موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الرَّابعُ: أقسامُ القياسِ باعتِبارِ التَّفاوُتِ في القوَّةِ


يَنقَسِمُ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ: جَليٍّ، وخَفيٍّ [1580] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/221)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/207).
الأوَّلُ: القياسُ الجَليُّ: وهو ما كانت العِلَّةُ فيه منصوصةً أو غَيرَ منصوصةٍ غَيرَ أنَّ الفارِقَ بَينَ الأصلِ والفَرعِ مَقطوعٌ بنَفيِ تَأثيرِه، وهو صادِقٌ بالقياسِ الأَولى، والقياسِ المُساوي.
فقياسُ الأَولى: كقياسِ تَحريمِ ضَربِ الوالدَينِ على تَحريمِ التَّأفيفِ لهما؛ بجامِعِ الأذى في كُلٍّ مِنهما.
وقياسُ المُساوي: كقياسِ إحراقِ مالِ اليَتيمِ على أكلِه؛ بجامِعِ الإتلافِ، حَيثُ عَرَفنا أنَّه لا فارِقَ بَينَهما.
الثَّاني: القياسُ الخَفيُّ: وهو ما خَفِيَ مَعناه فلم يُعرَفْ إلَّا بالاستِدلالِ، بأن كانت العِلَّةُ فيه مُستَنبَطةً مِن حُكمِ الأصلِ، واحتِمالُ تَأثيرِ الفارِقِ فيه قَويٌّ.
ومِثالُه: قياسُ القَتلِ بالمُثَقَّلِ على القَتلِ بالمُحَدَّدِ في وُجوبِ القِصاصِ؛ بجامِعِ أنَّ كُلًّا مِنهما يُعتَبَرُ قَتلًا عَمدًا عُدوانًا [1581] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/3)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1921). .
وكُلٌّ مِن القياسِ الجَليِّ والخَفيِّ يَنقَسِمُ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
أوَّلًا: أقسامُ القياسِ الجَليِّ:
يَنقَسِمُ القياسُ الجَليُّ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
1- ما عُرِف مَعناه مِن ظاهرِ النَّصِّ بغَيرِ استِدلالٍ، ولا يَرِدُ التَّعَبُّدُ فيه بخِلافِ أصلِه، كقَولِ اللهِ تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ؛ فإنَّه يَدُلُّ على تَحريمِ التَّأفيفِ بالبَديهةِ، وعلى تَحريمِ الضَّربِ والشَّتمِ قياسًا، ولا يُمكِنُ أن يُحرِّمَ التَّأفيفَ ويُبيحَ الضَّربَ.
وكقَولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] ، فلا يُمكِنُ أن يُجازى على قَليلِ الطَّاعةِ ولا يُجازى على كبيرِها، ويُعاقَبَ على قَليلِ المَعصيةِ ولا يُعاقَبَ على كبيرِها.
2- ما عُرِف مَعناه مِن ظاهِرِ النَّصِّ بغَيرِ استِدلالٍ، لكِن يُمكِنُ أن يَرِدَ التَّعَبُّدُ فيه بخِلافِ أصلِه، مِثلُ: النَّهيِ عن التَّضحيةِ بالعَوراءِ البَيِّنِ عَوَرُها، والعَرجاءِ البَيِّنِ عَرَجُها [1582] لفظُه: عن البَراءِ بنِ عازِبٍ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وأشارَ بأصابعِه، وأصابعي أقصَرُ مِن أصابِعِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يُشيرُ بأُصبُعِه يَقولُ: ((لا يَجوزُ مِنَ الضَّحايا: العَوراءُ البيِّنُ عَوَرُها، والعَرجاءُ البَيِّنُ عَرَجُها، والمَريضةُ البَيِّنُ مَرَضُها، والعَجفاءُ التي لا تُنْقي)) أخرجه أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (4371) واللفظ له. صحَّحه الترمذي، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (4/168)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5921)، والنووي في ((المَجموع)) (8/399). ، فكانت العَمياءُ أَولى؛ قياسًا على العَوراءِ، والقَطعاءُ على العَرجاءِ؛ لأنَّ نَقصَها أكثَرُ، فهذا لا يُمكِنُ أن يَرِدَ التَّعَبُّدُ بخِلافِ أصلِه وإن جازَ أن يَرِدَ التَّعَبُّدُ بإباحةِ العَمياءِ والقَطعاءِ، مَعَ تَحريمِ العَرجاءِ والعَوراءِ.
