ أعظَمُ النَّاسِ بَعدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَعدَ المُنتَظَرِ، وأنَّه منَ المُصطَفينَ مُنذُ الأزَلِ، ومن ثَمَّ فلا عَجَبَ أن يَفنى النَّاسُ فيه ويهيموا.
وفي إحدى قَصائِدِه أكَّدَ الميرغَنيُّ هذا المَعنى ويَدَّعي بأنَّه خَتمُ الأولياءِ، ومن ثَمَّ فهو أعظَمُ من كُلِّ الأولياءِ السَّابقينَ، وأنَّ مَكانتَه تَأتي بَعدَ مَكانةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَدعو النَّاسَ أن يَلوذوا به عِندَ النُّزولِ، وأن يَستَمِدُّوا منه الكَمالَ:
أنا خَتمٌ إذا ما كان دَوري
سَتر أي يا فتى ماذا منالي
لكُلِّ الأولياءِ من عَهدِ آدَم
إلى دَورِ «الوسيلةِ» في المَآلِ
فيوضٌ من بحارٍ وهي قَطرٌ
من أسراري ولا يخفاك قالي
إذا قاموا جَميعُهم صُفوفًا
أضاهيهم وأعلامًا تَرى لي
فإنِّي أحمَدُ المَولى تعالى
على كَوني بإثرِ أُولي الكَمالِ
فدوري خَلفَ دَورِ المُصطَفى
مَعَ قيامِ الكُلِّ خَلفي في المَجالِ
وصَحبي ثاني الدَّورِ المُعلى
وقَرني ذاكَ قَرنٌ لا مَحال
ويَشهَدُ لي اقتِفائي نَسجَ طَه
فمن مِثلي وصَحبي في المَعالي
فلُـــــذْ بـــــي فــــي نــــوازِلِ كُــــلِّ ضَيــــمٍ
واستَمدِدْ إذا رُمتَ الكَمال
بإمدادي وقُل رَبِّ الورى هَبْ
بخَتمِك لي منائي والمَجالَ
[1267] ((ديوان النفحات المدنية)) للميرغني (ص: 88). .
وقال أيضًا:
ما الفخرُ إلَّا لنا من سابِقِ الأزَلِ
ما العِزُّ إلَّا بنا من حَضرةِ الرُّسُلِ
من عالمِ الذَّرِّ مَولى الخَلقِ قَدَّمَنا
تَقديمَ حَقٍّ بلا رَيبٍ ولا زَغَلِ
فطالما أنبَأ المُختارُ مَن عِظَمٍ
عنَّا وطال بناه دَوحةَ الكمَلِ
لنا وهو الصَّادِقُ المَصدوقُ في وَعدٍ
وقَولُه الصِّدقُ لا يَدخُلُه مِن خَلَلِ
ومَن رَآه مَنامًا قد رَآه بلا شَكٍّ
كما جاءَ في مَتنِ الحَديثِ عَل
وكَم مِرارًا يُفيدُ النَّاسَ قائِلَ ذا
من زارَ عُثمانَ ابني زارَني حَصَل
ومَن يُبايِعُه بايَعني ومَن يَكُنْ
صافحَه صافحَني بايَعَه على عَجَلِ
يَدخُلُ جِنانَ نَعيمٍ نِعمَ فَردَوس
جِوارُه يَحظى من غَيرِ ما مَلَلِ
بُشرى لكُم يا أصحابَ الخَتمِ قاطِبةً
مَن مِثلكُم في الورى قد نالَ أو يَنَلِ
[1268] ((ديوان النفحات المدنية)) (ص: 93). ولم تَقتَصِر هذه الدَّعاوى على الميرغَنيِّ (الخَتْمِ) وحدَه، بل إنَّ ابنَه هاشِمًا ادَّعى أيضًا أنَّه الغَوثُ والقُطبُ المُقدَّمُ الذي يَرضى اللهُ لرِضاه ويَغضَبُ لغَضَبِه، وله التَّصَرُّفُ في الكَونِ، والإدخالُ في الحَضَراتِ، فقال:
أنا الغَوثُ الذي رَبِّي إلهي أتى
بي في الكيانِ بلا مُحال
أنا إن شِئتُ أدعو الكَونَ يَرقُصُ
بإذنِ اللهِ وأسكُنُ دَعْ جِدالي
أنا لرِضائي يَرضى اللهُ رَبِّي
لغَضَبي يَغضَبُ اللهُ ذو الجَلال
أنا الهادي أنا القُطبُ المُقدَّمُ
لأهلِ اللهِ دَعْ عنك الفِضال
وأطِعْ واسمَعْ ولا تُنكِرْ وبادِرْ
إليَّ لتَستَقي كَأسَ الزُّلال
وأدخلك المُسارِع كُلَّ حَضرةٍ
بيَدي لا تُضامُ فخُذْ مَقالي
أنا مِقدام أهلِ الوقتِ جَمعًا
أنا مَتبوعٌ فيهمو قُطبٌ وآل
ومن صِغَري استَمَدَّ الكُلُّ منِّي
مِدادي وارتَقى سَطحَ الكَمال
وحالي ليس يُدرِكُه الطَّحاطِحُ
تَعلَّمْ حالتي واشطَحْ بحال
أتدري مَن أنا يا مَن تَفرِدُ
وهو روحي ورَبٌّ بلا مُحال
[1269] ((ديوان شفاء القلوب)) (ص: 74). ويُنظر: (ص: 76). .
ويَدَّعي الميرغَنيُّ الكَبيرُ أنَّ مُجَرَّدَ رُؤيَتِه يَنالُ بها المَحظيُّ الجَنَّةَ، وأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشَّرَه بذلك، ونَقل عنه ابنُه جَعفَرٌ ذلك، فقال: (سَمِعتُه مِرارًا يَقولُ: «مَن رَآني أو رَأى مَن رَآني إلى خَمسةٍ لا تَمَسُّه النَّارُ»، يَقولُ: قال لي جَدِّي النَّبيُّ المُختارُ)
[1270] ((ديوان النفحات المدنية)) (ص: 48). .
وقال الميرغَنيُّ نَفسُه ذلك ناسِبًا الوعدَ بإدخالِ مَن يَراه الجَنَّةَ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، فقال:
لقد صارَ رَبُّ العِزَّةِ سَمعي وناظِري
وقَلبي ورِجلي مَعَ يَدي ولِساني
وأوعَدَني ألَّا يُعَذِّبَ مُسلِمًا
رَآني حَقيقًا أو رَأى من رآني
وإنِّي كَبيرُ الأولياءِ بأسرِهم
جَمَعْنا منَ العِرفانِ كُلَّ بَيانِ
[1271] ((ديوان النفحات المدنية)) (ص: 98). .
وزَعَمَ أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: (مَن صَحِبَك ثَلاثةَ أيَّامٍ لا يَموتُ إلَّا وليًّا)
[1272] ((لؤلؤة الحسن الساطعة)) (ص: 46). ، ويُحكى أنَّه لمَّا قدِمَ المَدينةَ قال له ساكِنُها عليه أفضَلُ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ مَن زارَني في سَنَتِكَ هذه والتي قَبلَها والتي بَعدَها عِندَنا مَقبولٌ)
[1273] ((لؤلؤة الحسن الساطعة)) (ص: 48). .
ودَعاوى المراغِنةِ هذه دَعاوى عَريضةٌ تَحتاجُ إلى إثباتٍ، كما أنَّها مُخالِفةٌ تَمامًا للأدَبِ الإسلاميِّ الذي نَهى عن تَزكيةِ المَرءِ نَفسَه؛ إذ قال اللهُ تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا [النساء: 49 - 50] . وقال اللهُ سُبحانَه:
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] ، كما أنَّها لا تَتَّفِقُ مَعَ أدَبِ المُؤمنِ الذي يَنبَغي أن يَكونَ دَومًا في مَقامٍ بَينَ الخَوفِ والرَّجاءِ: الخَوفِ من ألَّا يُقبَلَ عَمَلُه أو لا يُختَمَ له بالصَّالحاتِ، والرَّجاءِ في القَبولِ وحُسنِ الخاتِمةِ. فالاطمِئنانُ التَّامُّ والجَزمُ بالنَّتائِجِ بهذه الصُّورةِ التي يَحمِلُها أدَبُ المراغِنةِ مُخالِفٌ حتَّى لسُلوكِ كَثيرٍ منَ المُتَصَوِّفةِ. ويَتَّضِحُ عَدَمُ مِصداقيَّتِه حينَ يَصِلُ إلى دَرَجةِ الفَخرِ والتَّباهي ودَعوةِ النَّاسِ إلى التَّصديقِ بهم واتِّباعِهم نَتيجةً لذلك.
أمَّا زَعمُ الميرغَنيِّ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَشَّرَه بأنَّ مَن رَآه أو رَأى مَن رَآه إلى خَمسةٍ لا تَمَسُّه النَّارُ فهذه دَعوى تَحتاجُ إلى بُرهانٍ، ومَيزةٌ لم تَكُنْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَفسِه ولا لأحَدٍ منَ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ قَبلَه؛ فهَل الميرغَنيُّ أفضَلُ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! فالنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يَرى الكُفَّارَ ويَرَونَه كُلَّ يَومٍ ولم يَكُنْ يَنفعُهم ذلك، بل إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أخبَرَه أنَّ استِغفارَه للكُفَّارِ ودُعاءَه لهم لا يَنفعُهم، فقال سُبحانَه:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 80] .
ونَتيجةً لذلك الفَضلِ والميزةِ التي أسبَغَها أئِمَّةُ الخَتميَّةِ على أنفُسِهم والمَكانةِ المَزعومةِ عِندَ اللهِ والوِلايةِ التي ادَّعَوها، سادَ في أدَبهمُ التَّوسُّلُ بَعضِهم ببَعضٍ، وسادَ في أدَبِ أتباعهمُ التَّوسُّلُ بهم والتَّوجُّهُ إليهم بالدُّعاءِ وطَلبِ العَونِ والنَّصرِ وتَفريجِ الكُروبِ وإزالةِ الهمومِ وإغاثةِ المَلهوفِ إلى غَيرِ ذلك من أنواعِ الدُّعاءِ والتَّوجُّهِ والعِبادةِ التي لا يَنبَغي أن تَكونَ إلَّا للَّهِ تعالى، والذي هو في واقِعِ الأمرِ نَوعٌ منَ الشِّركِ في العِبادةِ. وقد كان مَشايِخُ الطَّريقةِ قُدوةً لأتباعِهم في هذا النَّهجِ والسُّلوكِ. فنَجِدُ الميرغَنيَّ يَمدَحُ شَيخَه ابنَ إدريسَ ويَعتَبرُه مُقدَّمًا له ومَلجَأً، وأنَّ له يَمينًا إذا قَبَّلها الشَّخصُ تَمحو أوزارَه!!
على مَن له يُمنُ اليَمينِ ومَن له
يَمينٌ إذا ما قُبِّلَت تَمحو للوِزرِ
فيا عُمدَتي يا مَركَزي يا مُقدَّمي
ويا مَلجَئي واللَّهِ واللَّهِ والطُّهرِ
ويَذكُرُ أنَّه لم يَصحَبْ شَيخَه لغايةٍ دُنيَويَّةٍ وإنَّما رَغبةً في أن يَحضُرَ الشَّيخُ مَوتَه ويَدفعَ عنه سوءَ الخاتِمةِ، وأن يَحضُرَ شَيخُه والمُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُؤنِساه في وحشةِ قَبرِه، وأن يُدنيَه شَيخُه منه في يَومِ الحَشرِ، فقال:
نعــم مــرادي حيــنَ يحضُرُنــي موتــي
تُدافِعُ عنِّي السُّوءَ تَختِمُ لي عُمري
بحُسنِ خِتامٍ يَحضُرُ المُجتَبى أيضًا
تُدافِعا عنِّي لوحشةِ ذا القَبرِ
وفي الحَشرِ تُدنيني لنَحوِ لوائِكُم
تَقولُ أيا ابنَ إدريسَ للمُصطَفى ذُخرِ
مُحَمَّد عُثمان المُسيءُ الذي له
منَ الذَّنبِ أوزارٌ تَفوقُ عنِ الحَصرِ
[1274] ((ديوان مجمع الغرائب)) (ص: 24). ويُنظر: (ص: 26 – 35). .
ووصَف مُحَمَّد سِرُّ الخَتمِ جَدَّه المَحجوبَ بصِفاتٍ تَفوقُ صِفاتِ البَشَرِ، فنَسَبَ إليه مَعرِفةَ حُجُبِ القُلوبِ، وأنَّه يُفرِّجُ الكُرُباتِ إذا دُعيَ اسمُه، ويُنجِدُ مَن يَستَنجِدُ به حَيًّا أو مَيِّتًا على السَّواءِ، وأنَّ إليه التَّصَرُّفَ في الكَونِ؛ لأنَّه كما يَقولُ: من سُلالةٍ مَنِ التَجَأ إلى حِماها سَعِدَ، ومنَ الذينَ هم خَزائِنُ أسرارِ الإلهِ
[1275] ملحقات ((القصائد المدنية)) لمحمد سر الختم، ملحق ((النور البراق)) (ص: 106). .
ومَدَحَ جَعفرٌ الميرغَنيُّ والِدَه مُحَمَّد عُثمان ودَعا مُريديه أن يَتَوسَّلوا به لقَضاءِ حاجاتِهم وتَحقيقِ آمالِهم؛ إذ هو الذي يُغيثُ المَكروبَ ويَشفي السَّقيمَ، وبجاهِه تَكونُ النَّجاةُ
[1276] ((الديوان الكبير)) المسمى ((رياض المديح)) للميرغني (ص: 33). .
إنَّ تلك القَصائِدَ وغَيرَها أمثِلةٌ من أدَبِ كُبَراءِ الخَتميَّةِ، وهي تُؤَكِّدُ أنَّ هؤلاء القَومَ يَظُنُّونَ في أنفُسِهم أنَّهم يُجيبونَ دَعوةَ المُضطَرِّ، ويَتَصَرَّفونَ في الكَونِ، ويَكشِفونَ حُجُبَ الغَيبِ، ويُنَفِّسونَ كُرُباتِ المكروبينَ، وأنَّهم وسيلةٌ يُتَوسَّلُ بها لقَضاءِ الحاجاتِ وإجابةِ الدَّعَواتِ، وأنَّ بهم تُنالُ السَّعادةُ في الدُّنيا، والنَّجاةُ في الآخِرةِ.
وإذا كان هذا هو ظَنَّ المشايخِ بأنفُسِهم ودَعواهم، فلا عَجَبَ أن نَجِدَ أنَّ الطَّريقةَ في جُملتِها دائِرةٌ حَولَ أشخاصِهم، فيَتَّخِذُهمُ الأتباعُ واسِطةً بَينَهم وبَينَ اللهِ تعالى، ويَتَوسَّلُ بهمُ المُريدونَ، ويَصِفونَهم بكُلِّ الصِّفاتِ التي تَحمِلُ في طِيَّاتِها مَعانيَ الشِّركِ، وتَمتَلئُ بالتَّصَوُّراتِ التي لا تَليقُ إلَّا بذاتِ اللهِ سُبحانَه وتعالى
[1277] يُنظر: ديوان ((شفاء القلوب)) لمحمد هاشم الميرغني (ص: 119، 121). .
ومن ذلك قَولُ أحَدِ المُريدينَ يُناشِدُ آلَ الميرغَنيِّ، ويُصَرِّحُ بأنَّ مَنِ استَجارَ بهم لا تَسطو عليه حَوادِثُ الدَّهرِ، داعيًا اللَّهَ أن يُفرِّجَ بهم كُرُباتِه، ويُحَقِّقَ عن طَريقِهم رَجاءَه:
مَحَبَّتُهم فرضٌ على كُلِّ مُسلِمٍ
مَودَّتُهم في اللهِ للَّهِ قُربانُ
همُ الصَّيدُ آلُ الميرغَنيِّ مَعدِنُ الحُلي
إذا ما فاخَرَ الأقرانُ بالمجدِ وازدانوا
هَل نَتَّقي من حادِثِ الدَّهرِ سَطوةً
ونَحنُ لسِرِّ الخَتمِ في مِصرَ جيرانُ
إلهي بهم فرِّجْ منَ الهَمِّ كُربَتي
وحَقِّقْ رَجائي والرَّجاءُ منك غُفرانُ
[1278] ديوان ((مجمع الغرائب)) (ص: 156 – 158). وقد أشارَ أبو الحَسَنِ النَّدويُّ في مُذَكِّراتِه إبَّانَ زيارَتِه للسُّودانِ عامَ 1951م، أنَّه رَأى أثناءَ خُروجِه من دارِ عليٍّ الميرغَنيِّ حَلقةً قائِمةً منَ الشَّبابِ يُرَدِّدونَ في لحنٍ: (شَيئًا للَّهِ يا حَسَن.. أنتَ سُلطانُ الزَّمَن) فأنكَرَ هذا النَّشيدَ الذي لا يرى له مُبَرِّرًا كما يَقولُ، والذي يُعارِضُ التَّوحيدَ مُعارَضةً صَريحةً، وكيف تَجوزُ الاستِغاثةُ بشَيخٍ مَيِّتٍ، والاعتِقادُ بأنَّه سُلطانُ الزَّمَنِ، وتَساءَل النَّدويُّ عَمَّا إذا كان السَّيِّدُ يَعلمُ هذا فيوافِقُهم عليه أو لا يَعلَمُه
[1279] ((مذكرات سائح في الشرق العربي)) (ص: 208). .
وقد تَبَيَّنَ كما تَقدَّمَ أنَّ الخَتميَّةَ جَميعًا سادةً وأتباعًا يَعتَقِدونَ هذه الاعتِقاداتِ الباطِلةَ المُخالِفةَ تَمامًا لعَقيدةِ التَّوحيدِ وإخلاصِ العِبادةِ للَّهِ تعالى. وقد سَرَت هذه المُعتَقداتُ لدى عامَّةِ الخَتميَّةِ وأصبَحوا يُعَبِّرونَ عنها في أشعارِهم وأناشيدِهمُ الشَّعبيَّةِ ويَتَّخِذونَها شِعارًا لهم.
إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وهو سَيِّدُ الأنبياءِ والأولياءِ، وسَيِّدُ ولدِ آدَمَ، وهو المُرسَلُ من عِندِ اللهِ تعالى- لا يَملِكُ لنَفسِه ولا لغَيرِه نَفعًا ولا ضَرًّا، ولا يَملكُ هدايةَ شَخصٍ أو إلهامَه، فمِن بابِ أَولى أنَّ أهلَ الأرضِ جَميعًا لا يَملِكونَ لأنفُسِهم نَفعًا ولا ضَرًّا إلَّا بإذنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومِن ثَمَّ فإنَّ دَعوى أصحابِ هذه الطَّريقةِ وغَيرِها منَ الطُّرُقِ أنَّهم يَستَطيعونَ التَّصَرُّفَ في أقدارِ اللهِ الكَونيَّةِ، وأنَّ بيَدِهمُ النَّفعَ والضَّرَّ والمَنعَ والعَطاءَ: دَعوى باطِلةٌ فاسِدةٌ مُخالِفةٌ لتَعاليمِ الإسلامِ وأصولِه.
قال ابنُ تيميَّةَ في تَفسيرِ مَعنى كَلِمةِ، (الغَوثِ): (... تَفسيرُ بَعضِهم: أنَّ «الغَوثَ» هو الذي يَكونُ مَدَدُ الخَلائِقِ بواسِطَتِه في نَصرِهم ورِزقِهم حتَّى يَقولَ: إنَّ مَدَدَ المَلائِكةِ وحِيتانِ البَحرِ بواسِطَتِه، فهذا من جِنسِ قَولِ النَّصارى في المَسيحِ عليه السَّلامُ، والغاليةِ في عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه. وهذا كُفرٌ صَريحٌ يُستَتابُ منه صاحِبُه، فإن تابَ وإلَّا قُتِل؛ فإنَّه ليس منَ المَخلوقاتِ لا مَلَكٌ ولا بَشَرٌ يَكونُ إمدادُ الخَلائِقِ بواسِطَتِه)
[1280] ((مجموع الفتاوى)) (27/ 96). .
وذَكَرَ ابنُ تيميَّةَ أيضًا أنَّ من بَينِ أسبابِ المُروقِ منَ الإسلامِ الغُلوَّ في بَعضِ المشايخِ، بل الغُلوَّ في عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بل الغُلوَّ في عيسى عليه السَّلامُ؛ فكُلُّ مَن غَلا في نَبيٍّ أو رَجُلٍ صالحٍ وجَعل فيه نَوعًا منَ الإلهيَّةِ، مِثلُ أن يَقولَ: يا سَيِّدي فُلانًا انصُرني، أو أغِثني أوِ ارزُقني أوِ اجبُرْني، أو أنا في حَسْبِك، ونَحوَ هذه الأقوالِ، فكُلُّ هذا شِركٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى إنَّما أرسَل الرُّسُلَ وأنزَل الكُتُبَ ليُعبَدَ وحدَه، ولا يُدعى مَعَه إلهٌ آخَرُ، والذينَ يَدعونَ مَعَ اللهِ آلهةً أُخرى، مِثلُ المَسيحِ والمَلائِكةِ، والأصنامِ، لم يَكونوا يَعتَقِدونَ أنَّها تَخلُقُ الخَلائِقَ أو تُنزِلُ المَطَرَ أو تُنبتُ النَّباتَ، وإنَّما كانوا يَعبُدونَهم أو يَعبُدونَ قُبورَهم أو يَعبُدونَ صورَهم، يَقولونَ:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ،
وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] فبَعَثَ اللهُ تعالى رُسُلَه عليهمُ السَّلامُ لتَنهى أن يُدعى أحَدٌ من دونِه لا دُعاءَ عِبادةٍ ولا دُعاءَ استِغاثةٍ
[1281] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (3/ 395، 396)، ((تيسير العزيز الحميد)) لآل الشيخ (ص: 228). .
وهكذا يَتَبَيَّنُ خُطورةُ مُعتَقَداتِ أصحابِ هذه الطَّائِفةِ، وخَطَرُ آرائِهم وفسادُ تَصَوُّراتهم وما تَضَمَّنَته من غُلوٍّ، وهي مُعتَقَداتٌ مُصادِمةٌ لصَريحِ القُرآنِ الذي دَلَّ في أكثَرَ من آيةٍ على أنَّ اللهَ سُبحانَه هو وحدَه المُتَفرِّدُ بالخَلقِ والتَّصَرُّفِ والتَّدبيرِ والتَّقديرِ
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] ، و
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [المائدة: 120] ، ونَفى أن يَكونَ لغَيرِه سُبحانَه تَصرُّفٌ في الكَونِ، وبَيَّنَ أنَّ كُلَّ من سِوى اللهِ عاجِزٌ عن نُصرةِ نَفسِه، وأنَّهم عن نُصرةِ غَيرِهم أعجَزُ
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13] ، ومن ثَمَّ فإنَّ الاستِغاثةَ بهم لا فائِدةَ منها ولا جَدوى، بل تَقودُ إلى الشِّركِ
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62] ،
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63 - 64] .
وأفحَشُ من هذا وأنكَرُ تَوجيهُ دُعائِهم واستِغاثَتِهم بالأمواتِ منَ المشايخِ؛ لأنَّ المَيِّتَ كما هو مَعلومٌ قدِ انقَطَعَ حِسُّه وحَرَكَتُه، وأمسَكَ اللهُ تعالى رُوحَه:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر: 42] ، ومن ثَمَّ فإنَّ أعمالَه قدِ انقَطَعَت، فلا زيادةَ ولا نُقصانَ، بل إنَّه رَهينٌ بما كَسَبَ
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38] ، وفي الحَديثِ:
((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عنه عَمَلُه...)) [1282] أخرجه مسلم (1631) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عنه عَمَلُه إلَّا من ثَلاثةٍ: إلَّا من صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يَدعو له)). الحديثَ، فإذا كان المَيِّتُ عاجِزًا عن حَرَكةِ نَفسِه، فكيف يَتَصَرَّفُ في غَيرِه؟!