ومِثلُ هذا أيضًا نَهيُ المُحرِمِ أن يَلبَسَ ثَوبًا مَسَّه الوَرسُ والزَّعفرانُ [1583] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: (قامَ رَجُلٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، ماذا تَأمُرُنا أن نَلبَسَ مِنَ الثِّيابِ في الإحرامِ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَلبَسوا القَميصَ ولا السَّراويلاتِ، ولا العَمائِمَ ولا البَرانِسَ، إلَّا أن يَكونَ أحَدٌ ليسَت له نَعلانِ، فليَلبَسِ الخُفَّينِ، وليَقطَعْ أسفَلَ مِنَ الكَعبَينِ، ولا تَلبَسوا شَيئًا مَسَّه زَعفرانٌ ولا الوَرسُ، ولا تَنتَقِبِ المَرأةُ المُحرِمةُ، ولا تَلبَسِ القُفَّازَينِ) أخرجه البخاري (1838) واللَّفظُ له، ومسلم (1177). ، فكان الكافورُ والمِسكُ أَولى؛ قياسًا على الزَّعفرانِ والوَرسِ، وإن جازَ أن يَرِدَ التَّعَبُّدُ بتَحريمِ الوَرسِ والزَّعفرانِ، وإباحةِ المِسكِ والكافورِ.
3- ما عُرِف مَعناه مِن ظاهرِ النَّصِّ باستِدلالٍ ظاهرٍ، فعُرِفَ ببادِئِ النَّظَرِ، ومِثالُه أيضًا قَولُه تعالى: إِذَا نُودِيَ للصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] ، وكان مَعنى نَهيِه تعالى عن البَيعِ أنَّه شاغِلٌ عن الجُمُعةِ، فصارَت عُقودُ المَناكِحِ والإجاراتِ وسائِرِ المُعامَلاتِ والصَّنائِعِ مَنهيًّا عنها؛ قياسًا على البَيعِ؛ لأنَّه شاغِلٌ عن حُضورِ الجُمُعةِ كذلك [1584] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/144)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/129) ((بحر المذهب)) للروياني (11/149)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/49). .
ثانيًا: أقسامُ القياسِ الخَفيِّ
يَنقَسِمُ القياسُ الخَفيِّ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
1- ما كان مَعناه لائِحًا يُعرَفُ باستِدلالٍ مُتَّفَقٍ عليه، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ [النساء: 23] . فكانت عَمَّاتُ الآباءِ والأُمَّهاتِ في التَّحريمِ قياسًا على العَمَّاتِ. وخالاتُ الآباءِ والأُمَّهاتِ في التَّحريمِ قياسًا على الخالاتِ؛ لاشتِراكِهنَّ في الرَّحِمِ المُحَرَّمِ.
ومِثلُ قَولِ اللهِ تعالى في نَفَقةِ الولَدِ في صِغَرِه: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] ، فكانت نَفَقةُ الوالِدِ في حالِ عَجزِه عِندَ كِبرِه قياسًا على نَفقةِ الوَلَدِ لعَجزِه بصِغَرِه.
والمَعنى في هذا القِسمِ لائِحٌ؛ لتَرَدُّدِه بَينَ الجَليِّ والخَفيِّ، وهو في أقسامِ الخَفيِّ بمَنزِلةِ القِسمِ الأوَّلِ مِن أقسامِ الجَليِّ.
2- ما كان مَعناه غامِضًا لتقابُلِ المَعنَيَينِ، أو لتَقابُلِ المَعاني، فتَقابَلت مَعانيه حتَّى غَمُضَت، مِثلُ تَعليلِ الرِّبا في البُرِّ المَنصوصِ عليه [1585] لفظُه: عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه يُخبرُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الذَّهَبُ بالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والبُرُّ بالبُرِّ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والتَّمرُ بالتَّمرِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ)) أخرجه البخاري (2134) واللَّفظُ له، ومسلم (1586). ، إمَّا بالطُّعمِ أو بالكَيلِ أو القوتِ، فتَقابَل فيه التَّعليلُ بالأكلِ ليُقاسَ عليه كُلُّ مَأكولٍ، والتَّعليلُ بالقوتِ ليُقاسَ عليه كُلُّ مُقتاتٍ، والتَّعليلُ بالكَيلِ ليُقاسَ عليه كُلُّ مَكيلٍ، ولا بُدَّ مِن تَرجيحِ أحَدِ هذه المَعاني على الآخَرِ مِن طَريقِ المَعنى الذي يَكونُ دالًّا على التَّحريمِ.
ومِثلُه أيضًا النَّهيُ عن بَيعِ الطَّعامِ حتَّى يُقبَضَ [1586] لفظُه: عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما يَقولُ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَنِ ابتاعَ طَعامًا فلا يَبِعْه حتَّى يَقبضَه)) أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (1526). ، تَقابَل فيه التَّعليلُ بالطُّعمِ حتَّى يُقاسَ عليه كُلُّ مَطعومٍ، والتَّعليلُ بالنَّقلِ ليُقاسَ عليه كُلُّ مَنقولٍ، والتَّعليلُ بالبَيعِ ليُقاسَ عليه كُلُّ مَبيعٍ. فصارَ المَعنى باختِلافِهم فيه غامِضًا.
3- ما كان مُشتَبِهًا يَحتاجُ نَصُّه ومَعناه إلى استِدلالٍ، ومَثَّلوا له بما رُويَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "قَضى أنَّ الخَراجَ بالضَّمانِ" [1587] أخرجه أبو داود (3508)، والترمذي (1286) واللَّفظُ له، والنسائي (4490) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. قال الإمامُ أحمد كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) للمرداوي (1/581): لا أصلَ له، وقال البخاريُّ كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (191): منكَرٌ، وقال أبو حاتم الرازيُّ كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) للمرداوي (1/581): لا تقومُ بمِثلِه الحُجَّةُ. ، فعُرِف بالاستِدلالِ أنَّ الخَراجَ هو المَنفَعةُ، وأنَّ الضَّمانَ هو ضَمانُ المَبيعِ بالثَّمَنِ، ثُمَّ عُرِف مَعنى المَنفعةِ بالاستِدلالِ، فتَقابَلت المَعاني بالاختِلافِ فيها، فمِن مُعَلِّلٍ لها بأنَّها آثارٌ، فلم يَجعَلِ المُشتَريَ - إذا رَدَّ بالعَيبِ- مالكًا للأعيانِ مِن الثِّمارِ والنِّتاجِ، ومِن مُعَلِّلٍ لها بأنَّها ما خالفت أجناسَ أُصولِها، فجَعَله مالكًا للثِّمارِ، ولم يَجعَلْه مالكًا للنِّتاجِ، وعَلَّلها الشَّافِعيُّ بأنَّها نَماءٌ، فجَعَله مالكًا لكُلِّ نَماءٍ مِن ثِمارٍ ونِتاجٍ؛ فمِثلُ هذا القِسمِ يَنعَقِدُ الإجماعُ في حُكمِ أصلِه، ولا يَنعَقِدُ في مَعناه [1588] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/147)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/130)، ((بحر المذهب)) للروياني (11/151)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/52). .

انظر أيضا: